تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا
}2661{ حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ، وَأُنْزَلُ فِيهِ.
فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ العُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الهَوْدَجِ، فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي، فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ، فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ يَدَهَا، فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي، أَنِّي لاَ أَرَى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ»، لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ.
فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي البَرِّيَّةِ أَوْ فِي التَّنَزُّهِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي، فَعَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْرًا، فَقَالَتْ: يَا هَنْتَاهْ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي.
فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ فَقَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ»، فَقُلْتُ: ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لأُِمِّي: مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلاَّ أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا.
قَالَتْ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ، يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ.
فَأَمَّا أُسَامَةُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلاَّ خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟»، فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا قَطُّ، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنِ العَجِينِ، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي».
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا وَاللَّهِ أَعْذُرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا، فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ.
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ـ وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ ـ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، لاَ تَقْتُلُهُ، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ.
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ.
فَثَارَ الحَيَّانِ الأَوْسُ، وَالخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ، فَنَزَلَ، فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ وَبَكَيْتُ يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي.
قَالَتْ: فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي، إِذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ».
فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلْتُ لأَِبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لأُِمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَتْ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ، فَقُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً، إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ: [يُوسُف: 18]{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ *}.
ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ، حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا، أَنْ قَالَ لِي: «يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ».
فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: لاَ وَاللَّهِ، لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [النُّور: 11]{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ: وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} إِلَى قَوْلِهِ: [النُّور: 22]{وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: «يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ»، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ.
هذا الباب معقود لتزكية النساء، وللعلماء فيه ثلاثة مذاهب:
الأول: المنع مطلقًا، وأن المرأة ليس لها مدخل في التزكية.
الثاني: الجواز مطلقًا، وهو للأحناف[(744)].
الثالث ـ وهو الراجح ـ: قبول تزكيتهن لبعضهن؛ فالمرأة تزكي المرأة ولا تزكي الرجال، كما أن بريرة زكت عائشة رضي الله عنها، وهي امرأة مثلها، وكذلك أيضًا زينب رضي الله عنها، أما الرجل فيزكي الرجال والنساء.
}2661{ هذه القصة ساقها المؤلف رحمه الله كاملة وانشرح صدره ونشط للحديث فأخرجه مطولاً، وأيضًا أخرجه مطولاً في كتاب التفسير، والتطويل هناك مناسب لموضعه من تفسير سورة النور، وقد خالف رحمه الله عادته من تقطيع الحديث فساق القصة بطولها، والشاهد منها قوله: «فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟»، فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا قَطُّ، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنِ العَجِينِ، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ» فهذه تزكية وتعديل من بريرة لعائشة رضي الله عنها، وكذلك قوله في آخر الحديث: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: «يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ»، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ خَيْرًا»
وهذا الحديث فيه: الابتلاء والامتحان للصالحين والأخيار؛ فهذه المرأة الصالحة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما ابتليت بهذا البلاء، وتحدث المنافقون وغيرهم ورموها بالفاحشة، ومن الابتلاء والامتحان أن الوحي مكث شهرًا كاملاً لا ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى اشتد البلاء.
وفيه: أن الكربة إذا اشتدت يأتي الفرج معها، ويأتي اليسر مع العسر [الشَّرح: 6]{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *} [الطّلاَق: 2]{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *}، وهي امرأة تقية صالحة جعل الله عز وجل لها مخرجًا وَفَرجًا، وأنزل براءتها من فوق سبع سموات في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وصار بعد نزول الآيات من رماها بما برأها الله عز وجل منه كافرًا بالله العظيم بإجماع المسلمين.
وكان عبدالله بن أبيّ رئيس المنافقين هو الذي يستوشي الحديث ويجمعه ويشيعه، ولكن لا يثبت عليه شيء؛ ولهذا لم يقم عليه الحد، ووقع في هذا بعض الصحابة رضي الله عنهم مثل حسان بن ثابت رضي الله عنه فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين جلدة فكان طهارة له، وحمنة بنت جحش رضي الله عنها فجلدها النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين جلدة بعد نزول الآية، وكذلك مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه جلده النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل بدر، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لفقره وقرابته؛ فلما تكلم بالإفك حلف رضي الله عنه أن يقطع النفقة عنه؛ فلما حلف أنزل الله عز وجل هذه الآية: [النُّور: 22]{وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني: لا يحلف أن يقطع النفقة عنهم؛ فمسطح قريب لأبي بكر رضي الله عنه، ومن المهاجرين ومن المساكين [النُّور: 22]{أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله، أحب أن يغفر الله عز وجل لي؛ فرجع إليه النفقة.
وهذا الحديث يقول أبو الربيع سليمان بن داود شيخ البخاري رحمه الله: «وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ» ؛ فدل على أن الرواة إذا أفهم بعضهم بعضًا سيق الحديث مساقًا واحدًا، وأنه صحيح.
وفي الحديث: مشروعية القرعة بين الزوجات في السفر فإذا كان الإنسان له عدد من الزوجات وأراد أن يسافر فإنه يقرع بينهن؛ فمن خرجت قرعتها خرج بها وسافرت معه، إلا إذا سمحن لواحدة فلا بأس. وفي هذه الغزوة أقرع النبي صلى الله عليه وسلم بين نسائه فخرجت القرعة لعائشة رضي الله عنها.
وفيه: أن عائشة رضي الله عنها كانت تُحمل في هودج، وهناك أناس وُكّلوا بحمل الهودج الذي تكون فيه، وهو شيء يحمل على البعير مثل الصندوق يكون من سعف النخل أو من غيره، تكون المرأة داخله، فإذا نزلوا أنزلوا الهودج وخرجت، وإذا أرادوا أن يرتحلوا جاء الفتيان الذين وُكّلوا بحمل الهودج فحملوه على البعير، وفي هذه المرة أُذِّن بالرحيل وقد ذهبت عائشة رضي الله عنها لمكان في الفضاء تقضي حاجتها فحملوا الهودج يظنون أنها فيه؛ لأنها خفيفة اللحم، ولم يكن عند الموكلين بحمل الهودج عناية؛ فسار الجيش وذهبت عائشة بعيدًا تقضي الحاجة فلما جاءت لم تجد أحدًا، فرجعت في مكانها لعلهم يفقدونها ثم يرجعون إليها، وغلبتها عيناها، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد تخلف وراء الجيش ـ وهذا من عادة الجيوش ـ ليأخذ ما سقط من الجيش؛ فجاء في الصباح ورأى سوادها فعرفها وجعل يسترجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، قالت عائشة رضي الله عنها: «وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ» و كانت رضي الله عنها قد غلبها النوم؛ فلما سمعته يسترجع استيقظت، وفي لفظ قالت: «فخمرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب» [(745)]؛ فدل على وجوب الحجاب وستر الوجه، ويقال: إن هذا الحديث هو الأفصح في الأدلة على وجوب ستر المرأة، ومن أقوى الأدلة في الرد على دعاة السفور الذين يقولون: المرأة يجوز أن تكشف وجهها، وإنما عندهم أن الحجاب أن تستر رأسها ويديها ولا بأس بكشف الوجه، ودل على أن النساء قبل الحجاب كن يكشفن الوجوه، وأما بعد الحجاب فكن يسترن الوجوه، وكان سبب نزولها رضي الله عنها أنها كانت تلتمس عقدًا لها سقط؛ فلما عرفها ما تكلم ولا كلمة، قالت: «أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ يَدَهَا» أي: يد الراحلة فركبت عائشة رضي الله عنها الراحلة وجعل هو يمشي يقودها حتى وصلا المدينة.
قالت عائشة رضي الله عنها: «حَتَّى أَتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ» يعني: أنهم كانوا يستريحون في وقت القيلولة من شدة الحر، والتعريس هو النزول للاستراحة، قالت: «فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ» ، أي: فتكلم أهل الإفك لما رأوا صفوان رضي الله عنه جاء بعائشة رضي الله عنها وتكلم عبدالله بن أبيّ رئيس المنافقين ـ وقيل: حسان، والصواب أنه عبدالله بن أبي رئيس المنافقين ـ فقال: هذه عائشة مع صفوان والله ما سلم منها ولا سلمت منه! وجعل يشيع هذا الإفك ويستوشيه ويتكلم به الناس واحدًا بعد واحد حتى شاع، وكانت عائشة رضي الله عنها قد مكثت مدة طويلة لا تدري شيئًا عن هذا الكلام ولا سمعت به.
فاشتكت رضي الله عنها شهرًا ـ يعني: صارت مريضة شهرًا ـ والناس يتكلمون في الإفك ـ ومعنى الإفك: أسوأ الكذب ـ ولا تدري ما يتحدث الناس عنه، إلا أنها استنكرت وجه النبي صلى الله عليه وسلم فلم تعد ترى منه اللطف الذي تراه في العادة، إلا أنه يدخل ثم يسلم ويقول: «كَيْفَ تِيكُمْ؟» وتيكم اسم إشارة للأنثى، قالت رضي الله عنها: «لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ» ، وفي لفظ: «ولا أشعر بالشر» [(746)]، «حتى نَقَهْتُ» ، يعني: برئت من المرض، «فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا» المناصع: الصحراء؛ فقد كانت المدينة صغيرة ولم يكن في البيوت حمامات ولا كُنف، قالت رضي الله عنها: «لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ» ، ففيه: جواز خروج المرأة لحاجتها ليلاً مع أَمْن الفتنة، وكانت النساء ما يخرجن إلا من الليل إلى الليل؛ لأنه لم يكن عندهم أنواع من المآكل فلا تحتاج لقضاء الحاجة إلا مرة في الليل تخرج إلى الصحراء وترجع، قالت رضي الله عنها: «وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي البَرِّيَّةِ أَوْ فِي التَّنَزُّهِ» . وكان العرب الأُوَل يكرهون أن يكون عندهم حمامات لقضاء الحاجة في البيوت؛ فكانت النساء يخرجن في الظلام لقضاء حوائجهن، والصحراء قريبة من البلد، قالت رضي الله عنها: «فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي، فَعَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ» ومسطح ابنها، فقالت عائشة رضي الله عنها: «بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْرًا» قالت: «أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي» ، أي: أخبرتها بأنه قد تكلم بالإفك مسطح بن أثاثة؛ فعند ذلك عاد إليها المرض من جديد، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ودخل عليها وسلم قالت: «ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَيَّ» ، تريد أن تذهب لتسأل أبويها حتى تستيقن الخبر وتتأكد من حديث الناس؛ فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجعت إلى أبويها قالت لأمها: «مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟» فقالت أمها: «يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلاَّ أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا» أي: لا تستغربي، طالما كانت المرأة جميلة ولها ضرائر لابد أن يحصل لها شيء، ويتكلم فيها الناس، فقالت: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا» . فجعلت تبكي فلم يرقأ لها دمع، ولم تكتحل بنوم، وهذا ابتلاء وامتحان للصالحين؛ ليعظم الله عز وجل لهم الأجور.
ومن الابتلاء والامتحان أن الوحي استلبث وتأخر مدة طويلة، وصار الناس يخوضون في الإفك ثم بعد ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد وبريرة رضي الله عنهم، فسألهم عن حالها، قالت: «فَأَمَّا أُسَامَةُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلاَّ خَيْرًا» وكانت عائشة رضي الله عنها تحفظ هذا لأسامة رضي الله عنه، وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ» ، يعني: أشار عليه أن يطلقها ويتزوج غيرها، «وَسَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ» ؛ الجارية بريرة رضي الله عنها؛ «فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟»» أي: هل استنكرت شيئًا من عائشة؟ «فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لاَ» ، يعني: لم أر شيئًا أستنكره منها «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ» ، أي: حلفت «إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا» . إن نافية بمعنى ما، والمعنى ما رأيت منها شيئًا أنتقده عليها قط «أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنِ العَجِينِ، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ» ، يعني: أنها غافلة، أو بريئة براءة الأطفال، سليمة الصدر ولا تعرف شيئًا، ومن صغر سنها أنها تعجن العجين ثم يغلبها النعاس فتنام فتأتي الدجاج وتأكل العجين، وهذا هو الشاهد من الترجمة: تزكية بريرة لعائشة رضي الله عنها، وهو من تعديل النساء بعضهن لبعض. «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ» على المنبر «فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ» ، لأنه هو رئيس المنافقين؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي» ، وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، «فَقَامَ سَعْدُ ابْنُ مُعَاذٍ» ، رضي الله عنه سيد الأوس «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا وَاللَّهِ أَعْذُرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ» ـ هذا الرجل الذي تكلم ـ «مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ» ؛ لأنه رضي الله عنه سيد الأوس، «وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا، فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ» ، يعني: ما تأمرنا فيه نفعل؛ إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج؛ تأمرنا وننفذ أمرك «فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ـ وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ» قالت عائشة رضي الله عنها: «وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ ـ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، لاَ تَقْتُلُهُ، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ» يعني: لو كان من الخزرج «فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ» يؤيد سعد بن معاذ رضي الله عنه «فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ» . وهذا الرمي بالنفاق إذا كان الإنسان متأولاً يعذر فيه، مثل قول عمر رضي الله عنه في حاطب بن أبي بلتعة: دعني أضرب عنق هذا المنافق[(747)]، أما إذا رمى الإنسان أخاه بالنفاق أو الكفر بدون سبب فهذا هو الذي يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه» [(748)].
ثم قالت عائشة رضي الله عنها: «فَثَارَ الحَيَّانِ الأَوْسُ، وَالخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا» يعني: بالقتال بسبب زيادة الكلام، «وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ، فَنَزَلَ، فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا» .
قالت عائشة رضي الله عنها: «وَسَكَتَ وَبَكَيْتُ يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ» ، يعني: مستمرة في البكاء، «حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي» من كثرته، ثم بعد ذلك ذكرت رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار استأذنت فجلست تبكي معها، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها فحمد الله عز وجل وشهد له بالوحدانية ثم قال: «يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا» ، أي: الناس يتحدثون بكذا وكذا « فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ» ، يعني: إن كنت بريئة فالله عز وجل يبرئك، وإن كنت وقعت في الذنب فتوبي إلى الله عز وجل «فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» فاشتد الأمر على عائشة رضي الله عنها، ثم قالت رضي الله عنها: «فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً» من شدة الألم، لأنها مظلومة رضي الله عنها، وقالت لأبيها: «أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم!» ، فقالت لأمها: «أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم!» فقالت رضي الله عنها لما رأتهما ما أجابا عنها: «وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ، فَقُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ» أي: بالكذب «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي» ؛ لأنه أمر استفاض وكثر، ثم قالت رضي الله عنها: «َاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً، إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ: [يُوسُف: 18]{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ *}» ، وفي اللفظ الآخر قالت: «والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه إلا أبا يوسف» [(749)] ثم بعد ذلك قالت: «ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي» ، أي: ما كانت تظن رضي الله عنها أنه ينزل فيها قرآن؛ فعند ذلك نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الوحي، وأصابته الشدة التي تصيبه، «فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ» ، أي: أنه كان يتصبب عرقًا من ثقل الوحي في شدة الشتاء وفي شدة البرد «فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، أي: كشف عنه صلى الله عليه وسلم «وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا، أَنْ قَالَ لِي: «يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ» ، وكانت أمها حاضرة فقالت لها: «قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، قالت: «لاَ وَاللَّهِ، لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ» ، هو الذي أنزل براءتي، «فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [النُّور: 11]{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيَاتِ» ، فعند ذلك أنزل الله عز وجل براءتها رضي الله عنها فجلد النبي صلى الله عليه وسلم من تكلم حد القذف، وكان الذي ثبت عليه ذلك مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، فهؤلاء الثلاثة كل واحد منهم جلد حد القذف ثمانين جلدة، وأما عبدالله بن أبيّ فقد كان يستوشي الحديث ويجمعه ولا يثبت عليه شيء لخبثه؛ ولهذا ما أقيم عليه الحد.
ولما تكلم مسطح بن أثاثة، وكان ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان فقيرًا ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه فحلف أبو بكر رضي الله عنه أن يقطع عنه النفقة، «فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} إِلَى قَوْلِهِ: [النُّور: 22]{وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ» ، أي: من النفقة التي كان ينفقها عليه.
وسأل النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها: «فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ» ، يعني: على عائشة رضي الله عنها، «فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ خَيْرًا» . وهذا هو الشاهد. فهذا من تعديل النساء للنساء، وهذه تزكية من زينب رضي الله عنها لعائشة رضي الله عنها؛ فقول الشخص: ما علمت إلا خيرًا يعد تزكية.
قوله: «قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ» ، يعني: هي التي تنافسها في الجمال والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم.
 إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلاً كَفَاهُ
وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ وَجَدْتُ مَنْبُوذًا فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ، قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي، قَالَ: عَرِيفِي إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: كَذَاكَ اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ.
}2662{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ!» مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ».
قوله: «بَاب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلاً كَفَاهُ» . هذه الترجمة معقودة لبيان حكم تزكية الرجل للرجل أو تزكية الشاهد، هل يكفي فيها رجل واحد أو لابد من عدلين؟
والجمهور على أنه يكتفى في التزكية بواحد إن كان عدلاً.
وقال بعض العلماء: يشترط في التزكية اثنان.
وقال آخرون: لابد في التزكية من ثلاثة.
والصواب: أن الواحد يكفي في التزكية كما هو قول الجمهور، وهو اختيار البخاري رحمه الله.
قوله: «وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ وَجَدْتُ مَنْبُوذًا» ، يعني: لقيطًا.
قوله: «فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ» زاد بعدها في بعض روايات البخاري: «قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا» ، وهذا مثل يقال فيما ظاهره السلامة ويخشى منه الهلاك، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: «الغوير بالمعجمة تصغير غار، وأبؤسًا جمع بؤس وهو الشدة، وانتصب على أنه خبر «عسى» عند من يجيزه، أو بإضمار شيء تقديره: عسى أن يكون الغوير أبؤسًا.
وجزم به صاحب «المغني» . وهو مثل مشهور يقال فيما ظاهره السلامة ويخشى منه العطب.
وروى الخلال في «علله» عن الزهري أن أهل المدينة يتمثلون به في ذلك كثيرًا، وأصله كما قال الأصمعي أن ناسًا دخلوا غارًا يبيتون فيه فانهار عليهم فقتلهم، وقيل: وجدوا فيه عدوًّا لهم فقتلهم، فقيل ذلك لكل من دخل في أمر لا يعرف عاقبته.
وقال ابن الكلبي: الغوير مكان معروف فيه ماء لبني كلب كان فيه ناس يقطعون الطريق، وكان من يمر يتواصون بالحراسة. وقال ابن الأعرابي: ضرب عمر هذا المثل للرجل يعرض بأنه في الأصل ولده وهو يريد نفيه عنه بدعواه أنه التقطه، فهذا معنى قوله: «كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي» .
وقيل: أول من تكلم به الزباء ـ بفتح الزأي: وتشديد الموحدة والمد ـ لما قتلت جذيمة الأبرش، وأراد قصير ـ بفتح القاف وكسر المهملة ـ أن يقتص منها، فتواطأ قصير وعمرو ابن أخت جذيمة على أن يقطع عمرو أنف قصير فأظهر أنه هرب منه إلى الزباء فأمنت إليه، ثم أرسلته تاجرًا فرجع إليها بربح كثير مرارًا ثم رجع المرة الأخيرة ومعه الرجال في الأعدال معهم السلاح فنظرت إلى الجمال تمشي رويدًا لثقل من عليها فقالت: «عسى الغوير أبؤسًا» ، أي: لعل الشر يأتيكم من قبل الغوير، وكأن قصيرًا أعلمها أنه سلك في هذه المرة طريق الغوير فلما دخلت الأحمال قصرها خرجت الرجال من الأعدال فهلكت» . انتهى كلام الحافظ.
قوله: «كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي» ، أي: يتهم أبا جميلة بأن هذا اللقيط في الأصل ولده، وهو يريد نفيه بدعواه أنه التقطه.
قوله: «قَالَ: عَرِيفِي إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ» ، وهذا هو الشاهد، يعني: أن أبا جميلة رجل صالح، وهذه تزكية من عريفه، فقبل عمر تزكيته وهو شخص واحد، فقال: «كَذَاكَ اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ» وفي رواية ثانية قال عمر: «اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته» [(750)]؛ أي: نفقة اللقيط.
}2662{ في الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرط في المدح، وعليه أن يقتصد فيه، فإن الزيادة في الإطراء والمدح تسبب شرًّا كثيرًا، فربما أدخلت على الممدوح الإعجاب بالنفس، وربما يحمله هذا الإطراء على الكبر، لكن لا بأس باليسير من المدح، كما مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي» [(751)]، ومدح عمر رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك» [(752)].
قوله: «أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ» ، ظاهره أنه واحد أثنى عليه، فكان تزكية له، فالظاهر أن التزكية يكفي فيها واحد إذا كان عدلاً، وقيل: لابد من اثنين.
وتعتد المحاكم الآن في التزكية بشاهدين إذا كانا عدلين.
 مَا يُكْرَهُ مِنْ الإِْطْنَابِ فِي الْمَدْحِ وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ
}2663{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ؛ فَقَالَ: «أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ».
قوله: «بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الإِْطْنَابِ فِي الْمَدْحِ وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ» . هذه الترجمة فيها أنه يكره الإكثار والزيادة في المدح، وقد يقال: إنها كراهة تحريم؛ لأنه قد يدخل عُجب أو كبر على نفس الممدوح.
}2663{ قوله: «أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ» ، أي: من أسباب إهلاك الرجل كثرة مدحه والثناء عليه، فينبغي للإنسان أن يقتصد في المدح، وجاء في حديث آخر: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» [(753)]؛ فيكره للإنسان الزيادة في المدح والإطناب فيه، وليقل ما يعلم ولا يسرف؛ لما يجلبه كثرة المدح من الشر للممدوح، كأن يدخله الكبر أو أن يعجب بنفسه.
قوله: «سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ» ، فيه: جواز الاكتفاء بتزكية الواحد، وكذا جواز القليل من المدح.
 بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النُّور: 59]{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}.
وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عز وجل: [الطّلاَق: 4]{أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً.
}2664{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي نَافِعٌ قَالَ: حَدَّثنِي ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي.
قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ؛ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَة.
}2665{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».
قوله: «بَاب بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ» . هذه الترجمة في بيان بلوغ الصبيان وحكم شهادتهم.
وشهادة الصبيان ردها جمهور العلماء، وقالوا: لا تقبل شهادة الصبي حتى يبلغ، واعتبر مالك[(754)] شهادتهم في جراحاتهم؛ أي: في الجراحات التي تجري بين الصبيان ـ بشرط أن يضبط أول قولهم قبل أن يتفرقوا، وقبل الجمهور أخبارهم إذا انضمت إليها قرينة.
قوله: «وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ُ _ ء ] } صلى الله عليه وسلم ِ » .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «في هذه الآية تعليق الحكم ببلوغه الحلم، وقد أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات والحدود وسائر الأحكام؛ وهو إنزال الماء الدافق، سواء كان بجماع أو غيره، سواء كان في اليقظة أو المنام؛ وأجمعوا على أن لا أثر للجماع في المنام إلا مع الإنزال» اهـ.
قوله: «وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» . وللبلوغ علامات للذكر والانثى:
العلامة الأولى: الاحتلام:
والمراد به إنزال المني، فإذا أنزل المنيَّ ذكرٌ أو أنثى في اليقظة أو في النوم فهذا بلوغ بالاتفاق؛ لقول الله تعالى: ُ _ ء ] } ِ ، وقد ينزل وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فإذا احتلم الصبي فهو بالغ، يجري عليه قلم التكليف، وله الجنة إن كان من الطائعين، أو النار إن كان من العاصين.
العلامة الثانية: إنبات الشعر الخشن حول الفرج ، فإذا نبت للصبي شعر خشن حول الفرج فإنه يعتبر بالغًا.
العلامة الثالثة: السن ، وهو خمس عشرة سنة.
العلامة الرابعة خاصة بالمرأة: وهي الحيض ، فقد تبلغ البنت وهي بنت تسع سنين؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: «وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عز وجل: [الطّلاَق: 4]{أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}» ، فاعتبر في العدة بالأقراء، والأقراء جمع قرء، وهو الحيض، فدل على أن الحيض بلوغ.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً» ، يعني: أن هذه الجدة حاضت وهي بنت تسع سنين، ثم تزوجت، فلما بلغت عشر سنين ولدت بنتًا، فلما بلغت البنت الصغرى تسع سنين حاضت وتزوجت فأنجبت، فصارت الكبرى جدة وعمرها إحدى وعشرون سنة، والصغرى أمًّا وعمرها عشر سنين؛ فدل على أن المرأة قد تبلغ وهي بنت تسع سنين.
}2664{ قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي» . هذه هي العلامة الثالثة من علامات البلوغ وهي السن.
وفي هذا الحديث أن حد البلوغ هو خمس عشرة سنة؛ ولهذا لما عُرض ابن عمر وهو ابن أربع عشرة سنة يوم أحد لم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم، ولما عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة أجازه، وفي لفظ: «فلم يجزني ولم يرني بلغت» [(755)].
قوله: «قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ؛ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ» ، أي: لما أُخبر عمر بن عبدالعزيز ـ وهو خليفة ـ بهذا الحديث جعل هذا السن ـ أي: خمس عشرة سنة ـ هو الحد بين الصغير والكبير.
قوله: «وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَة» أي: من بلغ خمس عشرة سنة يفرض له من الأرزاق والأعطيات التي تعطى للجنود والمقاتلين، ومن لم يبلغ يعتبر من الأطفال، ولا شيء له.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لابد أن يبلغ ثماني عشرة سنة، وهو مذهب الأحناف[(756)]، وعليه العمل الآن في المملكة، ومذهب الحنابلة[(757)] أن حد البلوغ هو خمس عشرة سنة، وهو الصواب.
}2665{ قوله: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» ، أي: بالغ؛ واستدل به المؤلف رحمه الله على أن الاحتلام بلوغ، وأنه حد فاصل بين الصبي وغيره.
وهذا الحديث استدل به بعض العلماء على وجوب غسل الجمعة، وأن من لم يغتسل يأثم.
أما جمهور العلماء فيرون أن غسل الجمعة مستحب، واستدلوا بحديث سمرة: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» [(758)]، ولكن الحديث من رواية الحسن عن سمرة وفيه كلام، وحديث الباب أصح منه، وتأولوا قوله: «وَاجِبٌ» أي: متأكد، كقول العرب: حقك علي واجب، أي: متأكد؛ وسبق مناقشة هذا في أبواب غسل الجمعة.
 سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِيَ هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ قَبْلَ الْيَمِينِ
}2666{، }2667{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، قَالَ: فَقَالَ الأَْشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي؛ فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: «احْلِفْ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي! قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [آل عِمرَان: 77]{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إِلَى آخِرِ الآْيَةِ.
قوله: «بَاب سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِيَ هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ قَبْلَ الْيَمِينِ» هذه الترجمة في سؤال الحاكم المدعي عن البينة قبل أن توجه اليمين إلى المدعَى عليه، وهذه الترجمة فيها تقرير للحديث المشهور: «البينة على المدعِي، واليمين على من أنكر» [(759)]، فإن اختصم شخصان في شيء فإن الحاكم الشرعي ـ وهو القاضي ـ يوجه إلى المدعِي بطلب البينة؛ حتى تثبت دعواه، فإن وجد له بينة حكم بها، وإن لم يكن له بينة وجه اليمين إلى المدعَى عليه، وذلك لأن اليمين يكون مع من جانبه قوي؛ لأن الأصل براءة الذمة، لكن الذي يحلف توعد بالوعيد الشديد إذا كان كاذبًا، كما في الآية الكريمة الآتي ذكرها في الحديث التالي.
}2666{، }2667{ في الحديث: أن القاضي عليه أولاً أن يسأل المدعِي: هل لك بينة؟ فإن كان له بينة حكم له بها، وإن لم يكن له بينة وجه اليمين إلى المدعَى عليه.
قوله: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فيه: دليل على أن من يحلف بالله وهو كاذب؛ ليقتطع بيمينه مال امرئ مسلم بغير حق مرتكب لكبيرة، وجريمة عظيمة.
وفيه: أن الأشعث بن قيس أخبر أن الخصومة التي نزلت فيها الآية كانت بينه وبين جار له يهودي، فقال: «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي؛» ، يعني: اليهودي «فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟» . فيه: دليل على أنه توجه البينة أولاً إلى المدعي، «قال: قلت: لا» فقال لليهودي: «احلف» .
وفيه: دليل على أن المدعَى عليه يحلف إذا لم يكن للمدعي بينة، سواء كان الخصم مؤمنًا أم كافرًا؛ ولهذا قال الأشعث «قلت: يا رسول الله إذن يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله عز وجل: [آل عِمرَان: 77]{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}» . وهذه الآية الكريمة فيها الوعيد الشديد لآكلي أموال الناس بغير حق.
وفيها ذم للدنيا، وبيان لقدرها، وأن ما فيها مهما كثر قليل!
 الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَْمْوَالِ وَالْحُدُودِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ».
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}، قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأُْخْرَى.
}2668{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
قوله: «بَاب الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَْمْوَالِ وَالْحُدُودِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان أن اليمين من المدعَى عليه عامة في الأموال وفي الحدود وفي كل شيء، وقصد المؤلف رحمه الله الرد على الكوفيين الذين يخصون يمين المدعى عليه بالأموال دون الحدود.
وجزم المؤلف رحمه الله بالحكم فقال: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَْمْوَالِ وَالْحُدُودِ» لوضوح الدليل.
قوله قول النبي صلى الله عليه وسلم: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «الغرض منه أنه أطلق اليمين في جانب المدعى عليه، ولم يقيده بشيء دون شيء» اهـ.
ثم ذكر المصنف رحمه الله أثر شبرمة في شهادة الشاهد حيث قال: «كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ» وهو قاضي المدينة «فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي» ، يعني: في القول بجوازه.
وكان مذهب أبي الزناد القضاء بذلك كأهل بلده، ومذهب ابن شبرمة خلافه، يعني: عدم القضاء بشاهد ويمين.
واحتج أبو الزناد على ابن شبرمة بحديث: «شاهداك أو يمينه» [(760)]، فاحتج عليه ابن شبرمة بما ذكر في الآية الكريمة: [البَقَرَة: 282]{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}؛ ولهذا قال: «قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأُْخْرَى» .
}2668{ قوله: «كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» ، فهذا عام.
وفيه: رد على الكوفيين الذين يقولون: إنه خاص بالأموال دون الحدود، أي: قضى باليمين على المدعى عليه مطلقًا في الأموال والحدود، فمن خص بالأموال دون الحدود فعليه الدليل.

}2669{، }2670{ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ [آل عِمرَان: 77]{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} ثُمَّ إِنَّ الأَْشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ: صَدَقَ لَفِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ فَقُلْتُ: لَهُ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ عز وجل وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ.
}2669{، }2670{ في الحديث: الوعيد الشديد على من اشترى بعهد الله ثمنًا قليلاً.
وفيه: أن اليمين توجه إلى المدعى عليه، أما تخصيص أبي حنيفة[(761)] وأهل الكوفة هذا بالأموال فلا دليل عليه، والصواب أنه عام.
 إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ
وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ
}2671{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ! فَجَعَلَ يَقُولُ: «الْبَيِّنَةَ وَإِلاَّ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ».
فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ.
قوله: «بَاب إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان أن من ادعى شيئًا أو قذف أحدًا فإنه يطلب منه البينة، ويعطى مهلة لإثبات ذلك، والحجة في هذا قصة اللعان الآتي ذكرها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» أي: انطلق التمس البينة، وإلا سيقام عليك حد القذف.
}2671{ قوله: «الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» ، يعني: عليك البينة أو عليك حد في ظهرك، فتكون «حَدٌّ» خبرًا لمبتدأ محذوف، وفي رواية: «حدًّا» ، أي: أنها مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اطلب البينة، أو هات البينة أو تضرب حدًّا في ظهرك.
قوله: «إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ!» ، أي: ينطلق أحدنا يلتمس البينة بصرف النظر عن كون القاذف زوجًا أو غيره.
والزوج له ثلاثة أمور: إما البينة، أو اللعان، أو الحد، لكن غير الزوج ليس له إلا البينة أو يقام عليه الحد.
 الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ
}2672{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا؛ فَأَخَذَهَا».
قوله: «بَاب الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ» . في هذه الترجمة بيان التغليظ في اليمين بعد صلاة العصر.
}2672{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ، كل واحدة من هذه الأفعال الثلاثة يطلق عليها كبيرة من كبائر الذنوب، حيث توعد صاحبها بأن الله لا يكلمه، ولا ينظر إليه نظر رحمة، ولا يزكيه ـ يعني: لا يطهره ـ وله عذاب أليم.
الأول: «رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ» ، يعني: رجل في طريق في الصحراء، عنده ماء زائد عن حاجته فيمنع منه ابن السبيل، وابن السبيل: هو الغريب الذي يمر بالطريق، والسبيل: هو الطريق، ويسمى ابن السبيل لملازمته له.
الثاني: «وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ» أي: الذي لم يبايع الإمام لمصلحة الإسلام والمسلمين، بل لم يبايع إلا لأجل الدنيا، فإن أعطي من الدنيا وفى بالبيعة، وإن لم يعطَ شيئًا نقض البيعة ونكثها، فهذا عليه الوعيد الشديد.
الثالث: «وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا؛ فَأَخَذَهَا» في «أَعْطَى» وجهان؛ البناء للمعلوم والبناء للمجهول:
فالبناء للمجهول: «لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا» ، أي: يحلف البائع للمشتري أنه هناك من سامها قبله بأكثر من سومه وهو كاذب، فهذا عليه الوعيد الشديد.
والبناء للمعلوم: «لَقَدْ أَعْطَى بِهَا» ، يعني: يحلف البائع للمشتري أنه اشتراها بأكثر من الثمن الذي عرضه عليه، وهو كاذب.
قوله: «بَعْدَ الْعَصْرِ» ، وخصه بالذكر؛ لأن العصر ختام عمل النهار، فختم عمله بالحلف الكاذب، بدل أن يختمه بالاستغفار والعمل الصالح.