مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل
}2803{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ».
قوله: «بَاب مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل» ، يعني: بيان فضله، وأن له أجرًا عظيمًا، وذلك أن هذا الجرح يأتي يوم القيامة لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، ويكون شاهدًا على فضيلته.
}2803{ ذكر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» ، وهذا قسم من النبي صلى الله عليه وسلم لتأكيد المقال؛ إذ نفوس العباد كلها بيد الله.
وفيه: إثبات اليد لله عز وجل.
قوله: «لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، يعني: لا يجرح؛ فالكَلْم هو الجرح، ثم قال: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ» هذه جملة معترضة تفيد التنبيه على الإخلاص، والمعنى: أنه إذا جرح في سبيل الله محتسبًا، فما يصيبه شيء في سبيل الله إلا وكانت له هذه الفضيلة؛ ولهذا قال: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ» ، يعني: والله أعلم بمن أخلص له سبحانه، وجاهد في سبيله فجرح واحتسب هذا الجرح عند الله تعالى.
قوله: «إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» ، يعني: اللون لون الدم، ولكن الرائحة طيبة، قال العلماء: الحكمة في أنه يبعث كذلك، أن يكون معه شاهد على فضيلة بذله لنفسه في طاعة الله عز وجل.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالى:
[التّوبَة: 52]{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}
وَالْحَرْبُ سِجَالٌ.
}2804{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ.
هذه الآية فيها فضل المجاهدين، وأن المجاهد ينتظر إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وإما النصر والغلبة، وفيها يقول تعالى: [التّوبَة: 52]{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} ، يعني: قل يا محمد لهؤلاء الكفار: هل تنظرون منا إلا إحدى الحسنيين؛ إما أن نقتل فتحصل الشهادة، وإما أن ننتصر فتحصل العزة والتمكين في الأرض، وكل منهما فيه فضيلة عظيمة للمجاهدين.
قوله: «وَالْحَرْبُ سِجَالٌ» ، يعني: دُوَل؛ فتارة تكون الغلبة للمسلمين، وتارة تكون الغلبة للمشركين، فإذا كانت الغلبة للمسلمين كان لهم الفتح والنصر، وإذا كانت الغلبة للمشركين كانت للمسلمين الشهادة، فالحرب سجال، والمؤمنون على كلا الحالين هم الفائزون؛ من قِتُل منهم صار شهيدًا، ومن بقي منهم صار منتصرًا وغانمًا، وذلك بخلاف الكفار؛ فإنهم سواء غلبوا أو هزموا فإن لهم النار خالدين فيها ـ نعوذ بالله منها ـ.
}2804{ هذا الحديث هو حديث أبي سفيان قبل أن يسلم وقصته مع هرقل.
وفيه: دليل على أن الكافر إذا روى حديثًا في حال كفره بعد أن يسلم فإنه يقبل منه، كحال أبي سفيان؛ حيث كان هذا الحديث حال كفره، لكن رواه بعد أن أسلم، فهرقل عظيم الروم سأل أبا سفيان لما قدم إلى الشام في تجارة ـ وكان معه أصحابه ـ سأله عشرة أسئلة كان منها هذا السؤال.
والبخاري رحمه الله قد اختصر الرواية في هذا الموضع فقال: «سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ» ، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم، «فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ» ، يعني: تارة وتارة؛ فتارة ينتصر المسلمون وتارة ينتصر المشركون، فهذا معنى الدول، ثم قال هرقل: «فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ» ، هذا هو الشاهد، وهذا الذي قاله هرقل مما ورثه عن الأنبياء والرسل؛ فإنما العاقبة تكون مع الأنبياء والرسل؛ لأن هرقل كان يقرأ التوراة والإنجيل بالعبرية، فقد كان نصرانيًّا؛ ولهذا سأله عشرة أسئلة؛ هي: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: نسبه شريف، وسأله: هل قال أحد قبله مثل مقالته؟ قال: لا، وسأله: هل يرتد أحد ممن تبعه سخطة لدينه؟ قال: لا، وسأله: هل يزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، إلى آخر أسئلته، ثم لما انتهى منها استدل بما أجابه على أنه نبي؛ فقال: لو كنتَ صادقًا فهو نبي، وسيملك موضع قدمي هاتين[(19)].
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *}
}2805{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُزَاعِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا قَالَ: ح وحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ قَالَ: حَدَّثنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إِلَى آخِرِ الآْيَةِ.
}2806{ وَقَالَ إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَرَضُوا بِالأَْرْشِ، وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ».
}2807{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ أُرَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَْحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فَلَمْ أَجِدْهَا إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: [الأحزَاب: 23]{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.
