الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ الصَّعْبَةِ وَالْفُحُولَةِ مِنْ الْخَيْلِ
وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ لأَِنَّهَا أَجْرَى وَأَجْسَرُ.
}2862{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لأَِبِي طَلْحَةَ، يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ فَرَكِبَهُ وَقَالَ: «مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا».
هذه الترجمة معقودة لبيان استحباب ركوب الدابة الصعبة والفحولة من الخيل، وقوله: «وَالْفُحُولَةِ مِنْ الْخَيْلِ» ، يعني: الذكر من الخيل.
قوله: «وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ لأَِنَّهَا أَجْرَى وَأَجْسَرُ» ، يعني: كانوا يستحبون ركوب الخيل الذكر؛ لكونه أجرأ وأجسر من الأنثى.
والمؤلف رحمه الله قد أطال التراجم في الفرس والخيول؛ فسنجد أن كل هذه التراجم القادمة في الفرس وفي الخيول؛ لأنها هي المركوب الأساسي في الجهاد في الأزمنة السابقة.
}2862{ فيه الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار فرسًا فركبه؛ وهذا الفرس ذكرًا، واستُدل به على أنه أصعب من الأنثى.
قوله: «يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ فَرَكِبَهُ وَقَالَ: «مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا»» ، وفيه: جواز تسمية الفرس ونحوه، وقوله: «لَبَحْرًا» يعني: واسع الجري.
وفيه: شجاعته صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يلوذون به صلى الله عليه وسلم كما في غزوة حنين، وهذا شاهد لكونه صلى الله عليه وسلم أشجع الناس كما في رواية مسلم لهذا الخبر في أوله [(89)]. سِهَامِ الْفَرَسِ
}2863{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا لِقَوْلِهِ: [النّحل: 8]{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وَلاَ يُسْهَمُ لأَِكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ.
قوله: «بَاب سِهَامِ الْفَرَسِ» ، هذه الترجمة معقودة لبيان سهم الفرس في الغنيمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا، فالمجاهدون قسمان: فارسٌ وراجلٌ؛ فالفارس الذي معه فرسٌ، يُسهَم للفرس سهمان، والراجل الذي يمشي على رجليه ما معه فرسٌ يُسهَم له سهمٌ.
فالغنائم التي يغنمها المسلمون المجاهدون من المشركين، يؤخذ منها الخمس ويقسم خمسة أخماس: خمسٌ لله وللرسول، وخمسٌ لذي القربى من الرسول صلى الله عليه وسلم، وخمسٌ لليتامى، وخمسٌ للمساكين، وخمسٌ لابن السبيل، والأربعة أخماس الباقية تقسم على الغانمين؛ فتجعل أسهمًا: من معه فرس يعطى ثلاثة أسهم: سهمان للفرس وسهمٌ له، والراجل الذي يجاهد على رجليه وليس معه فرسٌ له سهمٌ واحدٌ.
}2863{ قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا» ، فيه: دليل على أن للفرس في الغنيمة سهمين، وأن لصاحبه سهمًا.
قوله: «وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا لِقَوْلِهِ: ُ غ ع گ [ ض ِ » ، والبراذين: جمع برذون، وهو الهجين، وهو الفرس غير العربي، فيقول مالك: يسهم لها أيضًا، فيسهم للخيل العربية وغير العربية[(90)].
قوله: «وَلاَ يُسْهَمُ لأَِكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ» ، هذه المسألة فيها خلاف؛ فالجمهور يرون أنه لا يسهم لأكثر من فرس، فإذا جاهد الإنسان بفرسين ـ مثلاً ـ فيسهم لفرس واحد.
القول الثاني : قول الإمام أحمد وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة أنه يسهم لفرسين ولا يزاد عليه، فإذا كان مع إنسان يجاهد فرسان، يُسهم لهما، فيعطى لكل فرس سهمان وله سهم؛ فيكون له خمسة أسهم، وإذا جاهد بثلاثة أفراس أو أربعة أو خمسة فلا يسهم إلا لاثنين.
مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْحَرْبِ
}2864{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَفِرَّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»
}2864{ في الحديث: شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة وإقدامه، وذلك في غزوة حنين؛ لأن هذه الغزوة كان فيها أن هوازن اختبئوا في ظلام الصبح في أول النهار، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم والجيش فاجؤوهم بالرمي المتتابع، فانهزم الصحابة وفروا في أول الأمر، ثم بعد ذلك رجعوا وانتصروا.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما انهزموا أقبل راكبًا على بغلته البيضاء يركضها إلى العدو وهو ينوه عن نفسه:
«أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»
يعني: من لا يعرفه فليعرفه.
وأبو سفيان: هو ابن الحارث بن عبدالمطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ـ وليس أبا سفيان صخر ابن حرب ـ كان يأخذ بلجام بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهذا هو شاهد الترجمة ـ حتى لا تتقدم إلى العدو، والنبي صلى الله عليه وسلم يركضها أمامهم، ويُنَوّه عن نفسه، وهذه شجاعة عظيمة منقطعة النظير، ثم بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمَّه العباس ـ وكان صيتًا ـ أن ينادي: يا أصحاب البقرة، يا أصحاب السمرة! فرجعوا من تحت الشجر وهم يقولون: يا لبيك يا لبيك! وانعطفوا انعطاف البقر على أولادها[(91)]، ثم حملوا على هوازن حتى هزموهم وغنموا منهم مغنمة عظيمة؛ فغنموا من الإبل الشيء الكثير، ومن الغنم ما يقارب ألفي شاة.
الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ للدَّابَّةِ
}2865{ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ.
}2865{ في الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كان إذا ركب دابته وأدخل رجله في الغرز واستوت به قائمة أهلَّ بالعمرة أو بالحج، وهذه السنة؛ فالمحرم يلبي إذا ركب السيارة، وهذا هو الأفضل، ولو أحرم وهو في الأرض أو بعد اللبس فلا بأس، ولكن كونه يؤخر الإحرام حتى يركب السيارة أولى؛ لأنه إذا كان في الأرض فقد يحتاج إلى الطيب أو شيء آخر، فإذا ركب فمعناه أنه انتهت حوائجه فيلبي، وهذه هي السنة.
والشاهد قوله: «كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ» ، و «الرِّكَابِ» ، قيل: يكون من الحديد والخشب، و «الْغَرْزِ» ، قيل: لا يكون إلا من الجلد، وقيل: إنهما مترادفان، وقال بعضهم: الغرز للجمل، والركاب للفرس، وهما يساعدان في ركوب الدابة.
رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْيِ
}2866{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه اسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ.
}2866{ في الحديث: جواز ركوب الفرس العري، وهو الذي ليس على ظهره شيء.
وفي الحديث: بيان عظم شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أيضًا تواضعه صلى الله عليه وسلم؛ فالملوك والأمراء والمترفون لابد أن يجعلوا على مركوبهم فرشًا وركابًا، ويجعلون عليه شيئًا لينًا، وبعضهم يجعل عليه حريرًا، والنبي صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا عريًّا ليس عليه شيء.
قوله: «فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ» ، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل السيف في عنقه الشريف صلى الله عليه وسلم؛ ليكون قريبًا منه، فإذا قابله عدو أو مشرك أخذ السيف وقتله، ولا بأس أن يجعله كذلك إذا احتيج إليه.
الْفَرَسِ الْقَطُوفِ
}2867{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لأَِبِي طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ أَوْ كَانَ فِيهِ قِطَافٌ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: «وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُجَارَى».
قوله: «بَاب الْفَرَسِ الْقَطُوفِ» ، القطوف: البطيء المشي.
}2867{ يستفاد من هذا الحديث أنه لا بأس بركوب الفرس بطيء المشي.
وفيه: أن أهل المدينة لما فزعوا ركب النبي صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة بطيء المشي، لكن بعد ذلك صار سريعًا لما ركبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا» ، يعني: واسع الجري بعد أن كان بطيئًا، فكان بعد ذلك لا يسابق، وهذا ببركة ركوب النبي صلى الله عليه وسلم له.
السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ
}2868{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَجْرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ سُفْيَانُ: بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ وَبَيْنَ ثَنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ.
قوله: «بَاب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ» ، هذه الترجمة معقودة للسبق بين الخيل، والسبْق بإسكان الباء، يعني: المسابقة، أما السبَق ـ بتحريك الباء ـ فهو الرهن الذي يوضع لذلك، يعني: العوض، والعوض لا يجوز إلا في السباق على الخيل والإبل والرماية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» [(92)]، والنصل هو السهم في الرماية، أو خف الإبل، أو حافر الخيل، فهذه هي التي يجوز أخذ العوض عليها في المسابقة، أما المسابقة بلا عوض تجوز على الأقدام وتجوز على غيرها، ولا تجوز بالمال إلا في ثلاثة أشياء: الرماية والخيل والإبل، والمراد من السَبْق في قوله: «بَاب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ» ، وهو بإسكان الباء، يعني: المسابقة.
والسبق بين الخيل مشروع؛ لما فيه من التدرب على الجهاد؛ لأن الخيل هي التي تعد للجهاد.
}2868{ قوله: «أَجْرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أجرى السباق بين الخيل المضمرة وبين الخيل غير المضمرة، فالخيل المضمرة كانت مسافة السباق بينها ستة أميال من الحفياء إلى ثنية الوداع، والحفياء كانت خارج المدينة، وأما الخيل التي لم تضمر كانت مسافة السباق بينها ميلاً واحدًا؛ لأن الخيل المضمرة قوية وسريعة فكانت المسافة أطول، والخيل التي لم تضمر أقل قوة وسرعة فكانت المسافة أقل.
وفي الحديث: مشروعية تضمير الخيل، وتضمير الخيل معناه: أن تحبس الفرس وتطعم طعاما خاصًّا لمدة؛ حتى يذهب رهلها، وتشتد أعضاؤها وسواعدها، وتكون قوية سريعة العدو والجري، فكانوا يضمرونها لأجل ذلك، وقيل: إن الخيل تعلف حتى تسمن وتقوى، ثم يقلل علفها بقدر القوت، ثم تدخل بيتًا تغشى بالجلال، حتى تحمى فتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها، وقويت على الجري.
وفيه: مشروعية السباق بين الخيل؛ لما فيه من التدرب على الجهاد.
وينبغي للإنسان أن يتعلم ويتدرب على الرماية وعلى الأسلحة في كل وقت بما يناسبه؛ لأن هذا فيه تدريب على الجهاد وإعداد العدة؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» [(93)]، فينبغي للإنسان أن يحدث نفسه بالغزو ويكون على استعداد دائم له.
إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ
}2869{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ وَكَانَ أَمَدُهَا مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا.
قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: أَمَدًا غَايَةً [الحَديد: 16]{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ}.
قوله: «بَاب إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ» ، هذه الترجمة معقودة لبيان جواز إضمار الخيل من أجل السباق.
}2869{ نذكر هنا كما ذكرنا قريبًا أنه يستفاد من هذا الحديث مشروعية تضمير الخيل، وتضمير الخيل معناه: أن تحبس الفرس وتطعم مدة طعاما خاصًّا؛ حتى يذهب رهلها وتشتد أعضاؤها وسواعدها، وتكون قوية سريعة العدو والجري؛ فقد كانوا يضمرونها لأجل ذلك، وقيل: إن الخيل تعلف حتى تسمن وتقوى، ثم يقلل علفها بقدر القوت، ثم تدخل بيتًا وتغشَّى بالجِلال، حتى تحمى فتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها، وقويت على الجري.
وفيه: مشروعية السباق بين الخيل؛ لما فيه من التدريب على الجهاد.
غَايَةِ السَّبْقِ لِلْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ
}2870{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَابَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ فَأَرْسَلَهَا مِنْ الْحَفْيَاءِ وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ فَقُلْتُ: لِمُوسَى فَكَمْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ فَأَرْسَلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ أَمَدُهَا مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ قُلْتُ: فَكَمْ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ سَابَقَ فِيهَا.
}2870{ هذا الحديث أعاده هنا لبيان الغاية التي تضرب في السباق، فالخيل التي ضمرت تكون قوية ونشيطة وسريعة ومن ثم تكون غايتها أطول من التي لم تُضّمر كما هو ظاهر الحديث.
وفيه: مشروعية السباق بين الخيل المضمرة وغير المضمرة أيضًا؛ لما فيه من التمرن والتدرب على الجهاد.
وفيه: مشروعية تضمير الخيل؛ حتى تشتد أعضاؤها وسواعدها، فتكون قوية وسريعة العدْو.
نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: ابْنُ عُمَرَ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ.
وَقَالَ الْمِسْوَرُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ».
}2871{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهَا الْعَضْبَاءُ.
}2872{ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ لاَ تُسْبَقُ قَالَ حُمَيْدٌ: أَوْ لاَ تَكَادُ تُسْبَقُ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ فَقَالَ: «حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ».
طَوَّلَهُ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذه الترجمة في ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقال لها: العضباء، ويقال لها: القصواء، ويقال لها: الجدعاء.
واختلفوا: هل هي ناقة واحدة، أو هما ناقتان: إحداهما العضباء، والأخرى القصواء؟
وقيل: هي ناقة واحدة تسمى العضباء، وتسمى القصواء، وتسمى الجدعاء.
قوله: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ»» ، يعني: ما حَرَنت وما بركت، من غير علة؛ وذلك لما قال الناس: خلأت القصواء، قال صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت وليس ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» [(94)].
}2871{ قوله: «كَانَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهَا الْعَضْبَاءُ» ، العضباء: هي المقطوعة الأذن، أو ربع الأذن، أو المشقوقة الأذن، وقيل: قصيرة اليد.
}2872{ قوله: «حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ» ، كان ذلك لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم كراهة ما حدث في وجوه الصحابة، فبين لهم أن الدنيا فيها نقص، فلا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه الله، أما ما رفعه الله كالأنبياء والأخيار فلا يضعه أحد، ولكن ما ارتفع من الدنيا شيء إلا وضعه، وكذلك هؤلاء الكفرة الذين تجمعوا على المسلمين، ومعهم تلك الدولة الكافرة التي ارتفعت وبلغت الغاية في العتو والعناد والكبرياء سيضعها الله إن شاء، وسيذهب كبرياؤها، وستداس بالأقدام، نسأل الله أن يكبتهم وأن يردهم على أعقابهم خائبين، آمين.
جاء في بعض نسخ صحيح البخاري تبويب ليس في نسخة المتن لشرحنا، وهو:
باب الغزو على الحمير
قوله: «باب الغزو على الحمير» ، وهذه الترجمة لم يذكر فيها المؤلف حديثًا؛ فاختلف في ذكر هذه الترجمة؛ ففي رواية المستملي ذكرها منفردة، وفي رواية النسفي ضمها للترجمة التي بعدها وقال: «باب الغزو على الحمير، وبغلة النبي صلى الله عليه وسلم» .
والمؤلف رحمه الله وضع الترجمة ولم يضع فيها أيَّ حديث؛ وكأنه لم يجد فيها شيئًا على شرطه.
والغزو على الحمير لا بأس به إذا احتيج إليه كالبغال؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم غزا على بغلته البيضاء في حنين، وهي داخلة في عموم قول الله تعالى: [الزّلزَلة: 7-8]{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}: كما كان جوابه صلى الله عليه وسلم سئل عنها - كما تقدم - حيث قال: ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة [(95)].
فإذا عمل خيرًا ـ سواء عمله على البغل، أو على الحمار، أو على غيرهما ـ فلا بأس.
بَغْلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَاءِ
قَالَهُ أَنَسٌ: وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ.
}2873{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً.
}2874{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عُمَارَةَ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ».
هذه الترجمة جعلت لبيان حال بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، والبغلة: هي بنت انثى الخيل التي نزا عليها الحمار، كما أن ملك أيلة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء.
}2873{ قوله: «مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» ، يعني: بعد وفاته، «إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً» .
}2874{ يستفاد من حديث البراء هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا على بغلته البيضاء؛ فالغزو على البغال أو على الحمير أو على الإبل لا بأس به، فهو مشروع عند الحاجة إليه، فعلى العبد أن يتخذ من العدة في كل زمان ما يناسبه؛ قال الله تعالى: [الأنفَال: 60]{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، وهذا من جوامع الكلم، فالمراد بالقوة: كل قوة في كل زمان؛ فمثلاً قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» [(96)]، والرمي كان في بعض الأزمنة السابقة بالبنادق والرصاص، والآن بالصواريخ والقنابل، فكل هذا داخل في الرمي.
قوله: «يَا أَبَا عُمَارَةَ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟» يعني: وليتم مدبرين؟!
قوله: «قَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»
لم يقل البراء: نعم ولينا، ولكن قال: ولى وفر كثير من الناس، فاستقبلتهم هوازن -وكانوا قد كمنوا لهم- فأمطروا عليهم وابلاً من القذائف كأنها جراد، ففاجئوهم وكانوا مختبئين؛ فولوا مدبرين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما ولَّى، بل كان يركض ببغلته إليهم، وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه آخذ بلجامها حتى لا تتقدم؛ هو يجر اللجام، والنبي صلى الله عليه وسلم يُرْكِضُها إليهم، وينوه عن نفسه الشريفة فوقها ويقول:
«أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»
من أجل أن يُعَرِّف نفسه لمن لا يعرفه، والكفرة إذا نَوّه عن نفسه قصدوه؛ وهذا يدل على شجاعة عظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمر العباس أن ينادي أصحاب السمرة، فجاءوا وعطفوا عليه عطفة البقر على أولادها، ثم جاءوا وكروا الكرة عليهم فهزم الله هوازن[(97)].
والشاهد قوله: «وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ» ، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا على هذه البغلة البيضاء.
جِهَادِ النِّسَاءِ
}2875{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: إسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: «جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ».
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهَذَا.
}2876{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهَذَا وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ نِسَاؤُهُ عَنْ الْجِهَادِ؟ فَقَالَ: «نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ».
قوله: «بَاب جِهَادِ النِّسَاءِ» ، هذه الترجمة فيها بيان جهاد النساء، وأن جهاد النساء هو الحج، والحج نوع من الجهاد؛ لما فيه من المشقة، وإنفاق المال، ومفارقة الأهل والأوطان.
}2875{ قوله في الحديث الأول: «جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ» ، وقد تقدم حديث عائشة لما قالت: نرى الجهاد أفضل الأعمال، فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» [(98)]. فهذا جهاد النساء، وهو جهادٌ لا قتال فيه.
}2876{ قوله في لما سأله نساؤه عن الحج، قال: «نعم الجهاد الحج» فيه: دليل على أن الحج نوع من الجهاد، وهو جهاد النساء، فالمرأة لا تشارك الرجال في القتال ولا تختلط بهم، وسيأتي في إحدى التراجم أن جهاد النساء يقتصر على مداواة المرضى، وسقي الجرحى، ومناولة السلاح، وصنع الطعام، والدفاع عن أنفسهن إذا تعرض لهن أحد من الأعداء. غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ
}2877{، }2878{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَْنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَتْ: لِمَ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأَْخْضَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثَلُهُمْ مَثَلُ الْمُلُوكِ عَلَى الأَْسِرَّةِ»، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ»، ثُمَّ عَادَ فَضَحِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: مِثْلَ أَوْ مِمَّ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «أَنْتِ مِنْ الأَْوَّلِينَ وَلَسْتِ مِنْ الآْخِرِينَ»، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: فَتَزَوَّجَتْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ مَعَ بِنْتِ قَرَظَةَ، فَلَمَّا قَفَلَتْ رَكِبَتْ دَابَّتَهَا، فَوَقَصَتْ بِهَا؛ فَسَقَطَتْ عَنْهَا؛ فَمَاتَتْ.
قوله: «بَاب غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ» ، فيه: بيان جواز غزو المرأة في البحر، وأنه لا بأس بأن تركب المرأة مع الغزاة، ولكنها لا تباشر القتال مع الرجال، وإنما يقتصر عملها على مداواة الجرحى وسقيهم وصنع الطعام لهم، وكذلك تقتصر على الدفاع عن نفسها إذا جاء أحد ليعتدي عليها، كما سبق أن أم سليم اتخذت خنجرًا، ولما سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالت: «إذا جاء أحد من المشركين بقرت به بطنه» [(99)] فإذا جاء أحد يعتدي عليها تدافع عن نفسها، أما أن تختلط بالرجال فلا.
}2877{، }2878{ قوله: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ ضَحِكَ» ، وقد كان بينه صلى الله عليه وسلم وبينها محرمية بسبب الرضاع؛ فهي إحدى خالاته من الرضاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كغيره لا يخلو بالمرأة الأجنبية، أما ما ذكره بعضهم: أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ فليس بجيد، وقد جاء في الحديث الآخر أنه نام ثم استيقظ، فضحك فسألته عن ضحكه[(100)].
قوله: «فَقَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأَْخْضَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثَلُهُمْ مَثَلُ الْمُلُوكِ عَلَى الأَْسِرَّةِ»، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ»» ، فيه: علم من أعلام النبوة؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستكون من الأولين، وأنها ستكون ممن يغزون في البحر؛ فوقع كما أخبر، وهذا من دلائل النبوة.
وفيه: أن من خرج مع الغزاة والمجاهدين من النساء والخدم، فحكمه حكمهم في أنه في سبيل الله؛ فمعلوم أنها ما باشرت القتال مع الرجال، وإنما ركبت وخرجت معهم فقط، فصارت غازية بمجرد خروجها.
وفيه: غزو المرأة في البحر؛ وهو شاهد الترجمة.
قوله: «قَالَ أَنَسٌ: فَتَزَوَّجَتْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ» ، في الحديث الآخر: أنها كانت تحت عبادة[(101)]، وقال بعضهم: لعل ظاهره أنها كانت تحته أولاً ثم طلقها، ثم راجعها بعد ذلك، أو تزوجها بعد ذلك.
قوله: «فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ مَعَ بِنْتِ قَرَظَةَ» ، بنت قرظة هذه هي زوج معاوية رضي الله عنه، واسمها: فاختة، يعني: أن معاوية خرج غازياً ومعه زوجه بنت قرظة، وكذلك أيضاً بنت ملحان زوج عبادة بن الصامت خرجت معها.
حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي الْغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ
}2879{ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ يَخْرُجُ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ.
}2879{ قوله: «أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» ، فيه: دليل على أنه لابد للرجل من القرعة بين نسائه في السفر للغزو أو لغيره، فأيتهن خرج سهمها خرج بها، إلا إذا سمحت بقية النساء لإحداهن فلا بأس، فإن لم يسمحن فلابد من القرعة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين النساء فأيتهن خرج سهمها خرج بها، سواء كان للغزو أو لغير الغزو، والمؤلف أدخل هذا في كتاب الجهاد؛ ليبين أنها إذا خرجت للغزو فلابد أيضا من القرعة كغيره من الأسفار.
قوله: «بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ» ، وقع في قول بعضهم: «قبلما أنزل الحجاب» [(102)].
والمعروف أنه كان بعدما أنزل الحجاب، وهذا هو الظاهر؛ لأنه قبل نزول الحجاب ليس فيه إشكال، لكن الإشكال بعدما أنزل الحجاب.
غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ
}2880{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلاَنِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآََنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ.
قوله: «بَاب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ» ، المراد به -على المختار- إعانتهن الغزاة، كسقي الجرحى ومداواتهم، ومناولة السهام، وسقي المقاتلة، ودفاعهن عن أنفسهن، كما فعلت أم سليم.
قال الحافظ رحمه الله: «يحتمل أن يكون مراد البخاري بالترجمة أن يبين أنهن لا يقاتلن وإن خرجن في الغزو، فالتقدير بقوله: وقتالهن مع الرجال؛ أي: هل هو سائغ؟ أو إذا خرجن مع الرجال في الغزو يقتصرن على ما ذكر من مداواة الجرحى ونحوه» .
هذا هو الصواب في معنى قتالهن، يعني: إعانتهن الرجال في الغزو، ثم قول المؤلف رحمه الله: «وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ» ، يعني: هل لهن أن يقاتلن، أو ليس لهن أن يقاتلن؟ على عادته بترك الترجمة مرسلة بلا حكم، فإن أريد بالقتال المباشرة والاختلاط مع الرجال فهذا لا يجوز؛ فالأدلة لا تدل عليه، وإن أريد بالقتال الإعانة للغزاة بسقي الجرحى، ومداواة المرضى، ومناولة السهام، وسقي المقاتلة، وصنع الطعام؛ فهذا لا بأس به.
}2880{ قوله: «وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ» ، قد كان هذا قبل الحجاب في أحد، وأحد كانت في السنة الثانية من الهجرة، والحجاب كان في السنة السابعة من الهجرة، وأنس كان صغيرًا، وقوله: «خَدَمَ سُوقِهِمَا» ، يعني: الخلاخيل.
تنبيه:
استدل بعض العصريين بهذا الحديث على جواز اختلاط النساء بالرجال في المعامل والمصانع والمتاجر والمكاتب؛ لاختلاطهن بالرجال في الغزو، وهذا من تعسفهم؛ فإن هذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكروه؛ لأمور:
الأمر الأول: أن هذا كان قبل الحجاب؛ حيث كان في غزوة أحد، وقبل الحجاب يتوسع فيه ما لا يتوسع بعد الحجاب.
الأمر الثاني: أن عائشة كانت صغيرة؛ تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع أو عشر سنوات أو إحدى عشرة سنة، وأم سليم كانت امرأة عاقلة كبيرة، وأنس رأى خدم سوقهما، حينما كان صغيرًا.
الأمر الثالث: أنهما لم يختلطا بالمجاهدين في القتال ولم يأخذا السلاح، وإنما اقتصر عملهما على الخدمة، وهذا ما أيده الحديث بقوله: «تَنْقُلاَنِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ» ، وتنقلان يعني: تسرعان، أو تهرولان، أو تثبان، وهو الحمل بسرعة، ومعروف أن الجريح يحتاج إلى إسعافه بالماء، وكذلك مداواة جراحه، وصنع الطعام، وكذلك فقد اتخذت أم سليم خنجراً يوم أحد وقالت: «إذا جاء أحد من المشركين إلي بقرت به بطنه» ، هذا من باب الدفاع عن نفسها إذا جاءها أحد الأعداء، وليس فيه اختلاط الرجال بالنساء، وليس فيه أن النساء أخذن السلاح واختلطن بالرجال.
الأمر الرابع: أن نساء الصحابة ـ رضوان الله عليهن ـ عندهن من الصلاح والتقوى وقوة الإيمان ما ليس عند نساء هذا العصر.
حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ إِلَى النَّاسِ فِي الْغَزْوِ
}2881{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ، فَبَقِيَ مِرْطٌ جَيِّدٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عِنْدَكَ يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الأَْنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: تَزْفِرُ تَخِيطُ.
}2881{ في الحديث: جواز حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو، كما ترجم المؤلف رحمه الله.
قوله: «إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ» ، يعني: أكسية، والمرط: نوع من القماش قد يكون فيه خطوط ونقوش.
قوله: «فَبَقِيَ مِرْطٌ جَيِّدٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عِنْدَكَ يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ» ؛ لأن عمر تزوج أم كلثوم بنت علي، وأمها فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون بنت بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قالوا له: أعطها ابنة النبي صلى الله عليه وسلم التي عندك، يعني: ابنة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الأَْنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ» ، هذا من إنصاف عمر وعدله رضي الله عنه؛ فإنه أعطى المرط لأم سليط؛ لأنها كانت تساعد الغزاة في الحرب، فكانت تحمل القرب وتصبها للمقاتلين؛ فهي أحق بها من زوجه.
قوله: «تَزْفِرُ تَخِيطُ» ، كذا فسر أبو عبدالله البخاري كلمة «تَزْفِرُ» ، وهذا معنى ضعيف؛ فالصواب أن معناها: تحمل القرب، كمثل ما سبق عن عائشة رضي الله عنها وأم سليم رضي الله عنها: «تَنْقُلاَنِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا» ؛ أي: تحملان القرب الملآنة وتصبانها.
مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِي الْغَزْوِ
}2882{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي، وَنُدَاوِي الْجَرْحَى، وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ.
قوله: «بَاب مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِي الْغَزْوِ» ، هذه الترجمة صرح فيها بعمل المرأة في الغزو، فإذا خرجت للجهاد فإنها تداوي الجرحى، وتسقي الماء، وتصنع الطعام.
}2882{ قوله: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي، وَنُدَاوِي الْجَرْحَى، وَنَرُدُّ الْقَتْلَى» ، فيه: جواز مداواة النساء للرجال في الغزو.
وفيه: جواز رد النساء الجرحى والقتلى من الرجال في الغزو، وقد كان هذا قبل الحجاب؛ لأنه حدث في غزوة أحد.
رَدِّ النِّسَاءِ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى
}2883{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَسْقِي الْقَوْمَ، وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ الْجَرْحَى، وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ.
}2883{ قوله: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَسْقِي الْقَوْمَ، وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ الْجَرْحَى، وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ» ، كان هذا قبل الحجاب؛ حيث كان في غزوة أحد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «في الحديث جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي؛ للضرورة، قال ابن بطال: ويختص ذلك بذوات المحارم ثم بالمتجالاّت منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة ولا مس» .
فابن بطال يرى جواز مداواة المرأة للجرحى، ولكن يختص ذلك بذوات المحارم، ثم بالمتجالاّت ـ باللام المشددة ـ وهي: كبيرة السن، وقال: «لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه» ، ثم يقول: «فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة ولا مس» ، بأن يكون من وراء حائل كالقفازين مثلاً، واستدل بعد ذلك فقال: «ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس؛ بل يغسلها من وراء حائل عند بعضهم كالزهري، وفي قول الأكثر: تُيَمَّم، وقال الأوزاعي: تدفن كما هي» .
والصواب: أنها تُيَمَّم، فإذا ماتت امرأة بين رجال تُيَمَّم، وكذلك إذا مات رجل بين نساء ييمم، ولا تباشر المرأة غسل الرجل، ولا يباشر الرجل غسل المرأة، إلا الزوجان كل واحد منهما يغسل الآخر.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت، أن الغسل عبادة، والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات» .
وهذا القول من ابن بطال اجتهاد منه، وقد لا يتيسر ذوات المحارم ولا كبيرات السن، والصواب جواز معالجة المرأة للرجل للضرورة، وكذلك مداواة الرجل للمرأة للضرورة؛ فالضرورات تبيح المحظورات، فالمرأة إذا اضطرت ولم تجد طبيبة امرأة جاز للرجل أن يعالجها ويكون معها محرم، ولا يكشف إلا ما تدعو الحاجة أو الضرورة إليه، ولكن كثيرًا من الناس يتساهلون، وما وقع من مداواة النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الحجاب، وكان عند الصحابة من الإيمان والورع ما يكون مانعًا لهم من الفتنة، أما في هذا الزمن فقد ضعف الإيمان، وانعدم عند كثير من الرجال والنساء؛ فلابد من جعل كل منهما على حدة.
نَزْعِ السَّهْمِ مِنْ الْبَدَنِ
}2884{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: رُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ قَالَ: انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ؛ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ».
قوله: «بَاب نَزْعِ السَّهْمِ مِنْ الْبَدَنِ» ، يعني: إذا كان في بدن الإنسان سهم، أو دخل فيه حربة من الكفار؛ هل ينزع أو يترك؟ فنزعه قد يكون نوع من العلاج، وقد يكون في نزعه موت الإنسان؛ بأن يخرج الدم غزيرًا بنزعه فيموت.
}2884{ قوله: «انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ» ، فيه: دليل على أنه لا بأس بنزع السهم، وهذا نوع من العلاج، فينزع ويعالج إيقاف الدم إذا أمكن.
وقال المهلب أخذًا من هذا الحديث: «فيه جواز نزع السهم من البدن، وإن كان فيه الموت» .
وبعضهم يرى أنه لا ينزع؛ لأن هذا من الإلقاء إلى التهلكة؛ لأنه يسبب الموت، وهذا ليس بصحيح، بل هذا نوع من العلاج، والعلاج مستحب إذا كان يرجى به الانتفاع والشفاء.
الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
}2885{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَهِرَ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ: «لَيْتَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ» إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاَحٍ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟»، فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لأَِحْرُسَكَ وَنَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
}2886{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ».
}2887{ وَزَادَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ».
قَالَ أبُو عَبْدِاللَّه: لَمْ يَرْفَعْهُ إِسْرَائِيلُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ. وَقَالَ: {فَتَعْسًا} كَأَنَّهُ يَقُولُ فَأَتْعَسَهُمْ اللَّهُ {طُوبَى} فُعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ وَهِيَ يَاءٌ حُوِّلَتْ إِلَى الْوَاوِ وَهِيَ مِنْ يَطِيبُ
}2885{ يستفاد من هذا الحديث مشروعية الحراسة في الغزو، وأنه لا بأس بحراسة الرئيس والأمير والكبير في الغزو، وأن هذا لا ينافي التوكل على الله، بل هو من جملة الأسباب، والأسباب داخلة في التوكل، فالتوكل على الله يجمع أمرين: فعل الأسباب، ثم الاعتماد على الله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سهر في بعض لياليه في الغزو فقال: «لَيْتَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ» إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاَحٍ» ، ويوحي هذا بأنه كان يهدف وهو في طريقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشعرهم أنه قادم.
قوله: «فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟»، فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لأَِحْرُسَكَ وَنَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» ، فيه: منقبة لسعد بن أبي وقاص وفضله، وهو من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، حيث وقع في نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى حراسة فوافق ما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء يحرس النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل على مشروعية الحراسة في الغزو، وأنه لا ينافي التوكل على الله، بل هو من باب الأخذ بالأسباب.
}2886{ في الحديث: الثناء على المجاهدين.
وفيه: ذم عُبَّاد الدنيا؛ حيث قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ» ، والتعاسة ضد السعادة؛ يعني: شقي عبد الدينار الذي يقدم جمع المال على طاعة الله، أو يفعل معصية الله من أجل الحصول على الدينار والدرهم.
قوله: «وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ» ؛ أي: تعس عبد القطيفة والخميصة، والقطيفة هي نوع من الفرش التي لها خمل، وهي معروفة الآن بما يسمى زولية أو زوالي؛ هذه هي القطيفة، وأما الخميصة فهي كساء له أعلام، والمعنى: أن هؤلاء عُبَّاد الدنيا الذين يجمعون المال والدراهم والدنانير والأمتعة من الخميصة والخميلة وغيرها، وهم لا يقتصدون في ذلك، بل يتعسفون في جمعها حتى يقصروا في الواجبات، أو يفعلوا المحرمات؛ عُبَّاد الدنيا هؤلاء ـ وهم واقعون في نوع من العبادة ـ دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة والانتكاس.
قوله: «إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» ، يعني: إن أعطي من الدنيا رضي وإن لم يعط سخط، فيكون غضبه ورضاه للدنيا.
}2887{ قوله: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ» ، هذا أيضًا دعاء عليه بالشقاوة.
وقيل في معنى تعس: أي: كبه الله على وجهه، وقيل: أن يَعْثُر فلا يفيق من عثرته، وقيل: التعس الشر والهلاك، وقيل: التعس أن يخر على وجهه.
قوله: «وَانْتَكَسَ» ، يعني: أن يخر على رأسه، وقيل: أن يعاوده المرض.
قوله: «وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ» ، يعني: إذا أصابته شوكة فإنه لا يستطيع إخراجها بنفسه، ولا يجد من يخرجها له، وهو دعاء عليه بأن يعسر الله عليه أموره ولا يسهلها؛ لأنه قدَّم الدنيا على طاعة الله.
قوله: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ» ، ثم فسر المؤلف كلمة «طُوبَى» بقوله: «{طُوبَى} فُعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ» ، وقيل: طوبى يعني: الجنة؛ أي: الجنة لعبد مؤمن آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله، تاركا للدنيا، مقدما طاعة الله على طاعة النفس الأمارة والشيطان؛ بخلاف عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد الخميصة وعبد الخميلة، فهؤلاء عباد الدنيا، قد آثروها وقدموها على طاعة الله، وتعسفوا في جمع الأموال؛ ففعلوا المحرمات من أجلها، فتعاملوا بالربا، وأخذوا الرشوة، أو قصروا في الواجبات بأن تأخروا عن صلاة الجماعة من أجل المال، أو أي: نوع من أنواع متاع الحياة الدنيا، فهؤلاء دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر المقابل فقال: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ» ، يعني: منتفش الشعر، فهو لا يعتني به؛ لأنه مشغول بالجهاد، فما هو من أهل الترفه والتنعم.
قوله: «إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ» ، هذا هو الشاهد؛ يعني: إن وضع في الحراسة فإنه يؤدي العمل كما ينبغي، وإن كان في الساقة وهي مؤخرة الجيش كان في الساقة مجاهدًا، ينظر إلى مصلحة المسلمين، ومصلحة المجاهدين؛ فإن كانت المصلحة في الحراسة صار يحرس، وأدى الحراسة كما ينبغي؛ حيث يحرس ويدور كل ليلة على الجيش، فلا يؤتى الجيش من قِبَله، وإن كان في الساقة كان في آخر الجيش؛ حيث يكون في الساقة يتعهدهم ويلاحظهم، ويتفقد المتأخر منهم، ويؤدي عمله كما ينبغي؛ فهو يعمل لمصلحة الإسلام والمسلمين.
قوله: «إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» ، المعنى: أنه مغمور ليس له مكانة في المجتمع أو شهرة، فلو استأذن على بعض الكبراء أو الأمراء ما يؤذن له؛ لأنه غير معروف، وما له مكانة، وإن شفع عند أحد لم تقبل شفاعته، وإن طلب الزواج فلا يزوج، وهذا مثل ما جاء في الحديث الآخر: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» [(103)]، فهو ليس له مكانة في المجتمع، ولكنه له مكانة ومنزلة عند الله تعالى؛ لإخلاصه وعمله الصالح وجهاده في سبيل الله ونصحه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.
ففي الحديث: فضل الحراسة في الغزو.
فَضْلِ الْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ
}2888{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَكَانَ يَخْدُمُنِي وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ، قَالَ جَرِيرٌ: إِنِّي رَأَيْتُ الأَْنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا لاَ أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلاَّ أَكْرَمْتُهُ.
}2889{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا».
}2890{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُنَا ظِلًّا الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ، وَامْتَهَنُوا، وَعَالَجُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَْجْرِ».
}2888{ قوله: «صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَكَانَ يَخْدُمُنِي وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ» ، يعني: أنه ترك حب الرياسة والشهرة، وَفَضّل الخمول والتواضع، فالحامل المتواضع له مكانته عند الله عز وجل؛ لأن جرير بن عبد الله كان يخدم أنسًا وهو أكبر منه؛ إكراما للأنصار؛ حيث يقول جرير: «إِنِّي رَأَيْتُ الأَْنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا لاَ أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلاَّ أَكْرَمْتُهُ» ؛ ففيه: فضل جرير وخدمته لأنس وهو أكبر منه، وخدمته للأنصار.
}2889{ قوله: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ» ، فيه فضل الخدمة في الغزو، وأن أنسًا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ» ، فيه: أن الله تعالى يجعل في بعض الجمادات إحساساً، فجعل في أُحُد الإحساس بالمحبة، كما قال الله تعالى في الحجارة: [البَقَرَة: 74]{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وقال تعالى: [الحَشر: 21]{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، فالجبال يكون فيها إحساس، والصواب أن هذا حقيقة؛ خلافًا لمن قال: إن هذا مجاز؛ فلقد جعل الله الإحساس في الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة عليه بكى، وصاح كما يصيح الصبي، وكاد أن ينشق، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يهدئه[(104)]؛ فهذا دليل على أن الجمادات قد يجعل الله فيها إحساسًا، فالله تعالى جعل في جبل أحد المحبة حقيقة.
}2890{ قوله: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُنَا ظِلًّا الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ» يعني: في السفر من شدة الحر.
قوله: «وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ، وَامْتَهَنُوا، وَعَالَجُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَْجْرِ»» ؛ فيه: دليل على جواز الصيام في السفر والإفطار، وأن الإنسان مخير في السفر؛ فله أن يصوم وله أن يفطر، لكن إن كان يشق عليه فالفطر في حقه أفضل، ويكره في حقه الصيام، وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا ظُلِّل عليه فقال: «ما هذا؟» قالوا: رجل صائم، قال: «ليس من البر الصيام في السفر» [(105)].
أما إذا كان لا يشق عليه فهو مخير.
وفيه: الرد على من يقول: لا يصح الصيام في السفر؛ فإن هذا الحديث فيه: أن الناس منهم من صام ومنهم من أفطر، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الذين أفطروا هم الذين خدموا إخوانهم، وهذا هو الشاهد من الحديث، فالذين أفطروا بعثوا الركاب وهي الإبل، وامتهنوا وعالجوا وضربوا الخيام وصنعوا الطعام، وأما الذين صاموا فلم يستطيعوا أن يعملوا مثل ذلك؛ فجلسوا يستظلون، وقد جاء في الحديث الآخر: «نزلنا منزلاً... فسقط الصوام» [(106)].