مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ
}2822{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ الأَْوْدِيَّ قَالَ: كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ.
}2823{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
قوله: «بَاب مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ» ، الجبن: ضد الشجاعة، وينبغي للإنسان أن يكون شجاعًا وأن يحذر من الجبن والخور في جهاده وقتاله للأعداء؛ فإن الشجاعة فيها النصر وأسبابه، والجبن والتأخر لا يجلب الحياة؛ فهي في يد الله تعالى وحده، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه خاض غمار حروب كثيرة، ودخل في غزوات كثيرة، والضربات والطعنات في جسده كثيرة، ومع ذلك مات على فراشه، فدخوله في الإمارات ومواجهات الحروب، وشجاعته وإقدامه لم يجلب له الموت؛ لأن الموت مقدر، فقدّر الله تعالى له أن يموت على فراشه؛ ولهذا لما جاءته الوفاة قال: «ما من موضع في جسدي إلا وفيه: طعنة برمح، أو ضربة بسيف، وهأنا أموت على فراشي كما تموت العنز، فلا نامت أعين الجبناء» .
وينبغي للإنسان أن يتعوذ من الجبن؛ حتى يرزقه الله الشجاعة والنشاط والإقدام في الجهاد في سبيل الله، وفي أموره كلها؛ لأن الجبن في الإنسان رذيلة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه في صلاته وفي غيرها.
}2822{ قوله: « كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ:» ، دبر الشيء: المراد به آخره، ودبر الصلاة آخرها الذي فيه التشهد، فكان يقول في آخر التشهد: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . ويستفاد من ذلك مشروعية هذا الدعاء في آخر الصلاة في التشهد؛ ولهذا ينبغي للمصلي أن يدعو بهذه الدعوات، وينبغي للإمام أن يمكن المأمومين في آخر التشهد من ذلك، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم أبا بكر الصديق أن يقول: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» [(38)].
فهذه من الدعوات المشروعة التي تقال في آخر الصلوات، والتي يستحب للإنسان أن يدعو بها.
وقوله: «وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» ، المراد به وقت الخرف؛ وهو فساد العقل من الكِبَر في السن؛ فلا يستفيد من عمره ويقف عن العمل، بخلاف ما إذا كان عقله معه ولو كان جسمه ضعيفًا؛ فإنه يحصل به حسنات وأعمال صالحة مثل: الصلوات وقراءة القرآن والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقات والإحسان، فإذا فقد العقل وخرف حرم من كل هذا الخير، وهذا هو ما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا» ، فيه: الاستعاذة من الفتن التي تحدث في الدنيا، مثل: فتن الشهوات والشبهات، وفتن الحروب، وفتن الأموال، نعوذ بالله منها جميعًا.
}2823{ في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ، والفرق بين العجز والكسل: أن العجز ترك الشيء مع عدم القدرة عليه، وأما الكسل فهو ترك الشيء مع القدرة.
قوله: «وَالْهَرَمِ» ، وهو السن الذي يكون في آخر العمر، ويصاب فيه الإنسان بالخرف.
قوله: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» يعني: الفتنة عند الموت؛ فقد يفتن الإنسان عند موته، والشيطان أحرص ما يكون على ذلك؛ ولهذا روي أن الإمام أحمد رحمه الله سُمع وهو يقول عند الموت: بَعْدُ بَعْد. فلما أفاق سُئل عن ذلك فقال: إن الشيطان قال لي: فُتّني يا أحمد، فُتّني، لا أقدر عليك، لا أقدر عليك، يريد الشيطان أن يفتنه قبل موته.
قوله: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ، فيه: إثبات عذاب القبر، والرد على من أنكره.
مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الْحَرْبِ
قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ.
}2824{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدًا وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَْسْوَدِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنهم فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ.
قوله: «بَاب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الْحَرْبِ» ، هذه الترجمة لمن حدّث بمشاهده في الحرب؛ يعني: إذا أمن الرياء والعجب، ورجا أن يُقتدى به؛ فلا بأس إذا حدث بما عمله في الجهاد وفي الحرب، وأما امتناع المقداد بن الأسود وعبدالرحمن بن عوف فهو من باب الحيطة؛ خشية الزيادة أو النقصان، وخوفًا من الرياء والعجب، فإذا أمن الإنسان الرياء والعجب وأراد أن يُستفاد أو يُقتدى بما يذكره، أو يُقتدى به هو فلا بأس، وجاء في الحديث الآخر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إني أول من رمى بسهم في سبيل الله» ؛ فهذا أيضًا من ذكر المشاهد في الحرب، وكذلك جاء عن أبي عثمان النهدي في فضل طلحة وسعد: «لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام التي قاتل فيها غير طلحة وسعد» [(39)]. فهذا كله داخل فيما ترجم به البخاري رحمه الله.
}2824{ يستفاد من الحديث: أنه لا بأس إذا حدث الإنسان بمشاهده في الحرب، وبما عمله في الجهاد، إذا أمن الرياء والعجب ورجا أن يُقتدى به.
وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنْ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ
وَقَوْله: [التّوبَة: 41-42]{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *} الآْيَةَ.
وَقَوْلِهِ: [التّوبَة: 38- 39]{إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}.
يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {انْفِرُوا ثُبَاتٍ} سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ، يُقَالُ أَحَدُ الثُّبَاتِ ثُبَةٌ.
}2825{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا».
قوله: «بَاب وُجُوبِ النَّفِيرِ» ، هذه الترجمة معقودة لوجوب النفير، والنفير: هو الخروج لقتال الكفار، وهو فرض كفاية على الأمة، وقال بعضهم: يجب في كل سنة مرة مع القدرة، وهو مستحب لكل فرد من أفراد المسلمين، وهو ذروة سنام الإسلام، ويكون فرض عين في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا استنفر الإمام أحدًا صار عليه فرض عين.
الحالة الثانية: إذا وقف في صف المسلمين مقابل صف الكفار وجب عليه أن يقاتل، وليس له أن يفر؛ لأنه إذا فر خذل إخوانه المسلمين، ويكون قد ارتكب كبيرة.
الحالة الثالثة: إذا دهم العدو بلدًا من بلاد المسلمين صار الجهاد فرض عين على أهل البلد كلهم؛ فعليهم أن يقاتلوا، سواء في ذلك الرجال والنساء، وبغير إذن الأبوين، فإن لم يندفع العدو وجب على أهل البلد الذين يلونهم، وهكذا حتى يجب على المسلمين جميعًا؛ لينقذوا بلاد المسلمين.
قوله: «وَمَا يَجِبُ مِنْ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ» يعني: وما يجب على المسلم من النية الخالصة؛ بأن يريد بجهاده وجه الله والدار الآخرة؛ لإعلاء كلمة الله، وليس رياء ولا سمعة، ولا بقصد المال والغنيمة، ولا ليرى مكانه، ولا لحمية أو عصبية، وإنما يقاتل لإعلاء كلمة الله؛ لقول الله عز وجل: [التّوبَة: 41]{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}، فهذا أمر بالنفير والقتال خفافًا وثقالاً؛ لأن الأمة إذا تركت الجهاد ذلت وتسلط عليها الأعداء، فمن لم يَغْزُ غُزِي، فإذا ترك المسلمون غزو الكفرة غزوهم، كما هو الحاصل.
والجهاد يكون بالمال وبالنفس، وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ لأنه أوسع وأعم وأنفع؛ فالمال يشترى به السلاح والعتاد، وينفق منه على المجاهدين وعلى أسرهم، ويُشترى به الدواب وما يلزمها، والجهاد بالنفس هو أعلى درجات الجهاد؛ فأغلى شيء يملكه الإنسان نفسه التي بين جنبيه، فإذا بذل نفسه لإعلاء كلمة الله لا لأجل الدنيا فهذا في الدرجات العليا؛ ولذلك قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، فالجهاد خير من القعود والإحجام.
ثم بيّن سبحانه وتعالى أن المنافقين يحجمون عن الجهاد؛ لأنه ليس عندهم الإيمان بالله ورسوله، ولا يتحملون المشاق التي يتحملها المؤمن، فبين سبحانه وتعالى أن المنافقين لو وجدوا شيئًا من عرض الدنيا لبادروا وأسرعوا إليه؛ فقال سبحانه: [التّوبَة: 42]{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ}، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ يعني: لو كانت الغنيمة قريبة، والسفر ليس ببعيد؛ لاتبعوك يا محمد، {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}، وكان هذا في غزوة تبوك؛ حيث كانت المسافة بعيدة من المدينة إلى تبوك، وهذا بعيد على المنافقين، وكانت الغزوة في حر شديد أيضًا، فالمنافقون تخلفوا؛ لأنهم ليس عندهم إيمان يتحملون به المشاق، [التّوبَة: 42]{يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *}؛ أي: يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب، فيحلفون أيمانًا يرضون بها المؤمنين، لكن الله لا تخفى عليه خافية؛ ولهذا قال الله تعالى: [التّوبَة: 62]{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، فكانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم ما عندهم استطاعة.
قوله تعالى: « [التّوبَة: 38-39]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ *إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}، هذا وعيد شديد من الله عز وجل، [محَمَّد: 38]{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ *}.
$ر مسألة: لا يشرع للمسلم الذي يعيش في بلاد غير المسلمين، وأدرج اسمه في السجلات العسكرية، أن يشارك في حربهم مع المسلمين؛ فالله تعالى يقول: [الحَجّ: 38]{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}، فيجب عليه أن يكون مع إخوانه، والله يقول: [الأنفَال: 30]{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ *}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» [(40)].
قوله: «يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {انْفِرُوا ثُبَاتٍ} سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ» ، كذا في رواية أبي ذر: «ثباتاً» ، ووقع عند القسطلاني: «ثبات» ، وقال: «ولأبي ذر والقابسي (ثباتاً) بالألف» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهو غلط لا وجه له» . وقال العيني: «وهو غير صحيح؛ لأنه جمع المؤنث السالم» . وكذا قال ابن الملقن والزركشي، ومذهب الكوفيين جواز إعرابه في حالة النصب بالفتح مطلقًا، وجوزه قوم في محذوف اللام من الميزان الصرفي، وعلى كلٍّ من الرأيين يكون لهذه الرواية وجه.
}2825{ قوله: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» ؛ أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة، ولكن قبل فتح مكة كان يجب على من أسلم أن يهاجر من مكة إلى المدينة؛ لينصر الله ورسوله، وليكثّر سواد المؤمنين، وليفارق الكفار، فلما فتحت مكة وصارت دار إسلام انتهت الهجرة من مكة إلى المدينة، ولكن تبقى الهجرة من بلاد الشرك والكفر إلى بلاد الإسلام إلى قيام الساعة؛ فلا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، ولكن يبقى بعد فتح مكة الجهاد والنية؛ الجهاد في سبيل الله، والنية الخالصة، ويبقى كذلك النفير للجهاد إذا استنفر الإمام الناس للجهاد؛ ولهذا قال: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . وكما هو معلوم فالهمزة والسين والتاء للطلب؛ يعني: إذا طلب الإمام النفير والخروج للجهاد فأجيبوا وانفروا.
الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ بَعْدُ وَيُقْتَلُ
}2826{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ يَدْخُلاَنِ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ».
}2827{ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْهِمْ لِي، فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لاَ تُسْهِمْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ، فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ، قَالَ: فَلاَ أَدْرِي أَسْهَمَ لَهُ أَمْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ.
قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: السَّعِيدِيُّ هُوَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ ابْنِ الْعَاصِ.
قوله: «بَاب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ» ، يعني: الكافر، «فَيُسَدِّدُ» بكسر الدال أخذًا من الحديث: «سددوا وقاربوا» [(41)]؛ أي: سددوا بالعمل الصالح، ويجوز «فيسدَّد» بفتح الدال؛ أي: يسدده الله.
}2826{ قوله: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ يَدْخُلاَنِ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ» ، يعني: هناك كافر ومسلم اقتتلا في حرب المسلمين والمشركين، فقتل الكافر المسلم، ثم أسلم الكافر فسدده الله فقاتل في سبيل الله فقتل؛ ولهذا يضحك الرب سبحانه ضحكًا يليق بجلاله وعظمته، فالضحك من الصفات التي يتصف بها الله سبحانه كسائر الصفات فلا تؤول، فكما أن الله تعالى يتصف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والعلو والرضا والغضب والكره والسخط والاستواء والنزول، فكذلك يتصف بالضحك، والقاعدة في باب الصفات كلها: أن تُثْبَت الصفات لله وتُنفَى الكيفية؛ فنثبت الضحك لله سبحانه، ولكن لا تُعلم كيفية الضحك، وذلك بما يليق بكمال الله وجلاله، فلا يشبه بضحك المخلوقين؛ [الشّورى: 11]{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *}.
تنبيه:
قول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الخطابي: الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى، وإنما هذا مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه: الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حاليهما، قال: وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة؛ وهو قريب، وتأويله على معنى الرضا أقرب؛ فإن الضحك يدل على الرضا والقبول، قال: والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبِشر وحُسن اللقاء، فيكون المعنى في قوله: «يَضْحَكُ اللَّهُ» أي: يجزل العطاء، قال: وقد يكون معنى ذلك أن يعجب الله ملائكته ويضحكهم من صنيعهما، وهذا يتخرج على المجاز، ومثله في الكلام يكثر، وقال ابن الجوزي: أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا ويمرونه كما جاء، وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا تشبه صفات الله صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه. قلت: ويدل على أن المراد بالضحك الإقبال بالرضا تعديته بإلى، تقول: ضحك فلان إلى فلان إذا توجه إليه طلق الوجه مظهرًا للرضا عنه» .
قلت: كل هذا تأويل، وهو كلام باطل، والصواب إثبات الضحك لله على ما يليق بجلاله وعظمته، أما تأويله بالرضا أو الإخبار عن رضا الله فهذا كله تأويل، وتفسير قول ابن الجوزي: «معنى الإمرار عدم العلم بالمراد» ، هو أن هذا معناه تفويض العلم، فالمعنى معروف لكن الكيفية هي المنفية، فنثبت الضحك، والضحك في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قال الإمام مالك رحمه الله: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب» ، فالمعنى معلوم والصفة يجب أن تمر بمعناها، فعلينا أن نثبت المعاني، والكيفية تفوض إلى الله عز وجل.
- وإذا كان الحافظ رحمه الله وهو عالم كبير من علماء الحديث، ومع ذلك غلط، وأيضاهؤلاء العلماء: الخطابي، وابن الجوزي، وهم علماء كبار؛ لأنهم لم يوفقوا إلى من يرشدهم لمعتقد أهل السنة والجماعة، وإذا كان هؤلاء العلماء الكبار يغلطون، وليس عندهم تحقيق في الصفات، فينبغي للمسلم ولطالب العلم إذا وفق لعقيدة أهل السنة والجماعة أن يعض عليها بالنواجذ، وأن يحمد الله أن وفقه لمعتقد أهل السنة والجماعة التي درج عليها الصحابة والتابعون والأئمة، وإثبات الصفات كما جاءت، ولا يعول على كلام الحافظ ولا كلام النووي في تأويل الصفات، فهم علماء كبار في الحديث، ولكنهم غلطوا في تأويل الصفات، ومشوا على معتقد الأشاعرة وغيرهم ممن يؤولون الصفات.
وقول الخطابي: «وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة» ، ليس بصحيح؛ فالبخاري لم يؤول فهو إمام من أئمة أهل السنة والجماعة.
}2827{ هذه المحاورة بين أبي هريرة وأبان بن سعيد كما في إحدى روايات البخاري[(42)] للحديث تحصل عند الملاحاة وعند الخصومات، وهذا من طبيعة البشر، فأبو هريرة رضي الله عنه جاء أنه أسلم بعد فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة، وحفظ من الحديث الكثير في ثلاث سنوات، فهو أكثر الصحابة رواية للحديث؛ لأنه كان ملازمًا للنبي صلى الله عليه وسلم بملء بطنه، منصرفًا عن الدنيا كلها، فكان يحضر إذا غاب المهاجرون والأنصار؛ ولهذا لما قيل له: أكثرت من الحديث؟! فكان يقول: «الله الموعد» ؛ يعني: يتوعدهم، ثم قال: أنا ما أقول إلا ما سمعته، كان إخواني من المهاجرين يشغلهم الصفق بالأسواق ـ أي: التجارة ـ وكان إخواني من الأنصار يشغلهم العمل في حقولهم ومزارعهم، فكنت أحضر حين يغيبون، وكنت إمرأً ألزم النبي صلى الله عليه وسلم بملء بطني ـ منصرفا عن الدنيا كلها ـ وكنت أحضر حين يغيبون، وأحفظ حين ينسون؛ ولهذا حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم آلافًا من الأحاديث ونشرها في ثلاث سنوات، وكان قد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم بعد فتح خيبر فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْهِمْ لِي» ، يعني: يقاسم أهل خيبر، وما حضر المغنم، ومعلوم أن الغنيمة تكون للغانمين المقاتلين، «فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ:» وهو أبان بن سعيد: «لاَ تُسْهِمْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ، أي: لا تعطه شيئًا من الغنائم؛ لأنه ما حضر وما قاتل، «فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ» ، يعني: فرد أبو هريرة عليه وقال: أنت قاتل ابن قوقل. وهذا من الملاحاة، «فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ:» ، يعني: أبان بن سعيد: «وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ» ، يقصد به أبا هريرة؛ لأنه جاء من بلاده وأسلم، «يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ» ؛ لأن أبان بن سعيد قتل ابن قوقل، وكان مسلمًا، ثم أكرم الله أبان بن سعيد فأسلم، فهو يقول: إن أبا هريرة ينعى علي قتل رجل مسلم، هذا الرجل الذي قتلته أكرمه الله بالشهادة، ولكن الله لم يهني على يديه فلم يقتلْني وأنا كافر، فلو كان قتلني وأنا كافر لكانت هذه إهانة لي، وهذا شاهد الترجمة، فهذا ابن قوقل قتله أبان بن سعيد فمنّ الله عليه بالشهادة، ثم منّ الله على أبان بن سعيد فأسلم.
قوله: «وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ» ، هو معطوف على قوله: «حدثنا الزهري» ، وهو موصول بالإسناد الذي قبله.
قوله: «السَّعِيدِيُّ هُوَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ ابْنِ الْعَاصِ» ، هذا من كلام البخاري.
مَنْ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ
}2828{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لاَ يَصُومُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلاَّ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى.
}2828{ يستفاد من هذا الحديث أنه ينبغي للإنسان أن يكون مفطرًا في الجهاد؛ ليكون أقوى له على قتال العدو؛ ولهذا اختار أبو طلحة رضي الله عنه أن يفطر وأن يغزو وقدّمه على الصوم، فكان لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل الغزو؛ لأن الصوم يضعفه عن الغزو وعن القتال في سبيل الله؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس في غزوة الفتح لما قربوا من مكة أن يفطروا، ولما صام بعض الناس قال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» [(43)]. فاختار أبو طلحة الفطر في الغزو على الصيام، ولا يصوم الإنسان في القتال إلا في أوقات لا يكون فيها قتال كأيام المرابطة، وفي السفر وقت القرب من العدو، كما سيأتي في الترجمة التي بعد هذه.
قال أنس: «فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَرَهُ ـ أي: أبا طلحة ـ مُفْطِرًا إِلاَّ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى» ، فترك التطوع بالصوم لأجل الغزو خشية أن يضعفه عن القتال، وفي آخر عمره لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان ملازمًا للصوم، فأراد أن يأخذ حظه من الصوم فكان لا يفطر إلا يومين يوم الفطر ويوم الأضحى، فهو يسرد الصوم، وكأنه لا يرى المنع من صوم الدهر، وهذا اجتهاد منه، والصواب: أنه لا يجوز سرد الصوم، ولا يجوز صوم الدهر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صام من صام الأبد» [(44)]، وفي لفظ آخر: «لا صام ولا أفطر» [(45)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «وأفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوماً» [(46)]، فهذا أفضل الصيام؛ يصوم يومًا ويفطر يومًا، وهو نصف الدهر، وأما أن يسرد الصوم فيصوم الدهر فمن العلماء من قال: إنه حرام، وجاء في حديث ـ وإن كان فيه ضعف ـ أن: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم أو حصر في جهنم» [(47)] ـ نعوذ بالله ـ فصوم الدهر مكروه أو حرام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صام من صام الأبد» [(48)].
الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ
}2829{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
}2830{ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».
هذه الترجمة من لفظ حديث أخرجه مالك من رواية جابر بن عتيك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبدالله بن ثابت وذكر الحديث، وفيه: «ما تعدون الشهيد فيكم؟» ، قالوا: مَن يقتل في سبيل الله، وفيه: «الشهداء سبعة سوى القتل» [(49)].
}2829{ قوله في الحديث الأول: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ» ، وليس المراد هنا الحصر، وإلا فقد جاء زيادة على هؤلاء الخمسة.
وقوله: «الْمَطْعُونُ» ، يعني: الذي يموت بالطاعون، وفي حديث أنس الذي بعده قال: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . وهو الآن يسمى مرض الكوليرا.
وقوله: «وَالْمَبْطُونُ» يعني: الذي يموت بداء البطن؛ فهذه شهادة.
وقوله: «وَالْغَرِقُ» هو الذي يغرق في الماء.
وقوله: «وَصَاحِبُ الْهَدْمِ» هو الذي يسقط عليه جدار أو ينهدم عليه بناء، ومثله انقلاب السيارة.
وقوله: «وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» هو الذي يقتل مجاهدًا لإعلاء كلمة الله.
وجاء في أحاديث أخر زيادة على هذا؛ كحديث جابر بن عتيك: «والحريق» وهو الذي يموت حرقًا بالنار، «وصاحب ذات الجنب» .
وفيه: أيضًا: «والمرأة تموت بجمع» [(50)]؛ أي: تموت في نفاسها.
وجاء في الحديث الآخر: «من قتل دون ماله فهو شهيد» [(51)]، يعني: وهو يدافع عن ماله، وزاد في آخر: «ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد» [(52)]، فكل هؤلاء شهداء.
والمراد شهداء في الفضل والأجر، ولكن ليس كشهيد المعركة؛ فشهيد المعركة أفضل، وشهيد المعركة لا يُغَسّل ولا يصلى عليه ويدفن في ثيابه ودمائه؛ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد أن لا يغسلوا ولا يصلى عليهم، بل دفنوا في دمائهم وثيابهم[(53)]، لكن الشهداء الآخرين يغسلوا ويصلى عليهم.
}2830{ قوله: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» ، فيه: بيان أجر من مات بداء الطاعون.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النِّسَاء: 95- 96]{دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *}
}2831{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا، وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ فَنَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}.
}2832{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}.
هذه الترجمة ذكر فيها المؤلف الآيتين من سورة النساء؛ لبيان فضل المجاهدين، وأن منزلتهم عالية، وأنهم لا يستوون مع القاعدين عن الجهاد، فالمجاهد فضله عظيم وله درجات عالية عند الله، والمؤمن القاعد له فضله كموحد لله تعالى فله الجنة، ولكن ليست درجته كدرجة المجاهد؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: «أعد الله للمجاهدين مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» [(54)]. فهذه درجات المجاهدين، وغير المجاهدين درجاتهم أقل، ومعلوم أن كل درجة عليا أعظم نعيمًا من الدرجة التي أسفل منها، فلا يستوون في منزلتهم عند الله ولا في ثوابهم ولا في درجاتهم، فالقاعدون عن الجهاد في بيوتهم وفي بلدانهم ومنازلهم لا يستوون مع المجاهدين في سبيل الله الذين جاهدوا بالمال وبالنفس.
واستثنى الله تعالى فقال: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}، وأولو الضرر: هم كل من كان ضريرًا كالأعمى والأعرج والمريض، فكل واحد من هؤلاء عذره الله واستثناه، فإذا كان له نية خالصة وأنه لو استطاع لجاهد؛ فإنه يبلغ بنيته مبلغ العمل مع العذر والعجز، يدل على ذلك الحديث: «إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم» ، قالوا: يا رسول الله، هم بالمدينة؟ قال: «في المدينة، حبسهم العذر» [(55)]. فصاروا مع المجاهدين وشاركوهم في الأجر وهم في المدينة بنيتهم الخالصة، وهذا يدل على أن الإنسان يبلغ بنيته الصادقة مبلغ العمل التام؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» [(56)].
}2831{ قوله: «لَمَّا نَزَلَتْ: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا» ، فكانوا يكتبون آيات القرآن على الكتف واللخاف ـ وهي الحجارة ـ والسعف مع حفظهم لها في الصدور، «وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ» ، يعني: أنه ضرير لا يبصر؛ فنزلت: [النِّسَاء: 95]{لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}.
}2832{ قوله: «أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ» ، يعني: على زيد، «{لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}» ، ليس فيه: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}، «قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ» ، يملها ويمليها معناهما واحد، يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي الآية على زيد فجاءه ابن أم مكتوم «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم» ، يعني: قوله: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}، قال زيد: «وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ» ، يعني: ثقلت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد من الوحي، حتى خاف زيد أن تُرَضَّ فخذه من ثقل فخذ النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل الوحي؛ فالوحي ثقيل، والنبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي وهو على راحلته كادت أن تبرك من ثقله[(57)]، ومنه قوله تعالى: [المُزّمل: 5]{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً *}.
قوله: «ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}» ، فيه: سرعة الوحي؛ حيث نزل قوله تعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}، والنبي صلى الله عليه وسلم يملها، وكذلك ثبت أن الوحي نزل سريعًا أيضًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خروج النساء؛ حيث خرجت سودة لقضاء حاجتها في الليل، وكانت امرأة طويلة؛ فقال عمر: قد علمناك يا سودة. فنكصت على عقبها واستحيت ورجعت، وشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنزل الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم في يده العَرقْ ـ وهو العظم الذي فيه شيء من اللحم ـ فقال: «إنه قد أذن لكن في الخروج» [(58)]. فعمر رضي الله عنه كان لا يريد خروج النساء من شدة غيرته، وكانت النساء في ذلك الوقت لا تخرج إلا ليلاً لقضاء الحاجة في البرية، وكانت المدينة قرية صغيرة، فكن لا يخرجن إلا قليلا، وكن يخرجن في الظلماء إلى الفضاء لقضاء حاجتهن.
الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ
}2833{ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى كَتَبَ فَقَرَأْتُهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا».
قوله: «بَاب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ» هذه الترجمة فيها وجوب الصبر عند القتال؛ لأن القتال فيه مشقة عظيمة، فالإنسان يضع نحره وصدره أمام النبال والسيوف والرماح؛ فلابد من الصبر.
}2833{ قوله: «إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» في لفظ آخر: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» [(59)].
وفيه: أنه لابد من الصبر على الأعداء، وأن الإنسان يبذل روحه ونفسه التي بين جنبيه لإعلاء كلمة الله عز وجل، والثمن هو الجنة؛ فقد قال تعالى: [التّوبَة: 111]{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *}، هذا الفوز العظيم ينبغي له وفرة الصبر عند قتال الأعداء، ومن لم يصبر انهزم.
التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [الأنفَال: 65]{حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}.
}2834{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قَالَ:
«اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآْخِرَهْ
فَاغْفِرْ لِلأَْنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»
فَقَالُوا: مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
قوله: «بَاب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ» ، هذه الترجمة في التحريض على القتال؛ لقول الله تعالى: « [الأنفَال: 65]{حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}» ، يعني: حُثَّهم ورغِّبهم في القتال، وبيّن ما لهم من الأجر والمثوبة عند الله، وأن الله وعدهم إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة، وقال تعالى: [الصَّف: 10-13]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ *}، فالله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرض المؤمنين على القتال فقال: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}.
}2834{ مناسبة حديث أنس رضي الله عنه للترجمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر الحفر بنفسه[(60)]؛ تحريضًا للمسلمين على العمل، ولكي يتأسوا به في ذلك، وحفر الخندق حول المدينة لما أقبلت قريش ومن معها من قبائل العرب، وتحزبوا وتجمعوا؛ ليقضوا على المسلمين وليستأصلوهم، فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحفر الخندق[(61)] حول المدينة وقال: إن الفرس كانوا يعملون بذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، وذلك بحفر حفر مستديرة حول المدينة، ويجعلون لها أبوابًا خاصة ويكون فيها حرس، حتى إذا جاءت خيول الكفرة تسقط في الحفر المستديرة ولا تستطيع أن تدخل المدينة.
وجلسوا أيامًا يحفرون حتى إنه في بعض الأيام أعجزهم بعض الصخور؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وضربها بنفسه حتى تفتت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام العصيبة يبشرهم بكنوز كسرى وقيصر[(62)]، وهذا من دلائل النبوة، ورغم أن هذه الأيام كانت أيام شتاء وباردة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفر معهم حتى يغطي التراب بطنه وهو أشرف الخلق.
يقول أنس: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ» ، يعني: في يوم بارد، «فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ» ، فهم يحفرون بأنفسهم، «فَلَمَّا رَأَى» ، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، «مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ» ، وقلة ذات اليد، حتى إن أبا طلحة سمع الجوع في صوت الرسول صلى الله عليه وسلم فأحضر خبزًا من شعير، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة فأكل أهل الخندق كلهم[(63)].
فالشاهد أنهم كانوا يحفرون في يوم بارد، في ظل قلة الطعام وما هم فيه من الجوع والبرد وشدة الحفر والعمل، ومع ذلك صبروا وصابروا في ذات الله، ومن الصبر التحريض على القتال، «فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قَالَ:
«اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآْخِرَهْ
فَاغْفِرْ لِلأَْنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»
فَقَالُوا: مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
قوله: «فَاغْفِرْ لِلأَْنْصَارِ» وقع عند القسطلاني: «الأنصار» ثم قال: «ويخرج به عن الوزن» .
وهذا من قول ابن رواحة رضي الله عنه تمثَّل به النبي صلى الله عليه وسلم.
حَفْرِ الْخَنْدَقِ
}2835{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ وَيَقُولُونَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
عَلَى الإِْسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُجِيبُهُمْ وَيَقُولُ:
«اللَّهُمَّ إِنَّه لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآْخِرَهْ
فَبَارِكْ فِي الأَْنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»
}2836{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ، وَيَقُولُ: «لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا».
}2837{ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَْحْزَابِ يَنْقُلُ التُّرَابَ وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
«لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتْ الأَْقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
إِنَّ الأُْلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا»
}2835{ في الحديث: قصة حفر الخندق، والخندق هو الحفر الذي كان حول المدينة في السنة الرابعة من الهجرة بعد أُحد، ويقال لها: غزوة الخندق، وغزوة الأحزاب؛ وذلك لما تحزب الكفرة ضد المسلمين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُبَشِّر المسلمين وهم يحفرون الخندق حول المدينة[(64)]، وقد حفروه؛ حتى لا تقتحم خيول المشركين المدينة، وجعلوا لها أبوابًا فيها حراس ـ وهم المرابطون ـ فكانوا يحفرون وينقلون التراب على ظهورهم رضي الله عنهم وهم يرتجزون:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
عَلَى الإِْسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
وفيه: أنه لا بأس بالرجز إذا كان يعين على العمل.
«وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُجِيبُهُمْ وَيَقُولُ:
«اللَّهُمَّ إِنَّه لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآْخِرَهْ
فَبَارِكْ فِي الأَْنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»
وفي لفظ آخر كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا» [(65)]
}2836{ قوله: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ» ، يعني: ينقل الحجارة والتراب، «وَيَقُولُ: «لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا».
وفيه: جواز الرجز.
}2837{ قوله: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَْحْزَابِ يَنْقُلُ التُّرَابَ وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ» ، فيه: دليل على مشاركة الرئيس للرعية في الأمور المهمة؛ تشجيعًا لهم على العمل، وحثًّا لهم عليه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يشاركهم وهو الرئيس والقائد وإمام المتقين صلى الله عليه وسلم؛ تشجيعًا وحثًّا لهم، حتى إن التراب وارى بياض بطنه صلى الله عليه وسلم، «وَهُوَ يَقُولُ:
«لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتْ الأَْقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
إِنَّ الأُْلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا»
هذا رجز ولا بأس به؛ فليس فيه محذور، بل كل معانيه سليمة، فهو دعاء واعتراف لله تعالى بالفضل، وسؤاله الثبات عند اللقاء.
قوله: «إِنَّ الأُْلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا» ، يعني: الكفار بغوا علينا، «إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا» ، والفتنة: الشرك، فالكفار يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم؛ فتحزبوا وجاءوا من كل مكان، وأحاطوا بالمدينة؛ ليستأصلوا شأفة المسلمين، ولكن هيهات هيهات!
مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنْ الْغَزْوِ
}2838{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ قَالَ: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}2839{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ».
وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: الأَْوَّلُ أَصَحُّ.
قوله: «بَاب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنْ الْغَزْوِ» ، هذه الترجمة لبيان أن من حبسه العذر عن الغزو له أجر الغازي بنيته، كقول ابن أم مكتوم فيما سبق: «لو كنت قادرًا لجاهدت في سبيل الله» ؛ فهو هنا له أجر الغازي كاملاً.
}2838{، }3839{ قوله: «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» ، وفي لفظ: «إلا شركوكم في الأجر» [(66)] قالوا: يا رسول الله، وهم في المدينة؟ قال: «وهم في المدينة حبسهم العذر» [(67)]. ويدل هذا على أن الإنسان يحصل بنيته درجة عمل لم يعمله؛ لأن له نية خالصة، وهو يريد أداء ذلك العمل ولكن لا يستطيع، وذلك مثل الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم للجهاد[(68)]؛ حيث لا يجدون ما يحملون عليه؛ فليس عندهم رواحل ولا إبل ولا زاد ولا شيء، وهم لا يستطيعون تحصيل ذلك، فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يطلبون؛ فرجعوا يبكون، وسُمُّوا البكائين؛ فأنزل الله تعالى قوله: [التّوبَة: 91-92]{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ *}؛ فهؤلاء لهم أجر المجاهدين.
قوله: «قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: الأَْوَّلُ أَصَحُّ» ، أبو عبدالله هو: البخاري، والإسناد الأول هو رواية حميد، عن أنس؛ يعني: بحذف موسى بن أنس من الإسناد؛ وهذا ـ عند البخاري ـ أصح من رواية من ذكره.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وخالف الإسماعيلي في ذلك؛ فقال: حماد عالم بحديث حميد، مقدم فيه على غيره؛ وإنما قال ذلك لتصريح حميد بتحديث أنس» .
فَضْلِ الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
}2840{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
}2840{ يستفاد من الحديث فضل الصوم في سبيل الله، وأن صاحبه موعود بهذا الثواب العظيم، وهو أن يباعد الله عن وجهه النار سبعين خريفًا، والمراد بالخريف العام؛ يعني: باعد الله وجهه عن النار سبعين عامًا.
واختلف العلماء في المراد بسبيل الله في هذا الحديث على قولين:
أحدهما: أن المراد به الجهاد؛ أي: من صام يومًا في الجهاد في سبيل الله، وهذا ظاهر صنيع البخاري؛ حيث جاء بهذه الترجمة في كتاب الجهاد.
القول الثاني: أن المراد بسبيل الله هنا هو طاعة الله؛ يعني: من صام يومًا في طاعة الله، والمراد من صام يومًا قاصدًا به وجه الله؛ قاله القرطبي.
ورجح كثير من العلماء القول الثاني، فقالوا: إن المراد بقوله: «في سبيل الله» ، يعني: في طاعة الله، وقالوا: لأن الصوم في الجهاد لا ينبغي؛ لأنه يضعف عن قتال العدو؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس في غزوة الفتح لما قربوا من مكة أن يفطروا فقال: «إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا» [(69)] ولما صام بعض الناس فيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» [(70)].
لكن من قال: المراد به الصوم في الجهاد، بيّن أن الصيام يكون في وقت لا قتال فيه، كأيام المرابطة أو في السفر قبل القرب من العدو، فلا بأس حينئذٍ بالصوم، أما في حالة التلبس بقتال العدو فلا ينبغي الصيام، فإذا حصل الصوم يكون قد اجتمعت فيه عبادتان: عبادة الصوم، وعبادة الجهاد؛ ولهذا صار فيه هذا الفضل العظيم.
فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
}2841{ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ أَيْ فُلُ هَلُمَّ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَاكَ الَّذِي لاَ تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ».
}2842{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَْرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالأُْخْرَى» فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا أَوَخَيْرٌ هُوَ ثَلاَثًا إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ، وَإِنَّهُ كُلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرِ كُلَّمَا أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ، فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ كَالآْكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
}2841{ قوله: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ أَيْ فُلُ هَلُمَّ» ، يعني: بالزوجين: شيئين شيئين من أي: نوع؛ يعني: درهمين أو ثوبين أو درعين، وما أشبه ذلك.
ولكل باب خزنة يدعونه: «أَيْ فُلُ هَلُمَّ» ، فل: ترخيم فلان؛ فقولك :يا فل، يعني: يا فلان، و «هَلُمَّ» ، يعني: أقبل وادخل مع الداخلين.
قوله: «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَاكَ الَّذِي لاَ تَوَى عَلَيْهِ» يعني: هذا الذي لا خسارة ولا هلاك عليه، «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»» ، هذا فيه اختصار؛ ففي لفظ آخر: هل لأحد أن يدعى من أبواب الجنة كلها؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» [(71)]. فأبو بكر يتسابق إلى الخيرات، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدعى من أبواب الجنة، قال: يا رسول الله، ليس على أحد ضرورة أن يدعى من أحد الأبواب، لكن هل من أبواب الجنة كلها؟ قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم» . وتمام هذا اللفظ الآخر: «إن للجنة أبوابًا، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من باب الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان» ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما على أحد ضرورة أن يدعى من أحد الأبواب، هل يدعى أحد منها كلها؟ قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم» .
فلأنه سَبّاق إلى الخير يدعى من جميع الأبواب: يدعى من باب الصلاة، ومن باب الصيام، ومن باب الجهاد، ومن باب الصدقة؛ فهو رضي الله عنه أفضل الناس بعد الأنبياء.
}2842{ هذا الحديث ساقه البخاري رحمه الله لفضل النفقة في سبيل الله، وعلى اليتامى والمساكين، وأن فضلها عظيم.