شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري (56-7)

00:00

00:00

تحميل
54

  تَفَرُّقِ النَّاسِ عَنْ الإِْمَامِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ

وَالاِسْتِظْلاَلِ بِالشَّجَرِ

}2913{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ جَابِرًا أَخْبَرَهُ ح و حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ قُلْتُ: اللَّهُ فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ» ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ».

 

}2913{ يستفاد من هذا الحديث أنه لا بأس بتفرق الناس عن الإمام إذا نزلوا تحت الشجر في السفر عند الأمان، مع أخذ الحيطة حتى لا يقع الخطر.

وفيه: حماية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإن الأعرابي اخترط السيف وأخذه ووقف على رأسه وقال: من يمنعك مني؟ فقال: «اللَّهُ» ، فسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا فيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وحماية الله عز وجل له.

  مَا قِيلَ فِي الرِّمَاحِ

وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي».

}2914{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الأَْنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضٌ فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: «إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ».

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟».

 

قوله: «بَاب مَا قِيلَ فِي الرِّمَاحِ» ، هذه الترجمة معقودة للرماح.

قوله: «جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ،وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» ، هذا الحديث رواه البخاري رحمه الله معلقا عن ابن عمر، وهو عند الإمام أحمد بسند حسن[(131)]؛ لأنه وإن كان فيه مجهول إلا أن له شاهدًا مرسلاً[(132)] بإسناد حسن يتقوى به؛ فيكون الحديث حسنًا، والشاهد من الترجمة هو قوله: «جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» ، والمعنى أن الرمح يُقاتَل به الأعداء ويُغْنَم به منهم الغنائم؛ فيكون ذلك رزقًا.

وفيه: دليل على أنه لا بأس باستعمال الرماح في الدفاع عن النفس، ولاسيما عند القرب من العدو، فإذا اختلط العدو بهم فالسيوف والرماح لها فائدتها.

 

}2914{ في الحديث: قصة أبي قتادة وقتله الحمار الوحشي، ولم يكن أبو قتادة محرمًا وكان أصحابه محرمون، وكان هذا في السنة السادسة؛ سنة صلح الحديبية، فأبو قتادة كان مع جماعة من الصحابة أحرموا بالعمرة وهو لم يحرم، فرأوا حمارًا وحشيًّا ـ ومعلوم أن المحرم لا يصيد ـ فنظروا إليه ولكنهم لم يخبروا أبا قتادة، وفي اللفظ الآخر أنه: «جعل بعضهم يضحك إلى بعض» [(133)]؛ ففطن أبو قتادة فنظر إليه، فاستوى على فرسه، وسألهم أن يناولوه سوطه، فقالوا: لا؛ نحن محرمون لا نعينك بشيء، فنزل وأخذ السوط.

قوله: «فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ» ، هذا هو الشاهد من الحديث؛ أن معه رمحًا، والمعنى أنه قال لهم: أعطوني الرمح، فقالوا: لا نعطيك ولا نساعدك؛ فنحن محرمون، فنزل وأخذ رمحه، ثم شد على الحمار فقتله وأتى به، فأكلوا منه، ثم تحرجوا فقالوا: كيف نأكل ونحن محرمون ولم نسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟! فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها» [(134)]؛ فدل هذا على جواز أكل المحرم الصيد الذي لم يَصِده بنفسه، ولم يُصَد لأجله، ولا أعان على صيده بدلالة أو إشارة؛ ويؤيد ذلك حديث جابر رضي الله عنه: «صيد البر لكم حلال؛ ما لم تَصيدوه أو يُصد لكم» [(135)]، وكما في قصة الصعب بن جثامة ـ وكان رجلاً مضيافًا ـ لما سمع بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم صاد له حمارًا، فأهداه له، فرده عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «إنا لم نَرُدّه عليك إلا أنا حرم» [(136)]، فرده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صاده لأجله.

فهؤلاء الصحابة ما أعانوه عليه، ولا أشاروإليه، ولا صاده لأجلهم؛ فلهذا أكلوا منه، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ» .

قوله: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟» هذا تأكيد للإباحة؛ فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: لو بقي معكم شيء من لحمه لأكلتُه، وجاء رواية في الصحيحين أنه كان معهم فأكله[(137)]، وفي رواية في المسند أنه أمرهم أن يأكلوا[(138)].

  مَا قِيلَ فِي دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمِيصِ فِي الْحَرْبِ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

}2915{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي قُبَّةٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: [القَمَر: 45-46]{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ *بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ *}

وَقَالَ: وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَوْمَ بَدْرٍ.

}2916{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَقَالَ: يَعْلَى حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ.

وَقَالَ: مُعَلًّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ.

وَقَالَ: رَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.

}2917{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطَرَّتْ أَيْدِيَهُمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَتِهِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا، وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ، وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ، فَسَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلاَ تَتَّسِعُ».

 

قوله: «بَاب مَا قِيلَ فِي دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمِيصِ فِي الْحَرْبِ» ، هذه الترجمة لبيان الدرع والقميص في الحرب.

قوله: «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، الدرع: قميص يكون من حديد.

وفيه: دليل استعمال الدرع في الحرب، وأنه من الأسباب، كما تستعمل البيضة على الرأس، وكما يستعمل المِجَن؛ فكل هذا من الأسباب التي تُستعمل في الحرب، وهي لا تنافي التوكل على الله عز وجل.

}2915{ قوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله النصر على أعدائه بيقين وإلحاح، والدعاء من أعظم أسباب النصر.

قوله: «وَهُوَ فِي الدِّرْعِ» ، هذا هو الشاهد؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم استعمل الدرع ولبسه وهو في الحرب؛ اتقاء أن يصيبه شيء من الأعداء، وهذا من الأسباب التي لا تنافي التوكل على الله عز وجل.

 

}2916{ قوله: «وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ» ، هذا هو شاهد الترجمة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الدرع ويلبسه في الحروب، وهذا من الأسباب التي لا تنافي التوكل.

وفي الحديث من الفوائد:

1- أنه لا بأس بالدين والاستدانة، وليس في ذلك نقص ولا عيب ولا غضاضة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم استدان من يهودي، وهو صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق.

2- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجمع الأموال، وإنما كان ينشرها في النوائب والحوائج وفي سبيل الله وإكرام الضيوف؛ فلذلك احتاج إلى الدَّين.

3- جواز الرهن في الحضر، وأنه لا بأس به؛ خلافاً لمن قال: إن الرهن خاص بالسفر؛ استدلالاً بقوله تعالى: [البَقَرَة: 283]{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}؛ فهذا وصف أغلبي في الآية، فيجوز الرهن في الحضر؛ ولهذا رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه وهو في الحضر.

4- جواز معاملة اليهود وأنه ليس من التولي ولا من الموالاة، فالمعاملة بالبيع والشراء جائزة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم عامل اليهود[(139)]، واشترى غنمًا من مشرك[(140)]، وأما الموالاة؛ وهي: نصرتهم وإعانتهم والركون إليهم ومعاشرتهم ومحبتهم لدينهم؛ فهذه ردة عن الإسلام؛ لقول الله تعالى: [المَائدة: 51]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، أما مصادقة الكافر بأن يتخذه صديقًا يواده ويزوره بدون سبب؛ فهذه معصية كبيرة من كبائر الذنوب.

5- أن النبي صلى الله عليه وسلم استدان من اليهودي ولم يستدن من الصحابة رضي الله عنهم؛ لعلمه أنهم لا يقبلون استدانته منهم، بل يعطونه بدون مقابل، أو أنه فعل ذلك ليشرع للأمة جواز معاملة المشركين، وأن هذا ليس من الموالاة في شيء.

 

}2917{ هذا الحديث ضُرِب فيه المثل للمنفق والبخيل بالجبة، والشاهد هو قوله: «عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ» ، يعني: أنه لا بأس بلبس الجبة من حديد كالدرع في الحرب.

والمثل يستفاد منه تقريب الشيء إلى الأذهان؛ لأنه يُنتقل به من الأمر المعنوي إلى الأمر الحسي؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلا للبخيل والمنفق برجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما؛ لضيقها، فالمتصدق إذا هم بالصدقة اتسعت عليه الجبة قال: «حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ» ، والبخيل كلما هم بالصدقة انقبضت ولصقت كل حلقة مكانها، وانضمت يداه إلى ترقوته، فلا تزال هذه الجبة تحبس يديه.

وهذا مثل واضح؛ لأن البخيل يضيق صدره ولا يستطيع أن ينفق، ويهمه الأمر ويشق عليه؛ لما في قلبه من الجزع والهلع والتشاؤم وسوء الظن بالله، أما المتصدق فإنه ينشرح صدره وينفق بسخاء.

  الْجُبَّةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَرْبِ

}2918{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمٍ هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: حَدَّثنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَلَقِيتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتُ فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ بِرَأْسِ وَعَلَى خُفَّيْهِ

 

}2918{ يستفاد من هذا الحديث جواز لبس الجبة في السفر وفي الحضر، وأنه لا بأس بها.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة شامية؛ فيدل ذلك على جواز لبس الثياب التي تأتي من الكفار؛ لأن الشام في ذلك الوقت كانت بلاد كفر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يلبسون الثياب التي تأتي من الشام ومصر واليمن، وكانت هذه البلاد إذ ذاك بلاد كفر، فالثياب التي تأتي من الكفار والفواكه والطعام لا بأس بها، إلا الذبائح فلابد فيها أن يكون الذابح مسلمًا أو كتابيًّا، ولا يذكر عليها غير اسم الله عز وجل، ولابد من قطع الحلقوم والمريء بآلة حادة.

وفيه: جواز لبس الضيق من الثياب عند الحاجة في السفر والحضر.

وفيه: مشروعية المسح على الخفين إذا توفرت الشروط.

  الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ

}2919{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا.

}2920{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ شَكَوَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي الْقَمْلَ فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِي الْحَرِيرِ فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ.

}2921{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ قَالَ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي حَرِيرٍ.

}2922{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَخَّصَ أَوْ رُخِّصَ لَهُمَا لِحِكَّةٍ بِهِمَا.

 

قوله: «بَاب الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ» ، أشار المؤلف فيه إلى جواز لبس الحرير في الحرب؛ لما فيه من إغاظة الكفار.

}2919{، }2920{، }2921{، }2922{ في هذه الأحاديث: جواز لبس الحرير للرجال عند الحاجة كالعلاج ومداواة المرض؛ استنباطًا من حديث الباب؛ لما فيه من البرودة، قال بعض العلماء: إن هذا خاص بالزبير وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما.

والصواب: أنه ليس خاصًّا، بل هو مباح عند الحاجة.

 

 

$ر مسألة: حكم لبس الحرير للرجال؟

_خ الجواب: القول الأول: المنع من لبسه مطلقًا؛ وهو مذهب أبي حنيفة[(141)]، ومالك[(142)].

القول الثاني: أنه يجوز للضرورة.

القول الثالث: أنه يستحب في الحرب؛ لإرهاب العدو.

  مَا يُذْكَرُ فِي السِّكِّينِ

}2923{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْ كَتِفٍ يَحْتَزُّ مِنْهَا ثُمَّ دُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَزَادَ: فَأَلْقَى السِّكِّينَ.

 

}2923{ قوله: «فَأَلْقَى السِّكِّينَ» ، فيه: جواز قطع اللحم بالسكين؛ وهو الشاهد.

وفيه: ترك الوضوء مما مسته النار، وقد كان الوضوء مما مست النار واجبًا في أول الإسلام، ثم نسخ، وقيل: إنه لم ينسخ وإنما بقي الاستحباب، والراجح أنه منسوخ؛ ويؤيد ذلك حديث جابر رضي الله عنه: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» [(143)].

وفيه: أنه لا يجب الوضوء من أكل لحم الغنم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتز من كتف شاة ولم يتوضأ؛ ولحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ» ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم، فتوضأ من لحوم الإبل» [(144)]، وفي حديث ابن عمر: «توضؤوا من لحوم الإبل، ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم» [(145)].

  مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ

}2924{ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ الأَْسْوَدِ الْعَنْسِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهُوَ نَازِلٌ فِي سَاحَةِ حِمْصَ وَهُوَ فِي بِنَاءٍ لَهُ وَمَعَهُ أُمُّ حَرَامٍ قَالَ عُمَيْرٌ: فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا»، قَالَتْ: أمُّ حَرَامٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: «أَنْتِ فِيهِمْ» ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ» فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لا».

 

قوله: «بَاب مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ» ، يعني: من الفضل، والروم قوم من النصارى ؛ ذهب أكثر العلماء إلى أنهم من ولد عيص بن إسحاق عليه السلام وسموا بالروم؛ لأن جدهم الأول كان رومانيًّا، وقيل: هم ولد ليطا بن يونان بن يافث، ويسمون بني الأصفر.

}2924{ قوله: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا» ، يعني: فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة.

قوله: «قَالَتْ: أمُّ حَرَامٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: «أَنْتِ فِيهِمْ» سبق أن ذكرنا أنها ركبت البحر مع معاوية، وأنها لما رجعت سقطت عن دابتها فماتت.

قوله: ««أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ» فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لا»» ومدينة قيصر هي القسطنطينية، وتسمى الآن : إستانبول.

فيه: علامة من علامات النبوة؛ أن أمته صلى الله عليه وسلم ستغزو في البحر، وتغزو مدينة قيصر، وفيه: أن أول جيش يغزو في البحر مغفور له، وأول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور له.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر، ومنقبة لولده يزيد؛ لأنه أول من غزا مدينة قيصر، وتعقبه ابن التين وابن المنير بما حاصله أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص؛ إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: «مَغْفُورٌ لَهُمْ» مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة» .

  قِتَالِ الْيَهُودِ

}2925{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ».

}2926{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ».

 

قوله: «بَاب قِتَالِ الْيَهُودِ» هذه الترجمة في قتال اليهود، يعني: فيما يستقبل من الزمان.

}2925{، }2926{ هذان الحديثان فيهما بشارة للمؤمنين أنهم سوف ينتصرون على اليهود، وسوف يقتلونهم قتلاً ذريعًا، وهذا يكون بعد نزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، واتباع اليهود للمسيح الدجال، وقد يقع في غير وقت عيسى، لكن في وقت عيسى يكون محققًا؛ لأن عيسى عليه السلام يكون هو قائد المسلمين، والدجال هو قائد اليهود، فيسلط المسلمون عليهم حتى إن الشجر والحجر يتكلم، وجاء في اللفظ الآخر: «إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود» [(146)] أي: إنه يخون مثلهم، ويقال: إن اليهود الآن يغرسون شجر الغرقد.

والفلسطينيون الآن يقتلون ويشردون، ولكن سوف يأتي الفرج، ويأتي يوم يُسلط فيه المسلمون على اليهود؛ فيقتلونهم قتلاً ذريعًا، فهذه بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من المعجزات الدالة على صدق نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ» هذا خطاب للصحابة رضي الله عنهم، والمراد مَن بعدهم؛ لأن الصحابة لم يحدث لهم هذا، لكنه سيحصل في المستقبل، فهذا خطاب للأمة كلها، يعني: يقاتل من بعدكم من المسلمين؛ لأن المسلمين شيء واحد كالجسد الواحد.

وفيه: جواز مخاطبة الشخص والمراد غيره، ومن هذا مخاطبة الله تعالى لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث لأجدادهم من قبل؛ حيث يقول تعالى: [طه: 80]{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ}؛ لأنهم لما كانوا مقرين لآبائهم وأجدادهم؛ صار حكمهم كحكمهم.

  قِتَالِ التُّرْكِ

}2927{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ».

}2928{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ الأَْعْرَجِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الأَْعْيُنِ حُمْرَ الْوُجُوهِ ذُلْفَ الأُْنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ».

 

قوله: «بَاب قِتَالِ التُّرْكِ» هذا أيضًا من أشراط الساعة، والترك هم طائفة من يأجوج ومأجوج؛ لأن ذا القرنين رضي الله عنه لما بنى السد ليحبس يأجوج ومأجوج، بقي قوم منهم تخلفوا فتركوا؛ فسموا الترك لذلك.

}2927{ قوله: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ» ، المعنى: أنهم يصنعون من الشعر حبالاً، ثم يصنعون منها نعالاً؛ وذلك لما في بلادهم من الثلج العظيم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هذا والحديث الذي بعده ظاهر في أن الذين ينتعلون الشعر غير الترك، وقد وقع للإسماعيلي من طريق محمد بن عباد قال: بلغني أن أصحاب بابك كانت نعالهم الشعر. قلت: بابك ـ بموحدتين مفتوحتين وآخره كاف ـ يقال له: الخُرَّمي ـ بضم المعجمة وتشديد الراء المفتوحة ـ وكان من طائفة من الزنادقة استباحوا المحرمات، وقامت لهم شوكة كبيرة في أيام المأمون، وغلبوا على كثير من بلاد العجم كطبرستان والري، إلى أن قتل بابك المذكور في أيام المعتصم، وكان خروجه في سنة إحدى ومائتين أو قبلها، وقتله في سنة اثنتين وعشرين» .

وقوله: «وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» . المطرقة هي: التي ألبست الأطرقة من الجلود والأغشية، والمجان: جمع مجن، وهو: الترس، أو الدرقة يجعلها الفارس أمامه ليتقي بها وقع النبال، والمعنى: أن وجوههم عراض.

 

}2928{ قوله: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الأَْعْيُنِ حُمْرَ الْوُجُوهِ ذُلْفَ الأُْنُوفِ» ، الأذلَفُ هو: الأقطب أو الأفطس، وهو صغير الأنف مع استواء الأرنبة، والمعنى: أن من أشراط الساعة قتال الترك، ومن صفتهم أنهم صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف.

وقوله: «كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» ، والمجال جمع مجن، وهي: الترس، يعني: عراض الوجوه.

قوله: «وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ» ، يعني: يجعلون حبالاً من الشعر، فيصنعون منها نعالاً ويلبسونها؛ ليتقوا بها الثلج.

  قِتَالِ الَّذِينَ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ

}2929{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ».

قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ فِيهِ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً صِغَارَ الأَْعْيُنِ ذُلْفَ الأُْنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ.

 

}2929{ كرر المؤلف هذا الحديث؛ لتكرار التراجم.

قوله: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ» هذا من علامات النبوة؛ حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سيقاتلون من يلبسون الشعر.

قوله: «رِوَايَةً» يعني: رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله قوله: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، أو رفعه، أو مرفوعًا؛ فكل هذا له حكم الرفع.

  مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ

وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَاسْتَنْصَرَ

}2930{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَكُنْتُمْ فَرَرْتُمْ يَا أَبَا عُمَارَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ! مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ، وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاَحٍ فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ، مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ:

«أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ».

 

}2930{ قوله: «لاَ وَاللَّهِ! مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم!» هذا جواب سديد لمن سأله: أفررتم يوم حنين؟

قوله: «وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ، وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاَحٍ» ، يريد: أن الذين ولوا هم شبان جاءوا وليس معهم سلاح، وكانت هوازن قد اختبؤوا مع آخر ظلام الليل، وقد عبؤوا أسلحتهم، فلما أقبل المسلمون رشقوهم بالنبال، وأكثر الصحابة ليس معهم سلاح؛ فولوا مدبرين، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ركض ببغلته إلى المشركين قائلاً: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» ، ثم أمر عمه عباسًا أن ينادي فقال: «أي: عباس، ناد أصحاب السمرة» ، فقال عباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأني عطفتهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها؛ فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار[(147)]، فصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حملوا حملة واحدة على هوازن فهزموهم.

قوله: «فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ» ، هذا هو الشاهد للترجمة.

  الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالزَّلْزَلَةِ

}2931{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَْحْزَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ».

}2932{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِي الْقُنُوتِ «اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ».

}2933{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما يَقُولُ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَْحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمْ الأَْحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ».

}2934{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ: وَنُحِرَتْ جَزُورٌ بِنَاحِيَةِ مَكَّةَ فَأَرْسَلُوا فَجَاءُوا مِنْ سَلاَهَا وَطَرَحُوهُ عَلَيْهِ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَلْقَتْهُ عَنْهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ لأَِبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ قَتْلَى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَنَسِيتُ السَّابِعَ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ.

وَقَالَ شُعْبَةُ: أُمَيَّةُ أَوْ أُبَيٌّ.

وَالصَّحِيحُ أُمَيَّةُ.

}2935{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ فَلَعَنْتُهُمْ، فَقَالَ: «مَا لَكِ؟»، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا، قَالَ: «فَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ».

 

}2931{ قوله: «مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ» فيه: أن الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة مطلوب، فيجب على المسلم أن يدعو الله أن ينصر المسلمين ويعز الإسلام وأهله، ويذل المشركين ويخذلهم ويزلزلهم ويقطع دابرهم، والصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

وفي هذا الزمان خاصة ينبغي للمسلمين أن يتضرعوا إلى الله ويلجؤوا إليه ـ ولا سيما في أوقات إجابة الدعاء: في وقت السحر، وفي السجود، وبين الأذان والإقامة وفي يوم الجمعة عند صعود الخطيب إلى أن تقام الصلاة، وآخر ساعة من النهار ـ أن يكفينا شر الكفرة، وأن يهزمهم ويجعل كيدهم في نحورهم ويقذف الرعب في قلوبهم ويشتت شملهم ويبطل مخططاتهم.

 

}2932{ قوله: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِي الْقُنُوتِ» فيه: جواز الدعاء على المشركين، والدعاء للمؤمنين في القنوت.

قوله: «اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ» هذا دعاء لأشخاص بأعيانهم.

قوله: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» هذا دعاء لعموم المستضعفين من المؤمنين.

قوله: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» ، هذا دعاء على قبيلة تسمى مضر، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قبائل أخرى مثل: رِعْل وذكوان وعصية؛ فقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قَتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين غداة؛ على رِعْل وذكوان وعصية» [(148)]، ودعا على أشخاص معينين مثل: شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف؛ فقال: «اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف؛ كما أخرجونا من أرضنا» [(149)].

 

}2933{ قوله: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اللَّهُمَّ اهْزِمْ الأَْحْزَابَ» فيه: الدعاء على الأحزاب الكافرة، وسموا بالأحزاب؛ لأنهم تحزبوا وتجمعوا على المسلمين؛ فإذا كان الكفرة متحزبين من عدة دول أو عدة قبائل قيل لهم: أحزاب.

قوله: «اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» فيه: جواز الدعاء على المشركين بالزلزلة؛ وهو شاهد الترجمة، فعلى كل مسلم الآن أن يدعو الله عز وجل بمثل هذا الدعاء بأن يزلزل هؤلاء المشركين، وأولئك الأحزاب الذين تحزبوا على المسلمين، وأن يقذف الرعب في قلوبهم، وأن يفرق شملهم، وأن يكبتهم ويمحقهم ويقطع دابرهم، ويكفينا وسائر المسلمين شرهم.

 

}2934{ يستفاد من هذا الحديث: جواز الدعاء في القنوت على أشخاص بأعيانهم إذا اشتد أذاهم للمسلمين.

 

}2935{ قوله: «أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ» وهذا لخبثهم؛ فالسام يعني: الموت، ففطنت عائشة رضي الله عنها لذلك «فَلَعَنْتُهُمْ» ، وفي اللفظ الآخر: أنها قالت: «وعليكم السام واللعنة» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكِ؟» وفي اللفظ الآخر: أنه قال: «إن الله لا يحب الفحش والتفحش» [(150)].

قوله: «قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا، قَالَ: «فَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»» يعني: أننا نرد عليهم تحيتهم؛ فإن كانت شرًّا كان ذلك عليهم؛ لأنها لا تقبل منهم، وتقبل منا؛ فيحصل المقصود بدون فحش.

وفيه: دليل على أن من سلم تُرَدُّ عليه تحيته ولو كان من الكفار؛ فترد على اليهودي أو النصراني تحيته إن سلم عليك فتقول: وعليكم، ولا تكمل، يعني: تحيتكم عليكم، فإن كانوا قصدوا شراً رُدَّت عليهم تحيتهم.

وفي الحديث: بيان حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن معاملته حتى مع الأعداء.

  هَلْ يُرْشِدُ الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَوْ يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ

}2936{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ، وَقَالَ: «فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَْرِيسِيِّينَ».

 

قوله: «بَاب هَلْ يُرْشِدُ الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَوْ يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ» هذا من الجناس؛ لاتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى.

قوله: «أَهْلَ الْكِتَابِ» المراد بهم: اليهود والنصارى؛ فاليهود هم أتباع موسى عليه السلام والذي أنزل الله عليه التوراة، والنصارى هم أتباع عيسى عليه السلام والذي أنزل الله عليه الإنجيل.

قوله: «أَوْ يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ» . المراد بالكتاب: القرآن، يعني: يعلمهم ما شرع الله لنبيه من تعليمهم وإرشادهم، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، ثم ادعهم إلى الصلاة» [(151)].

}2936{ قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ» أي: كتب كتابًا يدعوه فيه وقومه إلى الإسلام، وكان هذا الكتاب يشتمل على قول الله عز وجل: [آل عِمرَان: 64]{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *}.

قوله: «فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَْرِيسِيِّينَ» . اختصر البخاري الحديث في هذا الموضع؛ فالكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» [(152)]. والأريسيون هم: الفلاحون، والمعنى: عليك إثم الرعية؛ لأنهم تبع لك، فتحمل أوزارهم، وإن أسلمت آتاك الله أجرك مرتين؛ لأنك آمنت بنبيك السابق، ثم آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم.

  الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْهُدَى لِيَتَأَلَّفَهُمْ

}2937{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ؛ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ! قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ».

 

}2937{ في الحديث: دليل على أن المشركين قد يُدعى لهم، وقد يُدعى عليهم؛ فمن اشتد أذاه وغلب على الظن أنه لا يرجع ولا يرعوي ولا يقبل يُدعى عليه، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، وكما دعا على رعل وذكوان وعصية لما قتلوا القراء.

أما من كان يُرجى إسلامهم ولم يحصل منهم أذى للمسلمين يُدعى لهم، كما في هذا الحديث أن الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه قالوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ؛ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ:» ، أي: قال بعض الناس: «هَلَكَتْ دَوْسٌ!» ؛ لأنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم سيدعو عليهم، وفي هذا هلاكهم.

قوله: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ» ، أي: أخلف النبي صلى الله عليه وسلم ظنهم؛ فلم يدع عليهم وإنما دعا لهم؛ فهداهم الله وجاءوا مسلمين.

  دَعْوَةِ الْيَهُودِي وَالنَّصَارَى وَعَلَى مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ

وَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالدَّعْوَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ

}2938{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

}2939{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى حَرَّقَهُ.

فَحَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.

 

قوله: «بَاب دَعْوَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» يعني: يُدعَوْن إلى الإسلام قبل أن يُقاَتلُوا، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا لما بعثه إلى اليمن، وكانوا أهل كتاب فقال: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» [(153)]، وكذلك غيرهم، لكن اليهود والنصارى يُخَيَّرون بين ثلاثة أمور: الإسلام أو دفع الجزية أو القتال، وغيرهم يخيرون بين شيئين اثنين: الإسلام أو القتال؛ لقول الله تعالى في سورة التوبة: [التّوبَة: 29]{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *} وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء.

والمجوس تؤخذ منهم الجزية كذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» [(154)].

قوله: «وَعَلَى مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ» بيّن البخاري رحمه الله أن أهل الكتاب يقاتلون على الشهادتين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم لمعاذ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» [(155)]، فإذا أتوا بالشهادتين تُرِكوا، وإلا قُوتِلوا.

}2838{ قوله: «لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ، فيه: مشروعية اتخاذ الخاتم الذي يختم به على الكتب، حتى لا تُزَوّر، وينبغي لولاة الأمر والقاضي والنواب ومن يكون له مكان من أهل العلم أن يكون لهم خاتم؛ حتى لا يزور عليهم.

وخاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسه في أصبعه ويختم به، وهذا موجود عند بعض الناس الآن؛ حيث يجعل الخاتم خاتمًا وختمًا، مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد أن يختم خلع الخاتم وختم به.

وفيه: أنه كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله.

وفيه: جواز لبس خاتم الفضة للرجال، وليس لهم لبس خاتم الذهب.

وفيه: أن لبس خاتم الفضة مباح وليس بسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذه على أنه سنة لكن اتخذه لما قيل له ما قيل، وكان قبل ذلك لا يلبس الخاتم؛ فالأقرب ـ والله أعلم ـ أنه مباح.

 

}2939{ يستفاد من هذا الحديث ما دلت عليه الترجمة من مشروعية دعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كتب كتبًا إلى كسرى ملك الفرس وهرقل عظيم الروم، فأما هرقل فإنه عّظم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وكاد أن يسلم لكنه ضنَّ بملكه، فجمع الروم في دسكرة عظيمة ودعا أبا سفيان وسأله بعض الأسئلة[(156)] ـ كما سبق بيانه ـ ثم أخرج الكتاب وأمر بالأبواب فأغلقت وأخذ المفاتيح عنده واطلع عليهم من فوق على عادة الملوك في كبريائهم وقال لهم: يا معشر الروم هل لكم في النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم، قال فآمنوا بهذا النبي؛ فأنتم تعلمون أن هذا هو النبي المنتظر، وهذه أوصافه موجودة في كتبكم؛ فالخير والسعادة في الإيمان به، فجعل يحدثهم ولكنهم لم يقبلوا، وحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب يريدون أن يخرجوا، يعني: ينقلبوا عليه ويقتلوه، فلما رأى أنهم لا يؤمنون قال: ارجعوا، فرجع كل واحد مكانه، فاطلع عليهم من فوق وقال: إنما قلت هذا الكلام لأختبر صبركم على دينكم؛ فسجدوا له، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبره قال: «كذب عدو الله» [(157)] وفي رواية «ضن الخبيث بملكه» [(158)] يعني: بخل وقدم ملكه على رضا الله، والإيمان به، والدار الآخرة.

والمقصود: أن هرقل عَظّم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وكاد أن يسلم، وهو يعلم أنه حق، لكن لا يريد أن يفرط في ملكه؛ فقدم الدنيا على الآخرة.

وأما ملك كسرى فإنه لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه؛ فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يمزَّق كلَّ ممزقٍ فمُزِّقت دولته.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد