إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ
وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرَضُونَ فَهِيَ لَهُمْ
}3058{ حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ؟ قَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً؟» ثُمَّ قَالَ: «نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ» وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لاَ يُبَايِعُوهُمْ وَلاَ يُؤْوُوهُمْ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْخَيْفُ الْوَادِي.
}3059{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ، فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لاَ أَبَا لَكَ فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلاَدُهُمْ فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِْسْلاَمِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا.
قوله: «بَاب إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرَضُونَ فَهِيَ لَهُمْ» هكذا جزم المؤلف رحمه الله بالحكم في هذه المسألة، وأنه إذا أسلم قوم كانوا كفارًا في دار الحرب ولهم مال وأرضون لا تؤخذ منهم وتبقى لهم.
}3058{ هذا الحديث الذي استدل به المؤلف على الترجمة؛ حيث ذكر فيه قصة في حجة الوداع.
قوله: «أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ؟» ، وفي اللفظ الآخر: «أين تنزل في دارك بمكة؟» [(305)] يعني: الذي كان قبل الهجرة، فقال: ما لي دار؛ أخذها عقيل.
وقيل: قال أسامة بن زيد هذا للنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة[(306)]، فالحاج يقيم في منًى ثلاثة أيام: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فإذا رمى الجمار الثلاث بعد الظهر ينتقل من منى ـ إن شاء ـ بعد أن يطوف طواف الوداع إلى بلده في اليوم الثالث عشر.
فإذا كان صلى الله عليه وسلم لا يريد السفر، فأين ينزل ـ إذا رمى الجمرات الثلاث ـ يوم الثالث عشر؟ وهذا ما سأله عنه أسامة رضي الله عنه فقال له: هل تنزل في مكة؟ أم تنزل في أي: مكان آخر؟ أم تنزل في بيتك في مكة قبل الهجرة؟
قوله: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً» قال صلى الله عليه وسلم: ليس لي دار، الدار أخذها عقيل، تصرف فيها وباعها، فلم تُنتزع منه، وما ترك عقيل منزلاً؛ فهذا وجه استدلال المؤلف رحمه الله للترجمة وجزمه بالحكم؛ وذلك أن عقيلاً وطالبًا من أولاد أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهما أخوا علي وجعفر، فأما علي وجعفر فقد أسلما، وأما عقيل وطالب فقد بقيا على دين أبيهما؛ فاستوليا على المال كله، حتى الذي لأخويهما جعفر وعلي، وأخذا ـ أيضًا ـ نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من المال، ولم ينزع المال منهما، فالأمر كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: يؤخذ حكم الترجمة من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم عقيل بن أبي طالب على تصرفه في مال أخويه علي وجعفر، ومال النبي صلى الله عليه وسلم من الدور والرباع، بالبيع ونحوه، ولم ينتزعها ممن هي في يده، فإقرار من بيده دار أو أرض إذا أسلم من باب أولى إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ما انتزع الدور من يد عقيل وقد أخذ مال أخيه جعفر، ومال النبي صلى الله عليه وسلم، وباعها وتصرف فيها، فلما فتحت مكة لم ينتزعها النبي صلى الله عليه وسلم من حائزيها، ولا ارتجعها منهم؛ بل أبقاها في أيديهم؛ فإذا أسلم أحد وبيده أرض أو مال، فمن باب أولى أن تبقى في يده، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ما انتزعها من بعض المشركين الذين تصرفوا فيها وباعوها، ولم ينتزعها ممن آلت إليهم؛ فالذي يسلم وله أرض أو أموال تبقى في يده من باب أولى ولا تنزع منه.
قوله: «نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ» . نزل الرسول صلى الله عليه وسلم بخيف بني كنانة، والخيف هو: الوادي، ويسمى المحصب؛ لأن فيه الحصباء، وهي: الحجارة الصغار.
قوله: «حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ» ، وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم أن لا يبايعوهم ولا يؤووهم» ، يعني: هذا المكان هو الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم واختاره، ولماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المكان لينزل فيه بالوادي؟ لأنه هو الوادي الذي تقاسمت فيه قريش على الكفر، تقاسموا على الكفر وحصروا بني هاشم في أول البعثة ثلاث سنوات، حصروهم وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، صحيفة ظالمة، وحصار اقتصادي؛ حيث ضربوا الحصار على بني هاشم، لا أحد يبيع لهم ولا يشتري منهم، ولا يزوجهم ولا كذا؛ حتى يُسَلّموا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الحصار معروف من قديم عند أهل الكفر، فقريش حاصرت بني هاشم في الشعب، وهذا هو المحصب الآن، فيسمى المحصب، ويسمى خيف بني كنانة، وهو الوادي الذي بين مكة ومنًى، والآن صار هو العزيزية التي أصبحت كلها بيوتاً وشققاً، وما فيها الآن وادٍ، وقد كان إلى عهد قريب فضاء وادياً، وكان الحجاج يأتون وينزلون فيه؛ يعني: إذا اعتمر الحجاج نزلوا الخيف هذا، وجلسوا فيه حتى يأتي اليوم الثامن من ذي الحجة، ثم ينتقلون إلى منًى، وكان الحجاج يأتون من داخل المملكة وغيرها إذا اعتمروا، وكل واحد يضرب خيمته في هذا الوادي الفضاء قبل أن تتسع مكة، أما الآن فقد اتسعت مكة وما فيها مكان، ما فيها إلا أن يستأجر الإنسان شقة أو يذهب لمنًى؛ فليس هناك مكان لأن يضرب خيمته، هذا هو خيف بني كنانة، وهو المكان الذي تقاسمت فيه قريش على الكفر - أي: تعاونوا وتحالفوا على الكفر -، فهناك تحالفت قريش وحاصرت بني هاشم في الشعب، وكتبوا بذلك صحيفة ظالمة جائرة وعلقوها في جوف الكعبة، أرهقوهم بالحصار الاقتصادي، فلا أحد يشتري منهم ولا يبيع لهم ولا يزوجهم؛ حتى يسلموا النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر ذلك ثلاث سنوات حتى حصل لبني هاشم ضرر كبير، وحتى سمعت أصوات الصبيان.
قوله: «قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْخَيْفُ الْوَادِي» . لم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم في داره في مكة؛ لأن عقيلاً أخذها وتصرف فيها ولم ينتزعها منه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وجه مناسبة هذا الحديث للترجمة.
ومن الفوائد: أنه يستحب النزول في خيف بني كنانة في اليوم الثالث عشر للحاج، فيستحب أن ينزل فيه؛ فهو سنة، وهو منزل الخلفاء، فالخلفاء والولاة ينزلون فيه كما قاله أنس[(307)]، وهذا هو قول الجمهور، وقال بعض العلماء: النزول في المحصب ليس بسنة؛ ذهب إلى هذا عائشة وجماعة، قالت عائشة رضي الله عنها: ليس التحصيب بشيء، وإنما هو منزل نزله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أسمح لخروجه[(308)]، فعائشة رضي الله عنه ترى أنه منزل اتفاقي ما هو بمقصود، وأنس وجماعة يرون أنه منزل مقصود، وهذا هو الصواب؛ فهو منزل مقصود وهو منزل الخلفاء.
}3059{ في الحديث: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وكيفية حمايته لإبل الصدقة.
قوله: «اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى» . والحِمَى: هو الذي يحميه ولي الأمر، وهي أرض في البر صحراء يحميها لإبل الصدقة فيها عشب ومرعًى، ولا أحد يرعى فيها، لأنها تكون لإبل الصدقة خاصة، وهي التي تأتي من الخراج، وكان عنده رضي الله عنه إبل تقرب من ألف بعير، فإبل الصدقة هذه تبقى فيها، وهي معروفة لعموم المسلمين، فعمر رضي الله عنه حمى هذا المكان وهذه الأرض لإبل الصدقة ترعى فيها، فيها عشب قريب من المدينة، ولا أحد يرعى فيها، فالذي يريد أن يرعى فعليه أن يرعى في مكان آخر غيرها، ولذلك أوصى مولاه وجعله على الحمى.
يعني: لابد من الحماية والرعاية، ولا تترك الحمى حتى ما يصير عندها أحد؛ فإذا حدث هذا الترك تجاوزها بعض الناس، ولكن هناك عامل يلاحظ ويرابط على الحمى، وهو هنا هُني الذي أوصاه عمر رضي الله عنه.
قوله: «يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ» يعني: اكفف يدك عن ظلمهم، فهذه وصية عمر: لا تظلم المسلمين؛ يعني: جعلتك على الحمى أن تظلم المسلمين وتؤذيهم، بل اكفف يدك عن ظلم المسلمين.
قوله: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ» ، وفي رواية: «واتق دعوة المسلمين» [(309)].
قوله: «فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ» كما جاء في الحديث: «ثلاثة لا ترد دعوتهم» [(310)]، وحديث: «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» [(311)].
قوله: «وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ» رب الصريمة والغنيمة هو الذي عنده غنم قليلة كاثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أدخلها ترعى في الحمى، أدخلها ترعى لماذا؟ لأن هذه مورد رزقه، ما عنده إلا عدد قليل من الإبل أو من الغنم، يحلبها ويشرب منها هو وأولاده.
قوله: «وَإِيَّايَ» ، وفي اللفظ الآخر: «وإياك» [(312)] فيه تحذير المتكلم نفسه، والمراد تحذير المخاطب.
قوله: «وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ» . ابن عوف وابن عفان هما: عبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وهما من التجار الكبار، والواحد منهما عنده مد البصر من الإبل ومن الغنم، قال: فمثل هؤلاء لا تدخلهم ولا تتركهم يرعون؛ لأن هؤلاء عندهم إبل كثيرة وغنم كثيرة فليسوا بمحتاجين؛ لأنهم تجار، لكن رب الغنيمة والصريمة الذي عنده واحدة أو ثنتان أو ثلاث فهؤلاء أدخلهم للرعي؛ لماذا؟ لأن هذه مورد رزقه، أما ابن عفان وابن عوف فهؤلاء يريدون التجارة، وما يريدون منها الطعام فقط، بل يتصرفون في أموالهم للتجارة والربح.
قوله: «فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ» يعني: إن عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان لهم إبل وغنم كثيرة، ولو هلكت الإبل والغنم فعندهم زرع ونخيل، وعندهم مزارع وأموال كثيرة يرجعان إليها، فما يضرهم شيء إذا منعتهم وهلكت ماشيتهم.
قوله: «وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ، فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ:» . يعني: أما الذي ليس عنده إلا واحدة أو ثنتان وهلكت؛ ماذا يعمل؟ ما عنده مصدر رزق غيرها، وعند ذلك يأتي بأولاده لعمر ويقول له: أعطني.
قوله: «أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لاَ أَبَا لَكَ» يعني: إذا جاء رب الصريمة ورب الغنيمة بأولاده عندي؛ أفأتركهم؟ لا أتركهم، فلابد أن أنفق عليهم، من أي: شيء؟ من الذهب والفضة.
قوله: «فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ» يعني: كونك الآن تترك ماشيتهم ترعى من الكلأ والعشب وتشرب من الماء، أيسر عليّ من أن أعطيهم ذهبًا وفضة، فالذهب والفضة ينفقان في مصالح المسلمين، لكن الماء والكلأ أمرهما أيسر إذا ترك رب الصريمة ورب الغنيمة ترعى ماشيته مع إبل الصدقة.
قوله: «وَايْمُ اللَّهِ» هذا حلف، وايم: بهمزة وصل، وهو أفصح.
قوله: «إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ» يعني: أرباب المواشي يرون ـ بمعنى الظن؛ ليرون: ليظنون، وبالفتح ليرون: بمعنى الاعتقاد، ليعتقدون أو ليظنون ـ أني قد ظلمتهم؛ يعني: حينما حميت هذا الحمى.
قوله: «إِنَّهَا لَبِلاَدُهُمْ» يعني: أهل تلك البوادي، وأهل تلك البلاد بوادي المدينة.
قوله: «فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِْسْلاَمِ» . هذا هو الشاهد في الترجمة، يعني: فإنهم إذا أسلموا عليها في الإسلام فإنها تبقى لهم في أيديهم، وإنما ساغ لعمر أن يحمي هذه؛ لأنها كانت مواتًا، فحماها لإبل الصدقة ولمصلحة عموم المسلمين.
قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . يعني: الإبل التي كان يحمل عليها في سبيل الله من كان مجاهدًا ولم يكن عنده ما يركبه.
قوله: «مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا» فيه: ما كان عليه عمر رضي الله عنه من القوة وجودة النظر والشفقة على المسلمين؛ فيقول: لولا أن إبل الصدقة ترعى في هذا المكان، وأحمل عليها من لا يجد مركبًا من المسلمين للجهاد ما حميت شيئًا؛ لأنها بلادهم ولا أحميها عليهم، لكن الآن أحميها حتى ترعى إبل الصدقة، وحتى أحمل من لا يملك دابة وخرج للجهاد أحمله عليها؛ أي: أحمل عليها في سبيل الله، وإلا فهي بلادهم، لكني حميتها لمصلحتهم.
وفيه: أن دعوة المظلوم مستجابة ولو من كافر؛ فالظلم مرتعه وخيم؛ قال تعالى: [الفُرقان: 19]{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا *}.
كِتَابَةِ الإِْمَامِ النَّاسَ
}3060{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالإِْسْلاَمِ مِنْ النَّاسِ» فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ فَقُلْنَا: نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُوَ خَائِفٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَ مِائَةٍ.
قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا بَيْنَ سِتِّ مِائَةٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ.
}3061{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ؟ قَالَ: «ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ».
هذه الترجمة معقودة لكتابة الإمام الناس من المقاتلة وغيرهم، وذُكر فيها حديثا حذيفة وابن عباس.
}3060{ قوله: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالإِْسْلاَمِ مِنْ النَّاسِ»» ، هذا حديث حذيفة رضي الله عنه.
وفيه: دليل على الإحصاء وكتابة الناس، والكتابة فيها مصالح؛ حيث يكتب الناس لأجل معرفتهم، ومعرفة من يصبر في الجهاد، وكذلك معرفة عطائهم إذا أعطوا شيئا من بيت المال من الأعطيات والرواتب؛ والمراد المهاجرون، وإلا فالأنصار كثيرون.
قوله: «فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ فَقُلْنَا: نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُوَ خَائِفٌ» ، قيل: إن هذا كان عند خروجهم إلى أحد أو غيرها.
وقال بعضهم: إن هذا كان عند حفر الخندق، لما أصابهم الخوف عندما تحزبت الأحزاب.
وقال بعضهم: إن هذا وقع في آخر خلافة عثمان من ولاية بعض أمراء الكوفة، كالوليد بن عقبة؛ حيث كان يؤخر الصلاة، أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الناس يصلي وحده سرًّا، ثم يصلي معه خشية الفتنة.
وقيل: إن هذا لما أتم عثمان الصلاة في السفر، فكان بعضهم يقصر سرًّا وحده؛ خشية الإنكار.
وفيه: علم من أعلام النبوة؛ وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه.
وقد وقع أشد من ذلك أيضًا في زمن الطاغية الحجاج؛ حيث أصابهم خوف شديد.
وهذه الكتابة قال بعضهم: إنها حدثت لما كانوا بالحديبية، وهذا بعيد؛ فالأقرب أن ذلك كان بعد غزوة بدر؛ لأن الناس كثروا في الحديبية.
وإحصاء وكتابة الناس فيه مصالح؛ كتفقد أحوالهم، وتفقد من ينص عليه في الغزو، وإيصال الأعطيات والرواتب لهم، وتوزيع الطعام وغير ذلك.
}3061{ قوله: «إِنِّي كُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا» الشاهد: من هذا الحديث أن فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب من يذهب للغزو.
قوله: «وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ؟ قَالَ: «ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»» ، هذا الحديث فيه: دليل على وجوب المحرم، يعني: أن المرأة لا يجوز لها الحج بدون محرم؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل أن يحج مع امرأته التي أحرمت بالحج، وقد كُتب هو في الغزو، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يترك الغزو ويلحق بامرأته؛ ليكون محرمًا لها، مما يدل على أهمية المحرم بالنسبة للمرأة في السفر.
إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ
}3062{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
وحَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِْسْلاَمَ «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ»، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالاً شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ لَهُ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِلَى النَّارِ»، قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ؛ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؛ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ! أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى بِالنَّاسِ: «إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ».
قوله: «بَاب إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» وفي آخر الحديث: «وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» ؛ فالترجمة أخذها من الحديث.
}3062{ قوله: «شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِْسْلاَمَ «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ»» . هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته قتالا شديدا، وحكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل النار، مما أثار تعجب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أبان الله لهم أمره آخرًا؛ وهو أنه لما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديدًا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الذي قلت: إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالاً شديدًا وقد مات.
قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِلَى النَّارِ»، قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ» يعني: كاد بعض الناس يكون عنده شك كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا عنه وهو قد قاتل قتالاً شديدًا وأبلى في الكفار؟!
قوله: «فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ» يعني: نودي: يا رسول الله، ما مات الرجل حتى الآن، ولكن به جراحًا شديدة.
قوله: «فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ؛ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؛ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ! أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»» . يعني: النبي صلى الله عليه وسلم شهد أنه عبد الله ورسوله؛ حيث وقع أمر الرجل كما أخبر، وهذا فيه دليل على أنه علم من أعلام النبوة.
وفيه: استحباب التكبير عند حصول ما يتعجب منه، فإذا حصل للإنسان ما يتعجب منه يكبر قائلاً : الله أكبر الله أكبر، على عكس ما يفعله بعض الناس في زماننا؛ حيث يصفقون إذا أعجبوا بشيء، وهذا غلط؛ لأنه من أخلاق الكفار، ومن أخلاق النساء؛ قال الله تعالى عن الكفار: [الأنفَال: 35]{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما التصفيق للنساء» [(313)]، فهؤلاء يتشبهون بالنساء ويتشبهون بالكفرة حيث يصفقون، والسنة أن يقول : الله أكبر الله أكبر الله أكبر، إذا أعجبه شيء؛ يعني: يكبر، أو يسبح فيقول: سبحان الله، إذا تعجب من شيء، فالأمر إما أن يسبح وإما أن يكبر، أما أن يصفق فهذا خطأ ومخالفة.
قوله: «ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى بِالنَّاسِ: «إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ» . فيه: دليل على أن قتل النفس بالانتحار من أسباب دخول النار؛ لأن هذا الرجل قتل نفسه، فحكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بدخول النار، وجاء في الحديث الآخر: «من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة؛ فمن قتل نفسه بسم فهو يتحسى به في نار جهنم، ومن تردى من جبل فإنه يتردى في نار جهنم من جبل، ومن قتل نفسه بحديدة فإنه يجأ بها بطنه في نار جهنم» [(314)]، وهكذا فمن قتل نفسه بشيء عذب به في النار.
قوله: «وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» فيه: دليل على أن الدين قد يؤيَّد بالكافر أو الفاسق.
وفيه: علم من أعلام النبوة؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل من أهل النار، ثم مات منتحرا قد قتل نفسه، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك بوحي من الله، ولم يبين له سبب دخوله النار، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم بذلك مع علمه؛ لينظروا في عمله وخاتمته ومقصده.
$ر مسألة: هذا الرجل الذي قاتل؛ هل هو كافر أم مسلم فاسق؟ ذلك أن الفاسق متوعد بالنار والذي يأكل مال اليتيم متوعد بالنار كذلك؛ قال تعالى: [النِّسَاء: 10]{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *}، والمرابي متوعد بالنار، والمصور متوعد بالنار، وليسوا كفرة، فكذلك القاتل متوعد بالنار، ولا يكون كافرًا إلا إذا استحل القتل؛ يعني: إذا اعتقد حِلَّ قتل نفسه أو قتل غيره ـ بغير حق ـ كفر؛ لأنه استحل بذلك أمرًا حراما معلومًا من الدين بالضرورة، أما إذا لم يستحله، لكن قتل نفسه أو قتل غيره؛ طاعة للهوى والشيطان بسبب غلبة الهوى، فهذا يكون ضعيف الإيمان وناقص الإيمان، ولا يكفر.
_خ الجواب: إما أن نقول: إنه كافر، وإما أن نقول: إنه مسلم فاسق، فهل هو كافر أو مسلم فاسق؟ يحتمل؛ قال سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «إن كان الوعيد عليه بالنار لكونه قاتل حميةً لقومه فهو كافر، وإن كان الوعيد لكونه قتل نفسه فهو فاسق» ، هذا تعليق سماحة شيخنا رحمه الله، وهو واضح وهذا التعليق من سماحة شيخنا رحمه الله وإن كان له وجاهته لكن ظهر لي شيء آخر؛ فعندي أن هذا فيه نظر؛ لأنه قد يقاتل حمية لقومه فيكون فاسقًا مسلمًا، ولا يكون كافرًا؛ يعني: فاسق قاتل لغير الله فيبطل جهاده، ولكن ما يكفر؛ أي: يكون قد قاتل حمية لقومه فيكون فاسقًا، والأقرب عندي أنا ـ والله أعلم ـ أنه كافر؛ لوجهين من الحديث:
الأول: قوله: في أول الحديث: «فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِْسْلاَمَ» يعني: ليس بمسلم.
الثاني: قوله في آخر الحديث: «ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى بِالنَّاسِ: «إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ» فدل على أنه ليس بمسلم، فأنا قد ظهر لي الآن من الحديث أن هذا الرجل كافر وليس بمسلم فاسق، والعلم عند الله عز وجل.
- ويحتمل أن يكون منافقًا؛ فالمنافق كافر كما قال تعالى: [النِّسَاء: 145]{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وكما جاء في بعض الآثار؛ لكن هل هو نفس الشخص، أو هي قصة أخرى؟ فقد جاء في بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» [(315)]؛ فهل المشار إليه في هذا الحديث هو ذلك الرجل نفسه أو غيره؟
_خ الجواب: يحتاج إلى تأمل مع التنبية أن كلمة فاجر تشمل الفاسق والكافر.
$ر مسألة: النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض الغزوات لما جاءه رجل يستأذنه في القتال معه: «ارجع فلن أستعين بمشرك» [(316)]؛ فكيف الجمع بينه وبين هذا الحديث؟
وإذا قلنا : إن هذا الرجل كافر فكيف يأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه وهو مشرك؟!
أجاب بعضهم بأن هذا كان أولاً، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره يستعين بمشرك في قتال المشركين، كان هذا في غزوة بدر في أول الأمر، ووقع ذلك مؤخرا فيكون منسوخًا.
وأجاب بعضهم عنها بأجوبة أخرى؛ فقال: إن الذي قال فيه: «إني لا أستعين بمشرك» ، تفرس فيه الرغبة في الإسلام؛ فرده رجاء أن يسلم، فجاء وأسلم، فصدق عليه الإسلام، وبعضهم قال بالجمع بينهما؛ فإن الأمر يرجع فيه إلى رأي: الإمام؛ حيث ينظر الإمام فإن رأى أن يستعين بمشرك لما فيه فائدة للمسلمين استعان، وإلا فلا، ومما يؤيد الجواز أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان[(317)].
وصفوان خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين باختياره؛ حيث أجاب بعضهم بأنه خرج باختياره لا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال فالمسألة فيها كلام لأهل العلم في الجمع بين الحديثين.
والمقصود أن هذا الرجل فيه ـ الآن ـ وجهتا نظر حسب ما يتضح للناظر في الحديث؛ هل هو كافر أم مسلم فاسق؟ وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وما ظهر لنا. والله أعلم.
مَنْ تَأَمَّرَ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ إِذَا خَافَ الْعَدُوَّ
}3063{ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ! وَمَا يَسُرُّنِي أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا»، وَقَالَ: وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ.
قوله: «بَاب مَنْ تَأَمَّرَ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ إِذَا خَافَ الْعَدُوَّ» ، يعني: جاز له ذلك، وقد استدل المؤلف بحديث غزوة مؤتة.
}3063{ قوله: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» ، هذا في غزوة مؤتة، وكانت في السنة الثامنة من الهجرة، وهي في الأردن؛ قريب من الشام أو في الشام، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الجيش في غزوة مؤتة ـ وذلك بعد غزوة تبوك ـ وأمر ثلاثة من الأمراء؛ يعني: قال: الأمير الأول زيد بن حارثة، فإن أصيب تنتقل الإمارة إلى جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب تنتقل الإمارة إلى عبدالله بن رواحة، فقاتلوا رضي الله عنهم قتالاً شديدًا، واستشهد الأمراء الثلاثة كلهم واحدًا بعد الآخر، فلما رأى الصحابة أن الأمراء الثلاثة قد قتلوا اصطلحوا على إمرة خالد ففتح الله عليه، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، وكان عدد الروم ثمانين ألفًا، وقيل: كان عددهم مائة وعشرين ألفًا، فنصر الله جنده وأولياءه ولم يقتل منهم إلا عدد قليل ـ وهذا من العجائب ـ فقيل: الذي قتل منهم اثنا عشر رجلاً؛ منهم الأمراء الثلاثة: زيد وجعفر وعبدالله بن رواحة، وقد أطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قوله: «ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ» ، يعني: لما قتل الأمراء الثلاثة تأَمّر خالد من غير إمرة، فصار هو الأمير، واتفق عليه الجيش؛ فحتى لا يتسلط العدو عليهم لابد لهم من أمير؛ ففيه: جواز التأمّر في الحرب من غير إمرة إذا خيف العدو، وهذا هو الشاهد من الحديث على الترجمة، ووجه الدلالة من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر خالد بن الوليد والجيش على تأميرهم إياه في هذه الغزوة، ولم ينكر عليهم، فالحجة إنما هي في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السنة تثبت بالفعل وبالقول وبالتقرير، فكون النبي صلى الله عليه وسلم سكت ولم ينكر على خالد ولا على الجيش أنهم أمّروا خالدًا يدل على أنه لا بأس بالتأمّر في الحرب من غير إمرة إذا خيف العدو.
يعني: يطلب منهم أحدهم فيقول: أمِّروني، أو يتأمّر هو من غير إمرة، وهم يصطلحون عليه؛ أي: يوافقون بتأمّره أو يؤمرونه هم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثلاثة أمراء كلهم استشهدوا واحدًا بعد الآخر.
وعليه يقاس حال المجاهدين إذا قتل أميرهم؛ فإنهم يصطلحون على أمير، إلا إذا كان هناك أمير منصوص عليه بعده كأن تكون القيادة قد حددت أن الأمير الذي بعده فلان والذي بعده فلان، فإذا لم يكن هناك أمير محدد سلفا، يتأمّر واحد يصطلحون عليه كأمير؛ حتى لا يختل أمر الجيش.
قوله: «وَمَا يَسُرُّنِي، أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا» لماذا؟ لما رأوه من الكرامة؛ يعني: أنهم لما ماتوا شهداء، ما يسرهم أنهم يرجعون إلى الدنيا؛ لما رأوا من الكرامة العظيمة والثواب الجزيل، فما يسرهم أن يرجعوا إلى الدنيا، وهذا مثل ما سبق في الحديث أن: «أي: مسلم يموت وله عند الله خير، ما يتمنى أن يرجع، إلا الشهيد يتمنى أن يرجع؛ حتى يقتل مرة أخرى، حتى يقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة» [(318)].
قوله: «وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ» فالنبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر يُعرف في وجهه الحزن، وعيناه تذرفان.
وفيه: دليل على أنه لا بأس من كون الإنسان يحزن على مصاب فيظهر على وجهه، وتدمع عيناه، فهذا لا يضر؛ لأن هذه رحمة جعلها الله في قلوب الرحماء، أما المنهي عنه فهو أن يتشنج الإنسان بالعويل والصياح والبكاء المبالغ فيه والصراخ، ويتكلم بما لا يليق، أو يلطم خده أو يشق ثوبه أو ينتف شعره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل جعفر: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تقولوا إلا خيرا؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» [(319)].
الْعَوْنِ بِالْمَدَدِ
}3064{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعِينَ مِنْ الأَْنْصَارِ.
قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمْ الْقُرَّاءَ، يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوهُمْ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا أَلاَ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ.
}3064{ هذه القصة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته بعض القبائل؛ قبيلة رعل وقبيلة ذكوان وقبيلة عصية وقبيلة بني لحيان، وزعموا أنهم قد أسلموا وقالوا: يا رسول الله، أسلمنا؛ فأعطنا قراء يقرئوننا القرآن، ويدرسون لنا ويعلموننا، وهم كذبة ما أسلموا، ولكن جاءوا وأظهروا الإسلام، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمدهم على قومهم ببعض الصحابة الذين يعلمونهم القرآن ويقرئونهم، فأمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين من الأنصار، وهم سبعون من خيار القراء.
قوله: «وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ» ، هذا هو الشاهد للترجمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعان هؤلاء بالمدد؛ حيث مدهم بالقراء، وظن أنهم مسلمون، وأنهم يريدون أن يقرءوا القرآن، ثم غدروا بهم وقتلوهم، والمدد ما يمد به الأمير بعض العسكر من الرجال وما يتجهزون به.
قوله: «كُنَّا نُسَمِّيهِمْ الْقُرَّاءَ» والمراد بالقراء في عصر الصحابة العلماء، فقد كانوا علماء وفقهاء، فليس المعنى أنهم يقرءون القرآن فقط، كما قال ابن مسعود: كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلم معانيها ونعمل بها.
فالقراء هم الفقهاء وهم العلماء، لكن صار يوجد في المتأخرين قراء ليسوا فقهاء؛ يقرأ أحدهم القرآن ولا يفهم معناه؛ ولذا تكلم الفقهاء فيمن يقدم في الإمامة؛ فإذا وجد قارئ وفقيه، وقارئ ليس بفقيه، فأيهما يقدم في الإمامة؟ ولكن في عصر الصحابة كان القراء هم الفقهاء.
قوله: «يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ» . يعني: بالليل يصلون ويقرءون القرآن، وفي النهار يعملون ويشتغلون ويحطبون؛ فيذهبون إلى البر ويشترون الحطب، ثم يبيعونه؛ حتى ينفقوا على أنفسهم وأهليهم ويتصدقوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم من خيار القراء، وأمرهم أن يذهبوا معهم ويعلموهم.
قوله: «فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوهُمْ» ، يعني: لما بلغوا مكانًا يسمى بئر معونة غدروا بهم وقتلوهم، فهم جاءوا وقد أظهروا الإسلام نفاقًا؛ حتى يفسدوا في الأرض بقتل القراء.
وفيه: دليل على أن الله يبتلي الأخيار بالأشرار؛ ليأخذوا حذرهم، فقد ابتلى الله هؤلاء الأخيار بهؤلاء الأشرار، فالله سبحانه يبتليهم بهم؛ ليأخذوا حذرهم وليعظم أجرهم، فقتل هؤلاء القراء من الابتلاء والامتحان لأوليائه، فالله تعالى يبتلي أولياءه كما يبتلي الرسل، كما قال هرقل لأبي سفيان: وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة[(320)]، فالرسول صلى الله عليه وسلم ابتلي في أول الأمر في مكة أشد البلاء؛ حيث تآمرت عليه قريش، وكادوا أن يقتلوه، ثم تبعوه وجعلوا مائة ناقة لمن يأتي به، وكذلك ابتلي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ حيث تآمر عليه اليهود بعد ذلك، ثم صارت العاقبة الحميدة له، وكذلك الرسل كلهم؛ نوح وهود وصالح، صارت العاقبة لهم، وأهلك الله الكفرة، فالرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وكذلك الأخيار من الناس، فهؤلاء القراء ابتلوا بهؤلاء الفجار الأشرار، لكنهم فازوا بالشهادة، والنبي صلى الله عليه وسلم حزن عليهم حزنًا شديدًا.
قوله: «فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ» . قنت شهرًا كاملاً، وفي اللفظ الآخر: «أربعين صباحًا» [(321)]، هذا فيه مشروعية القنوت في النوازل، فإذا نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا ودعوا على الكفرة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث دعا على هذه القبائل التي غدرت بالقراء وقتلوهم؛ فكان صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، في الركعة الأخيرة من الفجر، يدعو عليهم فيقول: «اللهم العن بني لحيان وذكوان وعصية عصت الله ورسوله» [(322)]، فقنت أربعين صباحًا يدعو عليهم، ثم وقف القنوت، فالقنوت لا يكون إلا عند النوازل، حتى إذا زالت النازلة وانتهت يدعو مدة ثم يمسك.
ولا بأس إذا اشتد الكرب أن يجعله أوقاتًا، لكن إنما يكون في الفجر ويكون في المغرب؛ وتر النهار ووتر الليل، وإذا اشتد الكرب فليس هناك مانع أن يتوسع؛ كما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قنت في الظهر وفي العشاء إذا اشتد الكرب[(323)]، فالقنوت يكون في الصلاة الجهرية وفي السرية، هذا إذا اشتد الكرب، وإلا فالأصل أنه يكون في الفجر والمغرب[(324)].
وغزوة الرجيع التي كانت فيها سرية عاصم وخبيب في عشرة أنفس من المسلمين، كانت شبيهة بهذه الغزوة، فإن هؤلاء ليسوا أصحاب بئر معونة، وإنما هم أصحاب الرجيع، وهو كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله[(325)].
وقد تكلم القسطلاني في «إرشاد الساري» ؛ حيث علق على ما ذكره الحافظ من أن عزوة الرجيع شبيهة بهذه الغزوة وليست هي بأنه «وهم» ؛ والأصل عدم التوهيم، فالحكم به يحتاج إلى مراجعة وجمع الطرق.
على كل حال ـ كانوا هم أو غيرهم ـ فالمهم أنه قد قتل القراء، ودعا صلى الله عليه وسلم على من قتلهم، ونزل فيهم قرآن.
قوله: «وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا أَلاَ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا» . كانت هذه آية تقرأ، ثم نسخ اللفظ وبقي الحكم، وهذا مما نسخ لفظه، فالقرآن فيه هكذا منسوخ؛ قال تعالى: [البَقَرَة: 106]{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، ومن ذلك هذه الآية التي كانت تقرأ هكذا: «ألا بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا» .
قوله: «ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ» أي: نسخ.
مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاَثًا
}3065{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ.
تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الأَْعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذه الترجمة عقدها المؤلف لإقامة الإمام وقائد الجيش بالمكان الذي غلب فيه عدوَّه ثلاثة أيام، والعرصة: هي البقعة الواسعة بغير بناء من دار وغيرها.
}3065{ قوله: «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ» ، فهو صلى الله عليه وسلم لما غلب المشركين في بدر أقام ببدر ثلاثة أيام ثم ارتحل، والإقامة ثلاثة أيام فيها مصالح؛ وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله منها: إظهار نصر الله، ومنها إظهار العبودية لله في هذا المكان شكرًا لله سبحانه، ومنها إزالة آثار الشرك من البقعة، ومنها احتمال أن يكون لهم بقية باقية فتستأصل شوكتهم، ومنها إراحة الدواب كالراحلة والخيل؛ أي: إراحة الظهر، وإراحة الأنفس، ومنها إظهار شعائر المسلمين في المكان الذي أظهرت فيه شعائر الكفر، ومنها ظهور تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام، وقلة الاحتفال بالمشركين.
وقوله: «بِالْعَرْصَةِ» ، يعني: بمكان الوقعة التي انهزم فيها العدو، وهو المكان الذي تحصل فيه الغزوة؛ فيقيم فيه ثلاثة أيام بهذه العرصة؛ ولذا يقال: عرصات القيامة، وأصلها المكان الواسع، وعرصات القيامة؛ يعني: أماكنها الواسعة.
مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ
وَقَالَ رَافِعٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلاً فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ.
}3066{ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ.
قوله: «بَاب مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ» هذه الترجمة معقودة لقسم الغنيمة في الغزو والسفر؛ فهل يقسم الغنيمة؟ يعني: إذا غنم من المشركين أموالاً هل يقسمها في السفر، أو ينتظر حتى يصل إلى البلد ثم يقسمها؟ أشار بهذا إلى الخلاف؛ لأن المسألة فيها خلاف بين أهل العلم:
فالكوفيون يقولون: إن الغنائم لا تقسم في دار الحرب، وإنما تقسم في دار الإسلام، فينتظر إذا جمع الغنائم ولا يقسمها في السفر؛ بل يقسمها إذا وصل إلى البلد، واستدلوا بأن المِلْك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء، ولا يتم الاستيلاء إلا بإحرازها في دار الإسلام.
وأما الجمهور فقالوا: يرجع هذا إلى نظر الإمام واجتهاده؛ فإذا رأى أن يقسمها في السفر قسمها، وإذا رأى أن يقسمها في البلد قسمها، وإن كان تمام الاستيلاء يحصل بإحرازها بأيدي المسلمين، ويدل على جواز قسمها في السفر أن الكفار لو أعتقوا رقيقًا لهم هل ينفذ العتق؟ لا ينفذ، فإذا غنم المسلمون بعض أرقاء الكفار، ثم أعتق أحد المشركين رقيقه الذي في يد المسلمين؛ فهل ينفذ؟ لا ينفذ؛ فدل على أن المسلمين حصل لهم الاستيلاء عليهم والملك، ولو أسلم عبد لحربي، ولحق بالمسلمين صار حرًّا.
قوله: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلاً فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ» هذا قول رافع، وهو حديث سبق[(326)]، واستدل به المؤلف رحمه الله على ما ترجم له وهو: جواز تقسيم الغنائم في السفر والغزو؛ فدل على أنه لا بأس بِقَسْم الغنيمة في السفر إذا رأى الإمام ذلك؛ ولهذا عدل النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من الغنم ببعير، وهذا في الغنائم أن البعير يعدل عشرة من الغنم؛ أما في الضحايا والهدايا فالبعير يعدل بسبعة[(327)].
}3066{ قوله: «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْجِعْرَانَةِ» . اعتمر صلى الله عليه وسلم من الجعرانة؛ لأنه أنشأ النية للعمرة من الجعرانة، كما أنشأت عائشة العمرة من التنعيم؛ ولهذا لم يحرم من الميقات، فالمحرم إذا نوى النية في مكان بأن نوى الإحرام بالحج أو العمرة يحرم من مكانه، ولا يرجع إلى الميقات، فالنبي صلى الله عليه وسلم نوى العمرة؛ فلذلك أحرم من الجعرانة، كما أن عائشة رضي الله عنها نوت العمرة وهي في مكة فأحرمت من التنعيم، لكن إذا كان خارج الميقات وأراد أن يحرم فلابد أن يحرم من الميقات، وليس له أن يتجاوز الميقات إلا بإحرام.
قوله: «حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ» . هذا هو الشاهد؛ يعني: لما استولى صلى الله عليه وسلم عليهم قسم غنائمهم وهم في السفر، وليس في المدينة بعد الرجوع.
إِذَا غَنِمَ الْمُشْرِكُونَ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُسْلِمُ
}3067{ قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}3068{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ عَبْدًا لاِبْنِ عُمَرَ أَبَقَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَرَدَّهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ، وَأَنَّ فَرَسًا لاِبْنِ عُمَرَ عَارَ، فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: عَارَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَيْرِ وَهُوَ حِمَارُ وَحْشٍ أَيْ هَرَبَ.
}3069{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ.
قوله: «بَاب إِذَا غَنِمَ الْمُشْرِكُونَ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُسْلِمُ» ، يعني: إذا كان للمسلم مال وأخذه المشركون، ثم قاتل المسلمون المشركين وانتصروا عليهم وأخذوا المال، ووجدوا مال المسلم؛ فهل يكون أحق به أو يدخل في الغنيمة؟
هكذا ذكر المؤلف رحمه الله الترجمة وما جزم بالحكم؛ لأن المسألة فيها خلاف، فإذا غنم المشركون مال المسلم هل يرجع إليه فيأخذه أم يجعل مع الغنيمة؟
أما الشافعي[(328)] وجماعة فيقولون: لا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئًا من مال المسلم بل يعطى مال المسلم لصاحبه، يأخذه قبل القسمة أو بعدها، فإذا وجد الإنسان ماله مثل عبد هرب وصار مع المشركين، ثم غنمه المسلمون، فإنه يُرد على صاحبه، سواء قبل القسمة أو بعدها، ولا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئًا؛ يعني: كون الكفار غلبوا لا يجعله ملكًا لهم.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يختص به أهل المغانم، وأنه لا يعطى لصاحبه بل يكون غنيمة، وهذا مروي عن علي والزهري.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى التفصيل؛ حيث قالوا: إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به، وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة، وهذا قول مالك رحمه الله[(329)].
وذهب الإمام أبو حنيفة[(330)] إلى التفصيل أيضًا؛ وهو قريب مما قال الإمام مالك رحمه الله: إن وجده قبل القسمة فهو أحق به، وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة، إلا في العبد الآبق؛ فصاحبه أحق به مطلقًا.
فهذه أربعة أقوال في المسألة.
والأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله كلها تدلل لقول الشافعي رحمه الله؛ فالصواب: ما دل عليه الحديث من أنه يرد على صاحبه مطلقًا قبل القسمة أو بعدها، ويعوض صاحبه إما من بيت المال إن كان، وإلا يعطى القيمة؛ يعني: إذا كان بعد القسمة، فإذا كان للمسلم عبد، وأبق إلى المشركين، ثم غنمه المسلمون من المشركين، فإنه يرد على صاحبه إن كان قبل القسمة وليس فيه إشكال، وإن كان بعد القسمة ينتزع من الغانم، ويعطى لصاحبه الأول، ويعوض الغانم بالقيمة.
}3067{ قوله: «ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» هذا هو الطريق الأول لحديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وفيه: دليل أنه يرد عليه، كما ذهب إليه الشافعي[(331)] وجماعة من أهل العلم.
}3068{ قوله: «أَنَّ عَبْدًا لاِبْنِ عُمَرَ أَبَقَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَرَدَّهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ، وَأَنَّ فَرَسًا لاِبْنِ عُمَرَ عَارَ، فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ» . هذا هو الطريق الثاني، ومعنى «عَارَ» ؛ أي: هرب، وهو مشتق من العير؛ وهو: الحمار الوحشي، كذا فسرها أبو عبد الله؛ يعني: البخاري.
}3069{ قوله: «أَنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ» . وهذا هو الطريق الثالث لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، فهذه الأحاديث كلها تدل لمذهب الشافعي[(332)]؛ وهو الصواب؛ أي: أنه يرد على صاحبه مطلقًا قبل القسمة وبعدها، أما الأقوال الثلاثة الأخرى فكلها ضعيفة؛ لأنها مخالفة للأحاديث.
مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}.
}3070{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ؛ فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ فَصَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلاً بِكُمْ».
}3071{ حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَتْ: إتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَنَهْ سَنَهْ».
قَالَ عَبْدُاللَّهِ: وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «دَعْهَا»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَبْلِي وَأَخْلِفِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي».
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ.
}3072{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِالْفَارِسِيَّةِ «كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ».
قوله: «بَاب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ» ؛ والرطانة: هي الكلام غير العربي؛ يعني: هل يتكلم الإنسان باللغة الأجنبية؟ فالمسلم العربي هل له أن يتكلم ويتعلم اللغة الفارسية أو الإنجليزية أو غيرهما؟
_خ الجواب: نعم، لا بأس عند الضرورة، والحاجة للدعوة إلى الله، ولترجمة الكلام للتبليغ والنصح، ولقراءة بعض الكلمات، والتكلم بها، مع العناية الشديدة باللغة العربية، وتكون العناية باللغة العربية هي الأصل؛ فاللغة العربية هي لغة القرآن والسنة، فينبغي العناية بها، على عكس ما هو موجود الآن، فالدول الإسلامية الآن أضاعت اللغة العربية، وصار تعلمهم للغة الأجنبية هو المهم، وتكون في المدرسة للغة الإنجليزية ست حصص أو أكثر، وللغة العربية حصة واحدة، أو حصتان في الأسبوع، مع أنها هي الأصل، وهذه اللغة الأجنبية تكون عند الضرورة وعند الحاجة، ويتخصص فيها فئة من الناس وليس كل الناس يتعلمونها.
قال الله تعالى: [الرُّوم: 22]{وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}» ، وقال سبحانه: [إبراهيم: 4]{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}» قالوا: هذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن يعرف ألسنة القوم، وهذه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف الألسنة كلها؛ لأنه أرسل إلى الأمم كلها على اختلاف ألسنتهم، فجميع الأمم قومه بالنسبة لعموم رسالته، فاقتضى هذا أن يعرف ألسنتهم؛ ليفهم عنهم ويفهموا عنه، ولكن الصواب أنه لا يلزم أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بجميع الألسنة؛ لأن الترجمة تقوم مقامها؛ وهذا هو الصواب.
وفقه هذا الباب يظهر في تأمين المسلمين لأهل الحرب بألسنتهم؛ يعني: إذا قاتل المسلمون الكفرة يؤمنونهم بألسنتهم إذا كانوا يتعلمونها، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن ثابت ليتعلم لسان اليهود[(333)]؛ حتى يكون رسولاً له.
ثم ذكر ثلاثة أحاديث في الباب، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بغير العربية للحاجة.
}3070{ هذا حديث جابر رضي الله عنه.
وفيه: أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق يحفر، ورأى جابر رضي الله عنه ما بالنبي صلى الله عليه وسلم من الجوع؛ فصنع له طعامًا ودعاه.
قوله: «ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا» ، يعني: بهيمة صغيرة من الغنم أو غيرها.
قوله: «وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ؛ فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ» ، يعني: تأتي أنت، ومعك رجلان أو ثلاثة أو أربعة.
قوله: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ» ؛ وكان عددهم كبير بالمئات.
قوله: «إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلاً بِكُمْ» والقصة معروفة، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء» [(334)] ثم برَّك وأمر بأن تأتي خابزة تخبز معها، وبارك الله في هذا الطعام، وصار أهل الخندق يدخلون عشرة عشرة ويأكلون، حتى شبع أهل الخندق جميعًا.
قوله: «إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلاً بِكُمْ» . هذا هو الشاهد وهو قوله: «سُؤْرًا» ، وسور بغير همز: الصنيع من الطعام الذي يدعى إليه، وقيل: الطعام، وهو بالفارسية كلمة سور، فهذه ليست عربية بل فارسية أو حبشية، وهو الطعام الذي يدعى إليه، أو الطعام مطلقًا، فكون النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية أو بالحبشية في بعض الأحيان يدل على الجواز عند الحاجة.
}3071{ قوله: «إتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ» . هذا هو الحديث الثاني؛ حديث أم خالد ـ وكانت طفلة صغيرة تكنى أم خالد ـ وهذا يدل على جواز تكنية الصغير ذكرًا كان أو أنثى؛ فيكنى بأبي فلان أو أم فلان، وأم خالد ولدت لأبيها بالحبشة؛ حيث كان مهاجرًا، فسماها أمة وكناها أم خالد، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها وعليها قميص أصفر.
قوله: «سَنَهْ سَنَهْ» ، قال أبو عبدالله: وهي بالحبشية: حسنة؛ يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى قميصها ويقول: «سَنَهْ سَنَهْ» ؛ يعني: حسنة، وهذا هو الشاهد.
قوله: «قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ» ؛ وهو لحمة زائدة بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم مثل زر الحجلة.
قوله: «فَزَبَرَنِي أَبِي» ، فهي طفلة صغيرة ذهبت تريد أن تلعب بخاتم النبوة؛ فزجرها أبوها لمقام النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «دَعْهَا» هذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال لأبيها: اتركها تعمل ما تشاء.
قوله: «أَبْلِي وَأَخْلِفِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي» ، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب المؤانسة، ودعا لها بطول العمر، يعني: تلبسين الثوب وتبلينه، وتلبسين بعده ثوبًا آخر وتبلينه، وهو دعاء لها بطول العمر.
قوله: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ» ، يعني: عُمّرت حتى ذكر الراوي من بقائها أمدًا طويلاً، فقد استجاب الله دعاء نبيه وأطال عمرها.
}3072{ قوله: «أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ» . هذا الحديث حديث أبي هريرة.
وفيه: أن الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأهل بيته، والحسن والحسين من آل بيت النبوة؛ فما يأكلان الصدقة.
قوله: «كِخْ كِخْ» ، كلمة كخ بالفارسية كلمة زجر، لكن دخلت على العربية واستعملت فيها، فهي كلمة زجر للصبي عما يريد فعله، وكون النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية يدل على أنه لا بأس بالكلمات غير العربية عند الحاجة، لكن لا ينبغي أن تكون هي الغالبة على الإنسان؛ حيث يقضي أوقاته كلها يتعلم اللغات الأجنبية ويهمل اللغة العربية، لكن الدعاة والرسل والسفراء الذين بَيْن الإمام وبين الكفار، فهؤلاء لابد لهم من أن يتعلموا اللغات الأجنبية، لكن أن يكون كل أحد ـ صغير أو كبير ـ يتعلم تلك اللغات، فيمكث سنين طويلة في ذلك؛ فهذا إضاعة للأوقات، ومزاحمة للعلوم الشرعية، لكن ـ والله المستعان ـ قد عمت البلوى بهذا الأمر؛ فصار الناس الآن يتكلمون باللغة الأجنبية حتى فيما بينهم، وصار الواحد يتكلم بها في الكلام المعروف معناه باللغة العربية، ثم يستعملها، ويتكلم بها؛ فإذا أراد مثلاً أن يقول: ائتوا بالصحن يقول: (هاتوا البلم)، والمطبخ (ميز) وهكذا يتكلم باللغة الأجنبية بدون سبب؛ فتجده يتكلم بها في بيته، ويسمي الأواني وغيرها باللغة الأجنبية ويترك اللغة العربية.
الْغُلُولِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [آل عِمرَان: 161]{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
}3073{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو زُرْعَةَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ قَالَ: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ».
وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ: «فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ».
قوله: «بَاب الْغُلُولِ» . هذه الترجمة معقودة للغلول، والغلول أصله الخيانة في المغنم، سمي غلولاً؛ لأن آخذه يغله في متاعه؛ أي: يخفيه، فالغلول أصله السرقة من الغنيمة، هذا هو الأصل، الأخذ من الغنيمة خفية قبل القسمة بدون إذن ولي الأمر؛ يعني: يسرق من الغنيمة شيئًا قبل أن تقسم، فقبل أن يعطيه ولي الأمر أو قائد الجيش يأخذ شيئًا من الغنيمة يخفيه؛ فهذا يسمى غلولاً.
وقال الله تعالى: ُ » ف پ ـ لله ِ » ، يعني: يأتي به حاملاً له على رقبته، وهذا وعيد شديد؛ ولهذا نقل النووي رحمه الله الإجماع على أن الغلول من الكبائر، وفي هذا الحديث دليل على أن الغالَّ يعذب بما غلَّه يوم القيامة، ويشمل الغلول كل أخذ من مال لا يستحقه بتأويل، فمن أخذ مالاً لا يستحقه بتأويل أو بشبهة يشمله الغلول، كأن يأخذ من بيت المال ويتأول أنه واحد من المسلمين؛ فهذا من الغلول، أو يأخذ من مال اليتيم أو من مال الوقف أو من صدقات جمعت؛ فكل هذا داخل في الغلول، وإن كان أصل الغلول الأخذ من الغنيمة.
}3073{ ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الغالَّ يعذب بما غلَّ، ويأتي به يوم القيامة على رقبته.
قوله: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، يعني: لا أجدن، وهذا تحذير شديد.
قوله: «عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ» ، يعني: يحمل الشاة على رقبته يوم القيامة ولها ثغاء؛ وهو صوت الشاة.
قوله: «فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ» . الحمحمة: صوت الفرس.
قوله: «يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ» ؛ إذا كان غل أو سرق بعيرًا، يأتي بالبعير على رقبته له رغاء؛ وهو صوت الناقة.
قوله: «يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي ،فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ» . الصامت الذهب والفضة إذا سرقها يأتي بها يحملها على رقبته.
قوله: «فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ» ، ثياب مثلاً سرقها، والمعنى: أنه يُفضح يوم القيامة؛ فيأتي يوم القيامة يحمل على رقبته هذا الشيء الذي سرقه وأخفاه من الغنيمة، ويعذب به، ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ.
وفي هذا دليل على أن الأمر لله، ففيه الرد على الغلاة في النبي لله ومنهم البوصيري في البردة، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أنه لا يملك في ذلك اليوم شيئا [الانفِطار: 19]{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ *}
الْقَلِيلِ مِنْ الْغُلُولِ
وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ وَهَذَا أَصَحُّ.
}3074{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا».
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ: كَرْكَرَةُ يَعْنِي بِفَتْحِ الْكَافِ وَهُوَ مَضْبُوطٌ كَذَا.
قوله: «بَاب الْقَلِيلِ مِنْ الْغُلُولِ» يعني: هل يلتحق بالكثير في الحكم أم لا؟ والصواب أنه يلتحق بالكثير، ولو كان قليلاً، فهذا الرجل أخذ عباءة فقط؛ فعذب بها يوم القيامة.
قوله: «وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ وَهَذَا أَصَحُّ» . أشار المؤلف بهذا إلى تضعيف ما روي عن عبد الله بن عمرو في الأمر بحرق رحل الغالِّ؛ يعني: هذا حديث ضعيف؛ في سنده صالح بن محمد بن زائدة الليثي، أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرق متاعه[(335)]، وهذا ليس بصحيح.
}3074{ قوله: «كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» يعني: متاعه، وبعض من معه صلى الله عليه وسلم كان مسئولاً عنه.
قوله: «رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ فِي النَّارِ» . هذا الوعيد بالنار يدل على أن الغلول من الكبائر.
قوله: «فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا» ، يعني: أنه سرق عباءة واحدة من الغنيمة قبل أن تقسم؛ فاشتعلت عليه نارًا، نسأل الله السلامة والعافية.
قوله: «قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ كَرْكَرَةُ» . هو اسم مولى النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ فبعضهم ضبطه بالفتح: كَركَرة، وبعضهم ضبطه بالكسر: كِركِرة.
مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِْبِلِ وَالْغَنَمِ فِي الْمَغَانِمِ
}3075{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، وَأَصَبْنَا إِبِلاً وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَفِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: «هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا»، فَقَالَ جَدِّي: إِنَّا نَرْجُو أَوْ نَخَافُ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ، فَقَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ».
قوله: «بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِْبِلِ وَالْغَنَمِ فِي الْمَغَانِمِ» . هذه الترجمة معقودة لذبح الإبل والغنم في المغانم؛ يعني: بغير إذن الإمام فهل هذا يجوز؟ فبعض الجيش قد يذبح بعض الإبل أو الغنم إذا غنمها، والإمام لم يأذن؛ يعني: بغير إذن الإمام، والمراد بالكراهة هنا كراهة التحريم؛ فهذا يحرم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أكفأ القدور.
}3075{ قوله: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، وَأَصَبْنَا إِبِلاً وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ» هذا حديث عباية بن رفاعة عن جده رافع.
وفيه: أنهم غنموا إبلاً وغنمًا، وأصابهم جوع، والنبي صلى الله عليه وسلم متأخر في آخر الجيش، فلم يصبروا حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذبحوا وطبخوا.
قوله: «فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ» ، يعني: لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورأى ما صنعوا أمر بذلك؛ عقوبة لهم، فأكفئت القدور التي فيها اللحم، ولم ينتفعوا بها.
قوله: «ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ» فيه: دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يتصرف في الغنيمة بدون إذن الإمام.
وفيه: دليل على أن الكراهة هنا كراهة تحريم.
وفيه: جواز العقوبة بالمال؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم عاقبهم فأمر بالقدور فأكفئت.
وفيه: دليل على أن القسمة في المغانم أن البعير يعدل عشرة من الغنم، لكن في الأضاحي والهدايا فالبعير يعدل سبعة[(336)]؛ يعني: سبع ضحايا.
قوله: «فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَفِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ» نَدّ؛ يعني: شرد وتوحش، وهذا فيه دليل على أن ما نَدّ من البهائم وشرد فحكمه حكم الصيد؛ يرمى بسهم ويُكفى، فإذا توحش بعير وهرب منك وصار وحشًا، صار حكمه حكم الصيد؛ فترميه، فإذا رميته وأصبته وخرج الدم صار حلالاً، مثله مثل الظباء والغزلان وبقر الوحش، فيصير حكمه كحكمها، مثلاً كذلك لو تمرد تيس وهرب ولا يستطيعه الناس؛ يُرمى، أو تمردت دجاجة فصارت تطير مثل الحمامة مثلاً ولم يستطعها الناس؛ تُرمى، ويصير حكمها حكم الصيد.
قوله: «فَقَالَ: هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ» ؛ يعني: توحشات.
قوله: «فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» ، يعني: ارموه؛ فيكون حكمه حكم الصيد.
قوله: «إِنَّا نَرْجُو أَوْ نَخَافُ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى» ، يعني: ليس معنا سكاكين نذبح بها.
قوله: «أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ، فَقَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ» . هذا فيه: دليل على أنه يجوز الذبح بكل محدد ينهر الدم، ويذكر اسم الله عليه؛ فيذبح به سواء كان من القصب، أو من الخشب، أو من الحجر، أو من الزجاج، أو من النحاس، أو من الرصاص، إلا السن والظفر فلا يجوز.
قوله: «أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ» ، دل على أن جميع العظام لا يذبح بها.
قوله: «وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» . فبعض الصبيان إذا صاد عصفورًا يذبحه بظفره، والذبح بهذا الظفر ما يجزئ، أو بِسِنِّه، وهو لا يصح أيضًا، ولكن يذبح بما يذبح به: كشوكة رأسها محدد لا بأس، فلابد أن يكون محددًا، أما لو ضربه بحجر وقتله بثقله فهذا موقوذ، أو ضربه بالعصا، لكن العصا إذا كان له رأس ووخز، أو رصاصة محددة؛ فهذا يجزئ، فلابد أن يكون محددًا ينهر الدم، ويقطع الحلقوم والمريء؛ فشروط الذبح ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون المذكي أهلاً للذبح، وهو المسلم والكتابي فقط، فإن كان الذابح وثنيًّا أو شيوعيًّا أو رافضيًّا أو باطنيًّا أو مرتدًّا فلا يجزئ الذبح، ولو قطع الحلقوم والمريء؛ لأنه ليس أهلاً للذبح، فالذابح لا بد أن يكون مسلمًا أو كتابيًّا، والكتابي: اليهودي أو النصراني.
الشرط الثاني: أن يذكر اسم الله عند الذبح.
الشرط الثالث: أن يقطع الحلقوم والمريء وينهر الدم بآلة حادة، غير السن والظفر.
وقد ثبت النهي عن إضاعة المال، ولكن هذا فيه مصلحة تأديبهم؛ فهذا مستثنًى، وبعضهم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسكب المرق، وأما اللحم فقد أخذ ليستفاد منه؛ لأن هذا يدل عليه النهي عن إضاعة المال، لكن الأقرب أن هذا مستثنًى؛ لأنه فيه مصلحة تأديبهم.