الْجَاسُوسِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} التَّجَسُّسُ التَّبَحُّثُ.
}3007{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَْسْوَدِ قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا»، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ» قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».
قَالَ سُفْيَانُ: وَأَيُّ إِسْنَادٍ هَذَا.
هذا الباب عقده المؤلف للجاسوس، يعني: ما حكم الجاسوس إذا كان من جهة الكفار، ومشروعيته إذا كان من جهة المسلمين؟
فإذا كان من جهة الكفار بحيث يتجسس على المسلمين فهذا يقتل لا إشكال فيه، أما إذا كان التجسس على المسلمين من أحد المسلمين فهو من التولي للكفار، وتولي الكفار ردة عن الإسلام، وعلى هذا يقتل فاعله مرتدًّا، ومن تجسس على المسلمين وأخذ أخبار المسلمين وأوصلها إلى الكفار، أو فعل ما يكون سببًا في ضعف المسلمين بحيث يخبر الكفار بمواطن الضعف فيهم مقابل أن يحصل على كذا وكذا؛ فهذا ردة عن الإسلام، وما فعل هذا إلا محبة للكفار؛ فيقتل فاعله أيضًا.
}3007{ هذا الحديث فيه: ذكر ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حيث أخذ أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأوصلها إلى الكفار، وكتب إليهم كتابًا فيه ـ كما في هذا الحديث ـ قال: «مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وجاء في غير الصحيح أنه قال: إن رسول الله قد جاءكم بجيش كالسيل يسير كالليل[(226)] ـ يعني: خذوا حذركم ـ وأعطى الخطاب امرأة، فذهبت به المرأة وجعلته في عقاص شعرها؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير والمقداد بن الأسود رضي الله عنهم، وقال: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً» . والظعينة: المرأة، وفي الأصل الظعينة: البعير الذي تركبه المرأة، ثم أطلق على المرأة.
قوله: «فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا» ، لأنهم شباب وأقوياء، فكانت تسرع بهم خيلهم جدًّا؛ حتى يدركوا الظعينة.
قوله: «حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ» أي: المرأة التي معها الكتاب، «فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ» فأنكرت «فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ» ، يعني: ما معي خطاب، قالوا: ما كَذَبنا ولا كُذبنا[(227)]، معك الكتاب، «لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ» يعني: نجردك من الثياب حتى نخرج الكتاب بالقوة؛ فلما رأت أنه جد، وأنهم سيجردونها أخرجت الكتاب من عقاص شعرها من رأسها، وأعطتهم الكتاب، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه، ثم جاء حاطب رضي الله عنه، «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ» فأنا لي عذر الآن، وما فعلت ذلك كفرًا ولا كرهًا في الإسلام، ولا محبة في الكفر وأهله، ولكني «كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا» يعني: لم أكن من أهل مكة من القبائل المعروفة ـ والقبائل المعروفة إذا خرج واحد من مكة يصير قراباته يحمون أهله ـ وأنا لست من القبائل المعروفة؛ بل شخص ملصق فيهم، ولي مال في مكة وأهل، ولما لم يكن لي قرابات فيهم أحببت أن أجعل عندهم يدًا يحمون بها قراباتي وأهلي، وأردت أن أوصل إليهم الكتاب وأخبرهم حتى يتخذوا هذا يدًا لي عندهم؛ فهو لم يفعل ذلك كفرًا بالله عز وجل، ولا رضًا بالكفر، ولا محبة للكفر وأهله كما قال: «وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ» ، وصدقه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ» .
قوله: «قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ» ، وفي لفظ آخر زاد: «إنه قد خان الله ورسوله» [(228)] فيه: دليل على أنه لا بأس بوصف الإنسان بالنفاق إذا لم يكن على وجه التشهي، ولا يكون هذا من القلب؛ فعمر رضي الله عنه قذف حاطبًا بالنفاق من أجل الفعل الذي فعله، أما لو قيل لإنسان: يا منافق، بدون سبب فهذا من القذف الذي لا يجوز وله أن يقتص منه، أما إذا فعله من باب التأويل ـ مثلما تأول عمر رضي الله عنه ـ فالسبب واضح وهو فعل حاطب؛ ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ، فالذي فعله حاطب رضي الله عنه هذا من التولي للكفار، والمانع له من الردة مجموع أمرين:
الأمر الأول: الشبهة التي عرضت له؛ وهو أن يتخذ يدًا عند الكفار يحمون بها قراباته.
الأمر الثاني: كونه رضي الله عنه شهد بدرًا.
وأما غير حاطب رضي الله عنه فلا يمكن أن يجتمع الأمران فيه؛ ولهذا قال العلماء: كل من تجسس على المسلمين يقتل، لكن هل يقتل ردة أو يقتل حدًّا؟ الأقرب أنه يكون كفرًا، والذي منع حاطبًا من الكفر ومن إقامة الحد هذان الأمران: التأويل الصادق، وشهود بدر، ومع ذلك عاتبه الله عز وجل وأنزل فيه صدر سورة الممتحنة؛ فيقول تعالى: [المُمتَحنَة: 1]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ *}، وقال في آخر السورة: [المُمتَحنَة: 13]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ *}، فهذه الآيات نزلت في حاطب رضي الله عنه وعاتبه الله عز وجل بها، والنبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه ولم يقم عليه الحد؛ لما تقدم معنا من تأويله وشهوده بدرًا.
قوله: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ليس معناه: أن أهل بدر مأذون لهم بالمعاصي، أو أنهم معصومون، بل المعنى: أنهم مسددون وموفقون للتوبة والعمل الصالح؛ فالواحد منهم ليس بمعصوم، ولكنه إذا وقع في معصية يسدَّد ويوفق للتوبة منها، أو لعمل صالح، أو بمصائب يمحو الله عز وجل بها ما حصل منه.
الْكِسْوَةِ لِلأُْسَارَى
}3008{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ.
قوله: «بَاب الْكِسْوَةِ لِلأُْسَارَى» وأسارى جمع: أسير، وهو الذي أسره المسلمون؛ فيجب على المسلمين أن يستروا أسراهم بما يواري عوراتهم، ولا يتركونهم بدون كسوة.
}3008{ في هذا الحديث: أن العباس رضي الله عنهما لما كان يوم بدر وأُسر، أُتي به ولم يكن عليه ثوب، وكان رجلاً طويلاً فلم يجد ثوبًا بمقداره إلا ثوب عبدالله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، قبل أن ينجم النفاق في ذلك الوقت؛ فأعطى عبدالله بن أبيّ ثوبه للعباس رضي الله عنهما؛ فكسي به وكان بمقداره في الطول؛ ولذلك صارت لعبدالله بن أبي يد عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما مات عبدالله بن أبي ودلي في حفرته، جاء النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجه من حفرته، ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه؛ مكافأة له حينما كسا عمه العباس رضي الله عنه.
ولهذا قال العلماء: «كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ» ، يعني: فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ـ يعني: عند دفنه ـ وألبسه عبدالله بن أبي؛ مكافأة له حينما كسا عمه العباس رضي الله عنه يوم بدر.
فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ
}3009{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلٌ رضي الله عنه يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»، فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ: «أَيْنَ عَلِيٌّ؟» فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا، فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».
}3009{ قوله: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» هذه منقبة لعلي رضي الله عنه في هذا الوصف أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
وفيه: رد على الخوارج الذين يكفرون عليًّا.
وفيه: إثبات المحبة لله عز وجل، ورد على من أنكر المحبة من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم.
قوله: «فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى» يعني: سهروا في تلك الليلة حتى الصباح، كلهم يتمنى أن يعطى الراية لا محبة في الإمارة، بل محبة في هذا الوصف: «يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ، ومعلوم أن كل مؤمن يحب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم ينص على شخص بعينه؛ فهذه منقبة عظيمة له، ويبقى النص على أن يحبه الله ورسوله، فليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن ان يحبك الله، ثم لما كان في الصباح جاءوا يتطاولون، فغدوا عليه صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو ويتمنى أن يعطاها، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ عَلِيٌّ؟» ، ولم يكن قد حضر في المجلس؛ سبحان الله! يُدعى شخص غير حاضر في المجلس، ومن كان أمام النبي صلى الله عليه وسلم لم يُدع، وهذا من الإيمان بالقضاء والقدر؛ وأن من قدر له شيء فسيكون وسيحصل له.
قوله: «فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ» ، يعني: عليًّا رضي الله عنه؛ فدعاه فجاء «فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ» ، أي: زال المرض في الحال كأن لم يكن به وجع، وأعطاه الراية، وكان قد جيء به يقاد من شدة الرمد، وفي هذا معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث بصق في عينيه ودعا له فبرأ في الحال بإذن الله عز وجل.
وفيه: دليل قدرة الله عز وجل العظيمة؛ فهو سبحانه: [يس: 82]{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}.
قوله: «أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا، فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ» وفي هذا تكرار الدعوة إلى الإسلام، وهذا الأمر للاستحباب؛ فيجوز للداعية أن يكرر الدعوة مرة ثانية، ويجوز له أن يغير عليهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث أغار على بني المصطلق فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم[(229)]؛ وذلك بعد أن بلغتهم الدعوة سابقًا، وبلغت أيضًا ليهود خيبر لما أُخِذوا في أول النهار وقد خرجوا معهم مساحيهم ومكاتلهم أتاهم بغتة فقالوا: محمد والخميس[(230)].
قوله: «وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» . وهذا هو محل الشاهد للترجمة، وقوله: «حُمْرُ» ، بإسكان الميم جمع: أحمر؛ وهذا مثال، والمعنى: خير لك من الدنيا وما فيها؛ لأن الدنيا كلها زائلة، وما عند الله عز وجل خير وأبقى، ويدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» [(231)]، وما طلعت عليه الشمس هي الدنيا كلها؛ يعني: خير من الدنيا وما فيها؛ لأن ثواب هذه الكلمات باق، والدنيا زائلة.
وفي هذا الحديث: فضل من أسلم على يديه رجل.
الأُْسَارَى فِي السَّلاَسِلِ
}3010{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلاَسِلِ».
}3010{ معنى هذا الحديث أنهم يؤسرون، وتوضع السلاسل في أعناقهم، ثم يوفقهم الله عز وجل إلى الإسلام طوعًا واختيارًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن الجوزي رحمه الله: معناه أنهم أسروا وقيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعًا فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر والتقييد هو السبب الأول، وكأنه أطلق على الإكراه التسلسل، ولما كان هو السبب في دخول الجنة أقام المسبب مقام السبب» .
وفيه: إثبات العجب لله عز وجل على ما يليق بجلاله؛ فالله تعالى يعجب لا كعجب المخلوق، ويضحك لا كضحك المخلوق، ومنه الحديث: «ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره» [(232)]؛ ففيه إثبات الضحك، وذكر العجب أيضًا في الحديث الآخر: «إن الله عز وجل ليعجب من الشاب ليست له صبوة» [(233)].
فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ
}3011{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ أَبُو حَسَنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأَْمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ».
ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
}3011{ قوله: «قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ» فيه: دليل على الرحلة في طلب العلم وأنها سنة، وكان الواحد يرحل في طلب العلم في أهون مسألة، وذكر البخاري رحمه الله في كتاب العلم أن جابر بن عبدالله رضي الله عنه رحل مسيرة شهر إلى عبدالله بن أنيس في حديث واحد، وفي غير «الصحيحين» قال جابر: «بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي فسرت إليه شهرًا حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبدالله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبدالله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص؛ فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم» [(234)] فذكر الحديث.
هذا من الرحلة في طلب العلم؛ فالصحابي رحل شهرًا كاملاً واشترى لهذه المهمة بعيرًا في طلب حديث واحد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: ثم قال عامر ـ أي: الشعبي ـ: «وَأَعْطَيْتُكَهَا» ظاهره أنه خاطب بذلك صالحًا الراوي عنه، ولهذا جزم الكرماني بقوله: الخطاب لصالح، وليس كذلك بل إنما خاطب بذلك رجلاً من أهل خراسان سأله عمن يعتق أمته، ثم يتزوجها كما سنذكر ذلك في ترجمة عيسى عليه السلام من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. قوله: «بِغَيْرِ شَيْءٍ» ، أي: من الأمور الدنيوية وإلا فالأجر الأخروي حاصل له. قوله: «يركب فيما دونها» ، أي: يرحل لأجل ما هو «أَهْوَنَ مِنْهَا» ـ كما عنده في الجهاد ـ والضمير عائد على المسألة. قوله: «إِلَى الْمَدِينَةِ» ، أي: النبوية، وكان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ثم تفرق الصحابة في البلاد بعد فتوح الأمصار وسكنوها، فاكتفى أهل كل بلد بعلمائه إلا من طلب التوسع في العلم فرحل، وقد تقدم حديث جابر رضي الله عنه في ذلك؛ ولهذا عبر الشعبي مع كونه من كبار التابعين بقوله: «كَانَ» ، واستدلال ابن بطال وغيره من المالكية على تخصيص العلم بالمدينة فيه نظر؛ لما قررناه، وإنما قال الشعبي ذلك تحريضًا للسامع؛ ليكون ذلك أدعى لحفظه، وأجلب لحرصه، والله المستعان، وقد روى الدارمي بسند صحيح، عن بسر بن عبيد الله ـ وهو بضم الموحدة وسكون المهملة ـ قال: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد، وعن أبي العالية قال: كنا نسمع الحديث عن الصحابة فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم» .
وفيه: بيان فضل من أسلم من أهل الكتابين، وأن له أجره مرتين؛ أجرًا بإيمانه بنبيه السابق، وأجرًا بإيمانه بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك من كانت له أمة فعلمها وأحسن تعليمها ثم أدبها ثم أعتقها ثم تزوجها فله أجران، أجر التأديب والتعليم، ثم بعد ذلك أجر العتق والزواج، وكذلك العبد الذي يؤدي حق الله عز وجل ويؤدي حق سيده له أجران، أجر في أداء حق الله عز وجل، وأجر في أداء حق سيده.
أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ
{بَيَاتًا} لَيْلاً {لَنُبَيِّتَنَّهُ} لَيْلاً يُبَيَّتُ لَيْلاً.
}3012{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنهم قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالأَْبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟ قَالَ: «هُمْ مِنْهُمْ»، وَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ: «لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم».
}3013{ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا الصَّعْبُ فِي الذَّرَارِيِّ كَانَ عَمْرٌو يُحَدِّثُنَا عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: كَمَا قَالَ عَمْرٌو: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ.
هذه الترجمة معقودة لتبييت أهل الدار من الكفار، إذا بيتهم المسلمون واضطروا إلى قتلهم ومعهم الولدان والنساء والذراري، ومعلوم أن النساء والذراري لا يقتلون، لكن إذا اضطروا إلى تبييتهم فإنهم يقتلون معهم تبعًا لا قصدًا ولهذا قال: «بَاب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ» ، يعني: لاختلاطهم بهم فإنه يجوز قتلهم في هذه الحال بدون ضمان؛ لأن قتلهم في هذه الحالة ليس مقصودًا لذاته، وإنما قتلهم تبعًا لآبائهم؛ فهم منهم.
}3012{، }3013{ قوله: «مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالأَْبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟ قَالَ: «هُمْ مِنْهُمْ»» فيه: دليل على جواز قتل النساء والذراري تبعًا لا قصدًا بدون ضمان، كأن تدعو الحاجة إلى تبييتهم؛ لأن الدعوة بلغتهم فيقتلون جميعًا، فيقتل أهل الدار جميعًا الكبار والصغار؛ لأنهم لو علموا لاستعدوا للمسلمين، وقد يضرون المسلمين؛ فهم يبغتونهم ويهجمون عليهم ويقتلونهم جميعًا بما فيهم النساء والذرية، أما قصد قتل النساء والصبيان والشيخ الهرم فلا يجوز إلا إذا شاركوا في القتال، أو كان شيخًا هرمًا له رأيه في القتال فإنه يقتل مثل دريد بن الصمة، فقد كان شيخًا كبيرًا مجربًا وقد طعن في السن فكان يُحمل في الهودج لكنه كان يسير الجيوش وله رأي: مؤثر؛ فهذا يقتل.
قوله: «وَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ: «لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم»» فيه: أنه لا يجوز للإنسان أن يحمي ـ أي: يمنع ـ الناس من رعيها إلا الإمام فله أن يحمي لمصلحة المسلمين؛ لأنه النائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حمى إلا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ
}3014{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً؛ فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
قوله: «بَاب قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ» ، يعني: أنه ممنوع.
}3014{ قوله: «فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» فيه: أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان في الحروب؛ لأنه ليس لهم تأثير، وإنما يقتل الرجال المقاتلون.
قَتْلِ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ
}3015{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ: لأَِبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
قوله: «بَاب قَتْلِ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ» أعاد المؤلف الترجمة هنا لاستنباط الأحكام:
الحكم الأول: النهي عن قتل الصبيان.
الحكم الثاني: النهي عن قتل النساء، وهو حديث واحد.
}3015{ قوله: «فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . فيه: أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان في الحروب؛ لأنه ليس لهم تأثير، وإنما يقتل الرجال المقاتلون، إلا إذا كان لهما رأي أو تأثير فيقتلان، وكذلك الشيخ الكبير - كما كان مع دريد بن الصمة -.
لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ
}3016{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: «إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا».
}3017{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ»، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
}3016{ في الحديث: نسخ الحكم قبل العمل به، وقبل التمكن من العمل؛ فالحكم هو: «فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ» ، ثم نسخ الحكم قبل أن ينفذ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا» ، أي: بالسيف؛ وهذا فيه أن الحكم نسخ قبل التمكن، وقبل العمل به.
}3017{ قوله: «أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا» ، وهم السبئية الزنادقة الذين غلوا فيه، وعبدوه من دون الله وقالوا: أنت الإله! فأمر بأن تحفر لهم حفر في الأرض، ثم أججها نارًا، ثم قذفهم فيها من شدة غيظه، وحنقه عليهم، وقال رضي الله عنه:
لما رأيت الأمر أمرًا منكراً
أججت نارًا ودعوت قنبرا
وقنبر مولاه، وعلي رضي الله عنه تأوّل، وكذلك ثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه حرق بعض أهل الردة، وكذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه حرق بعض أهل الردة. فعلي وأبو بكر وخالد رضي الله عنهم كلهم حرقوا، لكن يحتمل أنهم لم يبلغهم النهي عن التعذيب بالنار، ويحتمل أنهم تأولوا الوجهين، وأن هذا اجتهاد منهم بأن أهل الردة مرتدون وأن ذنبهم عظيم، والصواب مع ابن عباس رضي الله عنهما فقال: «لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ... وَلَقَتَلْتُهُمْ» ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ؛ فالصواب أنه لا يجوز التحريق بالنار إلا قصاصًا، كما في قصة العرنيين[(235)] الذين سملوا أعين الراعي فالنبي صلى الله عليه وسلم، أمر أن تحمى المسامير وتكحل أعينهم، فيكون مستثنًى من عموم النهي عن التحريق بالنار؛ فالصواب: الذي عليه الدليل أنهم لا يحرقون بالنار.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله خلاف العلماء في هذا فقال: «واختلف السلف في التحريق: فكره ذلك عمر وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما مطلقًا سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصًا، وأجازه علي وخالد بن الوليد رضي الله عنهما وغيرهما» .
وقال رحمه الله أيضًا: «وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم، بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة رضي الله عنهم» .
وقال رحمه الله أيضًا: «وقد اختلف في مذهب مالك رحمه الله في أصل المسألة، وفي التدخين، وفي القصاص بالنار» .
والمراد من التدخين في كلام الشارح رحمه الله: أن يحرق الحطب، ويدخن على المعاقَب حتى يختنق من دخانه ويموت؛ فهذا يسمى التدخين.
والصواب في هذه المسألة أنه لا يجوز التحريق بالنار إلا قصاصًا كما جاء في الحديث؛ لأن النهي صريح في هذا إلا في قصة العرنيين، وأما فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم فهو محمول على الاجتهاد، أو عدم بلوغهم نص التحريم.
[محَمَّد: 4]{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
فِيهِ حَدِيثُ ثُمَامَةَ.
وَقَوْلُهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} يَعْنِي يَغْلِبَ فِي الأَْرْضِ [الأنفَال: 67]{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الآْيَةَ.
بوب البخاري رحمه الله على هذه الآية: « [محَمَّد: 4]{فَإِذَا لَقِيْتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}» ، والمعنى: أن الأسرى الذين يأسرهم المسلمون في الحرب يخير فيهم الإمام بين أربعة أحكام:
الأول: المنّ عليهم بأن يطلقهم دون مقابل.
الثاني: وإما أن يفاديهم بأن يشتري كل واحد نفسه.
الثالث: وإما أن يقتلهم.
الرابع: وإما أن يسترقهم.
وقوله: «فِيهِ حَدِيثُ ثُمَامَةَ» . وحديث ثمامة بن أثال معروف، وكان ثمامة سيدًا من سادات أهل نجد، وأخذته خيل النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي به فربط ثلاثة أيام في سارية المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه كل يوم يقول: «ماذا عندك يا ثمامة؟» [(236)]. فيقول: إن تَقْتُل تَقْتُل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما بدا لك.
فذكر ثلاثة أحكام، والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا:
- إما أن تقتل فتقتل ذا دم؛ يعني: إن تقتل تقتل رجلاً عظيمًا له مكانة في مجتمعه.
- وإن تنعم تنعم على شاكر؛ لأنه رجل عظيم يُقدّر المعروف.
- وإن كنت تريد المال فسل ما بدا لك؛ يعني: للفداء.
فالبخاري رحمه الله أشار إلى هذا، وأن الأسير تجري فيه الأحكام الثلاثة.
وفيه: الحكم الرابع وهو الاسترقاق، ثم ذكر الآية الأخرى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}، يعني: حتى يكثر من القتل ويغلب، [الأنفَال: 67]{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}، فهذا هو حكم الله عز وجل وهو القتل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كانت في هذا تقوية لقول الجمهور أن الأمر في أصل الكفرة من الرجال إلى الإمام يفعل فيهم ما هو خير للإسلام والمسلمين، إن شاء قتل الأسير، وإن شاء استرقه، وإن شاء فاداه، وإن شاء من عليه» .
ومحصل أحوالهم تخيير الإمام بعد الأسر بين ضرب الجزية لمن شرع أخذها منه أو القتل أو الاسترقاق أو المن بلا عوض أو بعوض في الرجال، وأما النساء والصبيان فيبقون في نفس الأسر.
هَلْ لِلأَْسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ وَيَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ
حَتَّى يَنْجُوَ مِنْ الْكَفَرَةِ
فِيهِ الْمِسْوَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
هذه الترجمة أشار فيها إلى حديث قصة أبي بصير رضي الله عنه[(237)] لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورده النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءوا يطلبونه حسب الشرط: أن من جاء من المشركين إلى المسلمين يردونه؛ فأخذه اثنان من أهل مكة، فلما كانوا في الطريق أخذ أحدهم سيفه فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه؛ فأخذه منه فضرب واحدًا منهما وقتله حتى برد، وفر الآخر.
فهل له ـ والحالة هذه للأسير ـ أن يقتل أو يخدع الذين أسروه؛ حتى ينجو من الكفرة؟
وهذه من المسائل التي فيها خلاف؛ ولهذا لم يقطع الحكم فيها؛ لأن الجمهور قالوا: إن ائتمنوه وفَّى لهم بالعهد؛ حتى قال مالك رحمه الله[(238)]: لا يجوز أن يهرب منهم، وخالفه أشهب رحمه الله فقال: لو خرج به الكافر ليفادي به، فله أن يقتله.
وقال أبو حنيفة[(239)] والطبري: إعطاؤه العهد على ذلك باطل، وقال الشافعية[(240)]: يجوز أن يهرب من أيديهم، ولا يجوز أن يأخذ من أموالهم.
فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والراجح أن له ذلك؛ لأنهم كفرة، فالصواب أن له أن يقتلهم ويخدعهم كما فعل أبو بصير رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير. إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقُ
}3018{ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْغِنَا رِسْلاً؟ قَالَ: «مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ» فَانْطَلَقُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ، فَأَتَى الصَّرِيخُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا، وَطَرَحَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا.
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: قَتَلُوا، وَسَرَقُوا، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَسَعَوْا فِي الأَْرْضِ فَسَادًا.
هذه الترجمة كان الأَولى أن يأتي بها المصنف رحمه الله بعد ترجمة: «بَاب لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ» السابقة؛ لأن هذا الحديث مخصص للحديث السابق: «لا يعذب بالنار إلا رب النار» [(241)]، نعوذ بالله عز وجل من النار، ويجوز التعذيب بالنار قصاصًا؛ ولهذا بوب رحمه الله قال: «بَاب إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقُ» ، يعني: قصاصًا؛ والصواب أنه يحرق.
}3018{ قوله: «أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ» ، يعني: أصابهم وخم ومرضوا؛ وذلك لأنهم قد جاءوا من البادية حيث الهواء النقي؛ فلما دخلوا المدينة حصل لهم سقم ومرض، «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْغِنَا رِسْلاً؟» يعني: لبنًا من الإبل أو من البقر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ» والذود الإبل من ثلاثة إلى عشرة، وهي في البرية؛ يعني: اذهبوا إلى البرية واشربوا من ألبانها «فَانْطَلَقُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» ، وفي لفظ آخر: «قال: اشربوا من أبوالها وألبانها» [(242)].
وفيه: دليل على طهارة بول الإبل، وأن جميع ما يؤكل لحمه فبوله طاهر ومنيّه طاهر وروثه طاهر؛ خلافًا للشافعية[(243)] الذين يقولون: بول الإبل نجس، ورُد عليهم: لو كانت نجسة لأمرهم أن يغسلوا أفواههم، فلمّا لم يأمرهم بغسل أفواههم؛ دل على أن أبوال الإبل طاهرة.
والذي لا يؤكل لحمه فبوله نجس كالإنسان الآدمي، وكذا الحمار والكلب، والسباع كلها بولها نجس.
قوله: «حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا» أي: ذهب الوخم والمرض، ولكن مع ذلك «وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ» يعني: سرقوا الإبل وقتلوا الراعي وهربوا.
قوله: «فَأَتَى الصَّرِيخُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» الصريخ: المستغيث.
قوله: «فَبَعَثَ الطَّلَبَ فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ» يعني: فما انتصف النهار، «حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ» من خلاف، فكل واحد قطع يده اليمنى ورجله اليسرى؛ وذلك لأنهم سرقوا وقطعوا الطريق، «ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا» ، لأنه كان قصاصًا لما فعلوا هذا بالراعي، «وَطَرَحَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا» ، وهؤلاء كما يقول أبو قلابة: «قَتَلُوا، وَسَرَقُوا، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَسَعَوْا فِي الأَْرْضِ فَسَادًا» .
وهذا الحديث فيه: دليل على جواز التحريق قصاصًا لا ردة؛ فهو مخصص لحديث أبي هريرة رضي الله عنه والحديثين السابقين في النهي عن التعذيب بالنار.
}3019{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الأَْنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الأُْمَمِ تُسَبِّحُ».
هذا الباب من غير ترجمة، وهو كالفصل من الباب السابق؛ فيكون تابعًا له، والمناسبة بينهما أنه لا ينبغي للإنسان أن يتجاوز بالتحريق؛ حيث يؤدي إلى ما لا يستوجب ذلك.
}3019{ أشار المؤلف رحمه الله إلى بعض طرق هذا الحديث، وفيها: «فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة» [(244)].
وفيه: إشارة أنه لو أحرق النملة التي قرصته لما عوتب، وهذا في شرع من قبلنا، وإن كان شرع من قبلنا فيه خلاف، لكن الصواب أنه شرع لنا إذا لم يأت شرعنا بنفيه.
حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ
}3020{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَالَ لِي جَرِيرٌ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ» وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ قَالَ: وَكُنْتُ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ أَوْ أَجْرَبُ قَالَ: «فَبَارَكَ فِي خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ».
}3021{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ.
}3020{ قوله: «أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ» ؛ وذو الخلصة: كان صنمًا تعبده خثعم يسمى الكعبة اليمانية، وأعيد مرة ثانية في زمن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ثم هدم، وسيعود مرة ثالثة في آخر الزمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة، وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية» [(245)]، يعني: بالطواف حول هذا الوثن.
وجرير رضي الله عنه هذا سيد مطاع، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكان لا يثبت على الخيل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» وهذه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فكان بعد ذلك يثبت.
قوله: «قال: فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات» ، أي: النبي صلى الله عليه وسلم جعل يكررها خمس مرات مقابل هذا الصنيع الطيب؛ حيث أزالوا هذا الوثن وحرقوه.
}3021{ قوله: «حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ» فيه: دليل على جواز تحريق الدور والنخيل وأنه لا بأس بذلك، وأن النهي عن التعذيب بها خاص بالآدميين وما فيه روح من الحيوانات والطيور والحشرات؛ فلا تحرق، أما الدور والنخيل فلا بأس.
قَتْلِ النَّائِمِ الْمُشْرِكِ
}3022{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنْ الأَْنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ لِيَقْتُلُوهُ فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ قَالَ: فَدَخَلْتُ فِي مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ قَالَ: وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ أُرِيهِمْ أَنَّنِي أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ فَوَجَدُوا الْحِمَارَ فَدَخَلُوا وَدَخَلْتُ وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ لَيْلاً فَوَضَعُوا الْمَفَاتِيحَ فِي كَوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا فَلَمَّا نَامُوا أَخَذْتُ الْمَفَاتِيحَ فَفَتَحْتُ بَابَ الْحِصْنِ ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ فَأَجَابَنِي فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ فَضَرَبْتُهُ فَصَاحَ فَخَرَجْتُ ثُمَّ جِئْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ كَأَنِّي مُغِيثٌ فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي فَقَالَ: مَا لَكَ لأُِمِّكَ الْوَيْلُ قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي مَنْ دَخَلَ عَلَيَّ فَضَرَبَنِي قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِي فِي بَطْنِهِ ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ الْعَظْمَ ثُمَّ خَرَجْتُ وَأَنَا دَهِشٌ فَأَتَيْتُ سُلَّمًا لَهُمْ لأَِنْزِلَ مِنْهُ، فَوَقَعْتُ فَوُثِئَتْ رِجْلِي، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا أَبِي رَافِعٍ تَاجِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ، قَالَ: فَقُمْتُ وَمَا بِي قَلَبَةٌ حَتَّى أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ.
}3023{ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنْ الأَْنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلاً فَقَتَلَهُ وَهُوَ نَائِمٌ.
قوله: «بَاب قَتْلِ الْمُشْرِكِ النَّائِمِ» ، يعني: إذا كان من المشركين، وقد بلغتهم الدعوة؛ فإنه يقتل.
}3022{، }3023{ قوله: «فَوَقَعْتُ فَوُثِئَتْ رِجْلِي» ، من العجلة والسرعة اختلت رجله من على السلم فأصيبت، لكن مع ذلك لما حركها لم يحس بها من نشوة الفرح بقتله.
قوله: «حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا» ، يعني: النساء تصيح تبكي عليه.
قوله: «َقُمْتُ وَمَا بِي قَلَبَةٌ» ، يعني: ذهب الوجع الذي برجله لما سمع النعايا، فلم يحس بشيء ورجله مكسورة.
وكان أبو رافع اليهودي يؤذي المؤمنين، ويؤلب الناس على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستعد له رضي الله عنه فقتله.
وفيه: جواز قتل المشرك إذا بلغته الدعوة واستمر على كفره وكان حربيًّا أو مؤذيًا للمسلمين وللمؤمنين، ويجوز قتله وهو نائم كما قتل أبو رافع، وقد أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم رهطًا من الأنصار، وقد كان معاديًا يقلب الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أنه ينبغي للإنسان أن يسلك مسلك الحيلة، فالصحابي تحيل فجاء حتى دخل الحصن، ولما طلبوا حمارًا لهم وجده معهم؛ كأنه منهم يبحث عنه، فلما دخلوا دخل واختفى، ووضعوا المفاتيح في كوة وهو ينظر إليها، ثم خرج، فهذا يدل على جواز التجسس على المشركين وطلب غرتهم، وجواز الحيل على الأذية من المشركين، وجواز قتل المشرك ولو كان نائمًا؛ لأنه مستمر على كفره وأذية المسلمين.
لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
}3024{ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ الْيَرْبُوعِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كُنْتُ كَاتِبًا لَهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى حِينَ خَرَجَ إِلَى الْحَرُورِيَّةِ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَْحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ».
}3025{ وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ كُنْتُ كَاتِبًا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ».
}3026{ وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا».
قوله: «بَاب لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ» ، هذه الترجمة ترجم بها البخاري رحمه الله على لفظ الحديث وترك الجواب؛ وذلك أن النهي محمول على أن يتمنى لقاء العدو افتخارًا ومباهاة على وجه الوثوق بالنفس والإعجاب، أما إذا تمناه على وجه الرغبة في الخير والنكاية في العدو والغيرة لله عز وجل وإعلاء كلمته؛ فلا بأس كما قال أنس بن النضر رضي الله عنه: «لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع» [(246)]، لما فاتته غزوة بدر، وهذا فيه نوع تمنٍّ، كما يتمنى المسلم الشهادة، وكما قال عمر رضي الله عنه: «اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم» [(247)].
}3024{، }3025{، }3026{ يستفاد من الحديث: بيان النهي عن تمني لقاء العدو، وقال بعض العلماء: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يئول إليه الأمر، وهو نظير سؤال الله عز وجل العافية من الفتن، وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاء وما أعد الله لصاحبه من جزيل الثواب إذا هو صبر، وذكر العافية وما أعد الله عز وجل لصاحبها من جزيل الثواب إذا هو شكر، فقلت: يا رسول الله، لأَن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ورسول الله يحب معك العافية» [(248)]؛ فالإنسان لا يدري ما تكون حاله، فمقابلة العدو للقتال فيها بذل النفس، والأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة، ثم قد يتمنى الإنسان لقاء العدو ويخالف ما وعد به نفسه؛ فيكون فيه صفة من صفات المنافقين الذين تمنوا ما حكاه القرآن: [التّوبَة: 75-76]{ومِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ *فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ *}، فالإنسان يسأل ربه العافية، فإذا ابتلي فإن عليه الصبر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» [(249)].
والحرورية الذين خرج في قتالهم عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه هم الخوارج، وقد كانوا سكنوا بلدة في العراق تسمى: الحروراء، ومن عقيدتهم أنهم يكفرون المسلمين بالمعاصي؛ فالزاني عندهم كافر والسارق كافر والعاق لوالديه كافر، وهذا لجهلهم؛ لأنهم لم يتعلموا النصوص ولم يتفقهوا في الدين ولم يتبصروا بالشريعة؛ ولهذا جاء وصفهم في الحديث بأنهم: «حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام» [(250)]، يعني: أسنانهم صغيرة وعقولهم ضعيفة، أو صغار السن يكفرون الناس، ويوجد في هذا الزمان من هذه أوصافهم؛ فبعض الشباب الآن يكفرون الناس، وبعضهم يكفرون العلماء والحكام.
فالنهي في هذا الحديث محمول على حالة ينهى فيها عن أن يتمنى المرء لقاء العدو افتخارًا ومباهاة على وجه الوثوق بالنفس والإعجاب، أما إذا تمناه على وجه الرغبة في الخير والنكاية في العدو والغيرة لله عز وجل وإعلاء كلمته سبحانه فلا بأس.
الْحَرْبُ خَدْعَةٌ
}3027{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هَلَكَ كِسْرَى ثُمَّ لاَ يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ ثُمَّ لاَ يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
}3028{ وَسَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً.
}3029{ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بُورُ بْنُ أَصْرَمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَرْبَ خَدْعَةً.
}3030{ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْحَرْبُ خَدْعَةٌ.
قوله: «بَاب الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» ، يقال: خَدْعة وخُدْعة وخُدَعة ثلاث لغات، والأولى أفصح، والخدعة بمعنى الحيلة، وهي الحيلة على وجه لا يكون فيه غدر عند قتال الأعداء؛ لأن المسلمين لا يغدرون، مثال ذلك: أن يكون العدو في حصن متحصن ولا يستطيع المسلمون قتالهم، فيريدون أن يخرجوهم من الحصن فيعلن قائد الجيش: الذهابَ الذهاب، وأنه سيذهب فيذهب الجيش، فإذا ذهبوا خرج العدو؛ أي: يوهم العدو أنه انصرف، فإذا خرج العدو من الحصن كر عليهم المسلمون؛ هذا من الخدعة، ومثال ذلك أيضًا أن يكون أحد المقاتلين يوهم أن يفر من شخص؛ لأنه في مكان غير مناسب، فإذا اتبعه العدو كر عليه، ومن الخدعة كذلك التعمية على الكفار إذا أرادوا الغزو جهة الشرق، سار على الطريق من جهة الغرب، وإذا غزوهم من جهة الشمال، سار على الطريق من جهة الجنوب، وإذا أرادوا من جهة الجنوب، سار على الطريق من جهة الشمال، حتى يعمي على العدو. وكذا يقال مثلاً: لو أنهم سألوا الرسول في جيش المسلمين: كم عدد الجيوش؟ يقول: عدد الجيوش كذا وكذا بأكثر من الواقع؛ حتى يرهب العدو، وتنتشر الأخبار، ويبغت العدو، أما الغدر فممنوع.
}3027{، }3028{، }3029{، }3030{ قوله: «هَلَكَ كِسْرَى ثُمَّ لاَ يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ ثُمَّ لاَ يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ» ، هذه بشارة للمؤمنين وعَلَم من أعلام النبوة، وكسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم، فكل مَن ملك الفرس يقال له: كسرى، وكل من ملك الروم يقال له: قيصر، وكل مَنْ ملك الحبشة يقال له: النجاشي، وكل من ملك مصر يقال له: فرعون، وكل من ملك اليمن يقال له: تُبَّع، وكل من ملك العراق يقال له: نمروذ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا هلك كسرى فلا يكون بعده كسرى، وإذا هلك قيصر فلا يكون بعده قيصر، وهذا هو الواقع لما فتحت الفرس ما بقيت دولة الأكاسرة في العراق، وكذلك لم تقم دولة للروم بعد ذلك الوقت في مكانهم.
قوله: «وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، وقد وقع كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ففتحت الشام بلاد الروم، وفتحت العراق بلاد الفرس، ثم أنفقت كنوزهما في سبيل الله عز وجل في زمن عمر رضي الله عنه.
قوله: «وَسَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً» ، وأصل الخداع هو إظهار أمر وإرادة خلافه.
وفي هذا الحديث التحريض على أخذ الحذر في الحرب والندب إلى خداع الكفار.
وفيه: أنه من لم يكن عنده يقظة لا يأمن أن ينعكس الأمر عليه؛ فيجوز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن، والخداع هنا الحيلة التي ليس فيها غدر، ولا يكون فيها نقض عهد، ولا نقض للأمان كما سبق.
وكذلك في الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي: في الحرب وأنه آكد من الشجاعة، والرأي: والتدبير والمكيدة للعدو من الخدعة، والتدبير والرأي: السديد مقدم على الشجاعة؛ ولهذا يقول الشاعر:
الرأي: قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
ولهذا قال العلماء: إن الشيخ الكبير لا يقتل في الحروب إلا إذا كان له رأي: في الحرب، ولو كان شيخًا هرمًا، حيث تجد الشيخ هرمًا لكنه يدبر الجيوش، مثل دريد بن الصمة فقد كان شيخًا كبيرًا طعن في السن وبلغ من الكبر عتيًّا ويحمل على الهودج على البعير وكان أعمى لا يرى، لكنه إذا نزل يسألهم عن الأرض، وعن المكان ويدبر الجيوش؛ ولذا فإن هذا يقتل لأن له رأيًا في الحرب، والرأي: والتدبير والتخطيط له مكانته في الحروب؛ ولهذا اشتهر خالد ابن الوليد رضي الله عنه سيف الله عز وجل المسلول بالرأي: والتدبير وتقسيم الجيوش إلى ميمنة وميسرة وقلب، والتدبير والتخطيط نصف الحرب.