شعار الموقع

شرح كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري (56-12)

00:00
00:00
تحميل
122

  الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ

}3031{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَْشْرَفِ» فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَنَّانَا، وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: فَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ.

 

قوله: «بَاب الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ» ، هذه الترجمة معقودة لبيان جواز الكذب في الحرب؛ فالكذب في الحرب جائز للمصلحة.

}3031{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث جابر رضي الله عنه في قصة قتل كعب بن الأشرف لعنه الله عز وجل.

قوله: «قَدْ عَنَّانَا» ، يعني: أتعبنا بالأوامر والنواهي.

قوله: «وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ» ، يعني: طلبها منا ليضعها مواضعها.

قوله: «وَأَيْضًا وَاللهِ» ، وفي رواية: «وأيضًا والله لتَمَلُّنَّه» [(251)].

قوله: «فَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ» ، فيه: إيهام عدم الإيمان.

لكن أصرح من هذا حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها عند الترمذي: «لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس» [(252)]، وكذلك حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها قالت: رخص النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب في ثلاث: في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وقول الرجل لامرأته[(253)]، فهذا كله أصرح من الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله؛ لأن قوله: «قَدْ عَنَّانَا» ، قد يقال: إنه ليس فيه كذب وإنه من باب التورية.

قوله: «قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ» ، فيه: دليل على قتل الكافر الذي نقض عهده كأذيته للمؤمنين، وكعب بن الأشرف هذا من العرب وهو يهودي وقد نقض عهده، فقد آذى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فكان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ويهجوه ويحرض كفار قريش على قتاله فانتقض عهده؛ فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؛ فَيُقتل الكافر إذا كان له ذِمة ثم نقض الذمة والعهد.

وفيه: دليل على أنه يقال: فلان آذى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من الكفرة، ولكن لا يلزم من الأذى الضرر؛ فالله تعالى لا يلحقه ضرر من خلقه ولا يضره أحد من خلقه؛ فقد قال الله تعالى: [الأحزَاب: 57]{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِيناً *}، فيكون هذا فيه أذى.

وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر» [(254)]، وفي الحديث الآخر: «قال الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغى له أن يشتمني، وكذبني وما ينبغي له أن يكذبني؛ أما شتمه إيأي: فقوله: إن لي ولدًا وأنا الله الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد» [(255)]، إلى آخر الحديث القدسي، وهذا فيه أن السب يسمى شتمًا.

وفيه: أن الكفار يؤذون الله عز وجل ويؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا الأذى لا يحصل منه ضرر.

  الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ

}3032{ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَْشْرَفِ؟»، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأْذَنْ لِي فَأَقُولَ، قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ».

 

قوله: «بَاب الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ» ، يعني: الحربيين الذين يحاربون المسلمين وما هم بالذميين ولا المستأمنين، والذمي هو اليهودي أو النصراني الذي له ذمة عند المسلمين وعهد ويؤدي الجزية عن يد وهو صاغر، والمستأمن هو الذي دخل بلاد المسلمين بأمان؛ فهؤلاء لا يجوز قتلهم ولا أخذ مالهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة» [(256)].

أما الحربي فهو الذي ليس بيننا وبينه إلا الحرب، فقد أعلن الحرب بيننا وبينه فيفتك به ويقتل، وماله حلال ودمه حلال في أي: وقت.

}3032{ ذكر المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة حديث جابر رضي الله عنه أيضًا في قصة قتل كعب بن الأشرف.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَْشْرَفِ؟» يعني: من يريحنا منه؟ فإنه قد آذى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، «فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأْذَنْ لِي فَأَقُولَ» ، يعني: ائذن لي أن أتكلم فيك؛ حتى أتوصل بهذا إلى قتله.

وفيه: دليل على جواز الكذب في الحرب، «قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ»» ؛ وذلك لأن كعب بن الأشرف قد نقض عهده في تأليبه على النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه والإعانة على حرب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا قتله محمد بن مسلمة سرًّا.  مَا يَجُوزُ مِنْ الاِحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ يَخْشَى مَعَرَّتَهُ

}3033{ قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، فَحُدِّثَ بِهِ فِي نَخْلٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ طَفِقَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَابْنُ صَيَّادٍ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا صَافِ هَذَا مُحَمَّدٌ فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ».

 

هذه الترجمة فيها بيان ما يجوز من الاحتيال؛ وهو: من الحيلة والحذر، مع من تخشى معرته وفساده.

ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة احتيال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد، قال: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ» ، وابن صياد هذا: صبي قد قارب الحلم من صبيان اليهود، وكان أمره قد أشكل على النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر فظن أنه الدجال الأكبر، ثم بعد ذلك تبين له أنه دجال من الدجاجلة يعمل بالشعوذة، من ذلك أنه كان ينتفخ في السوق حتى يملأ السوق[(257)]، ومن ذلك أن ابن عمر رضي الله عنهما لقيه وقد نفرت عينه، فقال له: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري، فقال له ابن عمر: لا تدري وهي في رأسك!! فنخر ابن صياد كأشد نخير حمار، فضربه ابن عمر بعصًا كانت معه حتى تكسرت[(258)]، حتى إن بعض الصحابة ظن أنه الدجال الأكبر ويقسم على هذا.

قوله: «فَحُدِّثَ بِهِ فِي نَخْلٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ طَفِقَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَابْنُ صَيَّادٍ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما حُدث أن ابن صياد في نخل ذهب وطفق يتقي بجذوع النخل ـ وهذا من الحيلة ـ ليسمع من ابن صياد ليستدل به عليه، وهذا ظاهر في الاحتيال؛ حيث يتقي صلى الله عليه وسلم بجذوع النخل وابن صياد متغطٍّ في قطيفة له فيها رمرمة ـ يقال: رمرمة براءين ويقال: زمزمة ـ يريد أن يسمع منه.

قوله: «فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا صَافِ هَذَا مُحَمَّدٌ فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ» ، أي: رأت أم ابن صياد النبي صلى الله عليه وسلم في النخل فقالت: يا صاف ـ اسمه: صاف بن صياد ـ هذا محمد، فوثب وقام من القطيفة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ» ، أي: سمع من كلامه فتبين له صلى الله عليه وسلم هل هو دجال أم هو كاهن أم هو الدجال الأكبر؟

  الرَّجَزِ فِي الْحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ

فِيهِ سَهْلٌ وَأَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَفِيهِ يَزِيدُ عَنْ سَلَمَةَ.

}3034{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَْحْوَصِ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ وَكَانَ رَجُلاً كَثِيرَ الشَّعَرِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ:

اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

وَثَبِّتْ الأَْقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا

إِنَّ الأَْعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.

 

قوله: «باب الرجز في الحرب ورفع الصوت في حفر الخندق» ، الرَّجز بحر من بحور الشعر؛ فالشعر له بحور متعددة منها بحر الطويل، وهو أطولها وتفعيلته: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، ومن ذلك قصيدة امرؤ القيس، فالغالب عليها بحر الطويل، أما الرجز فتفعيلته: مستفعلن مستفعلن مستفعلن، وهو شعر خفيف؛ لذلك يسمونه حمار الشعراء، فكل واحد يستطيعه كأنه سجع؛ فلهذا كان الذي لا يستطيع أن يقول الشعر يقول الرجز، وجرت عادة العرب استعماله في الحرب؛ ليزيد في النشاط ويبعث الهمة؛ ولهذا تمثل النبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق بشعر عبدالله بن رواحة رضي الله عنه:

اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

وَثَبِّتْ الأَْقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا

إِنَّ الأَْعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

وكلها دعوات طيبة.

وفي لفظ:

إن الألى قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع صوته: إذا أرادوا فتنة أبينا أبينا أبينا[(259)]، والصحابة كذلك.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم يرتجزون يوم الخندق وهم يحفرون الخندق حول المدينة؛ لأنها كانت أيامًا طويلة فيها مشقة مع شدة الجوع والتعب فكانوا يرتجزون حتى يزداد نشاطهم وتنبعث همتهم بالرجز والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، وهذا دليل على أن رئيس القوم ينبغي أن يكون في المقدمة مع الناس فيشجعهم في الحروب وفي غيرها؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق ينقل التراب، حتى وارى التراب شعر صدره صلى الله عليه وسلم، وغطى التراب شعر رأسه صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الشعر صلى الله عليه وسلم، وهو يرتجز بهذا الرجز.

وقوله: «فِيهِ سَهْلٌ وَأَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ يَزِيدُ عَنْ سَلَمَةَ.» ، يعني: ثلاثة أحاديث: حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وأصله في غزوة الخندق وفيه:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخره

فاغفر للأنصار والمهاجره[(260)]

وحديث أنس رضي الله عنه تقدم أيضًا في باب حفر الخندق[(261)]، وحديث يزيد هو ابن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:

اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا[(262)]

}3034{ فيه: رفع الصوت في حفر الخندق، فكان الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم ويرتجزون؛ فلا بأس بهذا، أما النهي الذي جاء عن رفع الصوت فهذا خاص في حال القتال[(263)].

  مَنْ لاَ يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ

}3035{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.

}3036{ وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا».

 

قوله: «بَاب مَنْ لاَ يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ» ، يعني: ماذا يعمل له؟

والجواب: أنه يسأل ربه عز وجل أن يثبته، ويُدعى له.

}3035{ قوله: «مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي» ، والقائل هو: جرير رضي الله عنه وهو: ابن عبدالله البجلي، وكان جرير رضي الله عنه سيدًا وشريفًا ورئيسًا في قومه؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجبه ولا يمنعه من الدخول، والحجب معناه: أنه إذا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم قال له البواب مثلاً: إنه مشغول، ائت في وقت آخر، لكن الرؤساء لهم مكانتهم؛ فجرير رضي الله عنه رئيس وشريف فلا يحجب، ولو حجب لكان في نفسه حاجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما حجبه وكلما أتى يستأذن عليه أذن له صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم، والرؤساء والأشراف لو منعوا من الدخول وحُجبوا لكان فيه تنفير لهم عن الإسلام، ولبقيت حزازات في نفوسهم؛ فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجب جريرًا رضي الله عنه ويأذن له.

 

}3036{ قوله: «وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا»» ، فزال بعد ذلك ما كان به؛ فكان يثبت على الخيل، وهذا فيه علامة من علامات النبوة؛ حيث إن الله عز وجل ثبته ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له وضربه بيده في صدره.

وفيه: استجابة الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم.

وفيه: إشارة إلى فضيلة ركوب الخيل والثبات عليها، وفي الحديث الآخر: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» [(264)]؛ فالخيل باقية إلى يوم القيامة تستعمل في الحروب، حتى في الحروب الحديثه باقية؛ مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم، وتستعمل الخيل في الأمكنة التي لا تصل إليها السيارات في الجبال وفي الظلماء وفي نقل السلاح وفي التنقلات السرية؛ فهي مما لا يستغنى عنها.

  دَوَاءِ الْجُرْحِ بِإِحْرَاقِ الْحَصِيرِ

وَغَسْلِ الْمَرْأَةِ عَنْ أَبِيهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَحَمْلِ الْمَاءِ فِي التُّرْسِ.

}3037{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ قَالَ: سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي كَانَ عَلِيٌّ يَجِيءُ بِالْمَاءِ فِي تُرْسِهِ وَكَانَتْ يَعْنِي فَاطِمَةَ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأُحْرِقَ ثُمَّ حُشِيَ بِهِ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

 

}3037{ هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله وأورد تحتها هذا الحديث؛ لثلاثة أحكام:

الحكم الأول: دواء الجرح بإحراق الحصير، وهذا مأخوذ من الحديث بأن فاطمة رضي الله عنها داوت جرح النبي صلى الله عليه وسلم فأحرقت الحصير وألصقته به.

الحكم الثاني: وهو حكم غسل المرأة عن وجه أبيها الدم، فلا بأس بأن تغسل المرأة الدم عن وجه أبيها.

الحكم الثالث: وفيه: حمل الماء في الترس، والترس يقال له: الحجفة والدرقة، وهي حديدة مجوفة يضعها الفارس أمام وجهه يتقي بها وقع النبال، وكان علي رضي الله عنه يحمل الماء في الترس وكانت فاطمة رضي الله عنها تصب الماء على وجه أبيها صلى الله عليه وسلم، فلما رأت أن الدم يزيد ولا ينفع فيه الماء جاءت بحصير فأحرقته وألصقته به.

وهذه الأحكام الثلاثة مأخوذة من الحديث، وفي الحديث: جواز التداوي وأنه لا ينافي التوكل على الله عز وجل وهو مستحب؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «فتداووا ولا تداووا بحرام» [(265)]، والتداوي غير الرقية ليس فيه كراهة، إنما الكراهة في ترك الأولى، والكراهة في الرقية؛ لأن تركها من صفات السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فهم لا يسترقون؛ يعني: لا يطلبون أحدًا يرقيهم، أما التداوي والتطبب فلا يدخل في هذا.

وفيه: أن إحراق الحصير علاج للجرح فهو مجرب، والطب كله تجارب، وأصل الطب التجارب، وإذا جرب شيء واستعمل فلا بأس إذا كان ليس فيه محذور.

وفيه: المساعدة والمعاونة في العلاج؛ فكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدم وعلي رضي الله عنه يصب الماء.

وفيه: مشروعية القيام بعلاج الرئيس والعظيم كالنبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: من الفوائد فائدة عظمى؛ وهي أن الأنبياء بشر وليسوا آلهة يعبدون، ولكنهم تصيبهم الأمراض والأسقام والجراحات والهموم ويسلط عليهم الأعداء ولا يدفعون عن أنفسهم، ولو كانوا آلهة ما أصابتهم، ومنهم من قُتل كزكريا عليه السلام ويحيى عليه السلام، وقد قال الله تعالى عنهم: [البَقَرَة: 87]{فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ *} فدل على أنهم لا يصلحون للعبادة، وأن العبادة هي حق خالص لله عز وجل، فلو كانوا آلهة لدفعوا عن أنفسهم الأمراض والمصائب فلم تصبهم، ودل أيضًا على أنهم بشر يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون ويبولون ويتغوطون، إلا أن الله عز وجل أكرمهم بالنبوة، وليسوا آلهة يعبدون مع الله عز وجل، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا نفعًا؛ فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: [الأعرَاف: 188]{قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *}، فهذه مهمته صلى الله عليه وسلم؛ البشارة والنذارة، فما هو إله يعبد؛ إذ العبادة حق الله عز وجل وحده، لا يستحقها ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حقه المحبة والتعظيم والاتباع والتصديق لأخباره، والتعبد لله عز وجل بشريعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

  مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ

وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.

قَالَ قَتَادَةُ: الرِّيحُ الْحَرْبُ.

}3038{ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا».

}3039{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلاً عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ» فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلاً.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاَءِ فَقَدْ قُتِلُوا فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ أُعْلُ هُبَلْ أُعْلُ هُبَلْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ؟»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ قَالَ: قُولُوا «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»، قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ»، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: «اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ».

 

قوله: «بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ، وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ» ؛ وذلك لبيان أن التنازع والاختلاف في الحرب من أسباب الهزيمة، وأن عصيان القائد والإمام في الحرب من أسباب الهزيمة وحرمان الغنيمة.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله قول الله تعالى: «{وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يعني: قوتكم، [الأنفَال: 46]{وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *}، فالله عز وجل نهى عن التنازع والفشل وذهاب الريح.

 

}3038{ قوله: «وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا» ؛ فإن هذا الاختلاف من أسباب الفشل، بل يجب أن يتفق الولاة والأمراء إذا كانوا في مكان؛ فإن أبا موسى ومعاذًا رضي الله عنهما قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما على مخلاف إلى اليمن ـ يعني: هذا جهة الجنوب، وهذا جهة الشمال ـ فلابد أن يتطاوعا ويتفقا، أما إذا اختلفا؛ صار هذا من أسباب فشلهما وعدم أداء مهمتهما التي أرسلا إليها.

ولقد بين الله تعالى أسباب النصر في كتابه فقال سبحانه: [الأنفَال: 45]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}، فالثبات وذكر الله عز وجل هو السبب الأول، وطاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وعدم المعصية هو السبب الثاني [الأنفَال: 1]{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، والنهي عن التنازع هو السبب الثالث قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فإذا حصل اختلاف وتنازع، وصار كل له رأي، وعصي الإمام وقائد الجيش؛ فيكون هذا من أسباب الهزيمة، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، الصبر والتحمل وعدم الفرار واحتساب الأجر عند الله عز وجل حتى النصر أو الشهادة، هذا هو السبب الرابع، [الأنفَال: 47]{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ *}، فهذه الآيات إذا طبقها المسلمون انتصروا على أعدائهم.

 

}3039{ قوله: «جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلاً عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ» ، وقد كانوا على جبل صغير يشرف على المعركة[(266)]، وجعل قائدهم عبدالله بن جبير رضي الله عنه، وهذا في غزوة أحد سنة ثلاث من الهجرة.

قوله: «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ» ، يعني: في حالة الهزيمة وفي حالة النصر لا يتحركون من هذا المكان، فهو مدخل للعدو.

قوله: «فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ» ، القائل هو البراء رضي الله عنه، وأسوقهن جمع: ساق، وكان نساء المشركين مشهورات بالحرب.

قوله: «الْغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ» أي: حرف نداء؛ يعني: يا قوم، الغنيمة يا قوم، الغنيمة.

قوله: «ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟» يعني: انتصر المسلمون فهلم نجمع معهم الغنائم، وذكرهم أميرهم عبدالله بن جبير رضي الله عنه قائلاً: «أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» أن لا تبرحوا مكانكم؛ فعصوا وقالوا: «وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ» ، فحصلت الهزيمة بسبب معصيتهم، «فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ» ، يشير إلى قول الله تعالى: [آل عِمرَان: 153]{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}، وتصعدون يعني: تفرون.

قوله: «فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ» ، يعني: قتل المشركون من المسلمين سبعين، «وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلاً» ، يعني: يوم بدر أصاب المسلمون من المشركين مائة وأربعين، ويوم أحد أصاب المشركون من المسلمين سبعين، يعني: النصف؛ ولهذا يذكرهم الله عز وجل بالمعصية التي عصى بها هؤلاء الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم على الجبل، وأن هذا هو سبب الهزيمة؛ فقال الله تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}، يعني: في غزوة بدر، ومثليها، أي: مرتين؛ قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، وأصابكم المشركون بسبعين؛ أي: النصف، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}، من أين جاءنا؟ استفهام استبعاد؛ من أين جاءتنا الهزيمة؟! وجاء الجواب: [آل عِمرَان: 165]{قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، فهو من عند أنفسكم بسبب المعصية والتنازع والفشل؛ فهؤلاء الرماة الذين أخلوا الجبل لما ذهبوا يجمعون الغنائم جاءهم خالد بن الوليد رضي الله عنه ـ وكان على خيل المشركين قبل أن يسلم ـ فدخل من المكان، وجاءوا واختلطوا بالمسلمين وحصلت النكسة والهزيمة والقتل والجراح؛ ولهذا قال الله تعالى: [آل عِمرَان: 152]{وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}، [آل عِمرَان: 165]{قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}.

[آل عِمرَان: 166]{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ *}، ويقول الله تعالى في هذه الغزوة: [آل عِمرَان: 152]{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}، يعني: وعدكم بالنصر وصدقكم عليه، {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}، يعني: تقتلون المشركين في غزوة أحد، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}، فشلتم وتنازعتم؛ يعني: حصل فشل وتنازع وعصيان من الرماة لقائدهم، [آل عِمرَان: 152-153]{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ *إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} فاستدركهم الله عز وجل.

[آل عِمرَان: 154]{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}، يعني: أصابهم النعاس، والنعاس في القتال دليل الإيمان، {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}، وهم المؤمنون، {وَطَائِفَةٌ} ، أخرى، {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ، وهم المنافقون؛ لا يأتيهم النعاس بل أصابهم الهلع في قلوبهم لعدم الإيمان، فما عندهم إيمان ولا ثبات، [آل عِمرَان: 154]{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، يظنون أن هذه الفاصلة، وأنه سيقضى على المسلمين، وأنه لن تقوم للمسلمين قائمة، وأن الإسلام سيستأصل، وهذا هو ظن الجاهلية، وهو أنهم يظنون أن هذا الدين سينتهي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقتل، وأنه لن تقوم له قائمة، ومن ظن بالله عز وجل هذا الظن فقد ظن ظن السوء، هذا هو ظن الكفرة والمنافقين، وليس ظن المؤمنين.

ولما انتهت الحرب قال أبو سفيان رضي الله عنه ـ وكان هذا قبل أن يسلم، وقد أسلم رضي الله عنه يوم فتح مكة وحسن إسلامه ـ وهو قائد الجيوش: «أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» ، وهذا ما يعرف بالحرب النفسية الآن، «فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» ، يعني: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، «ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاَءِ فَقَدْ قُتِلُوا» ، أي: الرؤساء قتلوا فما بقي أحد، وهذه هي الحرب النفسية، «فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ» ، فلم يصبر عمر رضي الله عنه ورد عليه حتى يزيل الأثر النفسي عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم اطلع أبو سفيان مرة أخرى قائلا: «يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ» ، يعني: أنتم غلبتمونا في بدر، ونحن غلبناكم في أحد، والحرب سجال، يوم لنا ويوم علينا، يوم لكم في بدر ويوم لنا في أحد، ثم قال: «إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤْنِي» يعني: ستجدون القتلى الذين قتلنا منكم فيهم مثلة لم آمر بها ولم أكرهها، والمثلة هي: تقطيع الأعضاء، كالأصابع أو الأذن أو الأنف، وهذا يسمى التمثيل، ثم أخذ يرتجز ويطلب الانتصار للصنم:

«اعل هبل

اعل هبل»

يعني: الآن انتصر يا هبل، الآن انتصرنا، وهبل هذا: صنم كبير كان في مكة، «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ؟»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ قَالَ: قُولُوا «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»» فأجابوه، ثم عاد مرة ثانية إلى الأصنام فقال: «إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ» ، والعزى شجرة كانت تعبدها قريش، «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ»، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: «اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»» .

والشاهد من الحديث: أن التنازع والاختلاف والفشل والعصيان من أسباب الهزيمة.

  إِذَا فَزِعُوا بِاللَّيْلِ

}3040{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ، قَالَ: وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا، قَالَ: فَتَلَقَّاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ لأَِبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقَالَ: «لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَجَدْتُهُ بَحْرًا» يَعْنِي الْفَرَسَ.

 

قوله: «بَاب إِذَا فَزِعُوا بِاللَّيْلِ» ، يعني: ينبغي لأمير العسكر أن يستكشف الخبر بنفسه أو من يندبه إذا فزعوا بالليل.

}3040{ هذا حديث أنس رضي الله عنه في فرس أبي طلحة رضي الله عنه، وقد ساقه المؤلف رحمه الله مرات عديدة؛ لاستنباط الأحكام.

وفيه: شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ قَالَ: وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا قَالَ: فَتَلَقَّاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ لأَِبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ» ، يعني: لما فزعوا ليلاً سمعوا صوتًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم بادر من شجاعته فسبق الناس كلهم وأخذ سيفًا وجعله في عنقه وركب الفرس عريًّا ما عليه شيء؛ بسبب السرعة والعجلة، وكان هذا الفرس بطيء السير؛ فضربه صلى الله عليه وسلم فصار قويًّا وسريعًا في الجري، ولما ذهب الناس للصوت تلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخبر فقال: «لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا» ، يعني: لا شيء لا شيء، ارجعوا ليس عليكم شيء، «ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَجَدْتُهُ بَحْرًا»» ، يعني: أن الفرس كان واسع الجري، وهذه شجاعة عظيمة؛ فقد بادر النبي صلى الله عليه وسلم وقفز على الفرس ـ وكان عريًّا ـ ووضع سيفه في عنقه واستبرأ الخبر وتلقى الناس ذاهبين، وهو راجع يطمئنهم بشجاعة عظيمة.  مَنْ رَأَى الْعَدُوَّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا صَبَاحَاهْ

حَتَّى يُسْمِعَ النَّاسَ

}3041{ حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلاَمٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قُلْتُ: وَيْحَكَ مَا بِكَ؟ قَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ، فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا يَا صَبَاحَاهْ يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ وَقَدْ أَخَذُوهَا فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَقُولُ: أَنَا ابْنُ الأَْكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ، فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ فَابْعَثْ فِي إِثْرِهِمْ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الأَْكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ».

 

هذه الترجمة فيها المناداة عند حصول العدوان والاستغاثة منه، والمناداة تكون بالصوت المرتفع، وينبغي للإنسان أن يستغيث بالمسلمين على الكفار إذا قدم العدو، وهو قوله: «يَا صَبَاحَاهْ» ، وكانت عادتهم أنهم يغيرون في وقت الصباح؛ فكأنه يقول: تأهبوا بما داهمكم صباحًا، أي: تأهبوا للأمر الذي داهمكم.

}3041{ قوله: «ُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، أي: سرقت لقاح إبل الصدقة، «قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ» ، فهم قد أخذوا إبل الصدقة وسرقوها، وكان سلمة رضي الله عنه شجاعًا، فقال: «فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا» ، يعني: ما بين لابتي المدينة، وكانت المدينة في ذلك الوقت بين لابتين عرضها بريد في بريد، فصرخ رضي الله عنه ثلاث صرخات فسمعه أهل المدينة كلهم وهو ينادي: «يَا صَبَاحَاهْ يَا صَبَاحَاهْ» ، يعني: داهمكم العدو، وهو يستغيث، فلما صرخ ثلاث صرخات اندفع وراء فزارة وغطفان حتى أدركهم بسرعته وهمته وشجاعته، فلما أدركهم جعل يرميهم بالنبل ويقول: «أَنَا ابْنُ الأَْكْوَعِ» ، ينوه عن نفسه، «وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ» ، يعني: يوم هلاك اللئام.

قوله: «فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا» ، لما رأوه جازما عليهم يرميهم بالنبال ظنوا أن وراءه أحدًا، وأنه يتقدمهم؛ فتركوها وهربوا راضين بالسلامة، وما عنده أحد، ولكن من شجاعته وقوته صار يرميهم ويقول: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم اللئام، فقالوا: هذا وراءه مدد؛ فلولا أنه وراءه أحد ما عمل مثل هذا؛ فاستنقذها قبل أن يشربوا، وجاء بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ وجاء الناس فلحقوه، فقال سلمة رضي الله عنه: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ فَابْعَثْ فِي إِثْرِهِمْ» ، يعني: الحقهم الآن وقاتلهم، فقال: «يَا ابْنَ الأَْكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ» فأحسن وارفق والسجادة السهو له «إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ» ، يعني: أنهم الآن وصلوا إلى قومهم، وهم الآن في ضيافتهم؛ يعني: استنقذنا الإبل ولا حاجة لنا في اتباع آثارهم.

والشاهد: أنه ينبغي إذا دهم العدو؛ فالمسلم يستغيث ويرفع صوته وينادي المسلمين حتى لا يأخذهم العدو على حين غِرة، وحتى يستنقذوا ما أخذه منهم.

  مَنْ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ فُلاَنٍ

وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَْكْوَعِ.

}3042{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَوَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ: الْبَرَاءُ وَأَنَا أَسْمَعُ أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ:

أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

قَالَ: فَمَا رُئِيَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ.

 

ما جاء في ترجمة الباب يشير إلى الحديث السابق أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه جعل يرميهم ويقول: أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع.

}3042{ فيه: حديث البراء رضي الله عنه.

وفيه: غزوة حنين، وأنهم في أول الأمر ولوا مدبرين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم من شجاعته كان يُركِض بغلته إلى القوم.

قوله: «كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ» ، كان يأخذ بالعنان حتى لا تتقدم.

قوله: «فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ:

أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»

كان النبي صلى الله عليه وسلم يركض ببغلته ويتقدم وينوه وهو فوقها، ينوه باسمه صلى الله عليه وسلم حتى يعرفه من لم يعرفه، حتى إذا أراده العدو قصده وليس عنده أحد.

قوله: «فَمَا رُئِيَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ» ، هذا يدل على شجاعة عظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أمر العباس رضي الله عنه ـ وكان صيتًا ـ أن ينادي: «يا أهل الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة» ، فقالوا: «يا لبيك يا لبيك» [(267)]، فعطفوا عليه عطفة البقر على أولادها، ثم جاءوا فاقتتلوا مع هوازن حتى هزموهم.

  إِذَا نَزَلَ الْعَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ

}3043{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُوَ ابْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ» قَالَ: «فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ»، قَالَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ».

 

قوله: «بَاب إِذَا نَزَلَ الْعَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ» ، يعني: إذا نزل العدو على حكم رجل، فأجازه الإمام ـ نفذ.

}3043{ قوله: «لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ» ، فبنو قريظة لما نقضوا العهد وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وظنوا أنه سيرفق بهم؛ لما كان بينهم وبينه من صلة في الجاهلية؛ فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس، وكانوا قد نقضوا العهد، وكان رضي الله عنه قد أصيب في أكحله في غزوة الخندق، فأتي به وقد ركب على حمار، فلما دنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» .

وفيه: أنه لا بأس أن يقال: قوموا إلى سيدكم ـ بالإضافة ـ مثل: سيد بني فلان، ولكن قول: السيد فلان، هو الذي جاء النهي عنه بالإطلاق؛ لما قيل له: أنت سيدنا، قال صلى الله عليه وسلم: «السيد الله تبارك وتعالى» [(268)].

وفيه: جواز القيام للقادم للسلام عليه والتحية، والقيام ثلاثة أنواع:

النوع الأول: القيام له للسلام عليه والتحية؛ فهذا جائز، فإذا جاء إنسان ودخل المجلس تقوم وتسلم عليه وتحييه؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على فاطمة رضي الله عنها قامت فحيته وقبلته، وإذا دخلت فاطمة رضي الله عنها قام النبي صلى الله عليه وسلم وحياها وقبلها؛ فهذا لا بأس به.

النوع الثاني: القيام له؛ لتعظيمه فقط بدون سلام، فإذا دخل قاموا، وإذا جلس جلسوا، كما هو موجود في بعض مجالس الكبراء والعظماء؛ إذا دخل واحد قاموا وإذا جلس جلسوا، وكما يفعل في بعض المدارس؛ إذا دخل المدرس قاموا للاحترام والتعظيم؛ فهذا مكروه كراهة شديدة، أو محرم، كما جاء في الحديث: «من أحب أن يُمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار» [(269)]؛ فهو دائر بين الكراهة الشديدة والتحريم.

النوع الثالث: القيام عليه وهو جالس، كما تفعل الأعاجم؛ فهذا محرم إلا إذا كان للحراسة؛ ولهذا لما جلس النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، يصلي بهم وهو مريض، جعلوا يصلون خلفه وهم قيام؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود» [(270)]، يعني: يقفون على رءوس ملوكهم وهم جلوس، إلا إذا كان للحراسة كما كان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه يحرس النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية[(271)].

قوله: «إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ» قَالَ: «فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ» ، يعني: يقتل الرجال البالغون، وأما النساء والذرية فيُبقَى عليهم، وكان الصبي الذي يَشُكّون في بلوغه؛ هل هو بالغ أم غير بالغ؟ يكشفون عن مؤتزره؛ فإن كان أنبت الشعر الخشن حول الفرج قُتل، وإن لم ينبت جُعل في الذراري، ويدل ذلك على أن من علامات البلوغ إنبات الشعر الخشن، وكان كعب القرظي رضي الله عنه ممن لم ينبت؛ فترك مع الذرية فكان خيرًا له.

قوله: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ» ، وفي اللفظ الآخر: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» [(272)]؛ أن يُقتل الرجال، وتُسبى النساء والذرية.

وفيه: أن من أسماء الله عز وجل الملك، وهو من الأسماء المشتركة، وأسماء الله عز وجل نوعان:

النوع الأول: أسماء مشتركة ؛ مثل: الملك والعزيز والسميع والبصير والرحيم والغفور والرءوف؛ فهي تطلق على الله عز وجل وتطلق على غيره، وإذا أطلقت على الله عز وجل فله ما يليق به، والمخلوق له ما يليق به.

النوع الثاني: أسماء خاصة بالله عز وجل لا يجوز إطلاقها على غير الله عز وجل ، وهي عَلَم على الذات الإلهية؛ كاسم الرحمن، ومالك الملك، وخالق الخلق، ورب العالمين. كما أن هناك أسماء لله عز وجل لابد أن يُقرن بينها؛ كالنافع الضار والمعطي المانع والقابض الباسط والخافض الرافع؛ فلا يقال: الضار من أسمائه؛ بل يقال: النافع الضار، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعطي المانع.

*  قَتْلِ الأَْسِيرِ وَقَتْلِ الصَّبْرِ

}3044{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ».

 

هذه الترجمة معقودة لقتل الأسير وقتل الصبر، والأسير المشرك الذي يأسره المسلمون، يُخَيّر الإمام فيه بين أن يقتله إذا رأى مصلحة في قتله؛ كأن يكون اشتد أذاه للمسلمين، كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وطعيمه بن عدي؛ حيث قُتلوا صبرًا لشدة عداوتهم، وله أن يجعله رقيقًا، وله أن يمن عليه بفداء يفادي به نفسه فيدفع ثمنًا لنفسه، وله أن يمن عليه مجانًا بدون فداء، والخلاصة أنها أربعة حلول يخير فيها الإمام بين قتل الأسير، وبين المن عليه بفداء، وبين المن عليه بغير فداء، وبين استرقاقه.

}3044{ قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» ، وهذا من فعل الأسباب؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس المغفر على رأسه ليتقي به وقع النبال، فالأسباب لا تنافي التوكل على الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، ومع ذلك كان يلبس المغفر على رأسه[(273)]، وأيضًا لبس صلى الله عليه وسلم البيضة[(274)]، وظاهر بين درعين يوم أحد[(275)].

قوله: «فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ»» ؛ وذلك لأن ابن خطل ـ لعنه الله ـ كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: جواز قتل الأسير إذا كان فيه مصلحة للإسلام والمسلمين؛ فهذا الرجل كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حتى ولو كان متعلقًا بأستار الكعبة، وقَتْلُ الصَبْرِ: هو أن يُقتل الأسير وهو مقيد؛ فلا يستطيع الدفاع عن نفسه، وأصله الحبس، وهذا بخلاف المقتول في صف القتال؛ فإنه يقتل بالمغالبة.

  هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ

وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ

}3045{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لَحْيَانَ فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ وَأَحَاطَ بِهِمْ الْقَوْمُ، فَقَالُوا: لَهُمْ انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَْنْصَارِيُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ إِنَّ لِي فِي هَؤُلاَءِ لَأُسْوَةً يُرِيدُ الْقَتْلَى فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا.

فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَِفْعَلَ ذَلِكَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنْ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلاَ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا

مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِْلَهِ وَإِنْ يَشَأْ

يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا.

 

هذه الترجمة ذكر فيها المؤلف رحمه الله ثلاثة أحكام؛ هي: «بَاب هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ» هذا هو الحكم الأول، «وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ» ، هذا الحكم الثاني، «وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ» ، هذا هو الحكم الثالث، وهذه الأحكام الثلاثة كلها دل عليها الحديث؛ فإن هؤلاء الرهط العشرة منهم من استَأسر كخبيب ـ الذي سن صلاة الركعتين ـ وابن دثنِة، ومنهم من أبى ولم يستأسر كباقي العشرة، وكل هذه الأحكام الثلاثة صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم؛ فما أنكر صلى الله عليه وسلم على الذين استأسروا، ولا أنكر على الذين لم يستأسروا، ولا أنكر على خبيب حين صلى ركعتين؛ فدل على شرعيتها؛ لأن السنة تثبت بالقول وبالفعل وبالتقرير، ولو كان هذا منكرًا لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على خبيب، ولكان هذا بدعة.

وهذه الأحكام الثلاثة كلها صحيحة مشروعة، فإذا غلب الكفار على أشخاص مسلمين وأرادوا أن يأسروهم فعليهم أن ينظروا إلى المصلحة؛ فمن أراد أن يستأسر فليتركهم يأسرونه ويأخذونه معهم، ومن أراد أن يمتنع فليمتنع كما امتنع الباقون، وكذلك دل على مشروعية صلاة الركعتين قبل القتل.

وفيه: أيضًا فوائد أخرى في هذه القصة.

}3045{ قوله: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا» ، فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عشرة رهط ـ الرهط: من ثلاثة إلى تسعة ـ سرية عينًا، والعين يعني: الجاسوس.

وفيه: مشروعية التجسس على الكفار؛ لمعرفة أخبارهم.

قوله: «وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيَّ» ، فيه: مشروعية الإمارة، وأن المسافرين إذا سافروا ولو كانوا عددًا قليلاً ثلاثة أو أربعة أو خمسة يُشرع لهم أن يُؤَمِّروا عليهم أحدهم؛ حتى يرجعوا إليه عند الاختلاف، وعليه أن ينصح لهم، وعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا، كما أمّر النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء العشرة عاصم ابن ثابت الأنصاري رضي الله عنه.

قوله: «حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ» ، وهو مكان بين عسفان ومكة، «ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لَحْيَانَ» ، يعني: قيل لهم: مر من هنا جماعة من أصحاب محمد، صفتهم كذا كذا، «فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ» ، يعني: فأخرجوا لهم مائتي مقاتل يجيدون الرمي؛ للقضاء عليهم رغم أنهم عشرة، «فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ» ، يعني: تتبعوا أثر سيرهم، «حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنْ الْمَدِينَةِ» ، أي: وجدوا مكانهم الذي نزلوا فيه، وآثار التمر الذي أكلوه، «فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ» ، عرفوا نوع التمر الذي أكلوه، وأنه من يثرب؛ وهي: المدينة، «فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ» ، حتى وصلوا إليهم، «فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ» ، والفدفد: هو الجبل الصغير؛ أي: أنهم صعدوا الجبل، «وَأَحَاطَ بِهِمْ الْقَوْمُ» ؛ وهم فوق الجبل، «فَقَالُوا: لَهُمْ انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ» ، رفض عاصم بن ثابت رضي الله عنه أن ينزل قائلا: «اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ» ، فقد ظلوا يرمونهم بالنبل حتى قتلوا منهم سبعة، وبقي ثلاثة؛ يعني: قتل عاصم وستة معه، «فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ» ، نزلوا إليهم بالعهد والميثاق ألا يقتلوهم، «مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَْنْصَارِيُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ» ، في البداية أعطوهم العهد والميثاق، فلما تمكنوا منهم غدروا بهم، وربطوا أيديهم وأوثقوهم بأوتار القِسِيّ، فأما خبيب وابن الدثنة رضي الله عنهما فآثرا أن يمشيا معهم، وأما الرجل الثالث فرفض وقال: «هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ إِنَّ لِي فِي هَؤُلاَءِ لَأُسْوَةً يُرِيدُ الْقَتْلَى فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ» ، يعني: لما أَمَروه أن يمشي معهم رفض وقال: إن قدوتي هؤلاء القتلى؛ فلا أريد أن أتبعكم، فحاولوا معه، فجرروه وعالجوه على أن يمشي معهم، فرفض فقتلوه؛ فصاروا ثمانية شهداء، وبقي اثنان أسروهما وذهبوا بهما معهم، «فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ» ، يعني: باعوهما بعد غزوة بدر كما يباع العبيد، «فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ» ، ابتاع: يعني: اشترى، والسبب في كونهم اشتروه أن خبيبًا رضي الله عنه قتل أباهم الحارث بن عامر يوم بدر؛ فأرادوا أن يقتصوا منه وأن يأخذوا الثأر، «فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا» ، أي: أوثقوه وحبسوه عندهم كأسير.

قوله: «فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ» وفيه: عناية خبيب بالسنة؛ فرغم أنه سيقتل إلا أنه استعار موسى؛ حتى يستحد بها ويزيل شعر العانة، فلما أعارته بنت الحارث الموسى ليستحد بها، انطلق ابنها الصغير ـ وهي غافلة ـ حتى أتى خبيبًا رضي الله عنه، فأخذه وأجلسه على فخذه، والموسى في يده، فلما التفتت بنت الحارث إليه ارتاعت وخشيت أن يقتله بالموسى، وعرف ذلك في وجهها؛ لأنها فزعت فزعًا عرفه خبيب رضي الله عنه فقال: «تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَِفْعَلَ ذَلِكَ» قال رضي الله عنه: هل تظنين أني سأقتله لكي أنتقم منكم؟! ما كنت لأفعل ذلك، فقالت بنت الحارث: «وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ» ، يعرفون فضله، ومع ذلك قتلوه!

قوله: «وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ» ، فقد وجدوا عنده قطف عنب يأكله، وليس بمكة أي: ثمر؛ وهذه كرامة من الله عز وجل لأوليائه؛ ولهذا كانت تقول: «إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنْ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا» ، وذلك كمثل الرزق الذي رزقه الله عز وجل مريم بنت عمران لما كفلها زكريا عليه السلام كما في قوله تعالى: [آل عِمرَان: 37]{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} قال العلماء: كان زكريا عليه السلام إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في زمن الصيف، وفاكهة الصيف في زمن الشتاء، وهو زوج أختها الذي كفلها لما اقترعوا فخرجت له القرعة، فكان عليه السلام {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ}، يعني: مكان صلاتها، {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}، فيقول: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا}، يعني: من أين لك هذه الفاكهة التي في غير أوانها؟! فتقول: [آل عِمرَان: 37]{هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *}.

قوله: «فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ» ، يعني: لما أرادوا قتله ـ وهم مشركون ـ خرجوا به من الحرم؛ ليقتلوه في الحل، فقد كانوا يعظمون الحرم رغم أنهم على الشرك، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب رضي الله عنه: «ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ» ، يعني: أعطوني مهلة أصلي ركعتين، وذروني: هذا أمر، وأركع: جوابه مجزوم في جواب الأمر، ثم صلى ركعتين خفيفتين ولم يطولهما، ثم قال: «لَوْلاَ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ» ، يعني: لولا خشيتي أن تظنوا أني خائف من الموت لطولت الركعتين، ثم دعا عليهم وقال: «اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا» ، وتمثل بهذين البيتين:

مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِْلَهِ وَإِنْ يَشَأْ

يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

يقول: لا ألقي بالاً لما يحدث لي؛ فالموت لابد منه، وحين أقتل مسلمًا لا يضرني هذا؛ لأن الموت بقضاء الله عز وجل وقدره، وهذه حكمة بالغة، وهذا أجلي قد انتهى. والمقتول يموت وقد استوفى أجله؛ هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة؛ خلافًا للمعتزلة الذين يقولون: المقتول قطع بأجله، ولو ترك لعاش، وقول المعتزلة هذا باطل، والصواب: أن كل إنسان يموت بأجله، سواء مات حتف أنفه ـ يعني: على فراشه ـ أو مات بقتل أو بغيره، والله عز وجل قدر ذلك عليه قبل أن يخلقه؛ للحديث المروي: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» [(276)]، فالموت والحياة مخلوقتان؛ لقوله تعالى: [المُلك: 2]{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، والرزق والأجل والعمر والحياة والأسباب والمسببات كلها مكتوبة، ومن ذلك هؤلاء الذين يكونون في الحروب فينزل عليهم قصف ويقتلون، فهذه آجال كتبها الله عز وجل عليهم، فالله عز وجل قدر أن يموتوا بهذا القصف، وفي هذا الوقت المحدد، فكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ؛ لحكمة بالغة، والله يقول: [الأنعَام: 83]{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *}، فمن مات فقد مات بأجله؛ سواء مات على فراشه، أو مات قتيلاً، أو غير ذلك.

قوله: «فِي ذَاتِ الإِْلَهِ» ، فيه: إثبات أن لله عز وجل ذاتًا، وهذا من باب الخبر، وليس من باب الأسماء والصفات، فالأسماء والصفات توقيفية، والقاعدة عند أهل العلم أن باب الخبر أوسع من باب الأسماء والصفات، فيخبر عن الله عز وجل بأنه له ذات، وأنه موجود، وأنه شيء، وأنه شخص؛ [الأنعَام: 19]{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}، فسمى الله عز وجل نفسه شيئًا، «ولا شخص أغير من الله عز وجل» [(277)]؛ فهذا وغيره من باب الخبر لا من باب التسمي والصفة كتسمية الله عز وجل نفسه العليم فالخبر يخبر عن الله عز وجل بأن له ذاتًا وبأنه موجود وبأنه شيء وبأنه شخص، وكما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل» [(278)] فأخبر بأن لله عز وجل ذاتًا.

قوله: «فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ» ، يعني: قتل خبيبًا رضي الله عنه؛ لأنه قتل أباه يوم بدر.

قوله: «فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ» ، يعني: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره ولم ينكر فعله، فلا نأخذ بفعل خبيب رضي الله عنه ولكن نأخذ بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه فعله، وأقره؛ فكان خبيب رضي الله عنه هو الذي سن الركعتين، «لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا» ، وقتل الصبر: هو أن يقتل الإنسان ولا يستطيع الدفع عن نفسه؛ لكونه محبوسًا أو مأسورًا، بخلاف من يقتل في المعركة؛ فإنه يقتل مغالبة، ومن دافع عن نفسه ثم قتل؛ فهذا لا يقال: إنه قتل صبرًا، وإنما يقال: قتل مغالبة.

قوله: «فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ» ؛ لأن عاصمًا رضي الله عنه وهو أمير السرية قد قال: «اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ» ، وكأنه سأل الله عز وجل ألا يسلط عليه الكفار.

قوله: «فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا» ؛ لأنه قال رضي الله عنه: اللهم أخبر عنا نبيك.

قوله: «وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ» ، يعني: أن قريشًا لما علموا أن عاصمًا رضي الله عنه قتل، بعثوا رسولاً يأتي بجزء من جسده يعرف به؛ تشفيًا منه؛ لأنه قتل عظيمًا من عظمائهم؛ فأرسلوا رسولاً للموضع الذي قتل فيه عاصم رضي الله عنه؛ ليأتي بقطعة من جسده، لكن الله عز وجل حماه لما جاءوا ليقطعوا شيئًا من جسده؛ بأن بعث عليه «مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ» ، يعني: مثل السحابة من النحل أو الزنابير تظلله، كأنها خيمة صارت على جسده، فإذا اقتربوا منه قرصتهم، «فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا» ، فلما رأوا هذا قالوا: نأتي غدًا حتى تذهب الزنابير هذه! فيقال: إنهم لما جاءوا في الصباح جاء سيل واجترفه، وقيل: إن الأرض ابتلعته[(279)]، والمقصود أن الله عز وجل قد حماه منهم، فلم يستطعيوا أن يأخذوا من جسده شيئًا، وهذا من حماية الله عز وجل لأوليائه؛ ولهذا سمي عاصم رضي الله عنه محمي الدَّبْر؛ يعني: الذي حمته الدبر وحفظته بأمر الله عز وجل من أن يأخذ المشركون من جسده شيئًا رضي الله عنه.

ويؤخذ من هذا الحديث مشروعية صلاة الركعتين عند القتل؛ حتى يختم حياته بالصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر خبيبًا رضي الله عنه على صلاة ركعتين قبل قتله.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على الأحكام الثلاثة، ودل على مشروعيتها، وجواز فعل ما تقوم المصلحة بفعله؛ فإذا رأى المصلحة في أن يستأسر استأسر، وإن رأى المصلحة في ألا يستأسر لا يستأسر.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد