(54)كِتَاب الصُّلْح;
مَا جَاءَ فِي الإِْصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النِّسَاء: 114]{لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا *}.
وَخُرُوجِ الإِْمَامِ إِلَى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ.
}2690{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ بِلاَلٌ فَأَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حُبِسَ وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ فَقَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأَْوَّلِ فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ حَتَّى أَكْثَرُوا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَكَادُ يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاَةِ فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ كَمَا هُوَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَتِكُمْ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلاَّ الْتَفَتَ، يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ لَمْ تُصَلِّ بِالنَّاسِ»، فَقَالَ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}2691{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ: مِنْهُمْ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَهُ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأَْيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}.
قوله: «كتاب الصُّلح» هذا الكتاب عقده المؤلف للصلح.
والصلح: هو التوفيق بين المتخاصمين، ومحاولة إزالة ما بينهما من خلاف حتى يتفقا.
وللصلح أقسام وهي:
الصلح مع الكفار، كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية.
الصلح بين المتخاصمين.
الصلح بين الفئة الباغية والفئة العادلة.
الصلح بين المتغاضبين.
الصلح في الجراح.
الصلح في قطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأموال وفي المشتركات.
وقد أثنى الله تعالى على المصلحين بين الناس، فقال سبحانه وتعالى: [النِّسَاء: 114]{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا *}، وهذا من فضل الله.
وقول المؤلف: «وَخُرُوجِ الإِْمَامِ إِلَى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ» ، يعني: باب خروج الإمام إلى المواضع للإصلاح بين الناس.
}2690{ في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في أناس من أصحابه يصلح بين أناس من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء من النزاع والخصومات.
ويقوم بالصلح الإمام أو الأمير أو العالم أو الداعية أو رئيس القبيلة، والصلح من أجَلّ القربات وأفضل الطاعات؛ لأنه يزيل ما بين المتخاصمين من الشر والإحن والضغائن.
والإسلام قدر جهود المصلحين بين الناس، وجعل لهم سهمًا في الزكاة، فيُعطى منها بمقدار الديون التي تحملها ولو كان غنيًّا؛ تشجيعًا له وتقديرًا لهذا العمل النبيل، وهو من الغارمين، قال الله تعالى: [التّوبَة: 60]{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} والغارم: إما لنفسه وهو الفقير، وإما لغيره وهو الذي يصلح بين الناس.
قوله: «فَأَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حُبِسَ وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ فَقَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ» . فيه: أن الإمام إذا تأخر عن الصلاة فللمؤذن أن يقدم أحدهم يصلي بالناس، ولا يحبس الناس إذا تأخر الإمام عن الوقت المعتاد حتى لا يشق عليهم، لكن ليس لهم أن يبادروا الإمام ويتعجلونه، لكن ينتظرون بعض الشيء.
قوله: «ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأَْوَّلِ فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ حَتَّى أَكْثَرُوا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَكَادُ يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاَةِ فَالْتَفَتَ» فيه: جواز الالتفات في الصلاة للحاجة، وأما بدون الحاجة فلا يجوز فهو كما في الحديث: «اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» [(776)].
والالتفات يكون برأسه لا بجسمه، فإذا التفت بجسمه واستدار عن القبلة بطلت الصلاة.
قوله: «فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ» . فيه: دليل على جواز رفع اليدين والدعاء في الصلاة وحمد الله إذا حصل ما يوجب ذلك؛ لفعل أبي بكر وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم ينكر عليه.
قوله: «ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ» . فيه: دليل على جواز التقدم والتأخر للحاجة كأن يسد فرجة أو يصل صفًّا.
قوله: «وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ» . فيه: دليل على أن الإمام إذا جاء وقد تقدم خليفته ولم يصل ركعة فله أن يتقدم، ويبني على صلاته، وله أن يصلي مأمومًا، فهو بالخيار، أما إن كان قد صلى ركعة فأكثر، فالأولى أن يصلي مأمومًا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبدالرحمن بن عوف في غزوة تبوك، حين تأخر هو والمغيرة بن شعبة، لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته والمغيرة معه يصب عليه الماء، فلما رأى الصحابة فيما بينهم أن الفجر قد طلع قدموا عبدالرحمن بن عوف يصلي بهم، فلما صلى عبدالرحمن بن عوف ركعة جاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معهم ولم يتقدم، فلما سلم عبدالرحمن بن عوف قام النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي الركعة التي فاتته وقام معه المغيرة فشق ذلك على الصحابة فقال: «أحسنتم» أو قال: «قد أصبتم» يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها[(777)]، ولم ينكر عليهم، فدل هذا على أن الإمام إذا تأخر وصلى خليفته ركعة فالأولى أن يصلي مأمومًا، وإن تقدم فلا حرج.
قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَتِكُمْ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ» . والتصفيح: التصفيق.
وفيه: دليل على أن الإمام إذا نابه شيء في الصلاة فإن الرجل يسبح، والمرأة تصفق ببطن كفها على ظهره؛ لأنه يخشى أن يكون صوتها عورة.
وما يفعله بعض الناس من التصفيق في الحفلات فهذا مخالف للسنة؛ فالسنة أنه إذا أعجب الإنسان شيء يقول: الله أكبر، وأما التصفيق فهذا فيه تشبه بالنساء، وتشبه بالكفار، قال الله تعالى: [الأنفَال: 35]{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق.
قوله: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ لَمْ تُصَلِّ بِالنَّاسِ»، فَقَالَ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . وهذا تواضع من أبي بكر رضي الله عنه.
وفي الحديث أيضًا: جواز العمل القليل في الصلاة ـ كرفع أبي بكر يديه، ورجوعه القهقرى ـ وأنه لا يؤثر في صحة الصلاة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فتح الباب لعائشة وهو يصلي[(778)]، وحمل أمامة بنت ابنته زينب وهو في الصلاة، إذا قام حملها وإذا سجد وضعها[(779)]، ومثل صلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر[(780)] يُعَلّم الناس الصلاة، فإذا أراد أن يسجد تأخر وسجد بالأرض ثم إذا قام تقدم.
وفي الحديث مشروعية خروج الإمام للإصلاح بين الناس؛ لأن تأثير الإمام على الناس أكبر من تأثير غيره، وحضوره يعجل بالصلح.
}2691{ يحكي لنا هذا الحديث قصة الخصومة التي كانت بين عبد الله بن أبي ومن ينتصرون له، وبين بعض المؤمنين، وجاء أنه عبدالله بن رواحة، وجاء في لفظ آخر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبدالله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبدالله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خَمّر عبدالله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبدالله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب ـ يريد عبدالله بن أبي ـ قال كذا وكذا» قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يُتّوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك؛ فذلك فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم» [(781)].
قوله: « [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}» استشكل بعضهم هذا، كيف نزلت هذه الآية وعبدالله بن أبي ليس من المؤمنين؟
_خ الجواب: يحتمل أن يقال: كان مع عبدالله بن أبي ناس من المؤمنين.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يمكن أن يحمل على التغليب، مع أن فيها إشكالاً من جهة أخرى وهي أن حديث أسامة صريح في أن ذلك كان قبل وقعة بدر، وقبل أن يسلم عبدالله بن أُبي وأصحابه، والآية المذكورة في الحجرات ونزولها متأخر جدًّا وقت مجيء الوفود، لكنه يحتمل أن تكون آية الإصلاح نزلت قديمًا فيندفع الإشكال» اهـ.
 لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ
}2692{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا».
قوله: «بَاب لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان جواز الكذب إن كان للإصلاح بين الناس.
}2692{ قوله: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» . في الحديث: فضل الذي يصلح بين الناس، وفي رواية لمسلم: «ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس به إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها» [(782)]، فهذا يجوز فيه الكذب لما فيه من المصلحة.
فالذي يصلح بين الناس يأتي لأحد المتخاصمين ويقول: إن فلانًا ندم على ما حصل منه، ويريد أن يصطلح معك، ويريد أن يأتي إليك، ثم يأتي للثاني ويقول له مثل ذلك: إن فلانًا ندم على ما حصل منه، ويريد أن يأتي إليك، حتى يؤلف بين قلبيهما، فهذا لا بأس به، وليس من الكذب المذموم.
وكذلك حديث الرجل مع امرأته، يقول لها: سوف آتي لك بكذا، وأشتري لك كذا، وهو لا يريد أن يشتري لها، وهي تقول: سوف أطيعك في المستقبل وسوف أعمل وسوف أعمل، حتى يصلح الحال بينهما، فهذا لا بأس به، إذا كان لا يسقط شيئًا من الحقوق.
وقال بعضهم: إن المراد هنا التورية، لا صريح الكذب.
وكذلك يجوز الكذب في الحرب؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحرب خدعة» [(783)]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة وَرّى بغيرها[(784)]، فإذا أراد أن يغزو جهة الشمال سأل عن الطريق الذي في جهة الجنوب حتى يعمي على الأعداء، وإذا أراد أن يغزو جهة الغرب سأل عن الطريق الذي في جهة الشرق.
 قَوْلِ الإِْمَامِ لأَِصْحَابِهِ اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ
}2693{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُْوَيْسِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ قَالاَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ».
قوله: «بَاب قَوْلِ الإِْمَامِ لأَِصْحَابِهِ اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ» ، يعني: قول الإمام وولي الأمر والأمير: هيا بنا نذهب لنصلح بين المتخاصمين.
}2693{ هذا طرف من حديث سهل بن سعد الذي مضى في أول كتاب الصلح، والشاهد منه قوله: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ» .
 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
[النِّسَاء: 128]{أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
}2694{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُسَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها [النِّسَاء: 128]{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: هُوَ الرَّجُلُ يَرَى مِنْ امْرَأَتِهِ مَا لاَ يُعْجِبُهُ كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا فَتَقُولُ أَمْسِكْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا شِئْتَ قَالَتْ: فَلاَ بَأْسَ إِذَا تَرَاضَيَا.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُصْلِحَا} بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام من غير ألف، فهذه قراءة الكوفيين وهم: عاصم وحمزة والكسائي وخلف.
وهذه الترجمة معقودة لبيان فضل الصلح بين الزوجين في حالة النشوز والإعراض.
}2694{ قوله تعالى: « ُ ) * + ، % × ' ( ِ » ، أي: إذا خافت المرأة من بعلها نشوزًا أو إعراضًا عنها فلا بأس أن تصالحه وتقول له مثلاً: أبقني وأسقط عنك النفقة أو أسقط عنك الكسوة أو أسقط عنك القَسْم إذا كان لها ضرات، كما فعلت سودة بنت زمعة رضي الله عنها لما خشيت أن يفارقها النبي صلى الله عليه وسلم فأسقطت ليلتها ووهبتها لعائشة رضي الله عنها[(785)].
وقد فسرت عائشة رضي الله عنها الآية بقولها: «هُوَ الرَّجُلُ يَرَى مِنْ امْرَأَتِهِ مَا لاَ يُعْجِبُهُ كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا فَتَقُولُ أَمْسِكْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا شِئْتَ قَالَتْ: فَلاَ بَأْسَ إِذَا تَرَاضَيَا» أي: إذا كبرت في السن، وهو يريد أن يطلقها وهي لا تريد طلاقًا وتريد أن تبقى معه فتقول: اتركني وأعفيك من النفقة أو أعفيك من السكنى أو أعفيك من الكسوة أو أعفيك من القَسْم، فأنا أريد أن أبقى مع أولادي، فهذا لا بأس به، كما فعلت سودة رضي الله عنها[(786)].
 إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ
}2695{، }2696{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما قَالاَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الأَْعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا: لِي عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا» فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا.
}2697{ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ».
رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.
قوله: «بَاب إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ» هذه الترجمة جزم فيها المؤلف بالحكم؛ لقوة الدليل ووضوحه، فإذا كان الصلح جائرًا مخالفًا للشرع فهو باطل ولا يعمل به؛ لأن من شرط الصلح أن يكون جائزًا في الشرع.
}2695{، }2696{ قوله: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ» وفي لفظ آخر: «وهو أفقه منه» .
وفيه: «وائذن لي» [(787)]، يعني: في التحدث.
قوله: «فَقَالَ الأَْعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا» . عسيفًا يعني: أجيرًا عنده.
قوله: «فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ» . وفيه: أنه ينبغي الحذر من الأُجَراء والخدم؛ فهذا كان أجيرًا عنده، فلما كثرت ملابسته ودخوله، حصل بينه وبين زوجته اتصال فزنى بها.
فلابد من الالتزام بالقواعد الشرعية وحمل الخدم في البيوت وقائدي السيارات عليها، حتى نأمن الفتن، وينبغي الاستغناء عن الخدم وقائدي السيارات ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلاً؛ فقائد السيارة يأخذ المرأة وحدها إلى الأسواق أو يأخذ البنت إلى المدرسة أو إلى الجامعة وحدها، وبعض الناس يأتون بالخدم من باب المباهاة وليس لهم بهم حاجة.
