الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ
مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ
}2731{، }2732{ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالاَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ، فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ» فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ.
وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ».
ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ المَاءِ، يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ.
وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم العَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ العُوذُ المَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ البَيْتِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ».
فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ.
فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللاَّتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ.
قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ المِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ.
وَكَانَ المُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا المَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ».
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ.
فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا فُلاَنٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ» فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ.
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».
قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ».
فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ، وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ».
فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، فَكَتَبَ.
فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا.
قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ المُسْلِمِينَ.
فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ»، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَجِزْهُ لِي».
قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: «بَلَى فَافْعَلْ»، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ.
قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ.
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ»، قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ».
قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَِصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا».
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ.
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا.
ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [المُمتَحنَة: 10]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حَتَّى بَلَغَ بِعِصَمِ الكَوَافِرِ فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ، كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ.
ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: العَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَِحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى المَدِينَةَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا» فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ البَحْرِ.
قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ.
فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [الفَتْح: 24]{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} حَتَّى بَلَغَ [الفَتْح: 26]{حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ} وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ البَيْتِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «مَعَرَّةٌ» العُرُّ: الجَرَبُ، «تَزَيَّلُوا»: تَمَيَّزُوا، وَحَمَيْتُ القَوْمَ: مَنَعْتُهُمْ حِمَايَةً، وَأَحْمَيْتُ الحِمَى: جَعَلْتُهُ حِمًى لاَ يُدْخَلُ، وَأَحْمَيْتُ الحَدِيدَ وَأَحْمَيْتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَغْضَبْتَهُ إِحْمَاءً.
}2733{ وَقَالَ عُقَيْلٌ: عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ وَبَلَغْنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لاَ يُمَسِّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيِّ فَتَزَوَّجَ قَرِيبَةَ مُعَاوِيَةُ وَتَزَوَّجَ الأُْخْرَى أَبُو جَهْمٍ فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [المُمتَحنَة: 11]{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} وَالْعَقْبُ مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللاَّئِي هَاجَرْنَ وَمَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا.
وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِيَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِي الْمُدَّةِ فَكَتَبَ الأَْخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ أَبَا بَصِيرٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
هذه الترجمة عقدها المؤلف للشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط.
}2731{، }2732{ قوله: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ» هذه قصة صلح الحديبية وكان في السنة السادسة من الهجرة.
قوله: «حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ» وكان في ذلك الوقت مشركًا، والغميم: جبل قرب مكة.
قوله: «فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ» أي: يتطلعون وينظرون أخبار النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ» فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الجَيْشِ» ، أي: الغُبارُ الأسودُ الذي أثارته حوافِر خيلِ الجَيشِ.
قوله: «فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ» ، أي: ليخبرهم.
قوله: «وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ» أي: ناقته القصواء.
قوله: «حَلْ حَلْ» كلمة تقال للناقة إذا بركت.
قوله: «خَلَأَتْ» الخلاء بالمد للإبل كالحران للخيل، يعني: وقفت.
قوله: «القَصْوَاءُ» : ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ»» ، أي: قد أصابها ما أصاب الفيل حين توجه إلى مكة، «ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»» ، ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم ناقته فوثبت وقامت.
قوله: «فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ» ، وهو مكان على حدود الحرم على طريق جدة، ويسمى الآن الشميسي.
قوله: «عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ المَاءِ» ، أي: نزل على حفيرة فيها ماء مثمود أي: قليل.
قوله: «يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا» ، يعني: يأخذوا منه قليلاً قليلاً.
قوله: «فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ» ، أي: انتهى لأن الجيش كان ألفًا وخمسمائة وما وجدوا إلا ماءً قليلاً.
قوله: «فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ» . الكنانة هي جعبة السهام.
قوله: «ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ» ، أي: في الماء القليل.
قوله: «فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ» ، يعني: أصبح يفور بالماء لما نزع النبي صلى الله عليه وسلم السهم من كنانته ووضعه فيه، وهذا من دلائل نبوته ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم.
قوله: «حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ» ، أي: حتى ملؤوا كل وعاء بالماء وشربوا.
قوله: «فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، والعيبة: ما يوضع فيه الثياب لحفظها والمعنى أنهم موضع النصح للنبي صلى الله عليه وسلم والأمانة على سره، فشبه صدورهم بالعيبة فكما أن العيبة يحفظ فيها الثياب فصدورهم يحفظ فيها السر والأمانة.
قوله: «ِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الحُدَيْبِيَةِ» والأعداد جمع عِد وهو الماء الذي لا انقطاع له، يعني: تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي هناك عندهم مياه.
قوله: «وَمَعَهُمُ العُوذُ المَطَافِيلُ» العوذ ـ بالذال المعجمة ـ جمع عائذة وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها.
قوله: «وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ البَيْتِ» ، أي: عازمون عزمًا أكيدًا على ذلك.
قوله: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ» ، يعني: جئنا لزيارة البيت الحرام مسالمين.
قوله: «وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ» ، يعني: أثرت عليهم الحرب اقتصاديًّا.
قوله: «فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ» ، فإن أظهرني الله فإن شاءوا دخلوا فيه.
قوله: «وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا» ، يعني: عاد إليهم اقتصادهم، ورجع إليهم النقص الذي حصل لهم.
قوله: «وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي» يشير إلى رقبته.
قوله: «إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ» ، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ:» ، أي: العقلاء.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عرض الصلح على بديل بن ورقاء، وبديل بن ورقاء بَلّغ قريشًا ثم تتابع خمسة رسل حتى عقد الصلح سهيل بن عمرو.
قوله: «فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، اقْبَلُوهَا» ، بلحوا علي يعني: امتنعوا والمعنى: أنتم بمنزلة الوالد في الشفقة عليَّ وأنا بمنزلة الولد لكم في النصح والشفقة، وإن محمدًا عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها وصالحوه مدة كي نستفيد نحن؛ لأن الحرب أضرت بنا وأنهكتنا وذهبت بأموالنا.
قوله: «أَيْ مُحَمَّدُ» ، نداء يعني: يا محمد.
قوله: «أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى» ، يعني: الحرب.
قوله: «فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ» ، أي: ما أرى حولك إلا أناس ما عندهم ثبات إذا جاءتهم الحرب فروا وتركوك وحدك.
قوله: «فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللاَّتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟» يقال بضر وبظر والمراد: القطعة التي تبقى بعد الختان في فرج المرأة والمراد بهذه الجملة التحقير. فقال عروة: من هذا الذي يتكلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبو بكر.
قوله: «قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ» ، أي: لك علي معروف ولم أَردُّه بعد؛ فلا أستطيع أن أرد عليك ـ فهو يقدر المعروف وهو على شركه ـ وجعل عروة يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم كلمة أخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم ـ على عادة العرب فالواحد منهم إذا كلم الرئيس في حاجة يمس لحيته وأطراف ثيابه مبالغة في الحرص على قضاء حاجته ـ وكان المغيرة بن شعبة حارسًا للنبي صلى الله عليه وسلم فإذا مد عروة بن مسعود يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ـ أي: ما يكون في أسفل قرابه ـ.
قوله: «أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فيه: جواز حراسة أولياء الأمور عند الحاجة؛ لأن المغيرة وقف على رأس النبي صلى الله عليه وسلم حارسًا، فلما ضرب المغيرة يد عروة بنعل السيف رفع عروة رأسه «فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ» .
قوله: «فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ» ، أي: حرف نداء يعني: يا أيها الغادر.
قوله: «أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ، وَكَانَ المُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ» فهذه تسمى غدرة.
قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا المَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ»» يعني: يَرُدُ على صاحبه الذي أخذه منه في الجاهلية، وأما الإسلام فأقبله منه.
قوله: «ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ» ، يعني: يلحظهم.
قوله: «قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً» . عروة لم يقل: صلى الله عليه وسلم لأنه في هذا الوقت كان مشركًا ولكن هذه زيادة من الرواة.
قوله: «إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ» ، أي: يتبركون بها مما جعل الله في فضلاته من البركة وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولا يقاس عليه غيره؛ لأن الصحابة ما فعلوا هذا مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم من وسائل الشرك.
قوله: «وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ» ، يعني: يأخذون القطرات التي تتساقط من يد النبي صلى الله عليه وسلم يتبركون بها ويتمسحون بها؛ لأنها أصابت بدن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ» أي: حرف نداء يعني: يا قوم.
قوله: «وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ» إن بمعنى ما والمعنى: ما رأيت ملكًا قط وفي رواية: «مليكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا» ، والمليك في اللغة: المَلِك فيقال: مَلِك ومليك قال تعالى: [القَمَر: 55]{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ *}.
قوله: «وَإِنَّهُ» يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم «قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا» . الذي يقول هذا عروة بن مسعود، يقوله لقريش بعد أن رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ» ، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم. «فَقَالُوا: ائْتِهِ» ، وكان ممن يعظمون البُدْن فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قوله: «هَذَا فُلاَنٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ» فَبُعِثَتْ لَهُ» ، أي: ابعثوا البُدن وهي الابل جمع بدنة لكي تؤثر في نفسه، فبعثوا البُدن وجعلوا يلبون: لبيك اللهم لبيك، «فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ» ، ما جاء هؤلاء لقتال؛ جاءوا معتمرين كيف يمنعون من البيت؟!
قوله: «رَأَيْتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ» . القلادة تكون في عنق الإبل من النعال وغيرها.
قوله: «وَأُشْعِرَتْ» الإشعار شق صفحة سنام البعير وسفك الدم؛ ليعلم أنها مهداة.
قوله: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ» . قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول لما أشرف عليهم، ويؤخذ منه جواز غيبة الكافر المعين؛ لأن قتله جائز فغيبته أولى، «فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو» .
قوله: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»» ، من باب التفاؤل بالاسم.
قوله: «فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا» ، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم الصلح عشر سنين وهذا فيه جواز كتابة الصلح مع أهل الحرب إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك.
واختلف العلماء في مدة الصلح، فذهب الجمهور ـ وهي رواية عند الحنابلة[(834)] ـ إلى أنه لا يجوز الصلح مع الكفار والمشركين أكثر من عشر سنين كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا، ومن العلماء من قال: إنه يصالح بدون تحديد المدة، ونقل النووي عن مالك[(835)] أنه يرى أن له أن يصالح أكثر.
قوله: «فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الكَاتِبَ» . جاء في الروايات الأخرى أنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»» . وهذا كان من الأشياء التي فيها غضاضة على المسلمين أنه محا بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ، وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»» وفيه: جواز قبول الشروط المجحفة إذا كان ولي الأمر يرى المصلحة في ذلك.
قوله: «فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ»» ، يعني: من الشروط أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به.
قوله: «فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ» . فعند ذلك ذبح النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق شعره وتحلل.
قوله: «فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا. قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟» فيه: جواز قبول بعض الشروط في المصالحة مع العدو وإن كان فيها غضاضة على المسلمين إذا كان ولي الأمر يرى المصلحة في ذلك.
قوله: «فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو» ، واسمه العاص بن سهيل، وهو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الكتاب.
قوله: «يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ المُسْلِمِينَ» . هذا من الابتلاء والامتحان، فقد كان أسلم وعُذِّب عذابًا شديدًا وتخلص والقيود في يديه ورجليه ورمى بنفسه بين المسلمين.
قوله: «فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ» ، أي: هذا من الصلح الذي بيننا أن ترده.
قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ»، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ» ، أي: لابد أن تَردّ إلي هذا الولد العاصي.
قوله: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَجِزْهُ لِي»» ، يعني: طلبته منك هبة لي.
قوله: «قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ» ، أي: قال: لا ما أعطيك إياه.
قوله: «قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ» . وهذا ابتلاء للمسلمين؛ ولذلك قال عمر ـ وقد أصابه شدة من هذا الأمر: كيف الذي يأتي من المشركين مسلمًا يرد عليهم والذي يأتي من المسلمين إلى الكفار لا يرد عليهم؟!
قوله: «فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»» وفي اللفظ الآخر: «إني رسول الله ولن يضيعني: الله أبدًا» [(836)].
قوله: «قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟» ، والآن مُنِعْنا فأين الوعد؟
قوله: «قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ»» ، على حذف حرف الاستفهام، يعني: هل أخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: «قُلْتُ: لاَ» .
قوله: «قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»» ، أي: ستأتيه إن شاء الله في المستقبل.
قوله: «فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ» ، أي: قال مثل مقالة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على فضل الصديق وقوة إيمانه وثباته وغزارة علمه؛ لأن جوابه مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء.
قوله: «قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً» ، يعني: كأنه خاف أن تكون مناقشته للنبي صلى الله عليه وسلم وكلامه معه ذنبًا فعمل أعمالاً صالحة تكفر اعتراضه على النبي صلى الله عليه وسلم ومناقشته له.
قوله: «قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَِصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»» ؛ لأن المُحصر يذبح ويتحلل.
قوله: «قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ» أي: ما تحركوا «حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» ، ولا يتحرك أحد لا عصيانًا لكن يرجون لعل النبي صلى الله عليه وسلم يرجع عن الصلح، فلما لم يقم منهم أحد غضب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس.
قوله: «فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ» ، أي: إذا فعلت فالناس سوف يقتدون بك، «فَخَرَجَ» النبي صلى الله عليه وسلم «فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ» .
قوله: «فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا» ، وهذا يدل على فضل أم سلمة وسداد رأيها ورجاحة عقلها ووجد من النساء ـ وإن كن قلة ـ من تفوق الرجال في سداد الرأي: ورجاحة العقل.
قوله: «ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حَتَّى بَلَغَ بِعِصَمِ الكَوَافِرِ» . المعنى أن من شروط الصلح أن يرد المؤمنات اللاتي أسلمن إلى المشركين، لكن نزل القرآن بأن النساء لا ترد ولا ينفذ عليهن الشروط [المُمتَحنَة: 10]{فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} يعني: المسلمات لا يحللن للكفار ولا الكفار يحلون لهن.
قوله: «فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ، كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ» ، أي: لما نزلت هذه الآية حُرِّم بقاء المشركة تحت المؤمن والمؤمنة تحت الكافر، «فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ» قبل أن يسلم «وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ» .
قوله: «ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ» ، أي: جاء مسلمًّا، فأرسلت قريش في طلبه «فَقَالُوا: العَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا» فدفعه إلى رجلين من قريش فخرج الرجلان به «حَتَّى بَلَغَا ذَا الحُلَيْفَةِ» وهو مكان الميقات «فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ» ، فَتَحَيّل أبو بصير لأحد الرجلين فقال: «َاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ» أي: فقتله ففر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد مذعورًا يعدو، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم حين رآه: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا» ؛ فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم «قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ»» . المراد: أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم تعجَّبَ من فعلةِ أبي بصير، حتى وصفه بِأنَّه مُحرِّكٌ للحربِ وموقدُها لو كان معه أحدٌ ينصرُهُ ويعاضِدُه، فعرفَ أبو بصير رضي الله عنه أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم سيردُّهُ إلى قريشٍ بعدَ كلِمِتِه هذه.
قوله: «فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ البَحْرِ» أي: الساحل فأقام هناك.
قوله: «قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ» ، فتجمع كل من أسلم على الساحل فصاروا عصابة.
قوله: «فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ» ، حتى تأذت قريش منهم، «فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ» .
وفعل أبي بصير وعصابته ليس خروجًا على الهدنة؛ لأنه لم يكن بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم خرجوا من تلقاء أنفسهم يقطعون الطريق على قريش؛ لما وقع عليهم من الظلم.
قوله: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [الفَتْح: 24]{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} حَتَّى بَلَغَ [الفَتْح: 26]{حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ}، وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ البَيْتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «مَعَرَّةٌ» العُرُّ: الجَرَبُ، «تَزَيَّلُوا»: تَمَيَّزُوا» وبقية الآية: [الفَتْح: 25]{وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *}.
يعني: أنه يوجد مؤمنون يخفون إيمانهم بين الكفار لو تميزوا لعذب الكفار، ولكن لو سلط الله المؤمنين على الكفار وقتلوهم لقتلوا معهم المؤمنين الذين أخفوا إسلامهم فيحصل بذلك مشقة على المؤمنين.
قوله: «وَحَمَيْتُ القَوْمَ: مَنَعْتُهُمْ حِمَايَةً، وَأَحْمَيْتُ الحِمَى: جَعَلْتُهُ حِمًى لاَ يُدْخَلُ، وَأَحْمَيْتُ الحَدِيدَ وَأَحْمَيْتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَغْضَبْتَهُ إِحْمَاءً» . هكذا فسر الإمام البخاري بعض الألفاظ المشكلة، وهذا من عادته رحمه الله.
}2733{ قوله: «وَبَلَغْنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ» ، يعني: يردوا إليهم الصداق الذي أنفقوه؛ لأنه إذا جاءت امرأة مسلمة من الكفار انفسخ عقدها من زوجها الكافر؛ فالمسلمون يردون الصداق عليه.
قوله: «وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لاَ يُمَسِّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ» ، فحينئذ طلق عمر امرأتين واحدة اسمها قريبة بنت أبي أمية، وتزوجها معاوية؛ والثانية ابنة جرول الخزاعي، وتزوجها أبو جهم.
قوله: «فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [المُمتَحنَة: 11]{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} وَالْعَقْبُ مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ» ، يعني: نساء الكفار اللاتي هاجرن يعطى أزواجهن المهر ومن فاته من المؤمنين شيء من أزواجه إلى الكفار فالأصل أن الكفار يعطونه، لكنهم امتنعوا، فأمرهم الله أن يأخذوا من صداق نساء الكفار.
قوله: «وَمَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا، وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِيَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِي الْمُدَّةِ فَكَتَبَ الأَْخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ أَبَا بَصِيرٍ» ، أي: يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده عليهم وفقا لشروط الصلح.
والشاهد: أنه إذا كانت هناك مصلحة ظاهرة فلا بأس أن يقبل المسلمون شروطًا فيها غضاضة عليهم.
الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ
}2734{ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَعَطَاءٌ: إِذَا أَجَّلَهُ فِي الْقَرْضِ جَاز.
قوله: «بَاب الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ» ، يعني: جائزة، فلو أقرضه واشترط أجلاً محددًا فقال: أقرضتك مثلاً ألف ريال تردها علي في رمضان أو بعد سنة أو بعد سنتين أو بعد ستة أشهر فلا بأس.
واستدل بقصة الإسرائيلي، وهي أن رجلاً من بني إسرائيل أقرض رجلاً ألف دينار واشترط عليه أن يأتيه في وقت محدد، والقصة وإن كانت في بني إسرائيل إلا أن شرع من كان قبلنا شرع لنا إن لم يأت شرعنا بما يخالفه، والنبي صلى الله عليه وسلم ساق ذلك مساق التقرير، فاشتراط الأجل في القرض جائز عند الجمهور وهو الصواب ومنع منه الشافعي[(837)]، واختار البخاري الجواز، وسبق هذا في تراجمه حيث قال: «باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى» ، يعني: هو جائز، وقال ابن عمر في القرض إلى أجل: لا بأس به، وإن أعطي أفضل من دراهمه ما لم يشترط.
الْمُكَاتَبِ وَمَا لاَ يَحِلُّ مِنْ الشُّرُوطِ
الَّتِي تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: فِي الْمُكَاتَبِ شُرُوطُهُمْ بَيْنَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَوْ عُمَرُ كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَيُقَالُ عَنْ كِلَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ.
}2735{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لِي فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَّرْتُهُ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا؛ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ».
}2735{ هذا الحديث تكرر في تراجم متعددة لاستنباط الأحكام، فتقدم في باب «ما يجوز من شروط المكاتب» ، وكرره في هذه الترجمة: «بَاب الْمُكَاتَبِ وَمَا لاَ يَحِلُّ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ» . ومحل الشاهد: أنه إذا اشترط البائع أن يكون الولاء له فهذا من الشروط التي تخالف كتاب الله، وما يخالف حكم الله وشرعه من كتاب وسنة فهو باطل.
مَا يَجُوزُ مِنْ الاِشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الإِْقْرَارِ وَالشُّرُوطِ
الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَإِذَا قَالَ: مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ: أَرْحِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ إِنَّ رَجُلاً بَاعَ طَعَامًا وَقَالَ: إِنْ لَمْ آتِكَ الأَْرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ: لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ.
}2736{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ».
قوله: «مَا يَجُوزُ مِنْ الاِشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الإِْقْرَارِ» . أشار بهذه الترجمة إلى جواز الاشتراط بين الناس في معاملاتهم، والثنيا: أي: الاستثناء.
قوله: «مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ» .
إذا استثنى القليل من الكثير فهذا متفق على أنه جائز كأن يقول: لك عشرة إلا أربعة، أما بالعكس ففيه خلاف كما لو قال: لك عندي عشرة إلا ثمانية، والصواب أنه جائز أيضًا.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ» ، يعني: لأجيره.
قوله: «أَرْحِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ إِنَّ رَجُلاً بَاعَ طَعَامًا وَقَالَ: إِنْ لَمْ آتِكَ الأَْرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ: لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ» ، أي: في المسألتين ـ في المسألة الأولى التي قال فيها: أدخل ركابك، والثانية التي قال فيها: إن لم آتك الأربعاء ليس بيني وبينك بيع ـ قضى عليه القاضي شريح مقابل تأخيره وتعطيله، وهذا يشبه العربون كما لو قال إنسان: اشتريت هذا البيت وأعطى البائع عربونًا ألفًا مثلاً، وبعدها قال: عدلت عن الشراء، يكون العربون للبائع مقابل تعطيله.
}2736{ قوله: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» الشاهد الاستثناء في قوله: «مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا» ، فاستثنى القليل من الكثير، فدل على أنه لا بأس بالاستثناء ولو كان المستثنى قليلاً.
الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ
}2737{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَْنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَنْبَأَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ.
قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً.
قوله: «بَاب الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ» . والوقف هو المال الذي يحبسه الإنسان ـ كالعقارات والأراضي والنخيل ـ فيوقف أصله وتنفق الثمرة في المشاريع الخيرية.
}2737{ قوله: «إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»» . هذا الحديث هو الأصل في الوقف في الإسلام، وهو أن عمر رضي الله عنه أصاب أرضًا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها ـ يعني: يستشيره ـ والوقف الأصل فيه أنه محبوس لا يباع ولا يشترى وإنما يتصدق بالريع.
قوله: «فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ» والغلة تنفق في هذه الوجوه: «وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ» خمسة أشياء.
قوله: «لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ» وفي لفظ آخر: «متأثل» [(838)] أي: اشترط عمر أن الذي يليها ويقوم بشئونها له أن يأكل ويطعم الصديق والضيف لكن بشرط ألا يأخذ مالاً يجعله عنده يخزنه؛ فدل على جواز الشروط في الوقف إذا كانت لا تخالف مقتضى العقد.