قوله تعالى: « [الأحزَاب: 23]{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *}» ، هذا فيه: الثناء على المؤمنين الصادقين، ومنهم أنس بن النضر؛ فهذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه؛ لأن أنس بن النضر رضي الله عنه تخلف عن غزوة بدر ـ وهي أول مشهد ـ فتأسف وتأثر كثيرًا لذلك، فقال قولته المشهورة.
}2805{ قوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ» ، وما زاد عليها؛ فإنه لم يرد أن يزكي نفسه، لكنه قد هيأ نفسه وأعدّها للبذل والتضحية والجهاد والشهادة؛ فلم يزد على هذه الكلمة.
قوله: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ» ، يعني: في آخر الأمر بعد أن انتصروا.
قوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ» ، وهذا كلام جميل جدًّا! حيث إنه اعتذر من فرار الصحابة؛ لأنهم مسلمون مؤمنون، وأن ما حدث كان خطأ، مما اضطرهم إلى هذا؛ فاعتذر من صنيعهم، أما المشركون فقد تبرأ منهم ومن صنيعهم؛ لأنهم كفار يقاتلون المسلمين.
قوله: «ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ» والله أعلم ـ هذا حقيقة في أنه وجد ريحها، وتكون هذه من كراماته بسبب صدقه وإيمانه، فهو قد صدق ما عاهد الله عليه بإقدامه فلا يبالي، فهو مشتاق إلى الجنة، ومتعجل إليها فلا يستطيع أن يصبر ولو للحظات حتى يصل إلى الجنة؛ فقد وجد ريحها، وبعضهم أوّلها فقال: هذا على سبيل المجاز، ولكن الأصل الحقيقة؛ أي: أن الجهاد يؤدي إلى دخول الجنة.
قوله: «قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ» ، والظاهر أن سعدًا نفى استطاعة إقدامه الذي صدر منه، حتى وقع ما وقع من أنس بن النضر من الصبر على تلك الأهوال؛ ولهذا ألقى بنفسه في جيش المشركين فانهالوا عليه بالضرب والرمي والطعن.
قوله: «قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ» ، والبضع: من ثلاثة إلى تسعة؛ فيكون العدد من ثلاث وثمانين إلى تسع وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بالسهم؛ لأنه غامر ودخل في صفوف المشركين، فانهالوا عليه بكل ذلك حتى قُتل ومُثل به رضي الله عنه، فتمزق جسمه كله واختلط بالدماء، حتى لم يعرفه أحد إلا أخته؛ عرفته بإصبعه.
قوله: «قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: [الأحزَاب: 23]{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}» ، وهذا وصف عظيم للصدق! فالصادق في إيمانه يحرق الشبهات والشهوات فلا تبقى شبهة ولا شهوة؛ ولهذا قال الله تعالى: [المَائدة: 119]{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، والصديقون درجتهم تعدل درجة الأنبياء، ومنهم الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه؛ فدرجته فوق الشهداء، قال الله تعالى: [النِّسَاء: 69]{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}.
قوله: «نُرَى» ، بمعنى: نظن، وهذا فيه الدقة والتحري في اللفظ، وهو بضم النون، أي: نظن أو نعتقد، أما نَرى بفتح النون فهو من الرؤية والمشاهدة.
}2806{ قوله: «وَقَالَ إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ» ، وفي لفظ: «كسرت ثَنِيّة جارية» [(20)]، يعني: عمدًا ليس خطأ؛ لأنه لو كان خطأ ما جاز فيه القصاص، «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَاصِ» ، يعني: فأمر أن تكسر ثنية الربيع قصاصًا؛ فمن كسر سن شخص متعمدًا تكسر سنه، ومن قطع أصبعًا تقطع أصبعه قصاصًا، ومن قتل يقتل به، أما إذا كان خطأ ففيه الدية، فلما كسرت ثنية هذه الجارية أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص.
قوله: «فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا» ؛ هو قد أقسم على الله، وهذا من باب حسن الظن بالله.
والبخاري رحمه الله ذكر هذه القصة يريد أن يبين أنه من الصادقين، وأنه من الأبرار الذين لهم مكانة عند الله، حتى أَبرّ الله قسمه لما قال: «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا» ، فعند ذلك ليّن الله قلوبهم «فَرَضُوا بِالأَْرْشِ» ؛ والأرش: قيمة ما بين الصحة والعيب، وعفَوْا عن القصاص.
قوله: «فَرَضُوا» بضم الضاد، وذلك إذا كان الفعل يائيًّا يضم ما قبلها إذا أضيفت إلى واو الجماعة؛ مثل: رضي رضوا، عري عروا، عمي عموا، بخلاف ما إذا كان ألفًا ثم أضيف إلى واو الجماعة، فتقول: غزا غزَوْا، رمى رمَوْا، دعا دعوا.
فالمؤلف رحمه الله يبين أنه من الصادقين، وعلامة صدقه إقدامه في غزوة أحد، وهذا من باب حسن الظن بالله، وكذلك سعد بن أبي وقاص وغيرهما، كانوا يقسمون على الله في قتال الكفار فيقولون: «نقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم» ، ومنه الحديث: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» [(21)]، وأشعث يعني: متشعث الرأس؛ غير مدهون وغير مسرح، والمعنى: أن من الناس من ليس له مكانة في المجتمع؛ فهو فقير وأشعث وأغبر وثيابه مخرقة، لكن له مكانة عند الله؛ بحيث لو أقسم على الله لأبره؛ بسبب عمله الصالح وتقواه.
قوله: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ، يعني: لاستقامته وصلاحه وحسن ظنه بربه.
}2807{ حديث زيد بن ثابت في قصة جمع المصحف في زمن الصديق، فإن زيد بن ثابت وجماعة من الشباب قد جمعوا المصحف، ولم يجمع المصحف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وقت نزول الوحي، فلا يعلمون متى ينتهي نزول القرآن، فلما كان زمن أبي بكر أمر بجمع القرآن في مصحف واحد؛ فاختار زيد بن ثابت وقال: «إنك شاب كنت تكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نتهمك فاجمع المصحف» ، وعهد أيضًا إلى جماعة من الشباب.
وَتحمّل زيد بن ثابت أمرًا شديدًا حتى قال: «والله لو كلفوني نقل جبل ما كان أشد علي» ، والمعنى: أنه حِمْل ثقيل، فكانوا يجمعون الآيات من الصحف واللخاف وصدور الرجال والسعف، وكانوا لا يكتبون الآية حتى يسمعوا فيها شاهدين، فإما أن يجدوها مكتوبة، وإما أن يجدوها محفوظة في صدر رجل أو رجال، فجمعوا المصحف كله وبقيت آية لم يجدوها، فتوقفوا حتى وجدوها مع خزيمة بن ثابت فكتبوها؛ وهي قوله تعالى: [الأحزَاب: 23]{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، وهي آية الترجمة، وهذا هو الشاهد من الحديث.
وهذا الحديث فيه ما في الحديث السابق: من فضلية لأنس بن النضر، وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والورع وقوة اليقين.
عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: [الصَّف: 2-4]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ *إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ *}.
}2808{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: «أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا».
قوله: «بَاب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ» ، هذه كلمة عظيمة لأبي الدرداء ـ واسمه: عويمر ـ تكتب بماء الذهب، فينبغي أن تكتب وأن يتذكرها أهل الإسلام؛ حتى يعلموا أنهم لا يقاتلون الأعداء بالعدد والعدة، وإنما يقاتلونهم بهذا الدين، ولعمر رضي الله عنه كلام مماثل لقول أبي الدرداء؛ لأنه لو كان القتال بالعدد والعدة لصار التفوق لمن تفوق في العدة الحربية والعدد، والمسلمون مأمورون بالأخذ بالعدد وإعداد العدة، ولكن على قدر استطاعتهم؛ فقد قال تعالى: [الأنفَال: 60]{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، فإذا أعدوا ما استطاعوا فإنهم ينتصرون على الكفار بإيمانهم، فإذا ضيعوا أمر الله فإنهم يصابون بسبب تضييعهم لأمر الله وتفريطهم فيه.
وكلمة أبي الدرداء لا بد أن تنشر؛ حتى يعلم المسلمون أنه لابد من أن يكون لهم عمل صالح يقدمونه بين يدي الله؛ حتى ينصرهم الله على أعدائهم؛ فإنما ينصرون بالعمل الصالح.
ولهذا كان المسلمون في غزوة مؤتة ثلاثة آلاف، وكان الروم ثلاثين ألفًا، وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، ولم يقتل فيها من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً؛ منهم الأمراء الثلاثة: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة، فالمسلمون يقاتلون أساسًا بالأعمال الصالحة.
قوله: «عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ» ، قيل: إن هذه الكلمة من كلام أبي الدرداء، لكن البخاري فصلها؛ لأن الطريق التي جاءت بها منقطعة؛ فالحديث من طريق أبي سعيد الفزاري، عن سعيد بن عبدالعزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي الدرداء.
وفيه: انقطاع بين ربيعة وأبي الدرداء؛ ففي ثبوتها نظر، أما قوله: «إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ» ، فهو ثابت من كلام أبي الدرداء رضي الله عنه.
ثم ذكر الآية: « [الصَّف: 2-4]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ *إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ *}» ، ومناسبة هذه الآية للترجمة فيه خفاء، وقال بعضهم: إن مناسبة الترجمة والآية من جهة أن الله عاتب من قال: إنه يفعل الخير ولم يفعله، وأثنى على من وفىَّ وثبت عند القتال، أو من جهة أنه أنكر على من أقبل على القتال قولاً، ثم تخلف عنه فعلاً.
}2808{ قوله: «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ» ، يعني: وجهه مُغطى بآلة الحرب.
قوله: «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: «أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا»» أي: عمل عملاً قليلاً من الإيمان بالله والتوحيد والمحبة والانقياد وبذل النفس لله، في وقت قليل من الزمن، ثم قتل، وهذا يشهد لقول أبي الدرداء: «إنما تقاتلون بأعمالكم» ؛ فهذا الرجل قد عمل عملاً قليلاً، ولكنه عمل عظيم في ذروة الأعمال؛ ولذلك أجر عليه كثيرًا.
مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ
}2809{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلاَ تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَْعْلَى».
قوله: «بَاب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ» ، يعني: وهو في الجهاد؛ فإنه يكون شهيدًا، والسهم الغرب: هو الذي لا يُعرف راميه، أو لا يُعرف من أين أتى، أو جاء من غير قصد، فقال له: سهمٌ غرب؛ فمن كان مع المجاهدين ثم أتاه سهم فقتله فهو شهيد وإن لم يقاتل، أو وإن لم تبدأ المعركة، بل إنّ من مات في طريقه للجهاد ذهابًا أو إيابًا؛ فإنه يكون شهيدًا كما سبق في الأحاديث، وكما في قوله تعالى: [النِّسَاء: 100]{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}؛ فمن مات في الطريق ذهابًا أو إيابًا، أو في أيام الحرب، أو أصابه سهم لا يُعرف فقتله؛ فهو شهيد.
}2809{ قوله: «أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ» ، هذا وهم، وصوابه: أن الرُّبَيِّع بنت النضر ـ وهي أم حارثة ـ أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابني قتل، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَْعْلَى» ، فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لحارثة بن سراقة الذي أصابه سهم غرب يوم بدر، فيكون ممن شُهد له بالجنة، وينضم إلى الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
}2810{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
قوله: «بَاب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» ، ترجم فيه على لفظ الحديث، وترك الجواب، وهو يفهم من الحديث، يعني: فهو في سبيل الله، والتقدير: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وحذف جواب الشرط؛ حتى يتأمل طالب العلم، ويستنبطه من الحديث.
}2810{ هذا الحديث: دليل على أن النية لابد منها في جميع الأعمال، وخاصة في الجهاد؛ فهي أساس الأعمال، ويدل على ذلك حديث عمر رضي الله عنه في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» [(22)]، وهذا عام في جميع الأعمال؛ في الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام؛ أي: في كل شيء؛ ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟» ، والمعنى: الرجل يقاتل للمغنم لا يريد إلا الغنيمة والمال والدنيا، والرجل يقاتل للذكر يريد أن يذكر للشهرة، والرجل يقاتل ليرى مكانه رياء وسمعة، فمن في سبيل الله؟ أعرض صلى الله عليه وسلم عن هذا كله وقال كلمة عامة: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، وكلمة الله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: «كلمة الله هي خبره وأمره» [(23)]؛ إذن فهي نوعان:
الأول: الخبر ، فتصدق على الأخبار التي أخبر الله بها عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله، فقد أخبر الله عن نفسه أنه سميع وأنه بصير وأنه عليم وأنه الرب وأنه الخالق وأنه المدبر، فيصدق الإنسان أخبار الله وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخبار الأمم السابقة، وأخبار القيامة وأشراط الساعة، والأخبار عن البعث والجزاء والحساب والجنة والنار، كل هذه الأخبار يصدق بها.
الثاني: الأمر ، والأمر يكون بالفعل أو بالكف، فالأمر بالفعل يعني: الأوامر، والأمر بالكف يعني: النواهي، والأوامر يجب أن تتبع؛ فيمتثل الأوامر ويجتنب النواهي؛ وبذلك يكون قد عمل بالشريعة، فالشريعة كلها كلمة الله خبرًا وأمرًا.
مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ [التّوبَة: 120]{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *}.
}2811{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْسٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ».
هذه الترجمة في بيان جزاء من اغبرت قدماه في سبيل الله، وما له من الفضل العظيم، ثم ذكر آية التوبة: «{وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا}؛ لأنه إذا وطئ موطئًا اغبرت قدماه، فمن اغبرت قدماه في سبيل الله فهذا عمل صالح يكتب له.
}2811{ قوله: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» ، فيه: الوعد لمن اغبرت قدماه في الجهاد بالجنة، إذا كان عن إيمان وصدق وإخلاص وقصد إعلاء كلمة الله، فمجرد أن تغبر قدمه ويمشي في عمل صالح أو للجهاد ولإعلاء كلمة الله عن قصد وإخلاص يكون موعودًا بالجنة، وإذا زاد على ذلك وقاتل وجاهد، فهذا فيه الفضل والثواب العظيم والوعد بأنه لا تمسه النار، والذي لا تمسه النار يكون في الجنة.
والجهاد بالمال جهاد في سبيل الله أيضًا، بل إن الجهاد بالمال أوسع من الجهاد بالنفس؛ ولهذا قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في كثير من الآيات؛ لأن الجهاد بالمال ينفق منه على المجاهدين وأسرهم، وتشترى به الأسلحة والأمتعة وآلات الحرب، ولكل زمن ما يناسبه، فالجهاد بالمال في هذا الزمن أوسع من الجهاد بالنفس، وإن كان الجهاد بالنفس يبذل الإنسان فيه أغلى ما يملك، وهي روحه، لكن المال أيضًا شقيق الروح، والجهاد بالمال يتوسع فيه ما لا يتوسع في الجهاد بالنفس، ويستفاد منه ما لا يستفاد من الجهاد بالنفس.
فمن لا يستطيع أن يجاهد بنفسه عليه أن يجاهد بماله، ولو بالقليل على قدر الاستطاعة؛ [التّغَابُن: 16]{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فالقليل يكون كثيرًا عند الله بالنية والإخلاص، وفي الحديث: «من تصدق بعدل تمرة يأخذها الرب بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» [(24)]، فإذا كانت تمرة تُصدّق بها تكون مثل الجبل، فكيف بالجهاد في سبيل الله؟! فلو أنفق تمرة على المجاهدين وأكلها مجاهد، أو شُقَّت بين اثنين كل واحد أخذ نصفًا، فإنها تنفع، فإذا أرسل جراباً أو رطلاً أو أكثر أو طعاماً أو سلاحًا أو دراهم كثيرة يكون أعظم وأعظم، وفي الحديث: «درهم سبق مائة ألف درهم» [(25)]، فهذا شخص عنده درهمان، درهم أنفقه على نفسه ودرهم تصدق به، وهذا آخر عنده مئات ملايين، فأنفق عشرات الملايين، فمن أنفق درهما من درهمين ليس معه غيرهما فهو أفضل ممن أنفق عشرات ملايين؛ لأن هذا أنفق نصف ماله، وأما الذي أنفق عشرات الملايين فإنما أخذها من مئات الملايين فلا تضره، فهذا الدرهم سبق مائة ألف درهم، وهذا الذي أنفق القليل وليس عنده يكون ما أنفقه عند الله كثيراً مع النية والإخلاص والصدق.
- ورغم أن الجهاد بالمال جهاد في سبيل الله إلا أن صاحبه إذا مات لا يكون شهيداً، وإن كان له أجر المجاهد بالمال؛ لأنه لا يكون شهيداً إلا إذا مات في الخروج في سبيل الله، فمن دخل المعركة ثم مات ولو في الطريق ذهاباً أو إياباً يكون شهيداً.
وإن لم الظروف للإنسان أن يجاهد فعليه أن يحدث نفسه بالجهاد؛ حتى يأمن من الموت على النفاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يغز ولم تحدثه نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» . رواه مسلم في «صحيحه» [(26)].
فالجهاد أنواع؛ منها:
جهاد للنفس: كأن يجاهد نفسه على تعلم العلم، وتعلم الشريعة، ثم يجاهدها على العمل، ثم يجاهدها على التعليم والدعوة، ثم يجاهدها على الصبر والأذى.
جهاد للشيطان: وهو نوعان:
النوع الأول: جهاد في دفع الشبهات.
النوع الثاني: جهاد في دفع الشهوات.
فإذا اندفعت الشبهات حل محلها اليقين، وإذا اندفعت الشهوات حل محلها الصبر، فيكون إماماً من أئمة الصبر واليقين، وينال الإمامة في الدين.
جهاد للمنافقين: ويكون باللسان والحجة والرد.
جهاد للفساق والعصاة: وذلك يكون بنهيهم وأمرهم وإلزامهم مع القدرة.
جهاد للكفار: ويكون بالقلب بأن يبغضهم ويبغض الكفر الذي هم عليه، ويكون أيضاً باللسان وذلك بدعوتهم إلى الله قبل الجهاد، ويكون أيضا بالمال وبذله، ويكون أيضاً بالنفس، فجهاد الكفار يكون بأربعة: بالقلب وباللسان وبالمال وبالنفس.
مَسْحِ الْغُبَارِ عَنْ النَّاسِ فِي السَبِيلِ
}2812{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ وَلِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ فَلَمَّا رَآنَا جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ فَقَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ: «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ».
قوله: «بَاب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنْ النَّاسِ فِي السَبِيلِ» ، فالمجاهد بالمال مثل المجاهد بالنفس، فإذا جاهد بنفسه وقاتل ورجع ولم يقتل هل يكون شهيدًا أم لا؟ هذا لا يكون شهيدًا، لكن يكون مجاهدًا بالنفس، وأيضًا من جاهد بالمال لا يكون شهيدًا، ولكن يكون مجاهدًا بالمال.
}2812{ قوله: «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» وفي لفظ: «ويح عمار! يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار!» [(27)]، وهذا فيه: عَلَم من أعلام النبوة؛ حيث إن عمارًا قتلته الفئة الباغية، وكان في جيش علي فقتله جيش معاوية؛ فدل على أن أهل الشام ومعاوية بغاة، وأن الحق كان مع علي رضي الله عنه، وهذا من الأدلة على أن عليًّا هو المصيب، وأن معاوية ومن معه مخطئون، فلهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب، وعلي ومن معه لهم أجران: أجر الاجتهاد وأجر الصواب، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهذا وهو يبني المسجد؛ حيث كان الصحابة ينقلون لبنة لبنة، وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ومسح عن رأسه الغبار، وهذا هو الشاهد للترجمة.
ويدل صنيع البخاري رحمه الله بوضعه لهذا الحديث ـ وهو يتحدث في مسح الغبار عن عمار في غير الجهاد ـ تحت ترجمة: «بَاب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنْ الرَّأْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، على أنه يرى أن سبيل الله عموم الطاعات؛ لأن مسح الغبار عن رأس عمار ونقله اللبن لعمارة المسجد ليس في الجهاد.
وفيه: دليل على أن مسح الغبار لا بأس به من باب النظافة، ولا يدل على أنه فاته الثواب إذا لم يصبه غبار من الجهاد في سبيل الله.
والمؤلف رحمه الله لما ذكر الحديث السابق الذي فيه أن من اغبرت قدماه في سبيل الله فلا تمسه النار[(28)]، كأنه خشي أن يُتَّوهم أنه لا يجوز مسح الغبار ولا غسله؛ فبين في هذه الترجمة أنه لا بأس من مسح الغبار ـ وإن كان من اغبرت قدماه في سبيل الله موعودًا بالجنة ولا تمسه النار ـ واستدل على هذا بحديث عمار هنا، وبالحديث الذي بعده.
الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ
}2813{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلاَحَ وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلاَحَ فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَأَيْنَ؟» قَالَ هَا هُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
}2813{ في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة الخندق اغتسل، ولما اغتسل زال الغبار الذي حصل له بعد الحرب؛ فدل على أنه لا بأس بمسح الغبار وغسله، ولو كان من أثر طاعة؛ حيث تجب النظافة؛ لأن الله جميل يحب الجمال، وعماررضي الله عنه حين كان ينقل اللبن حصل له الغبار فمسحه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أثر الطاعة، فلم يضره؛ فدل هذان الحديثان على أنه لا بأس بمسح الغبار ولو بغسله، ولو كان من أثر طاعة، وأنه لا يؤثر في شيء من الثواب، وأن ثوابه وأجره باقيان.
فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
[آل عِمرَان: 169-171]{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ *}
}2814{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاَثِينَ غَدَاةً عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنَسٌ: أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ.
}2815{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ فَقِيلَ لِسُفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ لَيْسَ هَذَا فِيهِ.
قوله: «بَاب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [آل عِمرَان: 169-171]{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ *}» ، فيه: بيان فضل الشهداء وما لهم عند الله من الأجر العظيم، وأن الشهيد حي عند الله، لكنها حياة برزخية؛ وذلك لأن أرواحهم تتنعم في حواصل طير خضر تشرب من أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة ترد أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش» [(29)]؛ وذلك أن الشهداء لما بذلوا أجسامهم لله فبليت ومزقت، عوض الله أرواحهم أجسامًا أخرى تتنعم بواسطتها، وهي حواصل طير خضر، وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها، فالمؤمن إذا مات تنقل روحه إلى الجنة ولا صلة لها بالبدن، فتتنعم وحدها، وتأخذ شكل الطائر كما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» [(30)]؛ يعني: يأكل من ثمار الجنة على شكل طائر، والكافر إذا مات تنقل روحه للنار ـ نعوذ بالله منها ـ ويكون لها صلة بالجسد.
}2814{ هذا الحديث في قصة أصحاب بئر معونة الذين قُتلوا، حين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم من رعل وذكوان فأمنوهم وغدروا بهم، وأن حرام بن ملحان خال أنس طلب منهم أن يؤمنوه فأمنوه، ثم غدروا به، فلما بدأ يحدثهم أومئوا إلى رجل منهم فقتله بسهم من خلفه، فقال: «فزت ورب الكعبة» ، ثم قتلوا بقيتهم، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، على رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله[(31)].
قال أنس: «أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ» ، فهذه كانت آية تتلى ثم نسخت.
وفي هذه الحادثة دعا النبي صلى الله عليه وسلم على رعل وذكوان وعصية ثلاثين غداة، وقيل: أربعين صباحًا، وهذا يدل على القنوت في النوازل؛ فهذه نازلة نزلت بالقراء الثلاثين الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم، فغدروا بهم وقتلوهم؛ فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحًا أو أربعين صباحًا، ثم ترك.
}2815{ هذا الحديث في قصة الذين قتلوا يوم أحد شهداء، فقد شربوا الخمر صباحًا ثم قتلوا في آخر اليوم، فلا يضرهم ذلك ولا ينقص أجر شهادتهم عند الله؛ لأنها لم تكن حُرِّمت بعد، وقد بين البخاري رحمه الله أن من بين هؤلاء الذين قتلوا يوم أحد حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه.
ظِلِّ الْمَلاَئِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
}2816{ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقِيلَ ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، فَقَالَ: لِمَ تَبْكِي؟ أَوْ لاَ تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، قُلْتُ: لِصَدَقَةَ أَفِيهِ «حَتَّى رُفِعَ»، قَالَ: رُبَّمَا قَالَهُ.
}2816{ هذا فيه: بيان أن الملائكة تظل الشهيد، وهذا في قصة استشهاد عبدالله بن حرام والد جابر لما قتل يوم أحد وقد مَثَّل به المشركون، ووضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقال جابر: «فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي» ، وفي لفظ آخر: «والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني» [(32)]، يعني: فنهاه قومه قائلين: لا تكشف وجهه، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت.
قوله: «فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقِيلَ ابْنَةُعَمْرٍو» ، يحتمل أن هذا كان قبل النهي عن النياحة، أو أن هذا شيء غلبها؛ ولهذا سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «لِمَ تَبْكِي؟ أَوْ لاَ تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا» .
قوله: «قُلْتُ: لِصَدَقَةَ» ، القائل هو البخاري رحمه الله، وصدقة هو: ابن الفضل، شيخه.
قوله: «حَتَّى رُفِعَ» ، هذه منقبة لعبد الله بن حرام والد جابر، وكرامة له في الدنيا قبل الآخرة.
تَمَنِّي الْمُجَاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
}2817{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَْرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ»
}2817{ هذا الحديث فيه: أن المجاهد الشهيد يتمنى الرجوع إلى الدنيا.
وفيه: دليل على أن المؤمن الذي يموت وهو غير شهيد ويرى ما أعده الله له لا يتمنى الرجوع، حتى لو أعطي ملك الدنيا كلها بأسرها فلا يود أن يرجع؛ لأنه استراح من هم الدنيا وتعبها ونصبها وأذاها وهمومها وغمومها، وأكدارها من حر وبرد وغم وهم وحزن ومصائب وشيخوخة وهرم وموت وآلام وأعداء، فهذه كلها متاعب، فالمؤمن إذا مات استراح من هذه المتاعب فلا يتمنى الرجوع، إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا؛ لا ليبقى فيها، ولكن ليقتل عشر مرات؛ لما رآه مما أعد له من الكرامة والثواب والدرجات العالية؛ فيتمنى أن يرجع حتى يُعطَى درجات مضاعفة، وأما غير الشهيد فلا يتمنى أن يرجع؛ ولهذا لما مرت جنازة بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مستريح ومستراح منه» ، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: «المؤمن يستريح من نصب الدنيا وتعبها، والفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب» [(33)].
الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ عُمَرُ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى.
}2818{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبَهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ».
تَابَعَهُ الأُْوَيْسِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
قوله: «بَاب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ» ، والبارقة تطلق ويراد بها نفس السيف، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: تحت السيوف البارقة، والمراد بها اللمعان، فالجنة تحت لمعان السيوف، والمعنى: أن هذا وعد للمجاهد بأن له الجنة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كأنه أشار بالترجمة إلى حديث عمار بن ياسر فأخرج الطبراني بإسناد صحيح عن عمار بن ياسر أنه قال يوم صفين: «الجنة تحت الأبارقة» [(34)]، كذا وقع فيه والصواب بارقة وهي السيوف اللامعة» .
}2818{ قوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ» ، فيه: فضل الجهاد والمجاهدين الذين يقاتلون بالسيوف، وأن لهم الجنة؛ وذلك لأن الجنة تحت ظلال السيوف، والسيوف بيد المجاهدين؛ فهم في الجنة؛ فترجم بذلك لبيان فضل الجهاد، والمقصود من الحديث: فضل الجهاد وفضل القتال بالسيوف، وأن المجاهد المقاتل بالسيف موعود بالجنة، والجهاد له وسائله فالمجاهد بأي سلاح جاهد فهو موعود بالثواب. مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ
}2819{ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ _ث: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ».
}2819{ هذا الحديث فيه: دليل على أن تعدد الزوجات في شرع من قبلنا كثير، وأنهم يجمعون الزوجات الكثيرات، حتى إن سليمان وداود ـ وهم أنبياء ويعملون بشريعة التوراة ـ كانوا معددين، فجمعوا الزوجات الكثيرات؛ فدل هذا على أن شريعة التوراة جاءت بالتعدد الكثير، فسليمان طاف على مائة امرأة في ليلة واحدة للجماع، وهذا يدل على ما أعطي الأنبياء من القوة في الجماع، وهذا من خصائص الأنبياء، ونبينا صلى الله عليه وسلم كذلك طاف على زوجاته قبل أن يحرم في ليلة واحدة، وذلك مع الجهد والمشقة وقلة ذات اليد وقلة الطعام، وهذا يدل على خبث اليهود الذين يعيبون على المسلمين تعدد الزوجات، مع أن شريعة التوراة فيها التعدد الكثير، فاليهود خبثاء ينكرون تعدد الزوجات في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويتغاضون عن تعدد الزوجات في شريعة التوراة.
والتعدد من سماحة الإسلام، ومما لابد منه لإزالة الضرر والحاجة الملحة في بعض الأحوال.
وفيه: الرد على من أنكر تعدد الزوجات.
والشاهد من الحديث أن سليمان عليه السلام طلب الولد للجهاد، فنوى بجماعه أن يخلق الله له أولادًا يجاهدون في سبيل الله، فهو لم يقصد التمتع الجنسي، بل قصد بالجماع أن تلد له كل امرأة ولدًا، فيكون فارسًا يجاهد في سبيل الله، ولكن الله قُدّر أنه لم يقل: إن شاء الله؛ حيث قال: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، وفي لفظ: «قال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل ونسي» [(35)]، فجامع مائة امرأة، «فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ» ، يعني: بنصف إنسان.
قوله: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» ، وفي لفظ آخر: «لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركًا له في حاجته» [(36)]، فيه أنه ينبغي تعليق الأمر بمشيئة الله؛ ففي سورة الكهف: [الكهف: 23-24]{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا *}، لكنه نسي؛ فهو معذور ولا يأثم في هذا.
وفيه: أن تعليق الأمر بالمشيئة يكون دركًا للحاجة، وكذلك لو حلفت وقلت: والله لا أكلم فلانًا إن شاء الله؛ لا تحنث، أو: لا آكل طعام فلان إن شاء الله؛ لا تحنث؛ لأن الله لم يشأ لك، فإذا علق الإنسان الأمر بالمشيئة لا يحنث.
وفيه: فضل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وأن رغبتهم في الآخرة لا في الدنيا؛ فسليمان عليه السلام ينوي عند مجامعته لهؤلاء النساء حصول الولد؛ ليجاهدوا في سبيل الله، فيحصل له الأجر.
الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ وَالْجُبْنِ
}2820{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ وَقَالَ: «وَجَدْنَاهُ بَحْرًا».
}2821{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلاَ كَذُوبًا وَلاَ جَبَانًا».
}2820{ في الحديث: بيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ينبغي للمجاهد أن يكون مِقدامًا شجاعًا، والنبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس؛ ولهذا لما أصاب أهل المدينة فزع سبقهم وركب فرسًا لأبي طلحة عريًّا ـ يعني: ليس عليه سرج ـ واستبرأ الخبر، ثم لقي الناس وهم يريدون أن يذهبوا إلى الصوت، فقال لهم: «لن تراعوا، لن تراعوا» [(37)]؛ فدل ذلك على شجاعته العظيمة وإقدامه صلى الله عليه وسلم، وقال عن الفرس: «وَجَدْنَاهُ بَحْرًا» ؛ أي: واسع الجري.
}2821{ في الحديث: شدة كرم النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته أيضًا؛ فإنه لما قفل من حنين وغنم الغنائم من إبل وبقر وغنم قسمها بين الناس، فعلقت الأعراب يسألونه ويمسكونه، ويقولون: أعطنا أعطنا، حتى اضطروه إلى سمرة - أي: شجرة - فخطفت رداءه، فقال: «أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ» ؛ أي: لو كان لي عدد هذا الشجر إبلاً لأعطيتكم إياه.
قوله: «ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلاَ كَذُوبًا وَلاَ جَبَانًا» ، و هذا هو الشاهد؛ فهو أكرم الناس، كما أنه أشجع الناس؛ ففيه: شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب.
وفيه: كرمه وصدقه صلى الله عليه وسلم.