وإن اضطر الإنسان إلا الاستعانة بهم فيكون عند الضرورة، والحاجة الملحة مع أخذ الاحتياطات؛ فتكون الخادمة محجبة ومعها وليها، وتكون مع النساء، ولا يخلو بها هو ولا أحد من أولاده، وكذلك قائد السيارة يكون في مكان خاص، ولا يختلط بالنساء.
ولا يجوز استقدام الخدم من الكفار، بل ينبغي اختيارهم من المسلمين.
قوله: «فَقَالُوا: لِي عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ» ، يعني: أنهما اصطلحا هو وزوج المرأة، فأعطاه مائة شاة من الغنم ووليدة ـ أي: أمة ـ على أن يسامحه.
وفي الحديث أنه أُخْبِر أن على ابنه الرجم، ويحتمل أن الذي أخبره بذلك هم العوام.
قوله: «ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» ، وذلك لأن أحكام الشرع كانت جديدة، وكانت تخفى على بعض الناس، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكم لعدم علمه به.
قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ» ، لأن هذا صلح باطل، وهذا هو الشاهد للترجمة، فالصلح مردود؛ لأنه صالحه على أن يعطيه مائة شاة مقابل فعله الفاحشة بامرأته، وليس هناك صلح في إقامة الحدود، فالزاني يجب أن يقام عليه الحد.
قوله: «وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» ، لأنه بكر؛ فإن حد الزاني إذا كان بكرًا جلد مائة وتغريب عام.
قوله: «وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا» ، وفي رواية: «فإن اعترفت فارجمها» [(788)].
قوله: «فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا» ، يعني: فاعترفت فرجمها.
وفيه: دليل على أن الصلح على الحدود التي لابد من إقامتها مردود؛ لأنه صلح على جور؛ ولهذا جزم المؤلف في الترجمة بالحكم فقال: «بَاب إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ» .
}2697{ قوله: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» . وجه الدلالة: من هذا الحديث أنه عام يشمل كل حدث في الدين، ومنها الصلح على الجور؛ لأنه حدث في الدين ليس عليه أمر الله وأمر رسوله فيكون باطلاً مردودًا.
 كَيْفَ يُكْتَبُ هَذَا مَا صَالَحَ فُلاَنُ بْن فُلاَنٍ وَفُلاَنُ بْن فُلاَنٍ
وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ
}2698{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لاَ تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَوْ كُنْتَ رَسُولاً لَمْ نُقَاتِلْكَ فَقَالَ لِعَلِيٍّ: «امْحُهُ»، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلاَ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ، فَسَأَلُوهُ: مَا جُلُبَّانُ السِّلاَحِ؟ فَقَالَ: الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ.
}2699{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ ابْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا: لاَ نُقِرُّ بِهَا فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ لَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ» ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: «امْحُ رَسُولُ اللَّهِ»، قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَدًا! فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَ فَكَتَبَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لاَ يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلاَحٌ إِلاَّ فِي الْقِرَابِ، وَأَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا»، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأَْجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا؛ فَقَدْ مَضَى الأَْجَلُ؛ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ: يَا عَمِّ يَا عَمِّ فَتَنَاوَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ _ب: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ حَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُْمِّ»، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: «أَنْتَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْكَ»، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي»، وَقَالَ لِزَيْدٍ: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا».
هذه الترجمة معقودة لكيفية كتابة الصلح.
قوله: «هَذَا مَا صَالَحَ فُلاَنُ بْن فُلاَنٍ وَفُلاَنُ بْن فُلاَنٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ» أي: إذا كان معروفًا، كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا ما صالح محمد ابن عبدالله» [(789)]، ولم يقل الهاشمي القرشي؛ لكونه معروفًا عند العامة والخاصة صلى الله عليه وسلم، فإذا كان معروفًا بحيث يؤمن اللبس فيصح الصلح ولو لم ينسبه إلى قبيلته، فيكتفى في الوثيقة بالاسم المشهور، وأما قول الفقهاء: لابد في كتابة الوثائق من ذكر اسمه واسم أبيه وجده ونسبه فهذا حيث يخشى اللبس.
}2698{ قوله: «لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» أي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله.
قوله: «فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لاَ تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَوْ كُنْتَ رَسُولاً لَمْ نُقَاتِلْكَ» يعني: لو كنا نعتقد أنك رسول ما قاتلناك.
قوله: «فَقَالَ لِعَلِيٍّ: «امْحُهُ»» ، يعني: امح كلمة: رسول الله.
قوله: «فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ» ، وهذا ليس إباءً من علي رضي الله عنه، بل شق عليه أن يمحو بنفسه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ» ، أي: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن عليًّا لا تطاوعه نفسه أن يمحو اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم محاه بنفسه صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ» ، يعني: صالح قريشًا على أن يرجع هذا العام ولا يعتمر، وفي السنة القادمة يعتمر ثلاثة أيام.
قوله: «فَسَأَلُوهُ: مَا جُلُبَّانُ السِّلاَحِ؟ فَقَالَ: الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ» ، يعني: السلاح الخفيف، كالسيف في الغمد.
وكان هذا الصلح سنة ست من الهجرة، فلما كانت السنة القادمة وهي السنة السابعة، اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام.
}2699{ قوله: «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ» ، أي: صالحهم على أن يقيم ثلاثة أيام.
قوله: «فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا: لاَ نُقِرُّ بِهَا فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ لَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» ، وهذا من كفرهم وتعنتهم.
قوله: «قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ» ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: «امْحُ رَسُولُ اللَّهِ»، قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَدًا!» وليس هذا من قبيل العصيان.
قوله: «فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَ فَكَتَبَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لاَ يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلاَحٌ إِلاَّ فِي الْقِرَابِ» ، أي: كتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله لا يدخل مكة سلاحًا إلا في الغمد.
قوله: «وَأَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا» .
وفيه: غضاضة على المسلمين، فلو أراد أحد أن يخرج من مكة إلى المدينة يرده الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، ولو أراد أحد أن يبقى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لم يردوه عليه.
وفي هذا دليل على أن للإمام أن يتنازل عن بعض الحق في صلحه إن رأى مصلحة في ذلك.
وشق هذا على الصحابة، لكن كان فيه الخير؛ فقد وضعت الحرب أوزارها وتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم بعدها لفتح خيبر والدعوة، ثم نقضوا الصلح بعد ذلك بسنتين؛ فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم وفتح مكة.
قوله: «فَلَمَّا دَخَلَهَا» ، يعني: في العمرة.
قوله: «وَمَضَى الأَْجَلُ» ، يعني: ثلاثة أيام.
قوله: «أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ» ، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «اخْرُجْ عَنَّا؛ فَقَدْ مَضَى الأَْجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ: يَا عَمِّ يَا عَمِّ فَتَنَاوَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ _ب: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ حَمَلَتْهَا» يعني: خذي ابنة عمك حمزة بن عبدالمطلب.
قوله: «فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي» أي: ابنة عمه حمزة.
قوله: «وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي» ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد وبين حمزة.
قوله: «فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُْمِّ»» ، أي: قضى بها لجعفر؛ لأن خالتها تحته.
وفيه: أن الخالة مقدمة على ابنة العم في الحضانة؛ لأنها بمنزلة الأم.
قوله: «وَقَالَ لِعَلِيٍّ: «أَنْتَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْكَ»، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي»، وَقَالَ لِزَيْدٍ: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا»» ، أي: أرضاهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم، وطيب خاطرهم.
 الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ
فِيهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ.
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَْصْفَرِ».
وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَأَسْمَاءُ وَالْمِسْوَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}2700{ وَقَالَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَالَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ، السَّيْفِ، وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ، فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِي قُيُودِهِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ، قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: لَمْ يَذْكُرْ مُؤَمَّلٌ عَنْ سُفْيَانَ أَبَا جَنْدَلٍ وَقَالَ: إِلاَّ بِجُلُبِّ السِّلاَحِ.
}2701{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ؛ فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلاَ يَحْمِلَ سِلاَحًا عَلَيْهِمْ إِلاَّ سُيُوفًا، وَلاَ يُقِيمَ بِهَا إِلاَّ مَا أَحَبُّوا؛ فَاعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا ثَلاَثًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ؛ فَخَرَجَ.
}2702{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ ابْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ.
هذه الترجمة معقودة لبيان كيفية الصلح مع المشركين.
قوله: «فِيهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ» ، أي: يدخل في هذا الباب قصة أبي سفيان في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَْصْفَرِ»» ، وهم الروم، وذلك في آخر الزمان حيث يكون قتال بين المسلمين وبين الروم، ثم يعقد بينهما صلح.
قوله: «وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ» ، أي: وفيه حديث سهل بن حنيف، في صلح الحديبية، وهو قوله: «لقد رأيتنا يوم أبي جندل» [(790)].
قوله: «وَالْمِسْوَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» أي: فيه عن أسماء والمسور أحاديث في الصلح أيضًا.
}2700{ قوله: «صَالَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ» . فيه: أنه لا بأس بالصلح مع المشركين، ولو كان فيه غضاضة على المسلمين عند الحاجة والضعف، كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح المشركين يوم الأحزاب على بعض ثمار المدينة، فأبى ذلك السعدان[(791)].
قوله: «وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ» وهو السلاح الخفيف مثل: السيف والقوس ونحوه.
قوله: «فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِي قُيُودِهِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ» ، يعني: جاء يمشي مثل الحجلة ـ يرفع رجلاً ويضع أخرى ـ وألقى بنفسه بين المسلمين، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين أن يجيزوه له فرفضوا، فرده عليهم، ثم جعل الله له فرجًا ومخرجًا.
}2701{ قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ؛ فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ» . فيه: دليل على أن المحصر ينحر ويحلق، ويتحلل في مكانه إذا كان محرمًا.
قوله: «وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ» ؛ أي: صالحهم على أن يرجع هذا العام ويتحلل من عمرته ويعتمر من العام القادم.
قوله: «وَلاَ يَحْمِلَ سِلاَحًا عَلَيْهِمْ إِلاَّ سُيُوفًا، وَلاَ يُقِيمَ بِهَا إِلاَّ مَا أَحَبُّوا؛ فَاعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ» ، فأقام بها ثلاثًا حسب الصلح.
قوله: «فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا ثَلاَثًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ؛ فَخَرَجَ» ، أي: فلما أكمل ثلاثة أيام طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يخرج من مكة، وهذا في السنة السابعة من الهجرة.
ثم لما وصل سَرِف تزوج ميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس رضي الله عنهما[(792)].
}2702{ قوله: «انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ» . هذا الحديث يحكي لنا قصة مقتل عبدالله بن سهل لما جاء هو ومحيصة بن مسعود إلى خيبر إبان صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود، ثم دفع النبي صلى الله عليه وسلم الدية من عنده.
 الصُّلْحِ فِي الدِّيَةِ
}2703{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَْنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثنِي حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا الأَْرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ: «يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ!» فَرَضِيَ الْقَوْمُ، وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ».
زَادَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأَْرْشَ.
هذه الترجمة معقودة لبيان كيفية الصلح في الدية.
}2703{ قوله: «أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا الأَْرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا» ، أي: أن الربيّع بنت النضر كسرت ثنية جارية متعمدة فعرضوا على أهلها الدية فأبوا إلا القصاص.
قوله: «فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا» ، وهذا من حسن الظن بالله؛ أقسم على الله أنها لا تكسر ثنيتها، فحقق الله له ما تمناه، فرضي القوم وأخذوا الدية، وعفوا عنها.
قوله: «فَقَالَ: «يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ!»» ، أي: حكم الله أنه لابد أن يقتص منها بأن تكسر ثنيتها.
قوله: «فَرَضِيَ الْقَوْمُ، وَعَفَوْا» ، وفي رواية الفزاري: «فرضي القوم وقبلوا الأرش» أي: امتنعوا في بادئ الأمر، فلما أقسم أنس على ربه أبر الله قسمه.
قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ» ، يعني: الأخيار الأبرار.
قوله: «مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» فهذا أنس أقسم على الله فأبر الله قسمه، وهذا من باب حسن الظن بالله، وجاء في الحديث: «كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» [(793)].
كما أقسم شيخ الإسلام أن يهزم الله التتر بناء على ما رآه من الأمارات؛ إحسانًا للظن بالله، وليس هذا من باب التألّي والاعتراض على الله.
أما شاهد التألي ففي قصة العابد الذي قال للعاصي: «والله لا يغفر الله لك فقال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك» [(794)].
وإذا قال الرجل في دعائه: أقسم عليك يا الله أن تقضي حاجتي فإنه جائز إذا كان فيه مصلحة عامة للمسلمين، أما غير ذلك فإنه يدعو ويحسن الظن بالله ويكرر الدعاء ويتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته.