فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِي السَّفَرِ
}2891{ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ سُلاَمَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».
قوله: «بَاب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِي السَّفَرِ» ؛ هذه الترجمة لفضل من حمل متاع صاحبه في السفر، وأخذه من قوله: «يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ» ، وهذا عام يشمل السفر والحضر، فالذي يعين الرجل في دابته ـ سواء في الحضر أو في السفر ـ له به صدقة، لكن المؤلف أخذ بعموم الحديث فأدخل فيه السفر.
}2891{ يستفاد من هذا الحديث فضل إعانة الإنسان على دابته، بكونه يساعده في الركوب، أو في رفع متاعه عليها، أو يناوله السوط، فكل أنواع الإعانة من الصدقة، وسواء كان ذلك في السفر أو الحضر، فهو بعمومه يشمل السفر.
وفي الحديث: دليل على أن الإنسان مركب من السلاميات وهي المفاصل، وجاء في الحديث الآخر: «إن الإنسان ركب من ستين وثلاثمائة مفصل» [(107)]، وهي تسمى السلاميات، وإن عليه أن يتصدق عن كل مفصل بصدقة، والصدقات كثيرة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، فإن كان يسبِّح الله بعد كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ويحمده ثلاثًا وثلاثين، ويكبره ثلاثًا وثلاثين؛ فقد أدى هذه الصدقات، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وإعانة المحتاج صدقة، وأن يركب إنسانًا في سيارته، أو يصلح له سيارته إن كانت متعطلة صدقة، وكل خطوة إلى الصلاة فيها صدقة، فخطوات ذهابه إلى المسجد وإيابه منه فيها صدقات؛ فمن أتى بالصدقات بقدر السلاميات فقد أدى ما عليه.
وفي الحديث: «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» [(108)]، فإذا صلى ركعتين من الضحى فقد أدى ما عليه من الصدقات عن السلاميات الستين والثلاثمائة، وإن لم يصل الضحى فعليه أن يكسب من الصدقات بقدر السلاميات.
فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [آل عِمرَان: 200]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}.
}2892{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا».
قوله: «بَاب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» هذه الترجمة معقودة لبيان فضل الرباط في سبيل الله، والرباط: هو ملازمة الثغور التي على حدود المسلمين؛ للتصدي لهجمات العدو، فهذا فضله عظيم، واستدل المؤلف بالآية: [الأنفَال: 60]{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}.
$ر مسألة: هل من احتسب ساعة من وقته لإنكار المنكر يدخل ضمن المرابطين في سبيل الله؛ فينال أجرها؟
_خ الجواب: لا يدخل؛ لأن المرابطة في سبيل الله هي ما كانت على الثغور في حدود الدولة الإسلامية، وهو نوع من الجهاد، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من الجهاد؛ فالجهاد أقسام:
الأول: جهاد الكفار.
الثاني: جهاد النفس، فمن أعظم الأمور أن يجاهد الإنسان نفسه؛ حتى يتعلم الشريعة، ثم يجاهدها على العمل.
الثالث: جهاد الشيطان، بأن يجاهده في دفع الشبهات والشهوات.
الرابع: جهاد الفساق والعصاة بدعوتهم إلى الحق والإنكار عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
الخامس: جهاد المنافقين.
فجهاد الفساق والعصاة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس من المرابطة في سبيل الله.
}2892{ يقوله: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» ؛ أي: رباط يوم واحد في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، فالدنيا لا تساوي شيئًا.
وفيه: بيان فضل الرباط في سبيل الله.
قوله: «وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا عَلَيْهَا» ، من المعلوم أن موضع السوط لا ينتفع به، ولا يمكن الاستقرار عليه والجلوس فيه، وفي هذا دليل على عظم نعيم الجنة؛ لأنها باقية، وموضع السوط منها باق، بخلاف الدنيا فإنها زائلة، وورد في الحديث الصحيح: «أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب» [(109)]، فهذا هو حال أدنى أهل الآخرة منزلة، وهو آخر من يدخل الجنة، فيعطى مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا خمسين مرة، وله مع ذلك ما لذت عينه واشتهت نفسه، وهو آمن من الموت، وآمن من الأمراض، وآمن من الأسقام، وآمن من الأعداء، وآمن من الهموم والأحزان والأفكار، والشيخوخة والهرم، والبول والغائط، كل هذا هو آمن منه، وفي الحديث: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ؛ فاقرءوا إن شئتم: [السَّجدَة: 17]{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[(110)].
مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ
}2893{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَِبِي طَلْحَةَ: «الْتَمِسْ غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي؛ حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ»، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي، وَأَنَا غُلاَمٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»، ثُمَّ قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ، ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ»، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ نَظَرَ إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ».
قوله: «بَاب مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ» ؛ هذه الترجمة يشير المؤلف بها إلى أن الصبي لا يخاطب بالجهاد، ولكن يجوز الخروج به بطريق التبعية؛ أي: تبعًا للكبار، وإلا فهو ليس مخاطبًا بالجهاد.
}2893{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَِبِي طَلْحَةَ: «الْتَمِسْ غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي؛ حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ»، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي، وَأَنَا غُلاَمٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ» ، يعني: قاربت البلوغ.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بأنس معه للخدمة، وقد استشكل هذا؛ حيث إن أنسا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم من حين قدم المدينة، فكيف يقول: التمس لي؟ وأجيب بأن المعنى: عين لي غلامًا يخدمني في تلك السفرة، فعين له أبو طلحة أنساً، وأبو طلحة زوج أمه أم سليم، وكان توفي أبوه ثم تزوجها أبو طلحة؛ ففيه جواز تصرف الرجل في ابن زوجته، وربيبه لما فيه مصلحته؛ لأن أبا طلحة زوج أم أنس دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه، وهذا فيه مصلحة عظيمة وفائدة لأنس رضي الله عنه.
قوله: «فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ» يعني: حصن خيبر.
قوله: «ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ» يعني: فلما قتل أبوها وعمها وزوجها، وكانت عروسًا، اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه.
وفيه: أن الإمام له أن يصطفي لنفسه من السبي ما يشاء؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية بنت حيي بن أخطب، وهي من سلالة هارون عليه السلام من بني إسرائيل.
قوله: «فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ» يعني: طهرت من الحيض، واستبرأها بحيضة.
وفيه: دليل على أن المسبية لا يطؤها الإنسان حتى تستبرأ بحيضة إن كانت غير حامل، وأما إن كانت حاملا فلابد أن تضع حملها؛ حتى يبرأ رحمها، فلما بلغ سد الصهباء طهرت من حيضها.
قوله: «فَبَنَى بِهَا» يعني: دخل بها في الطريق من خيبر إلى المدينة.
قوله: «ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ» . النطع: مثل السماط، والحيس مكون من أقط وسمن وتمر، وكانت هذه وليمة النبي صلى الله عليه وسلم على صفية؛ حيس من أقط وسمن وتمر.
وفي الحديث من الفوائد:
1- فيه دليل على أن الوليمة لا يشترط أن يكون فيها لحم، ولكن الأفضل أن يكون فيها لحم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: «بارك الله لك، أولم ولو بشاة» [(111)].
2- أن المسبية ليس عليها عدة، بل تستبرأ بحيضة، وإن لم تكن تحيض تستبرأ بشهر.
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها[(112)]؛ ولهذا تساءلوا: هل هي مِلك يمين أو من أمهات المؤمنين؟ فقال بعض الصحابة: ننظر فإن حجبها النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مِلك يمين؛ فحجبها[(113)]، فصارت من أمهات المؤمنين.
4- عطف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه؛ حيث إنه وضع ركبته لصفية لتضع رجلها على ركبته، فتصعد البعير؛ لأن البعير مرتفع والمرأة يشق عليها صعوده.
5- أن أُحُداً من الجبال التي جعل الله فيها الشعور والتمييز؛ فهو يحب المؤمنين ويحبونه.
6- أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة؛ أي: ما بين عير إلى ثور، كما حرم إبراهيم مكة؛ يعني: أظهر تحريمها.
7- أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمدينة، ولأهل المدينة فقال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ» ، كما دعا إبراهيم لمكة.
تنبيه:
تأول بعضهم قوله: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» بأنه يعني: أهل الجبل؛ فحملوه على المجاز، مثل ما في قوله تعالى: [يُوسُف: 82]{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، يعني: أهل القرية، واستدلوا بقول الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديار
والصواب: أنه ليس في القرآن، ولا في السنة مجاز.
$ر مسألة: إذا كان في السبي امرأة حامل ثم وضعت، فما حكم الولد في هذه الحالة؛ الرق أم الحرية؟
_خ الجواب: أن الولد تبع لأمه في الحرية والرق؛ فقد قال العلماء: هي الآن سبي رقيقة، والولد تبع لها في الحرية والرق، ومثله لو زوج سيد أمته رجلاً حرًّا، ثم أتت بأولاد، يكون الأولاد أرقاء تبعًا لأمهم، إلا إذا شرط الزوج على السيد أن أولادها يكونون أحرارًا ورضي، فله شرطه؛ ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى المسلم الحر أن يتزوج رقيقة؛ لئلا يكون أولاده أرقاء؛ إلا بشرطين:
الأول: أن يعجز عن مهر الحرة.
الثاني: أن يخاف على نفسه العنت والزنا، وليس عنده صبر، ولا يملك مهر الحرة، أما إذا كان عنده مهر الحرة فلا يجوز له أن يتزوج الأمة، أو إذا كان لا يجد لكن يستطيع الصبر فلا.
وقد قال الله تعالى في بيان الشرطين: [النِّسَاء: 25]{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، وإن كان الله هو المحرم لها، والطَوْل: هو مهر الحرة؛ يعني: فانكحوا مما ملكت أيمانكم من الفتيات الإماء المؤمنات، [النِّسَاء: 25]{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}.
ثم قال في الشرط الثاني: [النِّسَاء: 25]{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}، والعنت يعني: خوف الوقوع في الفاحشة؛ لضعف صبره على النساء.
فهذان الشرطان إذا وجدا جاز للحر أن يتزوج الأمة؛ لأن زواجه بالأمة يعرض أولاده لأن يكونوا أرقاء، والمقصود أن المرأة الحامل هذه يكون ولدها رقيقًا تبعًا لها.
رُكُوبِ الْبَحْرِ
}2894{، }2985{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: حَدَّثتْنِي أُمُّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ يَوْمًا فِي بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ؛ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: «عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَْسِرَّةِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَنْتِ مِنْهُمْ» ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ؛ فَيَقُولُ: «أَنْتِ مِنْ الأَْوَّلِينَ»، فَتَزَوَّجَ بِهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَخَرَجَ بِهَا إِلَى الْغَزْوِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ قُرِّبَتْ دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا، فَوَقَعَتْ؛ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا.
}2894{، }2895{ في الحديث: قصة أم حرام، وقد سبق ذكرها تحت: «بَاب غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ» وكرره المؤلف رحمه الله هنا لركوب البحر؛ وهو متقارب.
قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا فِي بَيْتِهَا» كلمة «قال» من: قال يقيل؛ يعني: نام في وقت القيلولة.
قوله: «فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ؛ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: «عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَْسِرَّةِ»» يعني: في تقديرهم واحترامهم ومنزلتهم عند الناس.
قوله: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ» ، وهذا فيه: عَلَم من أعلام النبوة؛ حيث إنه وقع كما أخبر.
وفيه: أنها ركبت البحر فلما رجعت قُربت إليها دابتها لتركبها، فوقعت فاندقت عنقها؛ أي: انكسرت رقبتها، فماتت.
وفيه: دليل على أن من خرج للجهاد في سبيل الله، ثم مات في الطريق ذهابًا أو إيابًا يعتبر من المجاهدين ومن الغزاة، ومن الشهداء؛ لأن أمر حرام توفيت لما رجعت.
وفيه: غزو المرأة في البحر كما سبق.
مَنْ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ قَالَ لِي قَيْصَرُ: سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ ضُعَفَاءَهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
}2896{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رضي الله عنه، أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ».
}2897{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ».
قوله: «بَاب مَنْ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ» يعني: في القتال والجهاد، فيستعين بهم وببركة دعائهم؛ فإنهم مستجابوا الدعوة، فهم يدعون الله ويستنصرونه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد لما دعا الله واستنصر.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ قَالَ لِي قَيْصَرُ: سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ ضُعَفَاءَهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ» ، يعني: في الغالب يكون أتباع الرسل هم من الضعفاء؛ فقد قال الله تعالى حكاية عن قوم نوح: [هُود: 27]{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}.
وذلك لأن الضعفاء والفقراء لا مانع عندهم؛ بخلاف الأغنياء والشرفاء الذين يمنعهم غناهم وشرفهم، وما هم فيه من الجاه والمنصب والمال، وقد يتبع الرسلَ الأغنياءُ والأشرافُ بما جعل الله في قلوبهم من الإيمان والخير، كأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين؛ فهؤلاء من الأغنياء ومن الأشراف، وقد هداهم الله إلى الإيمان، لكن المراد أن الغالب في أتباع الرسل أنهم من الضعفاء.
}2896{ قوله: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ» المقصود هنا هو حض سعد رضي الله عنه على التواضع، وترك الإعجاب واحتقار المسلم، وسعد كأنه رأى أن له فضلاً على من دونه، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الضعفاء لهم فضل أيضًا على الأغنياء؛ فييسر الله لهم الرزق بسببهم، وييسر الله النصر بسبب بركة دعائهم؛ فيكون هذا الضعيف أو الفقير أو القاصر أو هؤلاء الصبية أو البنات هم السبب في الرزق والنصر، وهذا هو الشاهد للترجمة: «بَاب مَنْ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ» فالضعفاء والصالحون يستعان بهم في الحرب بدعائهم؛ بسبب قربهم من الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» [(114)]، وفي رواية أخرى: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره» [(115)]، فهذا الضعيف قد يقسم على الله فيبر الله قسمه، فينصر الله المسلمين بدعائه.
}2897{ قوله: «يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ» يعني: جماعة من الناس.
قوله: «فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ»» المعنى: أنه يفتح للصحابة لفضلهم، ثم للتابعين لفضلهم، ثم لتابعيهم لفضلهم، وهذا الحديث فيه بيان القرون الثلاثة المفضلة؛ القرن الأول قرن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، والقرن الثاني قرن التابعين، ثم القرن الثالث قرن أتباع التابعين، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» [(116)]؛ ولذلك كان الصلاح والفضل والنصر في الطبقة الرابعة أقل، وهكذا حتى تأتي القرون المتأخرة؛ فقد قال أنس رضي الله عنه كما ثبت في البخاري: «لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم» [(117)]؛ سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
لاَ يَقُولُ فُلاَنٌ شَهِيدٌ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ».
}2898{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ ابْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآْخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَْرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»، قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَْرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
قوله: «بَاب لاَ يَقُولُ فُلاَنٌ شَهِيدٌ» يعني: لا يقول ذلك على سبيل القطع بوجوب الشهادة له في الآخرة، ولكن يقال: هو شهيد في الدنيا، فلا يقال: فلان شهيد، على سبيل القطع والجزم بالشهادة له في الآخرة؛ لأنه لا يعلم نيته إلا الله؛ هل هو صادق أو غير صادق؟ هل يقاتل لإعلاء كلمة الله أو يقاتل رياء أو يقاتل عصبية وحمية؟ ولهذا جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليرى مكانه؛ أي: ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [(118)]، فالنيات لا يعلمها إلا الله؛ ولهذا صدَّر المؤلف رحمه الله هذا الباب بالحديث المعلق عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ وهو موصول ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بمن يجاهد في سبيله» يعني: الله يعلم بنيته، فالله أعلم بمن يجاهد في سبيله على الإخلاص والصدق، وقال: «والله أعلم بمن يكلم في سبيله» يعني: الله أعلم بمن يجرح في سبيله عن إخلاص وصدق، فلا يقال: فلان شهيد في الآخرة؛ لأنه لا يعلم نيته إلا الله، وإن كان شهيدًا في أحكام الدنيا؛ فلا يغسل ولا يصلى عليه، ويدفن في ثيابه ودمائه، فالله أعلم بأحوال عباده.
}2898{ قوله في هذا الحديث: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآْخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»» هذا من علامات النبوة، ومن دلائلها؛ لأن هذا من علم الغيب الذي أطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ» يعني: سألزمه ولا أفارقه حتى أنظر ماذا يختم له، فلزمه فكان يتبعه فإذا «وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ» حتى شهد نهايته؛ وهي: «فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَْرْضِ وَذُبَابَهُ» ، يعني: طرف السيف، «بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ» ، يعني: حتى دخل السيف في صدره وخرج من ظهره، فجاء الرجل الذي تبعه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»» فأخبره الخبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ؛ وهذا يحتمل معنيين:
الأول: أن أحدهما يعمل بعمل أهل النار، ثم يختم له بخير فتحسن حاله، فيكون من أهل الجنة، والآخر يعمل بعمل أهل الجنة، ثم تسوء حاله فيختم له بشر فيكون من أهل النار، ويؤيده حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فوالذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» [(119)].
الثاني: أنه يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس؛ لإظهاره الإسلام، وهو من أهل النار؛ لأنه منافق يبطن الكفر، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس ولكنه يكتم إسلامه، فهو من أهل الجنة؛ لأنه مؤمن في الباطن ولا يستطيع أن يظهر إسلامه.
التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الأنفَال: 60]{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
}2899{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَْكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ»، قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ»، قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ».
}2900{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: «إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ».
قوله: «بَاب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:: ُ صلى الله عليه وسلم { « » ف پ ـ لله ْ ّ ِ ُ ِ » ، هذه الترجمة عقدها المؤلف للتحريض على الرمي، فالرمي جاءت النصوص بالحث عليه وتعلمه؛ لما فيه من الاستعداد للأعداء وللجهاد في سبيل الله، والتدرب على الرمي مطلوب من المؤمن، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فهو في الأزمنة السابقة بالبنادق البسيطة، والآن صار الرمي بالصواريخ وبالقنابل وبالأسلحة المتطورة بجميع أنواعها، فينبغي للمؤمن أن يتعلم الرمي بأنواعه؛ ولهذا قال الله تعالى: ُ صلى الله عليه وسلم { « » ف پ ِ وهذا من القوة.
}2899{ قوله: «مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ» ، يعني: يترامون بالسهام للسبق، «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:» مشجعا لهم: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» فهذا أمر، والأمر أقل أحواله الاستحباب، والأصل في الأمر الوجوب، وهذا هو شاهد الترجمة؛ وهو التحريض على الرمي، ويقصد صلى الله عليه وسلم بأبيهم: إسماعيل عليه السلام؛ ففيه دليل على أن قبيلة أسلم ـ وهي القبيلة المشهورة ـ من بني إسماعيل، ولا شك في هذا؛ لأنها من قحطان، وقحطان من العرب المستعربة.
وافترض بعضهم بأنه يلزم عليه أن تكون قريش من بني إسرائيل.
والجواب: أنه لا يلزم أن تكون قحطان من قريش.
وللمؤرخين في المسألة قولان:
القول الأول: أن قحطان الذين منهم أسلم من قريش؛ فتكون قحطان وقريش من بني إسماعيل.
القول الثاني: أن قحطان من بني إسماعيل، وقريش الجد الأعلى ليس من بني إسماعيل، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ» ؛ فدل على أنهم من بني إسماعيل.
قوله: «وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ»، قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ» يعني: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أمسك الفريق الثاني الذين ليس معهم، وقالوا: ما نرمي. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ««مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ»، قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ» ؛ لأن الذين ليس معهم الرسول صلى الله عليه وسلم منهزمون، فأرضاهم صلى الله عليه وسلم كلهم فقال: «ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» ، يعني: مع الفريقين؛ هؤلاء وهؤلاء.
}2900{ قوله: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: «إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ»» ، يعني: إذا دنوا منكم وقاربوكم فارموهم بالسهام، وهذا هو شاهد التحريض على الرمي، و «أَكْثَبُوكُمْ» من كثب وأكثب إذا قارب.
اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا
}2901{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحِرَابِهِمْ دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ بِهَا، فَقَالَ: «دَعْهُمْ يَا عُمَرُ».
وَزَادَ عَلِيٌّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ فِي الْمَسْجِدِ.
قوله: «بَاب اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا» ، هذه الترجمة معقودة لبيان جواز اللهو بالحراب وغيرها من آلات الحرب، وهذا لا بأس به، وهو مستثنًى من اللهو الممنوع؛ لما فيه من التدرب والتمرين على استعمال السلاح والجهاد.
}2901{ قوله: «بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحِرَابِهِمْ» ، وجاء في اللفظ الآخر: «في المسجد» [(120)]، فيه: دليل على أنه لا بأس باللعب بالحراب والتدرب على الأسلحة بالمسجد، إذا كانت الرحبة واسعة؛ لما فيه من التدرب على الجهاد؛ ولأن المسجد مبني للعبادة، والجهاد من العبادة؛ ولذلك أقر النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة وهم يلعبون بحرابهم.
قوله: «دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ بِهَا» ، يعني: رماهم بالحصباء إنكارًا عليهم، وكان عمر رضي الله عنه شديدًا؛ فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «دَعْهُمْ يَا عُمَرُ» ، وجاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة» [(121)].
الْمِجَنِّ وَمَنْ يَتَّتَّرِسُ بِتُرْسِ صَاحِبِهِ
}2902{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَْوْزَاعِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ فَكَانَ إِذَا رَمَى تَشَرَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ.
}2903{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُهُ، فَلَمَّا رَأَتْ الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ فَرَقَأَ الدَّمُ.
}2904{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
}2905{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ.
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُفَدِّي رَجُلاً بَعْدَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي».
قوله: «بَاب الْمِجَنِّ وَمَنْ يَتَّرِسُ بِتُرْسِ صَاحِبِهِ» ، الترس هو: المجن، وهو الذي يضعه المقاتل أمام وجهه في الحرب يتقي به النبال والسيوف، ويقال له: الدرقة، ويقال له: الترس، ويقال له: المجن، وهو ما يُرى مع رجال الشرطة في بعض الأحيان عند المصادمات والشغب.
قوله: «وَمَنْ يَتَّرِسُ بِتُرْسِ صَاحِبِهِ» ، يعني: إذا كانا اثنين، ومع أحدهما ترس، والآخر ليس معه ترس؛ فلهما أن يتترسا جميعًا به؛ ليتقيا وقع النبال، والغرض من الترجمة بيان أن فعل الأسباب لا ينافي التوكل.
}2902{ قوله: «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتُرْسٍ وَاحِدٍ» ، يعني: في آن واحد، وهذا من الأسباب، ولا ينافي التوكل؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، ومع ذلك فعل الأسباب؛ لبس لأمة الحرب[(122)]، وظاهر بين درعين[(123)] وتترس.
قوله: «وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ فَكَانَ إِذَا رَمَى تَشَرَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ» ، فيقول أبو طلحة رضي الله عنه: نحري دون نحرك يا رسول الله، لا يصيبك شيء من رمي المشركين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رمى يشرف برأسه لينظر موقع نبل أبي طلحة.
}2903{ قوله: «لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ» ، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس البيضة على رأسه، والبيضة: هي حديدة يضعها المقاتل على رأسه يلبسها، حتى إذا جاء شيء من النبال، أو طلقات الرصاص تكون عليها فلا تصيبه، وهذا أيضا من فعل الأسباب ولا ينافي التوكل.
قوله: «وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ» ، الرباعية هي: الأسنان التي تلي الثنايا الأمامية، ثم الأنياب تلي الرباعية، ولكل إنسان أربع رباعيات؛ اثنان من أعلى واثنان من أسفل.
وفيه: أنه قد كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشج وجهه، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» [(124)]، وهذا فيه دليل على أن الأنبياء بشر تصيبهم الجراح والأمراض والمصائب، وأنهم ليسوا آلهة يعبدون، ولا يصلحون لأن يعبدوا؛ فالإله كامل لا يصيبه شيء، ولا يضره أحد من خلقه، أما الناس ـ ولو كانوا أنبياء ـ فهم الذين يصيبهم ما يصيب البشر؛ يأكلون ويشربون ويمرضون، ويبولون ويتغوطون، إلا أن الله خصهم بالرسالة والنبوة، وهذا فيه الرد على من عبدهم من دون الله تعالى، ولو كان هناك أحد يُعافى لدينه لسَلِم الأنبياء؛ فهذا فيه عزاء لكل مصاب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأشرفهم على الإطلاق وأعظم الناس منزلة عند الله، كسرت البيضة التي على رأسه، وأدمي وجهه، وكسرت رباعيته، وسقط في حفرة[(125)]، وصاح الشيطان: إن محمدًا قد قتل[(126)]، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم العلاج.
قوله: «وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُهُ» هذا هو شاهد الترجمة، والمجن الحديدة التي يتقي بها المجاهد وقع النبال، ويكون لها عمق، فكان علي يأخذ الماء في المجن، ويصبه على جرح النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فاطمة تغسل عنه الدم.
قوله: «فَلَمَّا رَأَتْ الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً» ، أي: لم يمسك؛ فكلما غسلت بالماء زاد الدم، «عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ فَرَقَأَ الدَّمُ» يعني: سكن وانقطع، وهذا من الطب.
وفيه: دليل على استعمال الدواء والعلاج، وأنه لا ينافي التوكل على الله؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق عولج ولم ينكر عليهم؛ لأن الطب والعلاج يكون بالتجربة، فإحراق الحصير في النار ثم إلصاقه على مكان الجرح ليتوقف الدم، كان عن تجربة.
}2904{ قوله: «كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ» ، فيه: جواز ادخار نفقة سنة، وأنه لا ينافي التوكل؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر نفقة سنة، ولكن كانت تأتي عليه النوائب والضيوف فينفد المدَّخر قبل السنة؛ فيستدين صلى الله عليه وسلم لينفق بقية السنة.
قوله: «ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، وهذا هو الشاهد، فالمجن من جملة آلات السلاح اللازمة لإعداد العدة في سبيل الله.
}2905{ قوله: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُفَدِّي رَجُلاً بَعْدَ سَعْدٍ» ، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُفَدّي سعدًا.
وفيه: دليل على جواز التفدية، والتفدية هي أن يقول الرجل: فداك أبي وأمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فدّى سعدًا والزبير[(127)].
$ر مسألة: اختلف العلماء في التفدية؛ هل هي جائزة مطلقًا، أم لا؟
_خ الجواب: القول الأول: الجمهور على جواز التفدية مطلقًا؛ لأنها من باب البر واللطف.
القول الثاني: لا يجوز التفدية بالأبوين المسلمين إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يفدى بالأبوين والشاهد من الحديث للمجن أن سعدًا كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم برمي السهام على الأعداء، والرامي لا يستغني عن شيء يقي به نفسه؛ فغالبًا يكون معه مجن، والمجن من آلات الحرب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مشجعًا: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» .
الدَّرَقِ
}2906{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنِي أَبُو الأَْسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا، فَخَرَجَتَا.
}2907{ قَالَتْ: وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَيَقُولُ: «دُونَكُمْ بَنِي أَرْفِدَةَ»، حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ «حَسْبُكِ»، قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: «فَاذْهَبِي».
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فَلَمَّا غَفَل.
قوله: «بَاب الدَّرَقِ» ، والدرق ـ بفتحتين ـ جمع الدرقة، وهي الترس أو المجن، الذي يتقي به صاحبه النبال والسيوف، فيقال له: الدرق، أو المجن، أو الترس.
}2906{ قوله: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ» ، وهي حروب كانت في الجاهلية بين الأوس والخزرج.
قوله: «فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، يعني: أنكر أبو بكر رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها غناء الجاريتين عندها، وقال: هذه مزمارة الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكيف تتركينها؟!
قوله: «فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا، فَخَرَجَتَا» ، فيه: أنه لا بأس بالغناء للجواري الصغار، وكذلك النساء في الأعراس والأعياد، إذا أمنت الفتنة وكان ذلك بعيدًا عن الرجال، أما إذا كانت هناك فتنة أو كان اختلاط بالرجال فلا يجوز.
}2907{ قوله: «قَالَتْ: وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ» ، هذا هو الشاهد من الترجمة؛ حيث لعب السودان بالدرق.
وفيه: جواز اللعب بالدرق والحراب في المسجد إذا كان فيه رحبة واسعة؛ لما فيه من التدرب والتمرن على الأسلحة؛ بل هو مستحب لما فيه من الاستعداد للجهاد.
قوله: «فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ» ، يعني: سمح لها صلى الله عليه وسلم برؤية الحبشة وهم يلعبون.
وفيه: دليل على جواز نظر المرأة لعموم الرجال بدون اختلاط، فالمرأة يجوز لها أن تنظر من بعيد إلى الرجال الذين يلعبون أو يصلون أو يقاتلون، بخلاف النظر إلى الرجل الواحد بأن تتأمل محاسنه؛ فهذا لا يجوز، كما أن الرجل يجوز له أن ينظر إلى النساء في العموم، لكن أن ينظر إلى امرأة محددة يتأمل محاسنها فهذا محرم؛ ولهذا نظرت عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون.
قوله: «وَيَقُولُ: «دُونَكُمْ بَنِي أَرْفِدَةَ»» ، يعني: يحثهم على اللعب.
قوله: «حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ «حَسْبُكِ»» ، يعني: يكفيك، «قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: «فَاذْهَبِي»» .
الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْفِ بِالْعُنُقِ
}2908{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؛ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَِبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا» ثُمَّ قَالَ: «وَجَدْنَاهُ بَحْرًا» أَوْ قَالَ: «إِنَّهُ لَبَحْرٌ».
قوله: «بَاب الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْفِ بِالْعُنُقِ» ، هذه الترجمة معقودة للحمائل، والحمائل جمع حميلة، وهو ما يقلد به السيف، فلا بأس أن يجعل للسيف حميلة أو قلادة يعلق بها، كما علق النبي صلى الله عليه وسلم السيف على عنقه؛ ليكون قريبًا له إذا احتاج إليه هذا الفارس الشجاع صلى الله عليه وسلم، فإذا قابله عدو من الكفار أخذ السيف وقتله في الحال.
}2908{ قوله: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؛ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ» ، يعني: ينظرون، «فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَِبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ» ، فلقد ركب ـ من العجلة ـ على فرس عري؛ ليس على ظهره شيء.
قوله: «وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ» ، فقد عَلّق النبي صلى الله عليه وسلم السيف على عنقه؛ ليكون قريبًا له إذا احتاج إليه.
وقوله: «لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا» ، أي: ارجعوا، فليس هناك شيء لا تفزعوا! لا تفزعوا! وهذه شجاعة عظيمة؛ حيث سبقهم وهو على فرس عري، وفي عنقه السيف صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وَجَدْنَاهُ بَحْرًا» ، يعني: وجدنا الفرس واسع الجري، وكان هذا الفرس بطيئًا، فصار سريعًا ببركة ركوب النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
وفيه: أن فعل الأسباب لا ينافي التوكل؛ حيث خرج صلى الله عليه وسلم متعجلاً على فرس عري معلقًا السيف في عنقه؛ ليستجلي الخبر ويطمئن الناس، و الأسباب منها الواجب، ومنها: المستحب، ومنها: المباح.
حِلْيَةِ السُّيُوفِ
}2909{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَْوْزَاعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَبِيبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ الذَّهَبَ وَلاَ الْفِضَّةَ، إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمْ الْعَلاَبِيَّ وَالآْنُكَ وَالْحَدِيدَ.
قوله: «بَاب حِلْيَةِ السُّيُوفِ» ، وحلية السيوف: ما يحلى بها مثل الغطاء، وقال العلماء: يستثنى من الذهب حلية السيف؛ فيجوز أن تحلى السيوف بالذهب.
}2909{ قوله: «لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ الذَّهَبَ وَلاَ الْفِضَّةَ، إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمْ الْعَلاَبِيَّ وَالآْنُكَ وَالْحَدِيدَ» ، والعلابي هي: الجلود أو عصب العنق، والآنك هو: الرصاص، فكانوا لا يهتمون بالذهب ولا بالفضة؛ لأن العبرة بالقوة وإعداد العدة، لا بتحلية السيوف.
مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ
فِي السَّفَرِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ
}2910{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ مَعَهُ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ» ثَلاَثًا وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ.
}2910{ في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نام تحت شجرة وعلق بها سيفه، وهذا الوادي كثير العضاه ـ يعني: كثير الشجر ـ.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نام وليس عنده حارس؛ فدل على أنه لا حرج في ترك الحراسة للوالي في بعض الأحيان إذا كان المكان آمناً، وفي بعض الأحيان يُحرس صلى الله عليه وسلم كما في صلح الحديبية؛ حيث كان الحارس فوق رأسه وهو يكلم مندوب المشركين في صلح الحديبية، فكان المغيرة بن شعبة يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد مندوب المشركين أن يقرب من لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المغيرة بن شعبة يده بنعل السيف، وقال: أخِّرْ يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذن فالحراسة من فعل الأسباب، فإذا أخذ ولي الأمر بالأسباب والاحتياط بأن جعل له حرسًا فلا حرج.
وفيه: أن هذا الأعرابي أخذ السيف بيده صلتاً ـ أي: مجردًا عن غمده ـ وقال: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله» ؛ وفي رواية: فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للأعرابي: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟» ، فقال: كن خير آخذ؛ فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم[(128)].
لُبْسِ الْبَيْضَةِ
}2911{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: جُرِحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِمَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ _ب تَغْسِلُ الدَّمَ، وَعَلِيٌّ يُمْسِكُ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ الدَّمَ لاَ يَزِيدُ إِلاَّ كَثْرَةً أَخَذَتْ حَصِيرًا، فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا ثُمَّ أَلْزَقَتْهُ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ.
هذه الترجمة للبس البيضة؛ لقوله: «بَاب لُبْسِ الْبَيْضَةِ» ، والبيضة: غطاء حديد يضعه المقاتل على الرأس ليتقي به وقع النبال والسيوف.
}2911{ يستفاد من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس البيضة يوم أحد، فهشمت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته.
وفيه: دليل على أن الأنبياء عليه السلام تصيبهم الأمراض والجراحات والمصائب كغيرهم من البشر، وهذا فيه تسلية لغيرهم.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الدواء والعلاج، وهو مستحب عند الجمهور، وقيل: مباح، والصواب: أنه مستحب؛ لما جاء في الحديث الآخر: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء؛ فتداووا ولا تداووا بحرام» [(129)].
وفيه: أن الطب يكون بالتجارب؛ ففاطمة رضي الله عنها تعلمت هذا بالتجربة، فغسلت الدم أولاً، ثم لما رأت الدم لم يتوقف أحرقت حصيرًا فأخذت رماده فوضعته على الجرح فاستمسك الدم؛ فهذا معروف بالتجربة، والطب كله تجارب.
مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاَحِ عِنْدَ الْمَوْتِ
}2912{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ سِلاَحَهُ وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً.
قوله: «بَاب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاَحِ عِنْدَ الْمَوْتِ» ، يشير البخاري رحمه الله لبطلان ما كان عليه أهل الجاهلية من كسر السلاح، وعقر الدواب إذا مات الرئيس منهم، وربما يوصي بذلك حتى لا يستعمله غيره.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك سلاحه، ولم يورث دينارًا ولا درهمًا وإنما ورث العلم.
}2912{ قوله: «مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ سِلاَحَهُ وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً» ، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك سلاحه ودابته وأرضًا بخيبر جعلها صدقة، ولم يورث مالاً، وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا لا نورث؛ ما تركنا فهو صدقة» [(130)]، وهذا عام لجميع الأنبياء؛ وذلك لأن الأنبياء لم يبعثوا لجمع الأموال وتوريثها، وإنما بعثوا لأمر عظيم؛ وهو دعوة الناس إلى التوحيد، وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ فلهذا لا يورثون.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكسر سلاحه ولم يعقر دابته؛ لأنه من فعل الجاهلية، بل أبقى صلى الله عليه وسلم السلاح والبغلة البيضاء.