(57)كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ;
فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *}إلى قوله: [التّوبَة: 112]{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ *}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُدُودُ الطَّاعَةُ.
}2782{ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْعَيْزَارِ ذَكَرَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
}2783{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا».
}2784{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ».
}2785{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ أَنَّ ذَكْوَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟ قَالَ: «لاَ أَجِدُهُ» قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟» قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ.
هذا كتاب الجهاد والسير، والسير جمع سيرة، والسيرة هي بيان الحالة التي يكون عليها الإنسان، والمراد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وسيرة أصحابه.
والجهاد بكسر الجيم، أصله في اللغة: المشقة، تقول: جهدت جهادًا، يعني: بلغت المشقة، وشرعًا: بذل الجهاد في قتال الكفار.
والجهاد أنواع: أعلاه جهاد الكفار، ودونه جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الفساق والعصاة، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس أن يجاهدها العبد على تعلم أمور الدين وعلى التفقه والتبصر في شريعة الله وفي دينه، ثم يجاهدها على العمل فيما علمت، ثم يجاهدها على التعليم والدعوة إلى الله، ثم يجاهدها على الصبر، فيكون من الرابحين، فمن جاهد نفسه في هذه الأنواع حتى استقامت على شريعة الله فإنه يحصل له الربح الكامل؛ ولهذا أقسم الله تعالى في كتابه العظيم أن جنس الإنسان في خسر إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع؛ فقال سبحانه: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هذا هو العمل، وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} هذه هي الدعوة إلى الله، وقوله [العَصر: 1- 3]{بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ *} هذا هو الصبر.
وجهاد الشيطان بأن يجهاده في دفع الشبهات والشهوات.
ويجاهد الفساق والعصاة وأهل البدع والمنافقين باللسان وإقامة الحجة، وكذلك جهادهم باليد مع الاستطاعة والقدرة.
وكذلك يجاهد المنافقين بإقامة الحجة عليهم، ثم جهاد الكفار، ويكون باللسان ورد الشبه، ويكون بالمال وبالنفس.
ثم إن أعلى الجهاد الجهاد بالنفس؛ لأن أغلى ما يملك الإنسان هي نفسه التي بين جنبيه، فهو يجاهد الكفار لإعلاء كلمة الله ونشر دين الإسلام وتوسيع رقعته وقمع الكفر وأهله وإذلالهم، وكل هذا من المصالح العظيمة في الجهاد، وكذا جهادهم بالمال بأن ينفق الأموال في شراء الأسلحة والعتاد والإنفاق على المجاهدين وعلى أسرهم، فالجهاد بالمال أوسع من الجهاد بالنفس؛ ولهذا قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في كثير من الآيات الكريمات، كقوله تعالى: [الأنفَال: 72]{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}، وكذا فالتجارة الرابحة هي الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله؛ فيقول تعالى: [الصَّف: 10-11]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}.
ولا يمكن أن يقع جهاد بالمال أو بالنفس إلا بعد بغض الكفار وعداوتهم وبغض ما هم عليه.
والجهاد في الأصل مستحب بالنسبة للأفراد، وهو فرض كفاية على الأمة مع القدرة؛ فيجب على الأمة أن تجاهد مع القدرة.
ووجوب الجهاد يكون في ثلاث حالات:
الأولى: إذا داهم العدو بلدًا من بلاد المسلمين، فإنه في هذه الحالة يجب الجهاد على الصغير والكبير والذكر والأنثى، ولا يحتاج لاستئذان من الأبوين في هذه الحالة، فإن لم يندفع الكفار وجب على أهل البلد الذين حولهم، وهكذا حتى يجب على المسلمين كلهم.
الثانية: إذا استنفر الإمام واحدًا من الناس وأمره بالجهاد وجب عليه وصار فرض عين في حقه.
الثالثة: إذا وقف في الصف فليس له أن يفر؛ لأنه إذا فر خذل إخوانه المسلمين في هذه الحالة؛ فقبل أن يأتي إلى الصف فالجهاد في حقه مستحب، لكن إذا وقف في الصف صار فرض عين عليه.
وما عدا ذلك فإنه مستحب.
وصدَّر المؤلف رحمه الله هذا الباب بآية كريمة هي قوله تعالى: « [التّوبَة: 111]{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}» فالله تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم والثمن هو الجنة، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} ، (مَنْ) استفهامية، بمعنى: لا أحد، يعني: لا أحد أوفى بعهده من الله، ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، ثم ذكر أوصافهم فقال: [التّوبَة: 112]{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ *}.
وفسر المؤلف قوله تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}، بقوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُدُودُ الطَّاعَةُ» ، أي: يحافظون على أوامر الله وطاعته، فيفعلون الأوامر ويتركون النواهي، فقد تطلق الحدود على الأوامر، ومنه قول الله تعالى: [البَقَرَة: 229]{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} يعني: أوامره فلا تتجاوزوها، وتطلق الحدود على المعاصي والنواهي، كما في قوله تعالى: [البَقَرَة: 187]{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} فحدود الله هنا تعني: المعاصي؛ فلا تقربوا النواهي.
وتطلق الحدود أيضًا على العقوبات المقدرة كالزنا والسرقة والخمر، ومنه قول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لما استشار عمر رضي الله عنه الصحابة في الخمر، وكان شارب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وأول خلافة عمر رضي الله عنهما يُضرب بالجريد والنعال والأيدي والثياب نحوًا من أربعين، ثم لما تتابع الناس على شرب الخمر في زمن عمر جمع الصحابة واستشارهم؛ فقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: أخف الحدود ثمانين ـ يريد بها التعزيرات ـ فرفع عمر رضي الله عنه الحد إلى ثمانين[(1)].
وهذا يدل على أنه ليس هناك حد محدد في الخمر؛ فقوله: أخف الحدود ثمانين، يعني: بها أخف التعزيرات والعقوبات.
فصارت الحدود تطلق على الطاعات، وتطلق على المحارم، وتطلق على العقوبات المقدرة والتعزيرات.
}2782{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث عبدالله بن مسعود الذي قال فيه: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي» .
قوله: «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا»» ، يعني: أفضل الأعمال الصلاة على ميقاتها.
وهذا الحديث وأشباهه يفسر بأحد أمرين:
الأول: على تقدير مِنْ، والمعنى: من أفضل الأعمال.
الثاني: أن التفضيل بالنسبة لحال السائلين وتفاوتهم وما يناسبهم واختلاف مراتبهم؛ فبعض الناس تكون الصلاة على ميقاتها أفضل في حقه، وبعض الناس يكون بر الوالدين أفضل في حقه، وبعض الناس يكون الجهاد في سبيل الله أفضل في حقه، وهكذا.
وقدم بر الوالدين على الجهاد في هذا الحديث؛ لأن بر الوالدين فرض على كل حال، وأما الجهاد فقد يكون فرضًا وقد لا يكون، والأصل أنه مستحب، وإنما يجب لسبب، كالهجرة ليست واجبة إلا بسبب.
}2783{ قوله: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ، يعني: لا هجرة بعد فتح مكة، حيث كانت مكة بلد شرك، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، فكان من أسلم بعد ذلك يجب عليه أن يهاجر من مكة إلى المدينة؛ نصرة لله ورسوله وتكثيرًا لسواد المسلمين، وبراءة من الشرك وأهله، ثم لما فتحت مكة انتهت الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة صارت بلد إسلام، ولكن بقيت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فهذه باقية إلى يوم القيامة.
قوله: «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» ، أي: ولكن يبقى الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وتبقى النية.
قوله: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» ، يعني: إذا استنفركم الإمام إلى الجهاد فعليكم أن تجيبوا وتنفروا.
}2784{ هذا الحديث وحديث أبي هريرة الآتي بعده فيهما دليل على أن الجهاد أفضل الأعمال، والمراد به أفضل الأعمال المتطوع بها؛ لأن الفرائض مقدمة على أفضل الأعمال المتطوع بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة رضي الله عنها على قولها: «تُرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟» فأقرها ولم ينكر عليها، ولكن بيَّن لها أن النساء ليس عليهن قتال، وإنما أفضل الجهاد لهن حج مبرور.
وفيه: دليل على أن الحج نوع من الجهاد، فالجهاد أفضل الأعمال مما يتطوع به بالنسبة للرجال، وبالنسبة للنساء أفضل الجهاد الحج المبرور.
وفيه: دليل على ضعف الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج بالنساء قال: «هذه، ثم ظهور الحصر» [(2)]، يعني: قمتن بهذه الحجة، ثم الْزَمْن البيوت، كأنه قال: لا تحججن بعدها.
}2785{ في الحديث: دليل على أن الجهاد أفضل الأعمال؛ فقوله: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟ قَالَ: «لاَ أَجِدُهُ»» ؛ وذلك لما في الجهاد من الدعوة إلى الله وإنكار الشرك، والدفاع عن الإسلام وأهله وحرماته، وتوسيع رقعة الإسلام ونشر دين الله، وقمع الكفر وأهله، إلى غير ذلك من المصالح.
قوله: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ» ، يعني: لا تفتر من القيام والصلاة.
قوله: «قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ» ، الطول هو: الحبل الذي يربط به الفرس، ثم يمسكه الفارس بيده ويتركه يرعى، يعني: تحركات الفرس ومشيه يكتب له بها حسنات، وقد جاء في الحديث الآخر: «من ارتبط فرسًا في سبيل الله فأنفق عليه احتسابًا؛ كان شبعه وجوعه وظمؤه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» [(3)].
وقد ذكر الشارح رحمه الله حديثًا فيه إشكال؛ وهو حديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعًا.
وفيه: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ـ يعني: الفضة ـ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى، قال: ذكر الله» [(4)]، فهذا الحديث فيه إشكال؛ فظاهره أن الذكر بمجرده أفضل مما يفعله المجاهد، وقد جمع ابن القيم رحمه الله بينه وبين الأحاديث التي في فضل الجهاد، بأن الذاكر أفضل من المجاهد الغافل، وأما المجاهد الذاكر فلا يعادله شيء[(5)].
أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ يجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: [الصَّف: 10-12]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *}.
}2786{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ» قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ».
}2787{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ».
عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب لبيان أفضل الناس، وأن أفضل الناس المؤمن المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، وهذه هي التجارة الرابحة؛ ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله آية الصف: « [الصَّف: 10]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *}» ، يعني: ما هي التجارة التي تنجي من العذاب الأليم؟ قوامها شيئان: إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله، وهو ما في قوله تعالى: « [الصَّف: 11]{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}» ، ثم بين الجزاء فقال سبحانه: « [الصَّف: 11-12]{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *}» ، وهذا هو الفضل العظيم، وهو تكفير السيئات ودخول الجنات والمساكن الطيبة بها، ثم قال بعد هذه الآية: [الصَّف: 13]{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}.
}2786{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري.
وفيه: قال: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ»» ، وهذا الحديث يوافق الآية الكريمة؛ فالآية فيها أن التجارة الرابحة التي تنجي من العذاب الأليم هي الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، والحديث فيه أن أفضل الناس المؤمن المجاهد في سبيل الله بنفسه وماله.
قوله: «قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟» يعني: ثم من يليه في الفضل؟ «قَالَ: «مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ»» ، والشعب: هو الوادي الذي يكون بين الجبال. قال العلماء: هذا محمول على ما إذا فسد الزمان، ونُزع الخير من المدن والقرى، ولم يكن فيها جمعة ولا جماعة، ولا أمر ولا نهي ولا دعوة ولا تعليم، وخاف الإنسان على نفسه من الفتن، فإنه ينتقل إلى البراري والشعاب ويعبد الله، وهنا يصدق قول الشاعر:
عَوَى الذئبُ فاستأنستُ بالذِّئب إذ عَوَى
وصَوَّتَ إنسانٌ فكِدْتُ أطِيرُ
أما إذا كانت المدن فيها خير وجمعة وجماعة ووعظ وإرشاد فلا ينبغي للإنسان أن يذهب إلى الصحاري ويتعرّب، بل إن هذا من الكبائر؛ لأنه في هذه الحالة يبتعد عن الجمع والجماعات، وعن سماع الخير والوعظ، وهذا من الكبائر كما جاء في الحديث: « الكبائر سبع... والتعرب بعد الهجرة » [(6)].
}2787{ في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ» ، هذه الجملة جيء بها لبيان الإخلاص والصدق مع الله في الجهاد، والمعنى: الله يعلم من قصد وجهه والدار الآخرة في جهاده، فليس كل أحد يقاتل ويكون في المعركة يكون في سبيل الله؛ فقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله سائل فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل يلتمس المغنم، ويقاتل للذكر، ويقاتل ليُرى مكانه؛ أي: ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [(7)].
قوله: «كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» ، يعني: الصائم المستمر في صومه لا يفطر، والقائم الذي يقوم ويصلي ولا يفتر.
قوله: «وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» ، وفي لفظ: «انتدب الله» [(8)] وفي لفظ: «ضمن الله» [(9)]، والمعنى: أن الله ضمن للمجاهد في سبيله بأنه إن توفاه أدخله الجنة، وإن أبقاه حيًّا رجع سالمًا مع الأجر والغنيمة، فهذا ضمان من الله تعالى للمجاهد في سبيله عن إخلاص وصدق، وهذا يدل على فضل المؤمن المجاهد، ومحصل ذلك تحقيق الوعد المذكور في قول الله تعالى: [التّوبَة: 111]{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، وتحقيق الوعد هذا على وجه الفضل من الله تعالى والإحسان وليس على وجه الإلزام؛ فإن الله تعالى هو الذي تكفل بذلك ولم يلزمه أحد.
الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ: ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رَسُولِكَ.
}2788{، }2789{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَطْعَمَتْهُ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَْسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَْسِرَّةِ ـ شَكَّ إِسْحَاقُ ـ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الأَْوَّلِ» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ: «أَنْتِ مِنْ الأَْوَّلِينَ فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ».
هذه الترجمة ترجم بها المؤلف رحمه الله لبيان مشروعية الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء، وأنه يشرع للرجل والمرأة أن يسألا الله أن يوفقهما للجهاد والشهادة.
وذكر المؤلف رحمه الله قول عمر: «ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رَسُولِكَ» ، وهي المدينة، وقد قَبِل الله دعاءه؛ فقتل رضي الله عنه شهيدًا، على يد أبي لؤلؤة المجوسي، وذلك بطعنه تحت سرته ست طعنات وهو يصلي بالناس الفجر.
}2788{، }2789{ قول أم حرام: «ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ فَدَعَا لَهَا» ، دل على أنه يشرع للمرأة أن تطلب الشهادة وتدعو بها.
وهذا محمول على أن بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم رضاعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل هذا إلا مع من بينه وبينها محرمية، وقد اتفق العلماء على أنها كانت محرما له - كما حكاه النووي[(10)]؛ فذكر بعض العلماء أنها إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وجاء هذا عن ابن وهب ويحيى بن إبراهيم بن مزين.
قوله: «أَنْتِ مِنْ الأَْوَّلِينَ فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا» ، وهذا فيه عَلَم من أعلام النبوة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان محقًّا؛ حيث وقع الأمر كما أخبر.
وفيه: دليل على أن المجاهد إذا خرج للجهاد في سبيل الله ومات في الذهاب أو في الإياب يكون شهيدًا في ذهابه أو في إيابه؛ قال الله تعالى: [النِّسَاء: 100]{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
وجهاد النساء إنما يكون في مداواة الجرحى وسقي الماء وصنع الطعام، كما جاء في الصحيحين أن أم سليم وعائشة رضي الله عنهما كانتا تنقلان القرب على متونهما يوم أحد، وتفرغانه في أفواه القوم[(11)]، وهذا إنما كان في غزوة أحد قبل الحجاب.
تنبيه:
ليس في هذا متمسك لبعض العصريين الذين يستدلون بهذه الأحاديث على جهاد النساء ومشاركتهن للرجال في الحروب واختلاطهن بالرجال في الأعمال وفي المستوصفات الصحية؛ فهذا استدلال باطل؛ لمايلي :
أولا: لأن خروج عائشة وأم سليم في غزوة أحد إنما كان قبل نزول الحجاب، والحجاب فرض في السنة السابعة من الهجرة، وقبل نزول الحجاب كان يتوسع في النظر للنساء.
ثانياً: أن أم سليم كانت امرأة كبيرة عاقلة وعائشة كانت صغيرة في العاشرة أو الحادية عشرة، وأنس الذي أخبر أنه رآها كان صغيرًا.
ثالثاً: أنهن لا يباشرن القتال، وإنما يقتصر عملهن على سقي الماء؛ فلا حجة لدعاة السفور والاختلاط بهذا الحديث.
دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يُقَالُ هَذِهِ سَبِيلِي وَهَذَا سَبِيلِي.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: [آل عِمرَان: 156]{غُزّىً} وَاحِدُهَا غَازٍ [آل عِمرَان: 163]{هُمْ دَرَجَاتٌ} لَهُمْ دَرَجَاتٌ.
}2790{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ: عَنْ أَبِيهِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ.
}2791{ حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا قَالاَ أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ».
هذا الباب فيه: بيان درجات المجاهدين في سبيل الله، وأن المجاهدين لهم درجات عالية فوق درجات المؤمنين الذين لم يجاهدوا.
قوله: «يُقَالُ هَذِهِ سَبِيلِي» ، المراد : أن السبيل تذكر وتؤنث.
قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: [آل عِمرَان: 156]{غُزّىً} وَاحِدُهَا غَازٍ» ، يشير إلى قول الله تعالى: [آل عِمرَان: 156]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً} قال الحافظ رحمه الله: «وقع هذا في رواية المستملي وحده وهو من كلام أبي عبيدة».
}2790{ في هذا الحديث: بيان فضل من آمن بالله ورسوله، وأنه في الجنة ولو لم يجاهد.
وفيه: دليل على أن من آمن بالله ورسوله وعمل الواجبات وترك المحارم دخل الجنة ولو لم يجاهد أو يهاجر؛ لأن الجهاد لا يجب إلا بأسباب، كما أن الهجرة لا تجب على كل أحد، بل تجب إذا وجد سببها، كما أن الزكاة ليست واجبة على كل أحد، وكما أن النفقة ليست واجبة على كل أحد؛ ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» ، وهذا يدل على أن الفردوس هو أعلى الجنة، وأن الجنة مقببة مستديرة وليست مربعة ولا مسدسة.
قوله: «وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» ، يعني: العرش سقف الجنة، وهو سقف الماء؛ فقد قال سبحانه: [هُود: 7]{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، فالعرش سقف الماء، يعني: أن بين السماء السابعة والعرش بحر، هذا البحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ولكن كيف يكون العرش سقفاً للجنة وسقفاً للماء؟
_خ الجواب: يعني: طرفه يكون سقفًا للجنة، وطرفه الآخر يكون سقفًا للماء.
}2791{ في هذا الحديث: بيان فضل دار الشهداء، وأنها أحسن وأفضل الدور؛ ولهذا قال: «فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا قَالاَ أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ» ، والشاهد من الحديث بيان فضل منازل الشهداء ودرجاتهم.
الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ
}2792{ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
}2793{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ وَقَالَ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ».
}2794{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
قوله: «الْغَدْوَةِ» بالفتح، المرة الواحدة من الغدو، وهو الخروج من أول النهار إلى انتصافه.
وقوله: «وَالرَّوْحَةِ» بالفتح أيضًا، المرة الواحدة من الرواح، وهو الخروج في المساء من زوال الشمس إلى غروبها.
}2792{ قوله: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، يعني: ذهاب المجاهد في سبيل الله خير له من الدنيا وما فيها، ورجوعه خير له من الدنيا وما فيها.
}2793{ قوله: «لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ» ، والقاب هو القَدر، وكذلك القِيْد، وقيل: ما بين المقبض والقوس، وقيل: ما بين الوتر والقوس، ويقصدون بالقوس الذراع.
وفيه: أن الذهاب أول النهار خير من الدنيا وما فيها، والرجوع آخره خير من الدنيا وما فيها.
ومن جاهد الكفار ثم مات على فراشه فله أجر الجهاد وفضله، ولكن لا يعتبر شهيدًا؛ فخالد بن الوليد رضي الله عنه دخل معارك كثيرة ومات على فراشه، وقال لما حضرته الوفاة: لقد حضرت كذا وكذا من الغزوات، وما من موضع من جسدي إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، والآن أموت على فراشي كما تموت العير، فلا نامت أعين الجبناء[(12)]. يعني: أن الإقدام ليس هو الذي يسبب الموت، والتأخر عن الجهاد ليس هو الذي يجلب الحياة؛ فالموت والحياة مقدر بيد الله.
}2794{ قوله: «الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، فيه: أن الغدوة أول النهار في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، والرجوع آخر النهار في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها.
الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ
يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ [الدّخان: 54]{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ *} أَنْكَحْنَاهُمْ.
}2795{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاَّ الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى».
}2796{ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَْرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
هذا الباب في بيان صفة الحور العين، والحور جمع حوراء: وهي المرأة شديدة بياض العين شديدة سواد العين، والمؤلف رحمه الله قال: «يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ» ، وهذا يشعر بأن اشتقاق الحور من الحيرة.
}2795{ ثم ذكر حديث أنس مرفوعًا قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاَّ الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى» ، يعني: أن المؤمن إذا مات وله خير عند الله لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا؛ لأنه استراح من تعب الدنيا ونصبها وهمومها وأكدارها، حتى ولو أعطي الدنيا كلها؛ ولهذا لما مرت جنازة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مستريح ومستراح منه، المؤمن يستريح من نصب الدنيا وتعبها وآلامها، والفاجر يستريح منه الناس والدواب والشجر» [(13)].
}2796{ قوله: «قَالَ: وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، والغدوة: الذهاب أول النهار، والروحة: الرجوع آخر النهار.
قوله: «وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، أي: مقدار القوس الذي يرمى به قد يكون شبرًا أو أكثر، وكذا موضع السوط خير من الدنيا وما فيها؛ لأن هذا باق، فإذا أعطي الإنسان موضع السوط من الجنة فله ما يشتهي ويتمنى، فليس هناك موت ولا نوم ولا مرض ولا أسقام ولا هموم.
قوله: «وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَْرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا» ، أي: لأضاءت ما بين المشرق والمغرب، وما بين السماء والأرض، وهذا نعيم عظيم يلقاه أهل الجنة.
قوله: «وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، النصيف يعني: الخمار الذي يكون على رأسها، وهو خير من الدنيا وما فيها؛ لأنه باق، والدنيا وما فيها زائلة منتهية، فكان الخمار خيرًا من الدنيا وما فيها، وهذا فيه تشويق للمؤمن بأن يُعِدَّ المهر والثمن، وهو التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كل هذا هو ثمن الجنة.
تَمَنِّي الشَّهَادَةِ
}2797{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ».
}2798{ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، وَقَالَ: مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا» قَالَ أَيُّوبُ: أَوْ قَالَ: «مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ»
}2797{ في الحديث: دليل على أنه لا بأس بتمني الشهادة، وليس هذا من تمني الموت؛ فتمني الموت منهي عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت» [(14)]، فلا يجوز للإنسان أن يدعو على نفسه بالموت، ولكن تمني الشهادة لا بأس به، فله أن يتمنى كما تمنى عمر رضي الله عنه حينما قال: «اللهم ارزقني شهادة في بلد رسولك» ، فقد تمنى الشهادة، وكما تمنت الشهادة أم حرام فقالت: «اللهم اجعلني منهم» ، ولكن بعض العلماء أجاز تمني الموت عند حصول الفتن.
وقد ذكر المؤلف فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى القتل في سبيل الله أربع مرات، وذلك في قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فالرسول صلى الله عليه وسلم غزا إحدى وعشرين غزوة، وقيل: سبعة وعشرين غزوة، والغزوة: هي التي يكون فيها النبي صلى الله عليه وسلم على رأسها، أما السرية: فهي القطعة من الجيش تخرج وليس معها النبي صلى الله عليه وسلم؛ والسبب في ذلك أنه لو خرج في كل سرية لكان من أصحابه مَن لا تطيب أنفسهم، إلا أن يخرجوا معه، ويشق عليهم أن يتخلفوا عنه، وليس عنده ما يجهزهم ويحملهم؛ لقلة ذات اليد.
قوله: «مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، يعني: لولا هذا المانع لخرج صلى الله عليه وسلم مع جميع السرايا؛ لفضل وشرف الجهاد في سبيل الله، ولكن منعه أن أصحابه يريدون أن يكونوا معه، ويشق عليهم أن يتخلفوا عنه، وليس عندهم ما يتجهزون به، وليس عنده ما يحملهم عليه؛ فيشق ذلك عليه وعليهم؛ فلهذا تخلف عن السرايا، ثم قال مبينًا فضل الشهادة: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» .
وليس هناك تعارض بين مشروعية الدعاء بالجهاد، والنهي عن تمني لقاء العدو؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا» [(15)]، فلا يتمنى الإنسان لقاء العدو؛ لأنه لا يدري ما يكون حاله، لكن إذا لقي العدو فعليه أن يصبر.
}2798{ ثم ذكر حديث أنس مرفوعًا قال: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» ، وهذه الغزوة تسمى غزوة مؤتة، وقد غزا المسلمون فيها الروم في الشام، وكانت سنة ثمان من الهجرة، وقد قتل المسلمون في هذه المعركة من الروم مقتلة عظيمة، ولم يقتل منهم إلا قلة؛ قيل: ثمانية، وقيل: اثنا عشر، ومنهم الأمراء الثلاثة، وكان الروم ثلاثين ألفًا أو ستين ألفًا، وكان المسلمون ثلاثة آلاف، ومع ذلك انتصروا هذا الانتصار الباهر.
أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمراء على الترتيب، وقال: «إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» [(16)].
قوله: «فَأُصِيبَ» ، يعني: قتل، وقد قتل الأمراء الثلاثة كلهم.
قوله: «ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ» ، أي: ثم أخذها خالد بن الوليد بعد قتل الثلاثة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، «عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ» ، أي: اصطلح الصحابة عليه أن يؤمِّروه، «فَفُتِحَ لَهُ» .
قوله: «مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا» قَالَ أَيُّوبُ: أَوْ قَالَ: «مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا» هذا هو الشاهد، والسياق فيه شك من الراوي، والمعنى: ما يسرنا أنهم عندنا لما حصل لهم من الشهادة والفضل والأجر العظيم، أو: ما يسرهم أنهم عندنا لمّا قتلوا ورأوا ما عند الله من خير، فما يسرهم أنهم بقوا في الدنيا، بل يسرهم أن يبقوا في ما هم فيه من الخير.
قوله: «وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» ، أي: وهو على المنبر صلى الله عليه وسلم.
وفيه: دليل على أنه لا بأس بالبكاء على الميت بدمع العين من غير صوت؛ ولهذا ذرفت عينا النبي صلى الله عليه وسلم على الأمراء الثلاثة، وكما في الحديث أيضًا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بهذا أو يرحم» ، وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم[(17)].
وفي هذا الحديث: أن الإمام يختار لإمارة الجيش من يراه أصلح، سواء كان من العرب أو من العجم أو من الموالي؛ ولذلك أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً عليهم زيد بن حارثة، وكان من الموالي، وقدَّمه على ابن عمه جعفر بن أبي طالب، فإن قتلا فيكون الأمير عبدالله بن رواحة، فلما قتل الأمراء الثلاثة اصطلحوا على تأمير خالد رضي الله عنه، ففتح له.
فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النِّسَاء: 100]{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وَقَعَ ووَجَبَ.
}2799{، }2800{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ قَالَتْ: نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: «أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الأَْخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَْسِرَّةِ» قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا فَقَالَتْ: مِثْلَ قَوْلِهَا فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ: «أَنْتِ مِنْ الأَْوَّلِينَ» فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ.
هذا الباب عقده المؤلف لبيان فضل من يصرع في سبيل الله، وأن من مات من المجاهدين فهو في سبيل الله ولو لم يقتل في المعركة، فإذا مات في أيام الغزو أو مات في الطريق عند الذهاب أو الإياب فهو من المجاهدين في سبيل الله، ثم استدل بالآية: « [النِّسَاء: 100]{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}» ، قوله: {وَقَعَ} يعني: وجب.
}2799{، }2800{ ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الحديث قصة أم حرام بنت ملحان، وكان بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم محرمية بسبب الرضاعة؛ فهي إحدى خالاته - كما تقدم -.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ وسألته أم حرام، قال: «أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الأَْخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَْسِرَّةِ» قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا فَقَالَتْ: مِثْلَ قَوْلِهَا فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ» ، وهذا دليل على تمني الشهادة للرجال والنساء.
والشاهد: فيه أنه قال: «أَنْتِ مِنْ الأَْوَّلِينَ» ، وهذه من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أنه لما انصرفوا من الغزوة ونزلوا الشام قربت إليها الدابة لتركبها فصرعتها، فكانت بذلك من المجاهدين؛ لأنها صرعت في طريقها قافلة من الغزو؛ فدل على أن من مات في الطريق ذهابًا أو إيابًا فهو في سبيل الله.
وكذلك إذا أصيب المجاهد في سبيل الله بمرض أثناء خروجه ومات منه فهو شهيد؛ فقد قال الله تعالى: [النِّسَاء: 100]{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
والمراد بقوله: «فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ» بين الحافظ ابن حجر رحمه الله أن هذه الرواية لا تعارض الرواية السابقة «فصرعت عن دابتها» ؛ قال رحمه الله: «لأن التقدير: فقربت إليها دابة لتركبها فركبتها فصرعتها» .
مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
}2801{ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرُ الْحَوْضِيُّ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ: خَالِي أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَإِلاَّ كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ إِلاَّ رَجُلاً أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ، قَالَ هَمَّامٌ: فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عليه السلام النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
}2802{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَْسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
هذه الترجمة فيها بيان فضل من ينكب في سبيل الله، يعني: يُصاب بالنكبة، وذلك بأن يصاب عضو منه بشيء فيدمى أو ينجرح؛ فيكون له أجر عند الله.
}2801{ ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الحديث قصة خال أنس ومن معه، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أقوامًا إلى بني عامر في سبعين يبلغونهم الإسلام ويقرءون عليهم القرآن، فقال لهم خال أنس؛ وهو حرام بن ملحان: «أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَإِلاَّ كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ، فَأَنْفَذَهُ» ، يعني: فلما اقترب منهم قال: أَمِنّوني، قالوا: أَمّناك، فجعل يحدثهم، فأومئوا إلى رجل منهم فطعنه من الخلف فأنفذه، فما أحس بالطعن قال: «اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» ، وهذا يدل على فضل من ينكب في سبيل الله.
قوله: «ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ إِلاَّ رَجُلاً أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ، قَالَ هَمَّامٌ: فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عليه السلام النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» . هذا فيه: القنوت في النوازل؛ حيث أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله؛ حيث غدروا بالقراء وقتلوهم.
وفيه: دليل على مشروعية الدعاء في النوازل، ودليل على أن الدعاء في النوازل لا يستمر، وإنما يكون مدة، فقد دعا عليهم أربعين صباحًا كما هنا، وفي رواية أنه دعا شهرًا[(18)].
}2802{ في حديث جندب بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض المشاهد وقد دميت إصبعه، وهذه نكبة في سبيل الله، فقال هذا البيت:
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم بيتًا سليمًا إلا هذا البيت، وهذا لا ينافي قول الله تعالى: [يس: 69]{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}؛ لأن البيت أو البيتين قد يقولها من لا يعرف الشعر، ثم هذا على القول بأنه بِيَتٍ سَلِيم؛ وإلا فقد قيل: إنه ليس ببيت تام، وقيل: اتفاقي، وقيل: إنه سجع يماثل الشعر، وعلى كلٍّ فهذا لا يجعله شاعرًا ولا يصيره من الشعراء.
وفيه: دليل على أن ما أصاب الإنسان من النكبات في سبيل الله في الغزوات، فهو في سبيل الله وله أجره وفضله.