شعار الموقع

شرح كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري (56-8)

00:00
00:00
تحميل
134

  دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الإِْسْلاَمِ وَالنُّبُوَّةِ

وَأَنْ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} إِلَى آخِرِ الآْيَةِ.

}2940{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلاَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لأَِسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

}2941{ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ.

فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا. قَالَ: مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فَقُلْتُ: هُوَ ابْنُ عَمِّي وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي. فَقَالَ قَيْصَرُ: أَدْنُوهُ وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي.

ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لأَِصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنْ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ.

ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ، فَقَالَ: كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ: فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ وَنَحْنُ الآْنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ لاَ أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ؟ قُلْتُ: كَانَتْ دُوَلاً وَسِجَالاً يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الأُْخْرَى، قَالَ: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قَالَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَْمَانَةِ.

فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: حِينَ قُلْتُ: ذَلِكَ لَهُ قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ قُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الإِْيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَكَذَلِكَ الإِْيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ يَغْدِرُونَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلاً وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الأُْخْرَى، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَْمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِْسْلاَمِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأَْرِيسِيِّينَ وَ [آل عِمرَان: 64]{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *}

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلاَ أَدْرِي مَاذَا قَالُوا: وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ: لَهُمْ لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، هَذَا مَلِكُ بَنِي الأَْصْفَرِ يَخَافُهُ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلاً مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الإِْسْلاَمَ وَأَنَا كَارِهٌ.

}2942{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: يَوْمَ خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ.

}2943{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلاً.

}2944{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا.

}2945{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهَا لَيْلاً وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَوْمًا بِلَيْلٍ لاَ يُغِيرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ فَلَمَّا رَأَوْهُ، قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ».

}2946{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ.

رَوَاهُ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم».

 

قوله: «بَاب دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [آل عِمرَان: 79]{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ *}.

فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام والنبوة وإلى عبادة الله وتوحيده وإخلاص الدين له، ولا يأمرهم بعبادة نفسه؛ فهذا لا يكون إلا من الكفرة، والأنبياء برأهم الله من ذلك.

}2940{ قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِْسْلاَمِ» ، هذا هو شاهد الترجمة، وهذا من تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم رسالة ربه.

قوله: «وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلاَهُ اللَّهُ» ، يعني: أنه لما كانت الحرب بين الفرس وبين الروم نذر هرقل إن كشف الله عنه جنود الفرس ونصره عليهم ليمشين على قدميه من حمص إلى إيلياء فوفى بنذره، فلما وصل إلى حمص جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لأَِسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، فطلبوا فوجدوا أبا سفيان ومن معه جاءوا تجارًا إلى الشام فأخذوهم.

 

}2941{ قوله: «فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ:» ، لفظة ترجمان فيها لغات: تَرَجمان بفتح التاء والراء، وتُرُجمان بضمهما، وفيها تَرجُمان بفتح التاء وضم الجيم، وقيل: تُرجُمان بضم التاء والجيم؛ وعلى هذا فأي: قراءة تقرؤها فهي صحيحة.

والترجمان هو الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى.

وفي الحديث من الفوائد ما يلي:

1- دليل على أن الكافر إذا روى الحديث الذي سمعه في حال كفره بعد إسلامه فإنه يقبل منه؛ فهذه الحادثة كانت في حال كفر أبي سفيان، ولكنه رواها في حال إسلامه.

2- يستفاد منه قبح الكذب؛ فهذا أبو سفيان وهو على كفره يتحاشى الكذب، ويقول: أخشى أن يؤثر عني الكذب.

3- الرد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الدليل على النبوة إنما هو خاص بالمعجزات؛ فهذا هرقل استدل بهذه الأسئلة وأجوبتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قال: هل من آبائه من ملك؟ هل أحد قال مثل هذا القول قبله؟ كيف نسبه فيكم؟ هل يرتد أحد ممن آمن به سخطة لدينه؟ كيف الحرب بينكم وبينه؟ هل يغدر؟ كل هذه الأسئلة وأجوبتها استدل بها على أنه صلى الله عليه وسلم نبي الله حقًّا وصدقًا.

ومن ذلك أن خديجة رضي الله عنها استدلت على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن الله لا يخزيه أبدًا، وذلك في أول النبوة لما جاءه جبريل في غار حراء وحدث ما حدث قالت: «والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» [(159)]، فكل من اتصف بهذه الصفات لا يمكن أن يخزيه الله، ولا يمكن أن يعرض له عارض سوء؛ لأنه صادق.

فالأشاعرة يقولون: إنه لا دليل على صدق النبي إلا المعجزات؛ وهذا باطل.

وقوله: «فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟... فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ» ، يعني: في الغالب يكون أتباع الرسل هم الضعفاء، كما قال الله تعالى عن نوح أنه قال له قومه: [هُود: 27]{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}؛ وذلك لأن الضعفاء ليس عندهم مانع بخلاف الأغنياء والوجهاء والكبراء، يمنعهم ما هم فيه من الجاه والمال والكبرياء عن اتباع الرسل؛ لأن الشريعة تقيدهم وتمنعهم من تكبرهم على الناس؛ ولهذا لا يستجيبون بخلاف الضعفاء، وهذا في الغالب والأكثر؛ وإلا فقد يتبع الأنبياء أشراف الناس؛ فأبو بكر رضي الله عنه من الأغنياء ومن الأشراف، وهو أول من آمن من الرجال، وكذلك عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

قوله: «وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ» يعني: هذا القيصر عرف الحق ولكن منعه الشح بملكه، كما قال النبي: «ضن الخبيث بملكه» [(160)]؛ فآثر الدنيا على الآخرة، والملك والرياسة على الإيمان، وعلى ما عند الله؛ ولهذا بقي على كفره ـ والعياذ بالله ـ.

وفيه: دليل على أن الكافر قد يعلم الحق، ولا يكون مؤمنا بذلك، فكونه يعلم الحق في نفسه ويصدق ويقر به ليس كافيا كي يكون مؤمنًا؛ لأنه لابد للإيمان من أمرين:

الأمر الأول: التصديق في الباطن.

الأمر الثاني: الاتباع في الظاهر؛ ولهذا قال الله تعالى: [القِيَامَة: 31-32]{فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى *وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى *} يعني: فلا صدق الخبر، ولا اتبع الأمر، ولكن كذب بقلبه، وتولى وأعرض عن الأمر بظاهره.

فمن لم يصدق بقلبه وكان يصلي ويصوم فهو منافق؛ لأنه ليس عنده إيمان يصحح هذا العمل، ومن صدق في الباطن ولكنه لم يعمل فلا يصح له إسلام؛ لأنه يكون كإبليس وفرعون واليهود، فلابد مع هذا التصديق بالباطن من عمل يتحقق به، فأبو طالب مصدق؛ فهو يقول:

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

ولكنه رغم ذلك لم يكن مؤمنا؛ لأنه لم يتبع.

قوله: «وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ» يعني: ظن أنه من غير العرب، فظن أنه يكون من بني إسحاق، وليس من بني إسماعيل.

قوله: «وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ» ، ولكنه شح بملكه.

قوله: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، هذا كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كتاب مختصر لكنه كتاب عظيم.

وفيه: أنه يُبدأ بالبسملة ولو كان المرسل إليه من أهل الكتاب.

قوله: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، فيه: أن الأولى أن يبدأ الكاتب بنفسه فيقول: من فلان إلى فلان، وإن بدأ بالمرسل له فلا بأس.

وقوله: «إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ» ، هذا وصف له وليس تعظيمًا ولا مدحاً ولا ثناًء؛ فعظيم الروم يعني: كبيرهم.

قوله: «سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى» ، فيه: أنه إذا كان المكتوب له كافراً فإنه لا يسلم عليه؛ فلا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإنما يقول: سلام على من اتبع الهدى، وإن كان مسلما يقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قوله: «أَمَّا بَعْدُ» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبه وفي كتاباته: أما بعد، وهي للانتقال من شيء إلى شيء، فينتقل بها من المقدمة إلى موضوع الكتابة، أو ينتقل بها من مقدمة الخطبة والسلام إلى الموعظة، وهو أولى من قول بعض الناس: وبعد، ويقال: أول من قالها داود عليه السلام؛ لأنها فصل الخطاب الذي أوتيه، ويقال: أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، وقيل: غيره.

قوله: «فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِْسْلاَمِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ» و يؤتى أجره مرتين لإيمانه بعيسى، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأَْرِيسِيِّينَ» ، يعني: عليك إثم الرعية، والأريسيون؛ يقال: هم الفلاحون؛ لأن أغلبهم فلاحون، والبقية تبع لهم.

ثم قال: «{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} » ، كلمة سواء: يعني: نستوي فيها نحن وإياكم، وهذه الكلمة هي: « [آل عِمرَان: 64]{أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}» فيه: إطلاق الكلمة على الجمل، فالجمل يمكن أن تُسمى كلمة.

وذكر الآية في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فيه: أنه لا بأس بكتابة الآية والآيتين إلى الكفار ولو مسوها؛ لأنها لا يكون لها حكم مس المصحف؛ فالمصحف [الواقِعَة: 79]{لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *}، [التّوبَة: 28]{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، وكذلك كتب التفسير لا بأس بمسها من قبلهم أيضًا؛ لأنها تسمى كتب تفسير ولا تسمى قرآناً؛ فكذلك هذا الكتاب، فكونه فيه آية ونحوها لا يخرج عن كونه كتابًا، وسبق ذكر الحديث «أن النبي نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو» [(161)]؛ لهذه العلة، يعني: مخافة أن يمسوه بسوء، لكن إذا زال المحذور فإنه لا بأس به.

قوله: «قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلاَ أَدْرِي مَاذَا قَالُوا: وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا» يعني: لما قضى قيصر مقالته علت أصوات من حوله من عظماء الروم، وكثر لغطهم، ثم أُخرج أبو سفيان ومن معه؛ لأنهم انشغلوا بغيرهم.

قوله: «فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ: لَهُمْ لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، هَذَا مَلِكُ بَنِي الأَْصْفَرِ يَخَافُهُ» و «أَمِرَ أَمْرُ» ، يعني: عَظُم شأن، و «ابن أبي كبشة» ، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم؛ نسبه إلى جد غامض من الرضاع؛ يريد التقليل من شأنه صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا سفيان كان كافرًا في ذلك الوقت، فيقول: لقد عظم أمر محمد، حتى إن ملك بني الأصفر يخافه. وبنو الأصفر هم الروم.

 

}2942{ قوله: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ» ، وفي اللفظ الآخر: «لأعطين الراية ـ أو قال: ليأخذن الراية ـ غدًا رجلاً يحبه الله ورسوله ـ أو قال: يحب الله ورسوله ـ يفتح الله عليه» [(162)]؛ فأعطاها عليًّا، فهذه منقبة كبيرة لعلي رضي الله عنه، وشهادة له بأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.

وفيه: الرد على الخوارج الذين يكفرون عليًّا رضي الله عنه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حكم بأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين.

قوله: «فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى» ، يعني: تطاول الناس لها، وجاءوا يتطلعون أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ليس طمعًا في الإمارة، ولكن رغبة في هذا الوصف الكريم؛ وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يحبه الله ورسوله ـ أو قال ـ يحب الله ورسوله» .

قوله: «فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ» فيه: دليل على أن قدر الله نافذ؛ فالذي تطلع إليها أمام الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطاها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا شخصًا آخر بعيدًا أرمدَ يُقاد؛ فأعطاها إياه!

قوله: «فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ» ، يعني: لما جاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُقاد من شدة الرمد بصق في عينيه فبرأ في الحال، وهذه علامة من علامات النبوة، وهي دالة على أن الله على كل شيء قدير.

قوله: «فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ» . هذا هو شاهد الترجمة؛ وهو أنه يجب دعوة الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة إلى الإسلام قبل حربهم، «وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ» ، أي: من حق الله تعالى.

قوله: «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» ، وحُمْر ـ بإسكان الميم ـ جمع أحمر، يعني: الإبل الحُمْر، وفي هذا بيان فضل من هدى الله على يديه رجلاً مشركاً؛ فهذا خير من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، وهذا مثال ومضروب، والمراد به: خير من الدنيا وما فيها؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يمثل ويقرب، وإلا فالدنيا لا تساوي شيئاً بما فيها من الإبل الحمر وغيرها مقارنة بما عند الله تعالى في الآخرة؛ ولهذا جاء في الحديث: «موضع سوط أحدكم من الجنة خير له من الدنيا وما فيها» [(163)]، لأن الدنيا زائلة بما فيها، مهما كان فيها من النعيم والسرور والملك.

 

}2943{، }2944{ في هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أذانا بديار قوم أمسك عن قتالهم؛ لأن الأذان علامة على الإسلام، وشعيرة من شعائره الظاهرة، أما إذا قدم بلدا ليس فيه أذان ولا صلاة، دل ذلك على كفرهم فيقاتلهم.

 

}2945{ قوله: «فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ» يعني: خرجوا إلى حروثهم ومزارعهم يشتغلون ويعملون.

قوله: «فَلَمَّا رَأَوْهُ، قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ» والخميس يعني: الجيش، أي: أنهم فَزعوا وبُهتوا وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم محاربُهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ» ، والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار عليهم ولم يدعهم إلى الإسلام؛ لأن الدعوة بلغتهم، وسبقت دعوتهم قبل ذلك؛ فمن بلغته الدعوة يُبَاغَت، فإذا أعيدت دعوته مرة أخرى فهو من باب الاستحباب.

 

}2946{ قوله: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» فيه: أن الغاية من القتال أن يُسلموا؛ بأن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوحدوا الله، ويخلصوا له العبادة.

قوله: «فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» يعني: إلا بحق التوحيد والإسلام، وهي الأعمال الواجبة ابتغاء مرضاة الله؛ من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وترك المحرمات، فهذه الأعمال هي حق الإسلام، فإذا نطق الكافر بالشهادتين فقد عصم دمه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله، أما أن يقول: لا إله إلا الله بلسانه ولا يعمل بما توجبه فما أتى بحقها، فلابد من الانقياد بحقوق كلمة التوحيد.

  مَنْ أَرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيْرِهَا

وَمَنْ أَحَبَّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ

}2947{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا.

}2948{ وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيد.

}2949{ وَعَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: لَقَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ إِلاَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ.

}2950{ حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.

 

هذه الترجمة فيما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله مِن أنه إذا أراد غزوة ورّى بغيرها.

}2947{ فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، والتورية معناها: أن يوهم أنه يريد جهة، وهو يريد جهة غيرها، فإذا أراد جهة الشمال مثلا سأل عن جهة الجنوب، وإذا أراد أن يغزو جهة الشرق سأل عن الغرب، حتى يبغت العدو قبل أن يستعد فيهجم عليه على غرة، وهذا إذا كانت قد بلغتهم الدعوة، كما «أغار على بني المصطلق، وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية» [(164)]، وكما بهت أهل خيبر حين صلى الفجر، ثم أغار عليهم؛ فقالوا: «محمد والخميس» [(165)]، يعني: والجيش.

وإذا لم تبلغهم الدعوة نزل بساحتهم، ثم يدعوهم؛ فيكون هذا أدعى إلى القبول.

 

}2948{ هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها؛ فيوهم أنه يريد جهة وهو يريد جهة غيرها، فإذا أراد جهة الشمال مثلا سأل عن جهة الجنوب وهكذا، حتى يبغت العدو كما سبق، لكن في غزوة تبوك لم يفعل هذا صلى الله عليه وسلم؛ لأن غزوة تبوك استقبلوا فيها سفراً طويلاً ومفازة، وفي حر شديد، وسوف يواجهون عدوًّا كثيفًا؛ فلهذا جلى للمسلمين أمره، وأخبر بوجهه الذي يريد، أنه يريد غزوة تبوك؛ حتى يتأهبوا للأعداء ويستعدوا لهم، ويأخذوا حذرهم، ويحملوا ما يكفيهم من الزاد والراحلة والعدة الحربية.

وأما غير غزوة تبوك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب كان يورِّي بغيرها.

ويستفاد من هذا الحديث أن النبي كان يحب إذا سافر أن يخرج يوم الخميس، يعني: في الغالب، وإلا فقد خرج صلى الله عليه وسلم يومَ السبت في حجة الوداع، ويومُ الخميس أفضل إن تيسر، وهذا من باب الاستحباب والفضيلة؛ وإلا فيجوز السفر في أي: يوم، إلا إذا زالت الشمس يوم الجمعة بعد النداء الثاني؛ فلا يجوز السفر حتى يصلي الجمعة، أما السفر أول النهار قبل الزوال فقال العلماء: مكروه؛ ولكنه جائز، والزوال يكون عند الأذان ساعة دخول الخطيب؛ فيحرم ترك الجمعة؛ ويحرم البيع، وكذلك جميع العقود؛ فقد قال الله تعالى: [الجُمُعَة: 9]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}.

 

}2950{ قوله: «وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ» ، يعني: أن هذا من باب الاستحباب والفضيلة كما سبق.

  الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُّهْرِ

}2951{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا.

 

المؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم في الخروج والسفر بعد الظهر، وهل هو مستحب أو مباح.

}2951{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» هذا في حجة الوداع، وذلك يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة.

وفي الحديث: دليل على أن المسافر لا يترخص برخص السفر حتى يفارق عامر بيوت بلده؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بذي الحليفة وصلى العصر ركعتين، وهي قريبة من المدينة ولم يقصر الظهر بالمدينة لما كان بالبلد وكان عازمًا على السفر، وفي هذا ردٌّ على من قال: إنه إذا عزم على السفر يقصر، ولو كان بالبلد.

قوله: «وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا» ، يعني: يلبون بالحج والعمرة جميعًا مقرنين، وجاء في حديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خيرهم؛ فمنهم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بحج، ومنهم من أهل بحج وعمرة» [(166)].

وفيه: أن السنة رفع الصوت بالتلبية.

  الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ

وَقَالَ كُرَيْبٌ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ مَكَّةَ لأَِرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.

}2952{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟، فَقَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ.

قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: أَتَتْكَ وَاللَّهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ.

 

قوله: «بَاب الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ» هذه الترجمة يريد بها البخاري أن يبين بأنه لا كراهة في السفر في آخر الشهر؛ خلافًا لأهل الجاهلية الذين كانوا يتحرون أوائل الشهور للأعمال، ويكرهون التصرف في محاق القمر، فكانوا يكرهون السفر والأعمال في آخر الشهر، والنبي صلى الله عليه وسلم سافر آخر الشهر؛ فلا ينبغي للإنسان أن يتطير بالأيام ولا بالشهور لأن هذا التطير من الشرك، وهو من أعمال أهل الجاهلية.

قوله: «وَقَالَ كُرَيْبٌ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ» ، كان ذلك يوم السبت في حجة الوداع على الصحيح.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في آخر الشهر، وأن ذلك ليس فيه كراهة.

قوله: «وَقَدِمَ مَكَّةَ لأَِرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ» أي: فكان سفره ما يقرب من تسع ليال، أو ثمان ليال.

 

}2952{ قوله: «وَلاَ نُرَى» يعني: لا نعلم إذا كانت بفتح النون، أو: لا نظن إذا كانت بضمها.

قوله: «وَلاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ» ؛ لأنهم في الجاهلية لا يعتمرون في أشهر الحج، بل يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وأن أشهر الحج خاصة بالحج فقط، ولا تأتي العمرة إلا بعدما ينسلخ شهر صفر؛ فقد كانوا يقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر؛ حلت العمرة لمن اعتمر.

قوله: «فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ» ، يعني: أمرهم أن يحلوا فيجعلوها عمرة، فشق عليهم ذلك ـ فقالوا كما في رواية: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟[(167)]؛ فألزمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلوا إلا من ساق الهدي؛ لإزالة اعتقاد الجاهلية، فقالوا: يا رسول الله، أهو حل كامل، أم حل ناقص؟ فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأنه حل كامل؛ فيجوز لهم أن يفعلوا كل شيء، وتحل لهم النساء وغير ذلك.

قوله: «قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟، فَقَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ» ، فيه: أن أزواجه صلى الله عليه وسلم حججن معه، وكن تبعًا له؛ فذبح عنهن البقر لأنهن متمتعات؛ فدل ذلك على أن المرأة ـ إذا كان ينفق عليها الرجل ـ تكون تابعة للرجل؛ فيذبح عنها في الحج ولا يشترط إذنها.

  الْخُرُوجِ فِي رَمَضَانَ

}2953{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ.

قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَإِنَّمَا يُقَالُ بِالآْخِرِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

 

قوله: «بَاب الْخُرُوجِ فِي رَمَضَانَ» هذه الترجمة للخروج في رمضان، وبيان أنه لا كراهة في ذلك.

}2953{ قوله: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ» فيه: أنه لا بأس بالسفر في رمضان.

وفيه: أنه يجوز للإنسان أن يصوم، أو أن يفطر في السفر ـ خلافًا لمن قال: إنه لا يجوز الصوم في السفر ـ وإنما الخلاف بين أهل العلم في أي: ذلك أفضل.

فمن العلماء من قال: الفطر أفضل لأن فيه أخذًا بالرخصة، ولأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب.

ومنهم من قال: الصيام أفضل؛ لأنه أسرع في براءة الذمة، وأنشط له إذا صام مع الناس؛ وهذا إذا لم يشق عليه، وأما إذا شق عليه الصوم من شدة الحر مثلاً؛ فيكره في حقه الصيام في السفر؛ لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في السفر قد ظُلل عليه، فسأل عن ذلك، فقالوا: رجل صائم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيام في السفر» [(168)] ولما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح بعدم الصيام في رمضان، فصام بعض الناس، قال صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة، أولئك العصاة، أولئك العصاة» [(169)].

ومنهم من قال: هما على حد سواء.

  التَّوْدِيعِ

}2954{ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ وَقَالَ لَنَا: «إِنْ لَقِيتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ»، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا».

 

قوله: «بَاب التَّوْدِيعِ» يعني: عند السفر، وأنه مشروع للإنسان أن يودع أصحابه، فيقول كما في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك» [(170)].

}2954{ قوله: «إِنْ لَقِيتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ» ، يعني: إن هذين الرجلين استحقا القتل.

قوله: «قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا»» ، وهذا فيه: نسخ جواز التعذيب بالنار؛ لأن النبي أمر بالتعذيب بالنار أولاً، ثم نسخ ذلك؛ لأن النار لا يعذب بها إلا الله عز وجل، وكذلك إذا اعتدى شخص على شخص فحرقه بالنار، فإنه لا يحرق بالنار قصاصًا؛ لأنه محرم، وإنما يقتل بغير النار؛ بالسيف أو نحوه.

وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه حرق بعض أهل الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعل خالد ابن الوليد رضي الله عنه، وثبت أن عليًّا رضي الله عنه حرق السبئية بالنار؛ وهم الذين غلوا فيه وقالوا: أنت الإله، فحفر لهم أخدوداً وأجج به نارًا، وألقاهم فيها ـ بعدما استتابهم فلم يتوبوا ـ وقال:

لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا

أججت ناري ودعوت قنبرا

ولكن هذا محمول على أنه اجتهاد من الصديق وخالد وعلي رضي الله عنهم؛ فقد ثبت عن ابن عباس أنه لما بلغه تحريق علي لهم بالنار قال: «لو كنت مكانه لقتلتهم» ـ يعني: بالسيف ـ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يعذب بالنار إلا رب النار» [(171)].

فهذا اجتهاد، ويحتمل أنهم لم يبلغهم النص.

  السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِْمَامِ

}2955{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ».

 

قوله: «بَاب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِْمَامِ» ، هذا الإطلاق في الترجمة مقيد بما قُيِّد به في الحديث؛ يعني: ما لم يأمر بمعصية.

}2955{ قوله: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ» ، فيه: دليل على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور، لكن بهذا القيد: «مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ» ؛ فإذا أُمِر الإنسان بمعصية فلا سمع ولا طاعة، فالسمع والطاعة واجبة لولاة الأمور في طاعة الله عز وجل وفي الأمور المباحة أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، ولكن ليس معنى هذا الخروج عليهم، بل لا يطاع في المعصية فقط، وكذلك الأب إذا أمر ابنه بمعصية فلا يطعه، والزوجة إذا أمرها زوجها بمعصية فلا تطعه، والعبد إذا أمره سيده بمعصية فلا يطعه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» [(172)]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف» [(173)].

  يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الإِْمَامِ وَيُتَّقَى بِهِ

}2956{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ الأَْعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نَحْنُ الآْخِرُونَ السَّابِقُونَ».

}2957{ وَبِهَذَا الإِْسْنَادِ «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعْ الأَْمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَْمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِْمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ: بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ».

 

قوله: «بَاب يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الإِْمَامِ» يعني: يقاتل للدفع عن الإمام، سواء كان من خلفه أو من أمامه.

قوله: «وَيُتَّقَى بِهِ» يعني: يتقى بالإمام شرَّ العدو وأهل الفساد والظلم؛ لأنه يمنع المسلمين من أيدي الأعداء ويحمي بيضة الإسلام.

}2956{ قوله: «نَحْنُ الآْخِرُونَ السَّابِقُونَ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وتكلف ابن المنير فقال: وجه مطابقة الترجمة لقوله: «نَحْنُ الآْخِرُونَ السَّابِقُونَ» الإشارة إلى أنه الإمام وأنه يجب على كل أحد أن يقاتل عنه وينصره؛ لأنه وإن تأخر في الزمان لكنه متقدم في أخذ العهد على كل من تقدمه أنه إن أدرك زمانه أن يؤمن به وينصره، فهم في الصورة أمامه، وفي الحقيقة خلفه؛ فناسب ذلك قوله: يقاتل من ورائه؛ لأنه أعم من أن يراد بها الخلف أو الأمام» .

 

}2957{ قوله: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعْ الأَْمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَْمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» . وهذا مقيد بما سبق؛ يعني: ما لم يأمر بمعصية.

قوله: «وَإِنَّمَا الإِْمَامُ جُنَّةٌ» أي: أن الإمام القائم بأمور الناس جنة ـ يعني: سترة ـ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويكف أذى بعضهم عن بعض.

قوله: «يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ» لأنه بطاعة ولاة الأمور استتباب الأمن واستقرار الأحوال وإقامة الدين ومنع العدو.

قوله: «فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا» ؛ لأن الإمام العادل أول السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله[(174)]، فالإمام العادل فضله عظيم.

قوله: «وَإِنْ قَالَ: بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ» ، يعني: فإن عليه وزرًا، وحذف اسم إنّ لدلالة مقابله عليه.

وقد علّق الله تعالى بولاة الأمور مصالح عظيمة؛ ولهذا يقول العلماء: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام؛ لأنه لو قيل لبعض المجتمعات في ليلة: كل شخص يفعل ما يشاء، فماذا يحصل فيها من الفساد والظلم والقتل وإراقة الدماء وانتهاك الأعراض ونهب الأموال؟! أما الإمام إذا كان ظالما فظلمه عليه، لكن به يُستتب الأمن وتقام الحدود وينتصف للمظلوم من الظالم.

  الْبَيْعَةِ فِي الْحَرْبِ أَنْ لاَ يَفِرُّوا

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الفَتْح: 18]{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.

}2958{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما رَجَعْنَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا كَانَتْ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ، فَسَأَلْتُ نَافِعًا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ: لاَ بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ.

}2959{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْمَوْتِ فَقَالَ: لاَ أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

}2960{ حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ: يَا ابْنَ الأَْكْوَعِ أَلاَ تُبَايِعُ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَيْضًا فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقُلْتُ: لَهُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ.

}2961{ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَتْ الأَْنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَقُولُ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا

فَأَجَابَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:

اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآْخِرَهْ

فَأَكْرِمْ الأَْنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ»

}2962{، }2963{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ مُجَاشِعٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَخِي فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ: «مَضَتْ الْهِجْرَةُ لأَِهْلِهَا» فَقُلْتُ: عَلاَمَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: «عَلَى الإِْسْلاَمِ وَالْجِهَادِ».

 

}2958{ في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع المؤمنين تحت الشجرة، وأنزل الله عز وجل في ذلك: [الفَتْح: 18]{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وكانوا أحرموا بالعمرة، فنزلوا بالحديبية على حدود الحرم ـ ويُسمَّى الآن الشميسي على طريق جدة ـ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان ليخبرهم أنهم ما جاءوا للقتال إنما جاءوا للعمرة، فاحتُبس عثمان، وشاع بين المسلمين أن عثمان قد قُتل، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على ألا يفروا، وقال بعضهم: بايعهم على الموت، وكانت البيعة تحت الشجرة المعروفة هناك، وروي أن بعض الصحابة كان يرفع غصون الشجرة عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم[(175)]، وبايع سلمة بن الأكوع ثلاث مرات[(176)]، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان[(177)]؛ لأنه هو الذي احتُبس، فلما علم المشركون بذلك خافوا وأطلقوه، ثم وقع بعد ذلك الصلح.

قوله: «قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما رَجَعْنَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا كَانَتْ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ» يعني: رجعنا نبحث عن الشجرة التي بايعنا تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فما عرفناها فقد خفيت علينا، حتى إنه لم يتفق اثنان منا على شجرة بعينها، وكان ذلك رحمةً من الله عز وجل، وثبت أن عمر رضي الله عنه علمها فأمر بها فقُطعت؛ خشية أن يفتتن الناس بها.

قوله: «فَسَأَلْتُ نَافِعًا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ: لاَ بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ» ، والمعنى واحد، يعني: بايعهم على الصبر والثبات حتى الموت؛ لأنه بايعهم على أن يقاتلوا ولا يفروا، ولكن أراد نافع أن يبين ما وقع.

وفيه: جواز أن يبايع الإمام أو قائد الجيش على عدم الفرار.

 

}2959{ قوله: «لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ» ، الحرة هي: الوقعة التي وقعت في حرة المدينة في خلافة يزيد بن معاوية؛ وذلك أن أهل المدينة خلعوا يزيد بعدما انتقدوه ونقموا عليه أشياء، فبايع عبدالله بن المطيع وابن حنظلة الناس على الموت، فلما بلغ يزيد الخبر أرسل جيشًا من الشام فقاتل أهل المدينة؛ لأنهم خلعوه، واستباح المدينة ثلاثة أيام عقوبة لهم.

فلما أراد ابن حنظلة وابن المطيع مبايعة عبدالله بن زيد على الموت قال: «لاَ أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وكان كثير من الصحابة ما يزالون أحياءً زمن الحرة.

 

}2960{ قوله: «عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ» . هذا سلمة بن الأكوع أخبر أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بيعة الرضوان على الموت، وعبد الله بن عمر أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعهم على الصبر، وعبد الله بن زيد أخبر أنه بايعهم على الموت، ولا خلاف بين المعنيين؛ لأن المراد: أنه بايعهم على الصبر في القتال حتى النصر أو الموت.

ويحتمل أن البيعة على الموت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يجب على كل مسلم أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ولا يفر عنه في الجهاد حتى يموت دونه، ولا تنافي بين هذا وبين آية المصابرة ـ وهي مصابرة المسلمين لضعفهم في الجهاد ـ فإن الله تعالى في آية الأنفال أمر أن يصابر الواحد عشرة ولا يفر، ثم نسخ ذلك فصار الواحد يصابر اثنين؛ وذلك في قوله تعالى: [الأنفَال: 66]{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ} أما النبي صلى الله عليه وسلم فالحال يختلف؛ فالمسلم لا يجوز له أن يفر من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو زاد العدد؛ لأنه يجب على الإنسان أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وما عدا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجب على الواحد أن يصابر اثنين، فإذا زادوا على ذلك جاز للمسلم أن يفر أو يتحيز إلى فئة أخرى.

 

}2961{ قوله: «نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا»

هذا فيه: دليل على صبر الصحابة رضي الله عنهم وبيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد ما حيوا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم فيقول:

«اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآْخِرَهْ فَأَكْرِمْ الأَْنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ»

وفي اللفظ الآخر: «فاغفر للأنصار والمهاجره» [(178)].

وفيه: أنه لا بأس بالرجز الذي يشجع ويقوي على العمل؛ لأن ذلك كان عند حفر الخندق حول المدينة يوم الأحزاب، ومعلوم أن الحفر يكون فيه مشقة مع ما كان من قلة ذات اليد والجوع شديد، حتى إنه لما سمع أبو طلحة الجوع في صوت النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أم سليم[(179)] فأخبرها فقالت: عندنا طعيم، ائت بالنبي صلى الله عليه وسلم واثنين معه؛ فهذا يدل على شدة ما أصابهم من الجوع؛ فكانوا يتسلون بهذا الرجز.

 

}2962{، }2963{ قوله: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَخِي فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ: «مَضَتْ الْهِجْرَةُ لأَِهْلِهَا»» كان هذا بعد فتح مكة؛ فقبل الفتح كان من أسلم يهاجر من مكة إلى المدينة؛ نصرة لله ولرسوله وتكثيرًا لسواد المسلمين، فلما فتحت مكة صارت بلد إسلام وانتهت الهجرة منها.

قوله: «عَلَى الإِْسْلاَمِ وَالْجِهَادِ» ، وفي الحديث الآخر: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» [(180)]، أي: أن الإسلام والجهاد والعمل الصالح والنية الصالحة هي المستمرة، أما الهجرة من مكة إلى المدينة فقد انتهت بفتح مكة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد