شعار الموقع

شرح كتاب الشهادات من صحيح البخاري (52-2)

00:00
00:00
تحميل
138

  شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النُّور: 4-5]{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}.

وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ.

وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ وَشُرَيْحٌ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ.

وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأَْمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ اسْتُقْضِيَ الْمَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ.

ثُمَّ قَالَ: لاَ يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأَْمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ.

وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ.

وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزَّانِيَ سَنَةً.

وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلاَمِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً.

}2648{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ؛ فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

}2649{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ.

 

هذه الترجمة معقودة لشهادة القاذف والسارق والزاني إذا تابوا، هل تقبل شهادتهم أو لا تقبل؟ واستدل المؤلف رحمه الله بالآية الكريمة.

وفيها دلالة واضحة على أنه تقبل شهادتهم إذا تابوا؛ حيث قال الله تعالى: [النُّور: 4-5]{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} فدل على أنه إذا تاب تقبل شهادته، ويزول عنه اسم الفسق.

وقوله عز وجل: «{أَبَدًا}» معناه مدة فعله للمعصية وبقائه عليها.

وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فمن العلماء من أجاز شهادته بعد التوبة بهذه النصوص، ومن العلماء من منع ذلك وقالوا إن الاستثناء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} يتعلق بالفسق خاصة، وأما الشهادة فلا تقبل، وإنما يزول عنه اسم الفسق، وقال آخرون: تقبل بعد إقامة الحد لا قبله، وذهب الأحناف[(723)] إلى أنها لا ترد الشهادة حتى يحد، والصواب من هذه الأقوال القول الأول، وهو أنه تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق إذا تاب، وهذا هو قول جمهور العلماء.

قوله: «وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ» ؛ وذلك أن هؤلاء الثلاثة شهدوا على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنا، والشهادة على الزنا لابد فيها من أربعة شهود يشهدون أنهم رأوه يفعل الزنا صراحة ولا يكنوا، والله سبحانه وتعالى جعل الشهادة فيه لأربعة شهود احتياطًا للأعراض وإزالة لإثم الفاحشة بين المسلمين، ولم يثبت أنه ثبت على شخص الزنا بشهادة أربعة شهود، إنما ثبت بالإقرار والاعتراف، كما في حالة ماعز بن مالك فإنه أقر أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وكما حدث مع الغامدية التي أقرت، والعسيف الذي أقر على نفسه، واليهودية التي أقرت أيضًا.

وفي عهد عمر رضي الله عنه جاء أربعة يشهدون على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنا، واتهموه بالرقطاء ـ وهي أم جميل بنت عمرو ـ وهم أربعة إخوة من الأم: أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع وزياد بن عبيد، فشهد ثلاثة عليه، وجاء الرابع فأراد أن يشهد ثم تلكأ، وقال: إني رأيت أمرًا سيئًا قبيحًا وأرى نفسًا عاليًا ولكني لا أشهد أنه فعل الفاحشة، فلم يبت بالشهادة؛ فلما تلكأ الرابع اعتبر عمر رضي الله عنه الثلاثة قاذفين؛ فجلد كل واحد ثمانين جلدة، ولو شهد الرابع لأقيم الحد على المغيرة رضي الله عنه، ثم عزل عمر رضي الله عنه المغيرة وولى بعده أبا موسى الأشعري رضي الله عنه.

والشاهد من القصة قوله: «وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ» ؛ ففسقوا بهذا وردت شهادتهم، ثم استتابهم عمر رضي الله عنه وقال: «مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ» . وقد استدل بهذا البخاري رحمه الله على أن القاذف فاسق وإذا استتيب ثم تاب قبلت شهادته.

قوله: «وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ وَشُرَيْحٌ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ» يعني: كل هؤلاء أجازوا شهادة القاذف إذا تاب.

قوله: «وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأَْمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وصله سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبدالرحمن قال: رأيت رجلاً جلد حدًّا في قذف بالزنا، فلما فرغ من ضربه أحدث توبة، فلقيت أبا الزناد فقال لي: الأمر عندنا. فذكره» اهـ.

قوله: «وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ» ، أي: إذا أكذب نفسه بأن قال: إني كنت شهدت على فلان، وإني كنت كاذبًا، وأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه فإنه يجلد ثم تقبل شهادته؛ لأنه تاب.

قوله: «وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ» يعني: إذا تاب العبد ثم جلد وأعتق صحت شهادته.

قوله: «وَإِنْ اسْتُقْضِيَ الْمَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ» ، أي: الذي أقيم عليه الحد إذا صار قاضيًا بعد التوبة فقضاياه جائزة.

قوله: «وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ:» ، يقصد الأحناف، وهو كثيرًا ما يرد عليهم بسبب أخذهم بالرأي: وبعدهم عن النقل، والأحناف لا يعجبهم هذا ويغضبهم، ويظهر هذا الغضب من بعضهم، مثل بدر الدين العيني صاحب «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» ، فإنه تعقب البخاري رحمه الله في هذا الموضع، ورد عليه بشدة لا تليق بالإمام البخاري رحمه الله؛ لأن الأحناف في الغالب يتعصبون للمذهب تعصبًا شديدًا، والواجب على كل عالم وطالب أن يتمسك بالنقل الصحيح الصريح عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن الأئمة ربوا أتباعهم على ذلك فلا داعي للتعصب للمذاهب؛ فهذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» [(724)]، وقال أيضًا رحمه الله: «حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي؛ فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا» [(725)]، وكلام الأئمة على هذا النحو كثير.

قوله: «لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ» . أراد المصنف رحمه الله أن يبين أن الأحناف متناقضون في هذا؛ فهم يقولون: «لا تجوز شهادة القاذف وإن تاب» [(726)] ثم يقولون: «لا يجوز نكاح بغير شاهدين؛ فإن تزوج بشهادة محدودين جاز» [(727)] ووجه التناقض هو أنهم لا يقبلون شهادة القاذف وإن تاب، ويقبلون عقد النكاح بشهادة اثنين محدودين أقيما عليهما الحد، واعتذروا بأن الغرض عندهم هو شهرة النكاح، والشهرة عندهم تحصل بالعدل وغيره، فالأحناف[(728)] لا يشترط عندهم شهادة العدول في عقد النكاح.

قال الكرماني: «وغرضه أنه تناقض حيث لا يجوِّز شهادة القاذف وصحح النكاح بشهادته! وتحكم حيث جوَّز شهادة المحدود ولم يجوز شهادة العبد مع أنهما ناقصان عنده، وحيث خصص شهادة الهلال من بين سائر الشهادات. قال ابن بطال: ذكر قول أبي حنيفة ليلزمه التناقض في إجازته النكاح بشهادة محدودين» اهـ.

قوله: «وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ» ، أي: يقول الأحناف[(729)]: إذا تزوج بشهادة عبدين لم يجز. والصواب جواز شهادة العبد العدل؛ لأنه مكلف، وكذا شهادة الفاسق والمحدود إذا تاب.

قوله: «وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأَْمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ» . فالأحناف[(730)] أجازوا أن يشهد من أقيم عليه الحد، وأن يشهد العبد والأمة في رؤية هلال رمضان؛ لأن الرؤية عندهم جارية مجرى الخبر لا الشهادة.

قوله: «وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ» . هذه الجملة تابعة للترجمة، وتعرف توبته بأن يقضي مدة أقلها سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزَّانِيَ سَنَةً» ، أي: غربه مدة سنة، وذلك من تمام إقامة الحد حتى تظهر توبته ويبتعد عن البلد التي واقع فيها الفاحشة، «وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلاَمِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً» ففي قصة كعب بن مالك رضي الله عنه والمخلفين هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون مدة خمسين ليلة حتى أنزل الله عز وجل توبتهم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ووجه الدلالة منه أنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كلفهما بعد التوبة بقدر زائد على النفي والهجران» اهـ.

 

}2648{ الشاهد من الحديث: أن هذه المرأة التي سرقت ارتكبت فسقًا، فلما قطعت يدها وحسنت توبتها زال عنها اسم الفسق وصارت عدلاً، وكانت تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتسأل الحاجة فترفع عائشة لحاجتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقضي حاجتها.

 

}2649{ الشاهد من الحديث: أن الزاني غير المحصن يغرب لمدة سنة، وأنه بعد انقضاء السنة تعرف توبته، فإذا تاب فإنه تقبل شهادته.

وهذه مسألة خلافية، لكن هذا هو الراجح في المسألة، وبعضهم يقول: إنه يزول عنه اسم الفسق ولا تقبل شهادته، وبعضهم يقول: تقبل بعد الحد لا قبله.

  لاَ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ

}2650{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي؛ فَقَالَتْ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلاَمٌ، فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا قَالَ: «أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأُرَاهُ، قَالَ: «لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ».

وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ: «لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ».

}2651{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، قَالَ عِمْرَانُ: لاَ أَدْرِي، أَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ».

}2652{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ».

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ.

 

هذه الترجمة معقودة للنهي عن الشهادة على الجور.

}2650{ ذكر حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في إعطاء أبيه له عطية دون إخوته؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» أي: إن هذه شهادة جور، وإني لا أشهد على جور؛ فدل على أن شهادة الجور وهي شهادة الظلم لا يشهد عليها، ودل على أن الوالد إذا أعطى بعض ولده عطية ولم يعطِ الآخرين فهذا ظلم وجور.

وقوله: «جَوْرٍ» صريح في وجوب العدل بين الأولاد، خلافًا للجمهور الذين يقولون: إنه يستحب ولا يجب.

 

}2651{ قوله: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يطلق القرن على مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها» إلى أن قال: «فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان» اهـ، والمراد بهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» أي: التابعون ثم أتباع التابعين.

قوله: «قَالَ عِمْرَانُ: لاَ أَدْرِي، أَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً؟» شك عمران رضي الله عنه، والصواب: أنهم ثلاثة قرون، كما صرح به في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الآتي: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ، فهذا الشك الذي حصل من عمران رضي الله عنه تزيله النصوص الأخرى التي فيها إثبات أنها ثلاثة قرون فاضلة.

قوله: «إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ» ، أي: يشهدون على الجور، وهذا هو الشاهد، ولكن يعارض هذا الحديث الآخر: «ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» [(731)]. فمن العلماء من رجح أحدهما على الآخر، ومن العلماء من جمع بينهما، والصواب: الجمع بينهما، وأن قوله: «ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» محمول على ما إذا كانت عنده شهادة ولم يعلم بها المشهود له، فيأتيه ويخبره، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ» فمحمول على من يأتي بالشهادة قبل أن تطلب منه والمشهود له يعلم، أو أن قوله: «وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ» محمول على الشهادة في أموال الناس، ويكون المراد بالشاهد الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها ـ كما قال الحافظ ابن حجر ـ شهادة الحسبة والأوقاف والوصايا وما أشبه ذلك.

قوله: «وَيَنْذِرُونَ» بكسر الذال وبضمها، فيقال: نذر ينذُر، ونذر ينذِر من باب نصر وضرب.

قوله: «وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ» ، يعني: أنهم يقبلون على الدنيا وشهواتها والمآكل والمشارب فتركبهم الشحوم من أجل ذلك، ومن أجل غفلتهم وإعراضهم عن الآخرة، وأما من ركبته الشحوم خِلقة فهذا لا يذم؛ فمن الصحابة رضي الله عنهم من كان سمينًا خلقة كعتبان بن مالك رضي الله عنه وغيره.

 

}2652{ قوله: «ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» ، وهذا من الجور.

قوله: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ:» ، وهو إبراهيم بن يزيد النخعي فقيه أهل الكوفة.

قوله: «وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ» ، هذا من باب التمرين على العبادة والخير للصبيان مع عدم وجوب ذلك عليهم.

وقوله: «وَكَانُوا» أي: أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، والمراد أن إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: كانوا يضربوننا في الصغر على الشهادة والعهد ضرب تأديب لا ضرب إيلام وانتقام وغيظ؛ فإذا شهد الصبي بغير حق أو شهد بخلاف الواقع أو حلف يضربونه حتى يتمرن ويتعود على الخير، كما أنه يؤمر بالصلاة ويؤدب عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: «واضربوهم عليها لعشر» [(732)] ويؤمر بالصيام ويتمرن على ذلك، حتى لا ينشأ على فعل الشر؛ فكلما غلط يؤدب تأديبًا يناسبه إذا كان يفهم ولو كان صغيرًا ولو كان يتيمًا، خلافًا لما يظنه بعض العوام بأن اليتيم لا يضرب، وهذا خطأ، فاليتيم يؤدب أيضًا بالضرب ولا يترك بدون تأديب حتى تفسد أخلاقه وتسوء، بل الضرب له في مثل هذا رحمة ولطف به؛ لأن هذا التأديب ينفعه.

  مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ

لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: [الفُرقان: 72]{وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ.

لِقَوْلِهِ: [البَقَرَة: 283]{وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ *} [النِّسَاء: 135]{وَإِنْ تَلْوُوا} أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ.

}2653{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ قَالاَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْكَبَائِرِ قَالَ: «الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ».

تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَأَبُو عَامِرٍ وَبَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ.

}2654{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ.

 

هذه الترجمة معقودة لبيان أن شهادة الزور لا يَتّصف بها عباد الرحمن، وبيان التغليظ والوعيد الشديد في كتمان شهادة الحق.

فالآية الأولى بين الله عز وجل فيها أن من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور، والزور: هو الميل عن الحق إلى الباطل والجور، أما الآية الثانية فبين الله عز وجل فيها أن من كتم الشهادة فإنه آثم قلبه.

قوله: «{تَلْوُوا} أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ» ، يشير إلى الآية الكريمة [النِّسَاء: 135]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *} فقوله: {تَلْوُوا}، أي: يلوي لسانه بالشهادة؛ يعني: يشهد بغير الحق ـ وهي اللجاجة ـ فلا يقيم الشهادة على وجهها.

}2653{ قوله: «وَشَهَادَةُ الزُّورِ» ، عد شهادة الزور من الكبائر؛ وذلك لِمَا يترتب على شهادة الزور من المفاسد والثمار السيئة من ضياع الحقوق وسفك الدماء واستحلال الفروج، وليست شهادة الزور بأعظم من الشرك بالله عز وجل، بل الشرك أعظم، ولكن الشرك معروف قبحه وفساده فيبتعد عنه المسلم، بخلاف شهادة الزور فإنه ربما يتساهل فيها الإنسان فيشهد شهادة زور وكذب أن فلانًا له حق عند فلان وهو كاذب فيترتب عليها أكل حقوق الناس بالباطل، أو يشهد على فلان أنه قتل فلانًا أو قطع يد فلان وهو كاذب فيترتب عليها سفك الدماء، أو يشهد على فلانة أنها زوجة فلان وليست زوجة له فيترتب عليها استحلال الفروج، أو يشهد أن فلانًا ولد لفلان فيترتب عليها اختلاط الأنساب، أو يشهد على فلان أنه فقير وليس بفقير فيترتب عليها أكل المال بالباطل، وغير ذلك من المفاسد كثير من جراء وشؤم شهادة الزور.

وكذلك كتمان الشهادة؛ فلا يجوز أن يكتم الشهادة، بل عليه أن يؤدي الشهادة التي يعلمها؛ فإذا كتمها ضاعت الحقوق، وانتهكت الأعراض، وسلبت الأموال، وانتشر الفساد في الأرض؛ فكما أنه لا يشهد بالزور لا يكتم شهادة الحق، وشهادة الزور أعظم من كتمان الشهادة؛ لأن الكاتم قد يستغنى عنه بغيره بخلاف شاهد الزور.

ولا يجوز للرجل أن يشهد مع رجل لمجرد كونه يعرفه ويثق به؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أراد أن يشهد فقال له: «أترى الشمس؟» قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع» [(733)]، والحديث فيه: ضعف لكن يستأنس به، والمقصود: أنه لا يجوز لك أن تشهد من أجل ثقتك بالشخص إلا أن تكون سمعت أو رأيت أو حضرت.

 

}2654{ في الحديث: شدد النبي صلى الله عليه وسلم في شهادة الزور فقال: «أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ» فما زال يكررها صلى الله عليه وسلم حتى قال الصحابة رضي الله عنهم: «لَيْتَهُ سَكَتَ» ؛ رحمة وشفقة عليه صلى الله عليه وسلم من المشقة عليه في التكرار.

  شَهَادَةِ الأَْعْمَى وَأَمْرِهِ وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ وَمُبَايَعَتِهِ

وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ وَمَا يُعْرَفُ بِالأَْصْوَاتِ

وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ قَاسِمٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلاً.

وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلاً إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ أَفْطَرَ وَيَسْأَلُ عَنْ الْفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ طَلَعَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي قَالَتْ سُلَيْمَانُ: ادْخُلْ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ.

وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ.

}2655{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: «رَحِمَهُ اللَّهُ! لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا».

وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ؛ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ؟» هَذَا قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا».

}2656{ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ أَوْ قَالَ: حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ»، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلاً أَعْمَى لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ أَصْبَحْتَ.

}2657{ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ قَبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: «خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ».

 

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم شهادة الأعمى وتصرفاته لأمره كإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وإمامته وقضائه وغير ذلك.

وهذه المسألة فيها مذاهب لأهل العلم:

المذهب الأول: أنه تجوز شهادة الأعمى، ويجوز نكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وإمامته وقضاؤه.

المذهب الثاني: ذهب إليه الجمهور ففصلوا فقالوا: ما تحمله قبل العمى فإنه يجوز، وما تحمله بعد العمى فلا يجوز.

المذهب الثالث: هو للإمام أبي حنيفة رحمه الله[(734)] قال: لا تجوز شهادة الأعمى بحال إلا فيما طريقه الاستفاضة.

والبخاري رحمه الله اختار القول الأول، وهو الصواب، أن شهادة الأعمى صحيحة إذا كان يعرف الصوت ويميزه وكل ما يعرف بالصوت تجوز فيه الشهادة مع عدم الرؤية سواء من الأعمى أو من غيره؛ فإذا كان مختبئًا وعرف الصوت ثم شهد فلا بأس، كما كان النسائي رحمه الله يختبئ ـ عندما حصل بينه وبين شيخه الحارث بن مسكين رحمه الله وحشة ـ حتى يسمع التحديث، ثم كان رحمه الله إذا حدث عنه يتورع ويقول: حدثنا الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع.

فالإمام البخاري رحمه الله أدلته واضحة في أن شهادة الأعمى وتصرفاته كلها صحيحة ومقبولة إذا كان يضبط الصوت، ومن ذلك أيضًا نكاحه وإنكاحه، فالأعمى ينكح زوجته وهو لا يعرفها إلا بصوتها؛ لأن صوتها يتكرر عليه فيقع العلم بأنها هي وإلا فمتى كان عنده احتمال أو تردد فليس له أن ينكحها حتى يتحقق.

ومن منع شهادة الأعمى قال: إن نكاح الأعمى يتعلق بنفسه؛ لأنه في زوجته وأمته وليس لغيره فيه مدخل.

والصواب: ما ذهب إليه الإمام البخاري رحمه الله من صحة شهادة الأعمى ونكاحه وإنكاحه ومبايعته، وأنه تصح إمامته وأن يكون مؤذنًا، وقاضيًا، ولم يزل العميان تقبل تصرفاتهم منذ عهد النبوة إلى عهدنا هذا، وقد برز كثير من العميان على المبصرين، ومن ذلك ابن عباس رضي الله عنه كان أعمى لما كبُر في السن، وكان حبرًا، وكان عالمًا، وكان يعتمد قوله، وكذلك كثير من العلماء والأئمة الذين أصابهم العمى تصرفاتهم كلها مقبولة، كالإمام الترمذي رحمه الله كان أعمى وكان مقبولاً في إمامته وتصرفاته، وكذلك أيضًا في العصر الحاضر تولى العميان الإمامة والقضاء والأذان والإفتاء وبرزوا على المبصرين كالشيخ محمد بن إبراهيم كان أعمى رحمه الله وكان معروفًا بالعلم والفضل والدهاء والقوة في الحق، ثم بعده سماحة الشيخ شيخنا ابن باز رحمه الله كان أعمى، ثم الآن يفتي سماحة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ كذلك، وهم من أفضل الناس، فهذا معروف ومشاهد ومحسوس وأدلته من النصوص ومن الواقع لا تحصى.

أما قول الأحناف[(735)] بأنه لا تقبل تصرفات الأعمى إلا فيما طريقه الاستفاضة فهذا قول ضعيف مرجوح، وكذلك قول الجمهور: ما كان قبل العمى فهو مقبول صحيح، وما كان بعد العمى فهو غير مقبول، فهو أيضًا مرجوح.

قوله: «بَاب شَهَادَةِ الأَْعْمَى وَأَمْرِهِ» ، أي: جميع أمره من البيع والشراء والإقرار، والإمامة، والقضاء، «وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ» ، أي: نكاحه زوجته، وتوليه الإنكاح بأن يعقد النكاح لموليته كابنته وأخته وغيرهما، «وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ» ، أي: يكون مؤذنًا، ويقبل قوله، كما كان الحال مع عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه، وكان رجلاً أعمى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» [(736)]، وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت، وكان يؤذن للناس في رمضان لصلاة الصبح، وكان بلال رضي الله عنه يؤذن قبل ذلك لحكمة، كما جاء في الحديث: «لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل، ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم» [(737)]. فكان عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه رجلاً أعمى مقبولا أذانه عند الناس فيمسكون عن الطعام والشراب، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤَمِّره على المدينة ـ عدة مرات ـ إذا خرج من المدينة في سفر، فهذا دليل على قبول تصرفات الأعمى.

وأما قول المؤلف رحمه الله: «وَمَا يُعْرَفُ بِالأَْصْوَاتِ» أي: كل ما يعرف بالأصوات ملحق بذلك وهو مقبول أيضًا حتى من المبصر بدون رؤية صاحبه إذا عرف الصوت وميزه، مثال ذلك: في وقتنا الحاضر توجد آلات تسجيل الأصوات، فإذا سمع الإنسان صوت شيخ أو داعية أو محدث يتكلم ويحاضر أو يلقي درسًا، والسامع قد ضبط صوته وميزه فإنه يقول: أنا سمعت الشيخ أو الداعية أو المحدث الفلاني يتكلم بكذا وكذا، أو يفتي بكذا وكذا، فهذا التصرف مقبول عند جميع الناس ويعتمدونه على الرغم من أنهم لم يروا صاحب الصوت، ولكن صوته معروف عند الناس.

قوله: «وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ قَاسِمٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ» ، كل هؤلاء أجازوا شهادة الأعمى، وهذا هو الصواب.

قوله: «وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلاً» ، يعني: أنه اشترط لقبول شهادة الأعمى أن يكون صحيح العقل احترازًا من الجنون.

قوله: «وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ» ، يعني: كأن الحكم بن عتيبة رحمه الله توسط بين مذهب الجواز والمنع فقال ذلك.

قوله: «وَقَالَ الزُّهْرِيُّ:» ، وهو يؤيد قبول تصرفات الأعمى: «أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟» يعني: أن ابن عباس رضي الله عنهما صحابي جليل، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله عز وجل في الدين ويعلمه التأويل[(738)]، وكان أعمى في شيخوخته، فيقول الزهري رحمه الله: «أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟» والجواب: لا ترد شهادته؛ فدل على أن الأعمى لا ترد شهادته.

قوله: «وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلاً إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ أَفْطَرَ» ، يعني: إذا كان صائمًا يبعث رجلاً ينظر له الشمس هل غربت؟ فإن أخبره بأنها غربت أخذ بقوله وأفطر «وَيَسْأَلُ عَنْ الْفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ طَلَعَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ، وهما ركعتا الفجر الراتبة.

قوله: «وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي قَالَتْ سُلَيْمَانُ: ادْخُلْ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ» . كان سليمان بن يسار رحمه الله مولى مكاتبًا لميمونة رضي الله عنها فاستأذن على عائشة رضي الله عنها فعرفت صوته فقالت: «ادْخُلْ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ» يعني: أنها لا تحتجب عنه، وكانت ترى رضي الله عنها أن المملوك لا يحتجب عنه سواء كان لها أو لغيرها.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفيه دليل على أن عائشة كانت ترى ترك الاحتجاب من العبد سواء كان في ملكها أو في ملك غيرها؛ لأنه كان مكاتب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من قال: يحتمل أنه كان مكاتبًا لعائشة فمعارضة للصحيح من الأخبار بمحض الاحتمال وهو مردود، وأبعد من قال: يحمل قوله «عَلَى عَائِشَةَ» بمعنى «من عائشة» ، أي: استأذنت عائشة في الدخول على ميمونة» اهـ.

والصواب: أن المملوك إذا كان لها فهو محرم لها، أما إذا كان لغيرها فلا، قال الله تعالى: [النُّور: 31]{وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}. فالمرأة إذا ملكت عبدًا ذكرًا فهو من محارمها، وكأن عائشة رضي الله عنها اجتهدت فترى أن المملوك لا يجب الاحتجاب عنه، سواء كان مملوكًا لها أو لغيرها؛ ولهذا قالت لسليمان رحمه الله: «ادْخُلْ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ» يعني: أنه كان كاتب ميمونة رضي الله عنها في شراء نفسه، لكنه لم يكمل المكاتبة وبقي عليه شيء؛ فلما استأذن على عائشة رضي الله عنها قالت: ادخل؛ أنت مملوك ما بقي درهم، ولم تحتجب عنه، وهذا توسع من عائشة رضي الله عنها، وهذا اجتهاد منها.

والشاهد أن عائشة رضي الله عنها عرفت الصوت لأنه استأذن عليها من وراء حجاب فعرفت صوته؛ فدل على أن الأعمى له أن يعمل بالصوت، وتقبل شهادته وخبره ونكاحه وإنكاحه وتأذينه وإمامته وقضاؤه.

قوله: «وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ» ، وهي التي جعلت حجابًا على وجهها وفتحت للعينين نقابًا لترى منه، فأجاز شهادتها وإن لم تُرَ؛ لأنه عرفها بصوتها، ويرى بعض الفقهاء أن المرأة لها أن تكشف وجهها إذا أرادت أن تشهد أو تشتري أو تبيع، وهذا القول مرجوح؛ لأنه قد يتخذه بعض الفساق في هذا الزمن ذريعة للفساد.

 

}2655{ الشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الصوت وعمل به؛ فدل على أن الأعمى يقبل منه ما عرفه بصوته؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ في المسجد، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان في بيته فسمع قراءته في المسجد وهو لم يره فاعتمد صوته واعتمد القراءة.

وفيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ينسى بعض الآيات، لكنه لا يستمر في النسيان؛ ولهذا قال: «لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا» .

 

}2656{ فيه: قبول تأذين الأعمى، ويقاس عليه بقية تصرفاته.

 

}2657{ في الحديث: أنه لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم الفيء وكان فيه أقبية فجعل يوزعها على الناس قال المسور بن مخرمة: «فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ قَبَاءٌ» ، والقباء: ثوب له أزرة كالجبة، وكان مخرمة رضي الله عنه أعمى؛ فجعل يريه محاسنه بيده ويقول: «خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ» ، يعني: أبقيته لك، وكان مخرمة رضي الله عنه فيه حدة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي ظروفه، فعندما سمعه على الباب خرج في الحال ومعه قباء حتى لا يقع في نفسه شيء، وحتى لا يتكلم في شيء، وجعل يقول: «خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ» .

وفيه: حكمته صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس وحسن خلقه.

والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صوت مخرمة رضي الله عنه فعمل به، ففيه: العمل بالصوت.

وفيه: قبول شهادة الأعمى بما عرفه بصوته.

  شَهَادَةِ النِّسَاءِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 282]{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}.

}2658{ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا».

 

هذا الباب معقود لبيان حكم شهادة النساء، وشهادة النساء مقبولة بنص القرآن: ُ + ، 5 6 7 8 1 2 3 4 ِ ، ولكن هناك بعض الأحكام لا تقبل فيها؛ لأنه ليس للنساء فيها مدخل كالقصاص والحدود والدماء، فهذه لابد فيها من شهادة رجلين اثنين، وكذلك أيضًا الشهادة في النكاح، فإذا أراد الإنسان أن يعقد النكاح فلا تشهد امرأة، إنما يشهد الرجال، وكذلك الطلاق والنسب والولاء، وهذه فيها خلاف فالجمهور يمنعونها والكوفيون يجيزونها.

وهناك بعض الأحكام التي تتعلق بشهادة النساء خاصة، وتقبل فيها شهادة امرأة واحدة إذا كانت عدلاً، مثل الرضاع والبكارة والثيوبة؛ فهذه لا تعرف إلا من جهة النساء، فإذا كانت المرأة عدلاً قُبلت شهادتها في الرضاع، مثل شهادة المرأة التي قالت لعقبة في ليلة زواجه: إني أرضعتك وزوجتك؛ فقُبلت شهادتها[(739)]، وكذلك في البكارة، فإذا اختلف في البكارة وفي الثيوبة وما أشبه ذلك فإنه تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة العدل وتكفي.

أما في الأموال والديون فتقبل شهادة المرأة، وتكون شهادة امرأتين بشهادة رجل، كما قال الله تعالى: [البَقَرَة: 282]{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ} فالعدالة لابد منها.

وفي بعض الحالات يستأنس بشهادة النساء؛ فإذا قتل رجل ولم يحضر الحادثة سوى مجموعة من النساء؛ فإن قولهن يعتبر قرينة مرجحة، ويؤخذ القاتل ويعمل معه ما يوجب الإقرار، كما في الحديث: «أن يهوديًّا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان أو فلان حتى سمي اليهودي، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر به فرض رأسه بالحجارة» [(740)] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرضَّ رأسه بين حجرين باعترافه لا بإشارة الجارية.

 

}2658{ قوله: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا»» . هذا موضع الشاهد الذي استدل به المؤلف رحمه الله على أن شهادة المرأة مقبولة.

فالمرأة ناقصة عقل ودين كما في حديث: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» [(741)]. ونقصان دينها؛ لأنها تجلس أيام الحيض، ولكن هذا النقص في دينها لا يضرها؛ لأنه ليس باختيارها.

  شَهَادَةِ الإِْمَاءِ وَالْعَبِيدِ

وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلاً.

وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى.

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلاَّ الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ.

وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ.

وَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ.

}2659{ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ ح.

وحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، قَالَ: فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا؛ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَأَعْرَضَ عَنِّي قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: «وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟» فَنَهَاهُ عَنْهَا.

 

هذه الترجمة في بيان حكم شهادة الإماء والعبيد، و «الإماء» جمع أمة، وهي الأنثى من الأرقاء؛ و «العبيد» ، جمع عبد وهو الذكر من الرقيق.

وفي قبول شهادة العبيد والإماء ثلاثة أقوال لأهل العلم:

القول الأول: أنه تقبل شهادة العبد مطلقًا، بشرط أن يكون عدلاً، والعدل يعني: البالغ العاقل الذي ليس متهمًا في دينه ـ فلا يكون عاصيًا، ولا يكون مرتكبًا لكبيرة أو مصرًّا على صغيرة ـ ولا عنده ضعف في ضبطه، فإذا كان عدلاً بالغًا عاقلاً فإن شهادته تقبل مطلقًا في كل شيء، في القليل والكثير، وهذا هو اختيار البخاري رحمه الله في هذه الترجمة، واستدل عليه بحديث عقبة رضي الله عنه.

القول الثاني: أن شهادة العبيد والإماء لا تقبل مطلقًا، ونسب الحافظ ابن حجر رحمه الله هذا القول إلى الجمهور.

القول الثالث: أنها تقبل في الشيء اليسير، وذهب إلى هذا الحسن البصري رحمه الله وإبراهيم النخعي رحمه الله كما ذكر المؤلف رحمه الله في الترجمة.

والصواب القول الأول، أنه تقبل شهادة العبيد والإماء مطلقًا في القليل والكثير بشرط العدالة، والعدالة تجمع شرطين: ألا يكون متهمًا في دينه، ولا سيئًا في حفظه وضبطه.

وأيد المؤلف رحمه الله الترجمة بآثار السلف الآتي ذكرها.

قوله: «وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلاً» ؛ لأن الرق وصف عارض فقد يعتق ويصير حرًّا، وكم من رقيق خير من آلاف الأحرار، والعبرة بالعدالة والضبط، فمن كان عدلاً دينًا ليس متهمًا في دينه ولا في ضبطه فإنها تقبل شهادته، سواء كان عبدًا أو حرًّا.

قوله: «وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى» ، أي: أجازا شهادة الرقيق.

قوله: «وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلاَّ الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ» ، يعني: إذا شهد العبد لسيده فلا تقبل شهادته لأنه متهم، كما أن الابن إذا شهد لأبيه لا تقبل، والأب إذا شهد لابنه لا تقبل؛ لأنه متهم في هذه الحالة، فلا تقبل شهادة الفرع للأصل، ولا الأصل للفرع.

قوله: «وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» . الحسن البصري رحمه الله وإبراهيم النخعي رحمه الله أجازا شهادة العبد في الشيء اليسير، وهذا التقييد لا وجه له، والصواب أن ما جاز في الشيء اليسير جاز في الشيء الكبير.

قوله: «وَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ» يعني: [الحُجرَات: 13]{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. والمعنى: أنه تقبل شهادة العبيد؛ فكل الناس عبيد لله عز وجل، وإماء لله عز وجل، وأكرمكم عند الله عز وجل أتقاكم.

 

}2659{ استدل المصنف رحمه الله بحديث عقبة بن الحارث، والشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأمة؛ حيث نهى عقبة عن الزواج بشهادة أمة.

  شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ

}2660{ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ ابْنِ الْحَارِثِ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «وَكَيْف وَقَدْ قِيلَ، دَعْهَا عَنْكَ»، أَوْ نَحْوَهُ.

 

هذا الباب معقود لبيان حكم شهادة المرضعة، وأن المرضعة تقبل شهادتها إذا كانت عدلاً غير متهمة، أما إذا كانت متهمة فلا.

}2660{ كرر المصنف رحمه الله هنا الحديث السابق لاستنباط الأحكام حيث استدل به في الترجمة السابقة على قبول شهادة الإماء، وهنا استدل به على قبول شهادة المرضعة، وشهادة المرضعة تقبل ولو كانت منفردة وحدها؛ لأن هذا من خصائص النساء؛ ولهذا قال علي بن سعد: سمعت أحمد رحمه الله يُسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث[(742)]، وهو قول الأوزاعي رحمه الله، وقال ابن شهاب: «فرّق عثمان رضي الله عنه بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أنها أرضعتهم» [(743)].

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد