شعار الموقع

شرح كتاب فرض الخمس من صحيح البخاري (57-3)

00:00
00:00
تحميل
128

}3111{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه ذَاكِرًا عُثْمَانَ رضي الله عنه ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِي عَلِيٌّ: اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُونَ فِيهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: أَغْنِهَا عَنَّا فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا.

}3112{ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُنْذِرًا الثَّوْرِيَّ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي خُذْ هَذَا الْكِتَابَ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ.

 

قوله: «بَاب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ» . يعني: وبعض هذه الأشياء سيذكر في الحديث وبعضها لا يذكر؛ لأنها لم تثبت على شرطه.

قوله: «وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ» ؛ لأن نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان الصحابة يتبركون بما لامس جسده وبفضلاته لما جعل الله فيه من البركة فإذا توضأ صار الصحابة يأخذون القطرات التي تتساقط من يده وجسده ويمسحون بها وجوههم وأرجلهم يتبركون بها، وإذا تنخم تنخم في يد أحد من الصحابة فدلك بها وجهه ويديه تبرُّكًا، ولما حلق شعر رأسه في حجة الوداع أعطاه أبا طلحة يقسمه الشعرة والشعرتين[(381)] يتبركون به صلى الله عليه وسلم، وهذا خاص به صلى الله عليه وسلم ولا يقاس عليه غيره لأمرين:

الأمر الأول: أن هذا خاص به لما جعل الله فيه من البركة.

الأمر الثاني: أن الصحابة لم يتبركوا بغيره؛ فلم يتبركوا بأبي بكر ولا عمر ولا عثمان، ولأن التبرك بغيره قد يؤدي إلى الشرك.

}3106{ يستفاد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا لما أراد أن يكتب للملوك والرؤساء فقالوا: «يا رسول الله إنهم لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا فاتخَذَ خاتمًا» [(382)].

قوله: «وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاللَّهِ سَطْرٌ» . هذا هو هيئة ختم الخاتم، وجعل يختم بهذا الخاتم ويلبسه في أصبعه، فدل على أنه لا بأس بمن ينصبه الرئيس أو الأمير أو الملك أن يجعل له خاتمًا، وكذلك غيره من أهل العلم يجعلون لهم خاتمًا؛ حتى لا يُزَوّر، وحتى يعلم الناس كتابه.

أما اتخاذ الخاتم فهو مباح جائز، وهل هو سنة؟ هذا يحتاج إلى تأمل، والأقرب أنه مباح وجائز، وكونه سنة فيه أجر وفضيلة، وهذا يحتاج إلى دليل خاص.

 

}3107{ قوله: «نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ» يعني: لا شعر عليهما.

قوله: «لَهُمَا قِبَالاَنِ» يعني: لهما سيران، وهذا هو الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم له نعلان وأن أنسًا أبقاهما عنده ليتبرك بهما؛ لما جعل الله في جسده وما لامسه من البركة.

 

}3108{ قوله: «كِسَاءً مُلَبَّدًا» ، فيه: جواز لبس الثياب الملبدة والغليظة ولاسيما في الشتاء يتقي بها البرد، وأن هذا لا ينافي التوكل على الله؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الكساء الملبد يتقي به البرد وأن عائشة أبقته عندها.

قوله: «وَقَالَتْ: فِي هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . وفيه: وفاة الروح وأن الروح تكون في البدن وهي ذات غير ذات البدن ولها صفات توصف بالنفي والإثبات تُقبض وتُرسل وتُمسك ويقال لها: اخرجي أيتها النفس؛ كقوله تعالى: [الأنعَام: 93]{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ}، [الفَجر: 27-28]{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *}، [الزُّمَر: 42]{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى}. هذه كلها أوصاف للروح وهي بين جنبي الإنسان ، ولكن صفاتها مختلفة عن صفات البدن، ولا يعرف الإنسان حقيقتها، ومن وصفها بصفات البدن فهو مشبه، ومن أنكرها وجحدها فهو معطل، وهذا المعنى استدل به شيخ الإسلام رحمه الله في «التدمرية» [(383)] وغيرها على إثبات صفات الرب سبحانه وتعالى وأنها صفات حقيقية ولا تعلم كيفيتها؛ فإذا كانت الروح التي بين جنبي الإنسان حقيقة ثابتة ولا نعرف كيفيتها ولا كنهها مع أنها موجودة وثابتة، وكذلك هي توصف بأوصاف ثبوتية؛ فمن باب أولى إثبات أسماء الله وصفاته ولا نعرف كيفيتها وكنهها.

 

}3109{ في الحديث: بيان شرب النبي صلى الله عليه وسلم من القدح ـ والقدح يكون من الخشب ـ وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ» فيه: جواز جعل الفضة في كسر من القدح، والسلسلة كالخيط من الفضة.

وفيه: أنه يتسامح في الفضة ما لا يتسامح في الذهب؛ فيجوز إذا انكسر الإناء أن يجعل فيه مكان الكسر ضبة من فضة أو خيطًا من فضة.

والشاهد للترجمة أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم بقي وأن أنسًا رضي الله عنه قد شرب فيه.

قوله: «قَالَ عَاصِمٌ: رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ فِيهِ» ، أي: للتبرك به.

 

}3110{ هذه القصة فيها أن الحسين بن علي رضي الله عنه لما قتله أهل العراق وغدروا به جاء من بقي من أهله من عند يزيد بن معاوية، فلقي ابنه عليُّ بن الحسين المسورَ بن مخرمة، والمسور بن مخرمة صحابي صغير.

قوله: «هَلْ لَكَ إِلَيَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِي بِهَا؟» أي: خدمة أؤديها إليك.

قوله: «لاَ، فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِيَّ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» الذي كان أخذه من أبيه الحسين.

قوله: «فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ» ، أي: يأخذونه منك.

قوله: «وَايْمُ اللَّهِ» قسم.

قوله: «لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لاَ يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِي» يعني: إذا أعطيتني سيف النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءوا يأخذونه مني لا أعطيهم إياه إلا إذا قتلوني، وهذا اجتهاد من المسور، وهو يريد أن يدافع عن السيف فلا يعطيه لهم حتى يقتل.

قوله: «إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ _ب» ، يريد أن يتزوج على فاطمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وشق هذا على فاطمة رضي الله عنها ولم تتحمل، وجاءت للنبي صلى الله عليه وسلم تشتكي، فالنبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس على المنبر.

قوله: «وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ» يعني: قريب من الاحتلام، أي: صغير السن.

قوله: «إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا» يعني: لا تستطيع أن تتحمل، وفي اللفظ الآخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها» [(384)]، وبضعة يعني: قطعة مني، وهذه هي العلة في منع النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا من التزوج على فاطمة، وهي الخوف عليها أن تفتن في دينها؛ لأنها لا تتحمل.

قوله: «ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ» ، وهو زوج زينب، واسمه العاص بن الربيع، أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «حَدَّثنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي» لما أسلم صدقه ووعده بأن يأتيه بزينب، فأتى بها إليه.

قوله: «وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلاً وَلاَ أُحِلُّ حَرَامًا» يعني: لا أمنع من نكاح الثانية والثالثة والرابعة؛ فإن الله أباح التعدد.

قوله: «وَلَكِنْ وَاللَّهِ لاَ تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا» ، يعني: عند شخص واحد، وهما: بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، وبنت عدو الله أبي جهل، فلما علم ذلك علي رضي الله عنه عدل عن الزواج، وهذا خاص بفاطمة رضي الله عنها؛ لأنها لا تتحمل؛ ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا من التزوج عليها.

 

}3111{، }3112{ قوله: «عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ» هو: محمد بن علي بن أبي طالب، وقيل له: ابن الحنفية؛ لأن أمه من سبايا بني حنيفة؛ لأنهم لما ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم الصحابة وسبوا نساءهم، وتسرى علي رضي الله عنه بامرأة من بني حنيفة، فأنجبت ابنه محمداً هذا؛ فصار يسمى: محمد بن الحنفية؛ تمييزًا له عن إخوته فالحسن والحسين أمهما فاطمة، وهذا أمه من بني حنيفة، وفي هذا دليل على أن العرب تسبى.

قوله: «لَوْ كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه ذَاكِرًا عُثْمَانَ رضي الله عنه» ، وفي رواية الإسماعيلي: «بسوء» [(385)].

قوله: «ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ» ، يعني: شكوا الولاةَ لعليّ رضي الله عنه، فقال علي ـ يعني: لابنه محمد: «اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُونَ فِيهَا» ، أي: أعطاه كتاب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم أن السعاة عليهم أن يعملوا كذا وكذا، قال محمد بن الحنفية: فأتيت عثمان بها، «فَقَالَ: أَغْنِهَا عَنَّا» ، أي: اصرفها عني، فأتى بها عليًّا فقال: ضعها مكانها، والشاهد قوله: «صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، نسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي اللفظ الآخر للحميدي قال: «فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ» ، أي: الصحيفة التي فيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم، والترجمة معقودة لكل ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم.

  الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ

لِنَوَائِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسَاكِينِ

وَإِيثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأَْرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنْ السَّبْيِ فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ.

}3113{ حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ _ب اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ؛ فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا»، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ».

 

قوله: «بَاب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسَاكِينِ» . هذه الترجمة بين فيها المؤلف رحمه الله الدليل على أن خمس الغنيمة لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصرف الخمس بيّنه الله تعالى في كتابه في قوله عز وجل: [الأنفَال: 41]{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}. فأربعة أخماس الغنيمة تكون للغانمين، والخمس يؤخذ ويقسم خمسة أقسام، كما بينه الله عز وجل؛ الخمس الأول لله وللرسول، وقيل: الخمس الأول لله ويكون في الفقراء، والثاني للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو واحد، خمس لله وللرسول، وخمس لقرابة الرسول، وخمس لليتامى وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل، والمؤلف رحمه الله يقول: إن خمس الغنيمة لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ما ينتابه من الأمور التي تحدث، وما ينزل به من الضيوف والمحتاجين والفقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يُؤثِر أهل الصفة والأرامل على أقربائه؛ لأنهم أشد حاجة.

قوله: «وَإِيثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأَْرَامِلَ» ، يعني: المساكين ومن معهم ممن ذكر في الآية الكريمة.

قوله: «حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنْ السَّبْيِ فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ» وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء فيه دليل على تقديم الأشد حاجة كأهل الصفة والأرامل على ذوي القربى.

 

}3113{ قوله: «أَنَّ فَاطِمَةَ _ب اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ» . في هذا الحديث أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى والطحن وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَبْيٍ» ، يعني: أتاه سبي من ضمن الغنائم، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا يكفيها الطحن ويساعدها على العمل، ومعروف أن نساء المشركين وأطفالهن يكونون أرقاء للمسلمين يخدمونهم، ويباعون ويشترون، فسألت خادمًا من السبي الذي سُبي من المشركين، لكنها لم توافق النبي صلى الله عليه وسلم فوافقت عائشة رضي الله عنها، فذكرت ذلك لها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت عائشة له ذلك، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي رضي الله عنهما بعد العشاء، ووجدهما قد أخذا مضاجعهما ووضعا رأسيهما على الفراش للنوم.

قال علي: فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم، «فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا»، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي» .

قوله: «أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ؟» وهو الخادم.

قوله: «إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ» فيه: فضل الذكر والاستغفار، وأنه يقوي على العمل وقضاء الحوائج، كما قال الله تعالى: [هُود: 3]{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}؛ وقال عن هود: [هُود: 52]{وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}. فالتوبة والاستغفار تزيد الإنسان قوة؛ ولهذا فإن فاطمة رضي الله عنها استعملت هذا الذكر فأعانها الله ولم تجد مشقة.

وفيه: استحباب هذا الذكر عند النوم، وهذا أيضًا نوع من أنواع الذكر بعد الصلاة، فإنه يستحب للمسلم أن يأتي بعدها بالأذكار، وهذا الذكر أنواع:

النوع الأول: «من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين وحمد الله ثلاثًا وثلاثين وكبر الله ثلاثًا وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» [(386)].

النوع الثاني ـ كما في هذا الحديث: «فكبرا الله أربعاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين» ، فهذه مائة.

النوع الثالث: «أن يسبح ثلاثًا وثلاثين، ويحمد الله ثلاثًا وثلاثين، ويكبر الله ثلاثًا وثلاثين» [(387)] فيكون تسعًا وتسعين ، ولا يختم المائة؛ وهذا في قصة فقراء المهاجرين لما جاءوا، وبينهم منافسة هم والأغنياء، قالوا: يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالأجور وتركونا، قال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق ويعطون ولا نعطي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه أدركتم من سبقكم ولا يلحقكم أحد إلا من عمل مثل ما عملتم؟» ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تسبحون الله ثلاثًا وثلاثين،وتحمدون الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبرون الله ثلاثًا وثلاثين» ، ثم سمع الأغنياء بهذا فجعلوا يأتون بهذه الأذكار مع الصدقة والإحسان، فرجع الفقراء مرة أخرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا ما أرشدتنا إليه من الذكر فجعلوا يأتون بالأذكار ، وزادوا علينا بالصدقات؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» [(388)]. واحتج بهذه القصة جمع من أهل العلم على أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر.

النوع الرابع: «أن يسبح الله خمسًا وعشرين، ويحمد الله خمسًا وعشرين، ويهلل الله خمسًا وعشرين، ويكبر الله خمسًا وعشرين» [(389)]، فذلك مائة.

النوع الخامس: «التسبيح عشراً، والتكبير عشراً، والتحميد عشراً» [(390)].

وهذا الحديث استدل به المؤلف رحمه الله على أن الخُمس يكون لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه؛ بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لم يعط فاطمة، وآثر أهل الصفة، وجاء في خارج «الصحيح» أنه قال: «لا أعطيك خادمًا وأترك أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم منه» [(391)]، فباع السبي وأعطى أهل الصفة؛ فدل على أن الخمس يتصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا ففاطمة رضي الله عنها من ذوي القربى.

فالمؤلف رحمه الله استدل بهذا الحديث على أن للإمام أن يقسم الخمس حيث يراه، حسب المصلحة؛ ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وأعز الناس إليه وصرفه إلى غيرهم؛ فدل على أن للإمام أن يتصرف، ولو كان سهم ذوي القربى قسماً مفروضاً لأخدم ابنته وأعطاها خادماً، ولم يكن ليدع شيئاً فرضه الله لها.

قال بعض الشراح: يستدل بهذا الحديث على أن للإمام أن يؤثر بعض مستحقي الخمس على بعض، ويعطي الأوكد فالأوكد.

ومن الفوائد في هذا الحديث: أن الإنسان يحمل أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل والزهد في الدنيا والقناعة بما عند الله مما أعده لأوليائه الصابرين.

  قَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}

يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ وَاللَّهُ يُعْطِي».

}3114{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ وَقَتَادَةَ سَمِعُوا سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا مِنْ الأَْنْصَارِ غُلاَمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا، قَالَ شُعْبَةُ: فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ إِنَّ الأَْنْصَارِيَّ قَالَ: حَمَلْتُهُ عَلَى عُنُقِي فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ وُلِدَ لَهُ غُلاَمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا، قَالَ: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَإِنِّي إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ».

وَقَالَ حُصَيْنٌ: بُعِثْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ.

قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا عَنْ جَابِرٍ أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ الْقَاسِمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي».

}3115{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَْنْصَارِيِّ قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتْ: الأَْنْصَارُ لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَسَمَّيْتُهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتْ: إلأَْنْصَارُ لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَحْسَنَتْ الأَْنْصَارُ سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ».

}3116{ حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ، وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُْمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ».

}3117{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ».

}3118{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو الأَْسْوَدِ عَنْ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ وَاسْمُهُ نُعْمَانُ عَنْ خَوْلَةَ الأَْنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّه تَعَالَى: [الأنفَال: 41]{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ» . هذه الترجمة أراد المؤلف رحمه الله بها أن يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يقسم الخمس ولا يملكه، وهذا أحد الأقوال في قوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ}، وقال أكثر أهل العلم: اللام في {وَلِلرَّسُولِ} للتمليك، يعني: الرسول له الخمس ملكاً، كما أن القرابة لهم خمس، واليتامى لهم خمس، والمساكين لهم خمس، فالرسول له الخمس، ولكن المؤلف رحمه الله اختار أن اللام ليست للتمليك، وإنما هي للقسم، فيقسمه وفق ما أراه الله ولا يملكه، واستدل بالأحاديث التي فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى نفسه قاسمًا.

قوله: «إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ وَاللَّهُ يُعْطِي» . استدل به المؤلف رحمه الله على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك الخمس، وإنما هو يقسم حيث أراه الله.

}3114{ قوله: «فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا» ، وفي رواية عمرو عن شعبة عن قتادة: «أراد أن يسميه القاسم» .

قوله: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَإِنِّي إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ» فيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكنى بأبي القاسم، ونهى أن يكنى أحد في حياته بأبي القاسم؛ لئلا يشتبه، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فمن العلماء من قال: يجوز التكني بكنيته، ومنهم من منع ذلك مطلقًا.

والصواب: أنه يجوز التسمي باسمه في حياته؛ فمن الصحابة من اسمه محمد: كمحمد بن مسلمة، ومحمد بن أبي بكر، وغيرهما، ولا يجوز التكني بكنيته؛ لما فيه من الالتباس، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فهو جائز؛ ولهذا جاء أن رجلاً قال: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لست أعنيك؛ فقال: «سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي» [(392)].

والمؤلف رحمه الله ساق الحديث؛ ليدلل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القاسم الذي يقسم الخمس، ولا يملكه، وأن اللام في الآية: [الأنفَال: 41]{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ليست للتمليك ولكن للقسم فقط.

 

}3115{ قوله: «وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتْ: إلأَْنْصَارُ لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا» ، يعني: ولا نقر عينك بهذه الكنية؛ لأنها كنية الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَسَمَّيْتُهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتْ: الأَْنْصَارُ لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَحْسَنَتْ الأَْنْصَارُ سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ» . وهذا صريح في أنه لا يسمي أحد ابنه القاسم، ولا يكنى أبا القاسم في حياته، وإنما يسمى باسمه، وإنما نهى عن ذلك لما فيه من الالتباس.

 

}3116{ قوله: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . هذا الحديث حديث عظيم ، له منطوق وله مفهوم؛ فمنطوقه أن من فقهه الله في الدين فهذه بشارة له أن الله أراد به خيرًا، ومفهومه أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرًا؛ وذلك لأن الفقه في الدين وسيلة إلى العمل، وهذا فيه حث المسلم وطالب العلم أن يتفقه ويتبصر في دين الله، وفي أسماء الله وصفاته وفي أحكامه وفي شريعته.

قوله: «وَأَنَا الْقَاسِمُ» . هذا هو الشاهد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو القاسم لفظًا ومعنى، فاللفظ: لأن كنيته أبو القاسم ومن أسمائه القاسم، والمعنى: لأنه يقسم المال بين عباد الله حيث أراه الله، واستدل به المؤلف رحمه الله على أن اللام في قوله: {وَلِلرَّسُولِ} ليست للملك وإنما للقسمة.

قوله: «وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُْمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» . هذه بشارة عظيمة على أن هذه الأمة لا تزال ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله، والمراد هنا أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة الذين لا يزالون ظاهرين بالحجة والبيان وأيضًا بالسيف والسنان، ففي بعض الأزمان يظهرون بالسيف والسنان مع الحجة والبيان، وفي بعض الأزمان ـ كما في هذا الزمن ـ ظاهرون بالحجة والبيان، وهذا انتصار لهم، حتى ولو كانوا ليس بأيديهم سلاح، ولكن ما عندهم من العلم والبصيرة والسنة أعظم من السلاح الذي بأيدي الكفرة، والكفرة يعلمون هذا الآن، فالكفرة مع ما أعطوا من القوة المادية ومن السلاح الفتاك، فالواحد من أهل السنة والجماعة في أعينهم أعظم من كل شيء، أعظم من السلاح الذي في أيديهم، يخافون منه ولو كان واحدًا ما بيده شيء، وهذا من ظهور هذه الأمة ومن ظهور أهل السنة، وهذه بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في اللفظ الآخر تفسير أمر الله: «حتى تقوم الساعة» [(393)]، والمراد بأمر الله أو قرب قيام الساعة هو الريح الطيبة التي تأتي في آخر الزمان بعد أشراط الساعة الكبار فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فجاء في بعض الأحاديث أنها تأتي من قبل اليمن ريح باردة «حتى لو كان أحدكم في جوف جبل لدخلته عليه حتى تقبضه» [(394)]، ثم لا يبقى إلا الكفرة فعليهم تقوم الساعة، فإذا فُقِد التوحيد والإيمان من هذا الكون خرب وقامت القيامة، ولا يمكن أن يخرب هذا الكون. وفيه: موحدون أبدًا، فإذا خلا من الإيمان والتوحيد خرب وقامت القيامة، وانشقت السماء وانكدرت النجوم وسجرت البحار وأمر الله إسرافيل فنفخ في الصور، لكن ما دام هناك توحيد وإيمان فلا؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» [(395)]، فهذه بشارة بأن أهل السنة وأهل الحق باقون، وقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات في آخر الزمان كأنه بعد أشراط الساعة الكبار، وفي أشراط الساعة الكبار أربعة متوالية قريبة: أولها المهدي، ثم يخرج الدجال في زمن المهدي، ثم ينزل عيسى بن مريم في زمن الدجال وفي زمن المهدي أيضًا ويقتل الدجال، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، وهذه أشراط الساعة الكبار الأولى، والجهاد باق كما سبق، وكذا الحج، فيحج هذا البيت بعد نزول عيسى وخروج يأجوج ومأجوج؛ فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» [(396)]، ويسلط المؤمنون على اليهود ويقتلونهم قتلاً ذريعًا بعد نزول عيسى، حتى يختبئ اليهود وراء الحجر والشجر، فيتكلم الشجر والحجر خرقًا للعادة، ويقول: «يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا شجر الغرقد» [(397)] فإنه لا يتكلم ويخون، ويقال: إن اليهود يغرسون الآن شجر الغرقد.

ولله الحكمة البالغة في وجود الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، والله يثبليهم بالمؤمنين، ويبتلي المؤمن بهم، ليثبت الصاجق من الكاذب وليثبت حزب الله الذين يجاهدون في سبيله لإعلاء كلمته، والمنافقون الذين يعيشون بين المسلمين، أعظم كفرًا من الكافر الظاهر؛ ولهذا قال تعالى: [النِّسَاء: 145]{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا *}، فالذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر أعظم كفرًا من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى كفرهم ظاهر واضح لكل أحد، لكن المصيبة من الذي يتسمى بالإسلام وهو عدو الإسلام والمسلمين، والباطنية الآن يتسمون بالأسماء ويقولون: الشريعة لها ظاهر وباطن، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى؛ لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ومن ذلك الكثير من الطوائف الباطنية والقرامطة والإسماعيلية والرافضة والدروز، كل هؤلاء يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام» .

وبعض الناس لا يفرق بين الحق والباطل، ولا يفرق بين العدو والصديق، ولا بين المؤمن والكافر، والله تعالى لا يقضي قضاء إلا وهو مبني على الحكمة؛ [الأنعَام: 128]{إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *} فهو الحكيم سبحانه وتعالى فيما يقدر وفيما يخلق وفيما يشرع، وفيما يأمر به وفيما ينهى عنه، وفيما يقدره، فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، فينبغي للمسلم أن يكون عنده بصيرة ويكون عنده ثبات، ويكون عنده أيضًا رجوع إلى أهل العلم وسؤال عما أشكل عليه، وبعض الناس يقول إنه ليس هناك جهاد، بل تكفي النية بدون راية! وهذا غير صحيح؛ بل لابد من نية وعمل، ولابد أن تكون راية، فيرفعها قائد مسلم تكون معه، أما أن تقاتل تحت راية كافرة، فما هذا بجهاد، أو تقاتل وحدك، فما هذا بجهاد، والمقصود أن الحديث فيه بشارة للمؤمنين، وأن الحق باق ومنصور وظاهر، والظهور يكون بالحجة والبيان والوضوح لكل أحد، فأهل السنة معروفون الآن ـ وفي جميع الأزمنة ـ أنهم على الحق وأنهم ظاهرون بالحجة والبيان، ولهم في قلوب الأعداء خوف ورعب، ولو لم يكن بأيديهم شيء، وأهل السنة والجماعة يكثرون ويقلون في بعض الأزمان، وقد يكونون متفرقين؛ قال الإمام أحمد: «إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟» قال بعض العلماء: إن من أهل السنة من يكون مزارعًا بسيطًا أو عامل بناء أو تاجرًا أو محدثًا أو فقيهًا أو داعيةً، وهو من أهل السنة والجماعة، فهذا الحديث فيه بشارة: «وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُْمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» ، قد يكونون في مكان واحد وقد يكونون متفرقين أيضا في أمكنة متعددة.

 

}3117{ قوله: «مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» ، يعني: ما أعطيكم ولا أمنعكم برأيي وإنما أتصرف وفق أمر الله عز وجل، والقاسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم، ومن عمله أيضًا؛ لأنه يقسم، فاسمه وافق مسماه، ولفظه طابق معناه، وهو دليل على التبويب، ودليل على أن قوله: [الأنفَال: 41]{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، يعني: للرسول قسم ذلك وليس ملكه؛ فهو يقسم بإذن الله عز وجل ولا يقسم برأيه.

 

}3118{ قوله: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . في هذا الحديث وعيد شديد للذين يتصرفون في الأموال وفي كسبها من غير الطرق المشروعة، أو بإنفاقها في غير سبل الخيرات.

وقوله: «بِغَيْرِ حَقٍّ» ، أي: بغير قسمة حق، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهو يدل على أن التخوض في مال الله أعم من أن يكون بالقسمة أو غيرها.

وهذه الأدلة استدل بها المؤلف رحمه الله على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف في الأموال التي تكون بيده وفق ما أمره الله به، وأن قوله: «{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}» للقسم لا للتمليك، فللرسول قسم ذلك، والمسألة فيها خلاف، وما ذهب إليه البخاري هو الراجح، وللرسول صلى الله عليه وسلم الخمس ينفق على نفسه وأهله منه فيما يحتاجه، والباقي يصرفه وفق ما أمره الله به، فينفق منه على اليتامى وعلى المساكين، ويجعله في العدة والكراع والسلاح وفي سبيل الله.

  قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُحِلَّتْ لَكُمْ الْغَنَائِمُ»

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} وَهِيَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.

}3119{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ الأَْجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

}3120{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

}3121{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ سَمِعَ جَرِيرًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

}3122{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ».

}3123{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ».

}3124{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الأَْنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلاَ أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ صَلاَةَ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولاً فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أُحِلَّتْ لَكُمْ الْغَنَائِمُ» . هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان حكم أخذ الغنائم، ولمن تعطى.

قوله: «وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: [الفَتْح: 20]{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وَهِيَ لِلْعَامَّةِ» ، يعني: الغنيمة لعموم المسلمين ممن قاتل أو شارك في القتال.

قوله: «حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم» ، يعني: حتى يبين الرسول من يستحق ذلك ممن لا يستحق.

}3119{ قوله: «الأَْجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . هذا هو الشاهد من الحديث، فالغنيمة حلال للمسلمين؛ أربعة أخماس للغانمين والخمس لله وللرسول ولمن ذُكر معهما في الآية الكريمة.

 

}3120{ قوله: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ» . هذه بشارة بزوال ملك الكياسرة وملك القياصرة، والكياسرة هم الفرس في العراق وإيران، والقياصرة في الشام، وكل من ملك الفرس يقال له: كسرى، ومن ملك الروم يقال له: قيصر، ومن ملك الحبشة يقال له: النجاشي، ومن ملك مصر يقال له: فرعون، ومن ملك اليمن يقال له: تُبّع، فهذا اسم علم على من ملك هذه البلاد.

وفيه: علامة من علامات النبوة؛ لأنه قد وقع الأمر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم فانتهى ملك كسرى وقيصر.

قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ضبطت «لَتُنْفَقَنَّ» خطاب للغائب، أي: لمن يأتي من المسلمين، أو «لتُنْفِقُن» خطاب لمن حضر من المسلمين؛ ففيها الوجهان، وهذا هو الشاهد أن كسرى وقيصر سوف تكون كنوزهما غنيمة تنفق في سبيل الله، فبين صلى الله عليه وسلم أن الغنائم أحلها الله للمسلمين.

 

}3121{ قوله: «لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» دليل على حل المغانم.

 

}3122{ قوله: «أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ» . في هذا الحديث بيان أن مما اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم حل الغنائم له.

 

}3123{ قوله: «تَكَفَّلَ اللَّهُ» وهذا من الصفات الفعلية لله تعالى، وفي اللفظ الآخر: «تضمن الله» [(398)] وتكفل وضمن كلاهما بمعنًى واحد.

قوله: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ» . يَرجعه بفتح أوله، من رَجَعَ يَرْجِع؛ قال الله تعالى: [التّوبَة: 83]{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ}، ويصلح يُرجعه من أرجع يُرجع، لكن رَجَعَ أفصح، يعني: يرده إلى مسكنه.

وتصديق كلمات الله: هي الأخبار والأحكام، وهذا هو المقصود من الجهاد أن يعبد الله وحده لا شريك له، وتصدق أخباره وأخبار رسوله وتنفذ أحكامه وأحكام رسوله، فمن كان هذا وصفه فهو موعود ومضمون له واحد من الأمرين: الجنة أو الرجوع بالأجر أو الغنيمة، فإن قتل فهو شهيد مضمون له الجنة، وإن سلم رجع بالأجر والغنيمة، وهذه فضيلة عظيمة، ومنقبة جليلة للمجاهد في سبيل الله.

قوله: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» هذا هو الشاهد من الحديث فالغنيمة تكون للمجاهدين والمقاتلين وتؤثر في أجورهم الأخروية، وفي «صحيح مسلم» : «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم» [(399)].

 

}3124{ قوله: «غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الأَْنْبِيَاءِ» . في هذا الحديث قصة حدثت لنبي من الأنبياء السابقين في قتالهم للأعداء، والأنبياء السابقون حينما يقاتلون الأعداء ويغنمون فالغنائم لا تحل لهم، وإنما يجمعونها فتنزل نار من السماء تحرقها فتأكلها إذا تقبلها الله وإذا لم تكن متقبلة فلا تأتي نار، بل تبقى على حالها، ولا يجوز لهم أن يستفيدوا منها، فأحل الله الغنائم لهذه الأمة، فمن خصائص هذه الأمة أن الله أحل لها الغنائم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» ؛ وذكر منها «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلنا» [(400)].

قوله: «غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الأَْنْبِيَاءِ» ، يعني: أراد أن يغزو، وهذا النبي هو يوشع بن نون، وهو فتى موسى الذي ذهب معه إلى البحر، حينما ذهب للخضر، وقد ذكر في قوله تعالى: [الكهف: 60]{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا *} ثم صار نبيا بعد موسى، وهو الذي فتح الله له بيت المقدس ، وحبست له الشمس كما سيأتي.

قوله: «لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا» ، لأن نفسه متعلقة بالمرأة ويتشوق إلى الدخول عليها، وذكر هذا النوع أولاً لأنه أشد شهوات النفس، والنفس به أكثر تعلقًا من غيره من أمور الدنيا.

قوله: «وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا» ؛ لأن نفسه متعلقة به، ومشغولة بالبيت الذي بنى، وما بقي إلا وضع السقف فقط.

قوله: «وَلاَ أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا» ، أي: عنده غنم أو إبل حامل، وهو ينتظر أولادها، فهذا متعلقة نفسه بها.

فكل من كانت نفسه متعلقة بشيء من شهوات الدنيا ولذاتها فهو ممنوع من الخروج للجهاد مع هذا النبي؛ لأنه يريد أن يكون من معه متفرغًا للجهاد.

قوله: «فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ» ؛ والقرية هي بيت المقدس.

قوله: «صَلاَةَ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ» يخاطب الشمس

قوله: «اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا» وكان ذلك في نهار ليلة السبت، وكانوا لا يقاتلون في يوم السبت، فأراد أن يقاتلهم قبل أن تغيب الشمس، وكانت الشمس قريبة من الغيوبة؛ فقال للشمس ما قال.

قوله: «اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا» ؛ فاستجاب الله له دعاءه فوقفت الشمس حتى تم الجهاد، ودخل القرية، وفتح الله عليه بيت المقدس؛ وكان موسى عليه الصلاة والسلام أمر بني إسرائيل أن يفتحوا بيت المقدس، فقالوا: لا نفتح بيت المقدس، ولا نذهب معك للجهاد، [المَائدة: 24]{قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ *}؛ لأنهم قوم فرعون رباهم على الهلع والجزع، فرفضوا أن يقاتلوا معه، وقال لهم: إن الله وعده بالفتح إن هم استجابوا، فرفضوا، وفي النهاية قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، فعاقبهم الله؛ قال: [المَائدة: 26]{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ *}، حرمها عليهم أربعين سنة، وهذا التحريم تحريم قدري، فالتحريم يكون شرعيًّا ويكون قدريًّا، وهذا تحريم قدري، ومثله قوله تعالى عن موسى: [القَصَص: 12]{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}، فهذا تحريم قدري وليس هو بشرعي، يعني: منعناه من قبل، فلا يقبل أي: ثدي إلا ثدي أمه، كذلك هنا حرمها عليهم يعني: منعهم من دخولها، حتى مضت أربعون سنة وهلك هؤلاء، ونشأ شباب تربوا على الجهاد، فسار بهم يوشع بن نون النبي، وفتح الله على يديه هذه الأرض المقدسة.

قوله: «فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا» ، فيه: دليل على أن الغنائم كانت لا تحل لهم.

قوله: «فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولاً فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ» أي: قال للمقاتلين: فيكم غلول، والغلول: هو السرقة من الغنيمة خفية، وهم كانوا قبائل، فقال: ليبايعني: من كل قبيلة رجل، حتى نعرف من معه الغلول، فمن كل قبيلة بايع رجل فلزقت يد رجل بيده، فقال: الغلول في قبيلتك، فأتني بأعيان قبيلتك، فجاء أفراد القبيلة يبايعونه، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده فقال: فيكم الغلول، فجاءوا بشيء أخذوه من الغنيمة، وهو رأس من الذهب مثل رأس البقرة، فوضعوها، فلما وضعوها جاءت النار وأكلتها.

قوله: «رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا» . وهذا هو الشاهد من الحديث، وهو حل الغنائم الذي هو من خصائص هذه الأمة، أما الأمم السابقة فكانت لا تحل لهم الغنائم ولا يأكلون منها.

وهذا الحديث فيه: دليل على أن الشمس حبست ليوشع بن نون ولم تحبس لغيره، وهذا هو الصواب، وسيأتي قريبا توجيه ذلك مع من ثبت أنها حبست له أيضاً، وجاء عن بعض الشيعة أنهم يقولون إنها حبست لعلي؛ وهذا بل باطل، قال شيخ الإسلام رحمه الله[(401)]: «إن الأحاديث التي فيها أنها حبست لعلي موضوعة» ، وتعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله في «الفتح» فقال: «وقد ورد أصله من طريق مرفوعة صحيحة أخرجها أحمد من طريق هشام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس» [(402)]، وأغرب ابن بطال فقال في «باب استئذان الرجل الإمام» : في هذا المعنى حديث لداود عليه الصلاة والسلام أنه قال في غزوة خرج إليها: «لا يتبعني من ملك بضع امرأة ولم يبن بها أو بنى دارًا ولم يسكنها» [(403)]، ولم أقف على ما ذكره مسندًا، لكن أخرج الخطيب في «ذم النجوم» له من طريق أبي حذيفة البخاري في «المبتدأ» له بإسناد له عن علي قال: «سأل قوم يوشع منه أن يطلعهم على بدء الخلق وآجالهم فأراهم ذلك في ماء من غمامة أمطرها الله عليهم فكان أحدهم يعلم متى يموت فبقوا على ذلك إلى أن قاتلهم داود على الكفر فأخرجوا إلى داود من لم يحضر أجله فكان يقتل من أصحاب داود ولا يقتل منهم فشكى إلى الله ودعاه فحبست عليهم الشمس فزيد في النهار فاختلطت الزيادة بالليل والنهار فاختلط عليهم حسابهم» .

قلت: وإسناده ضعيف جداً، وحديث أبي هريرة المشار إليه عند أحمد أولى فإن رجال إسناده محتج بهم في الصحيح فالمعتمد أنها لم تحبس إلا ليوشع، ولا يعارضه ما ذكره إسحاق بن بشر في «المبتدأ» من طريق يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه: «أن الله لما أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمره أن يحمل تابوت يوسف فلم يدل عليه حتى كاد الفجر أن يطلع وكان وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر فدعا ربه أن يؤخر الطلوع حتى فرغ من أمر يوسف ففعل» ؛ لأن الحصر إنما وقع في حق يوشع بطلوع الشمس فلا ينفي أن يحبس طلوع الفجر لغيره، وقد اشتهر حبس الشمس ليوشع حتى قال أبو تمام في قصيدة:

فوالله لا أدري أأحلام نائم

ألمت بنا أم كان في الركب يوشع

ولا يعارضه أيضا ما ذكره يونس بن بكير في زياداته في مغازي ابن إسحاق: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر قريشًا صبيحة الإسراء أنه رأى العير التي لهم وأنها تقدم مع شروق الشمس فدعا الله فحبست الشمس حتى دخلت العير» [(404)] وهذا منقطع، لكن وقع في «الأوسط» للطبراني من حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار» [(405)]. وإسناده حسن، ووجه الجمع أن الحصر محمول على ما مضى للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم فلم تحبس الشمس إلا ليوشع وليس فيه نفي أنها تحبس بعد ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ وروى الطحاوي والطبراني في «الكبير» والحاكم والبيهقي في «الدلائل» عن أسماء بنت عميس: «أنه صلى الله عليه وسلم دعا لما نام على ركبة عليّ ففاتته صلاة العصر فردت الشمس حتى صلى عليّ ثم غربت» [(406)] وهذا أبلغ في المعجزة، وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده له في «الموضوعات» ، وكذا ابن تيمية في كتاب «الرد على الروافض» في زعم وضعه والله أعلم» .

فالحافظ ابن حجر كأنه يرى صحة الحديث، وكتاب ابن تيمية المشار إليه بقوله: «الرد على الروافض» هو «منهاج السنة» ، فالحافظ خطّأ ابن الجوزي وخطّأ شيخ الإسلام ابن تيمية، ونحن نقول: إن ابن تيمية رحمه الله له الباع الطويل في هذا، وليس من السهل تخطئته، والحافظ قد يتساهل في التصحيح في بعض هذه الآثار، والمسألة تحتاج إلى العناية وجمع الطرق؛ حتى يتمكن من الحكم بالتصحيح أو التضعيف، والصواب ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وأن هذا الحديث موضوع، وعلامة الوضع واضحة عليه، والأقرب أنه من وضع الشيعة، فالشيعة هم الذين شوهوا تاريخ آل البيت، وهذا من أكاذيبهم.

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأما ما حكى عياض: «أن الشمس ردت للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق لما شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فردها الله عليه حتى صلى العصر» [(407)] كذا قال، وعزاه للطحاوي، والذي رأيته في «مشكل الآثار» للطحاوي ما قدمت ذكره من حديث أسماء فإن ثبت ما قال فهذه قصة ثالثة والله أعلم.

وجاء أيضًا أنها حبست لموسى لما حمل تابوت يوسف كما تقدم قريبًا، وجاء أيضًا أنها حبست لسليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام وهو فيما ذكره الثعلبي ثم البغوي عن ابن عباس قال: «قال لي علي: ما بلغك في قول الله تعالى حكاية عن سليمان عليه الصلاة والسلام [ص: 33]{رُدُّوهَا عَلَيَّ}؟ فقلت: قال لي كعب: كانت أربعة عشر فرسًا عرضها فغابت الشمس قبل أن يصلي العصر فأمر بردها فضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه أربعة عشر يومًا؛ لأنه ظلم الخيل بقتلها، فقال علي: كذب كعب، وإنما أراد سليمان جهاد عدوه فتشاغل بعرض الخيل حتى غابت الشمس فقال للملائكة الموكلين بالشمس بإذن الله لهم: ردوها علي فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها وأن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم» . قلت: أورد هذا الأثر جماعة ساكتين عليه جازمين بقولهم: قال ابن عباس: قلت لعلي؛ وهذا لا يثبت عن ابن عباس ولا عن غيره، والثابت عن جمهور أهل العلم بالتفسير من الصحابة ومن بعدهم أن الضمير المؤنث في قوله {رُدُّوهَا} للخيل والله أعلم» .

والحاصل أن الصواب: أن الشمس لم تحبس إلا ليوشع بن نون، وهذا هو الثابت في الحديث الصحيح، وأما كونها حبست للنبي صلى الله عليه وسلم أو حبست لعلي فهذا يحتاج إلى دليل ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد من الله على هذه الأمة ورحمها لشرف نبيها عنده فأحل لهم الغنيمة، وستر عليهم الغلول، فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول، فللَّه الحمد على نعمه تترى، ودخل في عموم أكل النار: الغنيمة تحريم السبي، وفيه: بعد لأن مقتضاه إهلاك الذرية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك، ويلزم استثناؤهم من تحريم الغنائم عليهم، ويؤيده أنهم كانت لهم عبيد وإماء فلو لم يجز لهم السبي لما كان لهم أرقاء ويشكل على الحصر أنه كان السارق يسترق كما في قصة يوسف، ولم أر من صرح بذلك.

وفيه: معاقبة الجماعة بفعل سفهائها.

وفيه: أن أحكام الأنبياء قد تكون بحسب الأمر الباطن كما في هذه القصة، وقد تكون بحسب الأمر الظاهر كما في حديث: «إنكم تختصمون إلي...» الحديث.

واستدل به ابن بطال على جواز إحراق أموال المشركين، وتعقب بأن ذلك كان في تلك الشريعة وقد نسخ بحل الغنائم لهذه الأمة، وأجيب عنه بأنه لا يخفى عليه ذلك، ولكنه استنبط من إحراق الغنيمة بأكل النار جواز إحراق أموال الكفار إذا لم يوجد السبيل إلى أخذها غنيمة، وهو ظاهر لأن هذا القدر لم يرد التصريح بنسخه فهو محتمل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخه.

واستدل به أيضا على أن قتال آخر النهار أفضل من أوله.

وفيه نظر؛ لأن ذلك في هذه القصة إنما وقع اتفاقاً كما تقدم، نعم في قصة النعمان بن مقرن مع المغيرة بن شعبة في قتال الفرس التصريح باستحباب القتال حين تزول الشمس وتهب الرياح، فالاستدلال به يغني عن هذا» .

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد