}3151| حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ.
وَقَالَ أَبُو ضَمْرَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ.
}3152{ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى ابْنُ عُقْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا، وَكَانَتْ الأَْرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا فَأُقِرُّوا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ فِي إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا».
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان ما يعطي النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وغير المؤلفة أيضًا ممن تظهر للنبي صلى الله عليه وسلم المصلحة في إعطائه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم يجتهد في إعطاء من تظهر المصلحة في إعطائه لتأليفه على الإسلام أو غير ذلك من المصالح؛ ولهذا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين رؤساء القبائل والعشائر، فأعطى عيينة ابن حصن الفزاري ـ الذي هو رئيس في قومه ـ مائة من الإبل، وغيره أيضًا من رؤساء القبائل؛ ليتألفهم على الإسلام حتى يتقوى إيمانهم، وخاصة إذا كان رئيسًا في قومه أو عشيرته؛ لأنه يعطى من المؤلفة قلوبهم الذين يرجى إسلامهم، فيطوع أفراد عشيرته في دفع الزكاة، وكذلك من كان يرجى إسلام نظيره أيضًا؛ فيعطى حتى يسلم نظيره ممن يماثله في الرئاسة.
والمؤلفة قلوبهم نوعان:
النوع الأول: مسلمون دخلوا في الإسلام حديثًا فيعطون من الزكاة وغيرها ليتقوى إيمانهم.
النوع الثاني: غير مسلمين يرجى إسلامهم فيعطون؛ حتى يكون ترغيبًا لهم في الإسلام، ويعطون من الخمس ومن مال الخراج ومن الجزية ومن الزكاة أيضًا؛ قال تعالى: [التّوبَة: 60]{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، فهم صنف من الأصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة.
قوله: «رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . هذا الحديث سيسوقه المؤلف رحمه الله في قصة حنين.
}3143{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث حكيم بن حزام، وقد عاش رضي الله عنه ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، وأعتق مائة عبد في الجاهلية، وأعتق مائة عبد في الإسلام، ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعه ما عمله من الخير في جاهليته؟ قال له النبي: «أسلمت على ما أسلفت من خير» [(439)]، وتكفر ذنوبه السابقة إذا حسن إسلامه بأن تاب من الكفر والمعاصي؛ فإن توبته تَجُبُّ ما قبلها، أما إذا أسلم ولم يحسن إسلامه فإنه يؤاخذ بالأول والآخر؛ فمثلاً إذا أسلم من الكفر لكنه لم يتب من شرب الخمر فاستمر يشربها بعد إسلامه، فإنه يؤاخذ بشربه لها في الجاهلية والإسلام، أما إذا تاب توبة نصوحًا فيغفر الله له ما كان سابقًا؛ فالتوبة تجب ما قبلها.
قوله: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» يعني: سألته أن يعطيني شيئًا من المال.
قوله: «فَأَعْطَانِي» أي: أعطاه من المال، إما من الخمس أو من الفيء أو من الخراج أو من الجزية.
قوله: «ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي» ؛ وورد في اللفظ الآخر: أنه سأله ثلاث مرات، ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الثالثة[(440)].
قوله: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ» ، يعني: أن الإنسان يجد لذة حينما يكسب مالاً، فتجده حينما يكون بينه وبين شخص صفقة تجارية ثم يكسب، يجده حلوًا كالشيء الذي يأكله أو يشربه.
قوله: «فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ» هذه نصيحة لحكيم ولغيره؛ لأن الشريعة عامة، وعليه فينبغي للإنسان أن يأخذ المال بسخاوة نفس؛ بأن يكسبه من الوجوه المشروعة وينفقه في وجوهه المشروعة، فيحذر كسب المال من حرام أو مما فيه شبهة، ومن فعل ذلك فهو موعود بالبركة، وهي الزيادة والنماء وفي المقابل من تطلع إلى أموال الناس وتعرض السؤال لما يبارك له فيه.
قوله: «وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» . اليد العليا: هي اليد المنفقة المعطية، واليد السفلى: هي اليد الآخذة، فاليد العليا يد الغني الذي يعطي المال ويتصدق وينفق، واليد السفلى هي يد الفقير الآخذة، وهذا فيه حث من النبي صلى الله عليه وسلم على أن تكون يد الإنسان هي اليد العليا، يعني: يكسب المال من وجوهه المشروعة؛ حتى يتصدق وينفق ولا تكون يده هي اليد السفلى.
وحكيم رضي الله عنه استفاد من هذه النصيحة وأثرت فيه تأثيرًا بالغًا، حتى إنه ترك الحق الذي يعطى له ولأمثاله من أجل النصيحة.
قوله: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا» . هذا قسم، يحلف لتأكيد المقال، وإن كان صادقًا، والذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحق هو الله عز وجل، بعثه بالحق والعلم النافع والعمل الصالح.
قوله: «لاَ أَرْزَأُ» ، يعني: لا أنقص، «أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا» ، يعني: لا آخذ من أحد شيئًا، وقد ثبت على ذلك ووفى رضي الله عنه، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر الخلافة كان أبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء، والعطاء كان مقدارًا من المال يعطى لكل فرد من أفراد المسلمين من بيت المال.
وكان في زمن الصديق رضي الله عنه يعطي الناس بالتساوي، الذي تقدم إسلامه والذي تأخر إسلامه، والكبير والصغير يعطيهم سواء، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه فاوت بينهم؛ فكان الذي تقدم إسلامه يعطيه أكثر، والذي له تأثير في الإسلام يعطيه أكثر، أما أبو بكر رضي الله عنه فقال: أسلموا لله وأجورهم على الله. وأما عمر رضي الله عنه فقال: لا أسوي بين من تقدم إسلامه ومن تأخر إسلامه، وفاوت بينهم في العطايا.
فلما جاء التوزيع السنوي دعا أبو بكر رضي الله عنه حكيمًا ليعطيه العطاء فأبى أن يقبل وقال: لا أريد. حتى توفي أبوبكر، فلما تولى عمر دعاه ليعطيه حقه فأبى أن يقبل منه، فأشهد عليه عمر الناس؛ «فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ» ، وهكذا ينبغي للمسلم أن يتأثر بالنصيحة ويقبل ويمتثل.
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى حكيمًا إما من الخمس أو من الفيء أو من الخراج أو غيره؛ تأليفًا له لأنه أسلم.
}3144{ قوله: «عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ» ، وفي رواية أخرى أنه نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفي به[(441)]؛ فدل على صحة النذر من الكافر، وأن الكافر إذا أسلم فإنه يفي بنذره.
وهو دليل أيضًا على أنه لا يشترط في الاعتكاف الصيام؛ لأنه في بعض الروايات قال: «نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية» . والليلة ليس فيها صيام، والجمهور على أن أقل الاعتكاف يوم يكون فيه صائمًا، وقال آخرون من أهل العلم: لا يشترط الصوم؛ بدليل قول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أوف بنذرك» [(442)]، والليل ليس فيه صيام.
قوله: «وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ» . وحنين غزوة غنم المسلمون فيها غنائم كثيرة من الإبل والبقر والنساء والذراري، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم السبي بين الناس؛ لأنه معلوم أن الغنيمة يكون أربعة أخماسها للغانمين، والخمس ينزع، فعمر نصيبه جاريتان، وإذا كانت متزوجة ينفسخ عقدها بالسبي من زوجها الكافر، ويجوز للمسلم أن يطأها ولكن بعد أن يستبرئها بحيضة؛ حتى لا تختلط الأنساب، فإذا حاضت حيضة جاز له أن يطأها بملك اليمين فلا يحتاج إلى زواج؛ لأن ملك اليمين أقوى، فعمر رضي الله عنه أصاب من السبي جاريتين، «فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ» .
قوله: «فَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبْيِ حُنَيْنٍ» حيث جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبين وقالوا: يا رسول الله جئنا تائبين، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم ما طلبوا؛ فخيرهم بين إحدى الطائفتين: المال أو النساء، فاختاروا سبيهم، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم عليهم[(443)].
فلما مَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على سبي حنين جعلوا يسعون في السكك، فقال عمر لابنه عبدالله: «يَا عَبْدَ اللَّهِ انْظُرْ مَا هَذَا؟» أي: ما الذي حصل؟
قوله: «مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّبْيِ» أي: سبي حنين، يعني: أعتقهم؛ فقال عمر لابنه: «اذهب فأرسل الجاريتين» .
قوله: «قَالَ نَافِعٌ: وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَلَوْ اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ» ؛ لأن عبدالله شديد التتبع للسنة وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الحج والعمرة.
والصواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة، وقد خفي ذلك على عبدالله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ليلاً وخرج ليلاً؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم حنين جاء واعتمر من الجعرانة في الليل، وانتهى منها في الليل؛ فلهذا خفي على بعض الصحابة.
والشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ على السبي من الخمس لما أسلموا؛ تأليفًا لقلوبهم.
}3145{ قوله: «حَدَّثنِي عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ رضي الله عنه قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ» ، يعني: أعطاهم شيئًا من الغنيمة ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه ولاموه، وذلك مثل الذي حصل من بعض شباب الأنصار لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم بعض رؤساء القبائل من نجد وغيرها، فلاموه وقالوا: كيف يعطيهم ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وبين لهم وجهته في ذلك، وقال: «إِنِّي أُعْطِي قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ» ، يعني: اعوجاجهم وانحرافهم، فأخشى أن ينحرفوا عن الإسلام.
قوله: «وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ وَالْغِنَى» ، أي: إن بعض الناس جعل الله في قلوبهم الخير والغنى؛ بسبب قوة إيمانه وثقته بالله؛ لكونه أسلم قديمًا؛ فثبت الإيمان في قلبه، فهذا لا يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم بل يكله إلى ما جعل الله في قلبه من الخير والغنى.
قوله: «مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» وهذه منقبة لعمرو فرح بها، يعني: أنه من الذين جعل الله في قلوبهم الغنى والخير.
قوله: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ» ، يعني: ما أحب أن لي بدل هذه الكلمة حمر النعم؛ و «حُمر» بسكون الميم جمع أحمر، وهي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، وأما حُمُر ـ بالضم ـ فجمع حمار، والمراد بقوله: الدنيا كلها.
قوله: «أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ بِسَبْيٍ فَقَسَمَهُ بِهَذَا» . وهذا هو الشاهد، وهو أن هذا المال أو السبي من الخمس أو الفيء يعطاه المؤلفة قلوبهم تأليفًا لهم على الإسلام، والإمام يجتهد ويتحرى فيعطي من يرى المصلحة في إعطائه؛ ليتقوى إسلامه، أو لأنه يخشى شره؛ فيدفع عن المسلمين شره، أو يطوع أفراد قبيلته، أو يسلم نظيره؛ فيعطى لهذه المصالح.
}3146{ في هذا الحديث: بيان وجه الأعطيات؛ فقوله: «أُعْطِي قُرَيْشًا أَتَأَلَّفُهُمْ لأَِنَّهُمْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ» ، يعني: عهدهم قريب بالجاهلية وأسلموا حديثًا، فيعطيهم حتى يتقوى إيمانهم وإسلامهم، وأما الأنصار الذين أسلموا من قديم فلا يعطيهم، بل يكلهم إلى الله وإلى ما في قلوبهم من الخير.
}3147{ هذه القصة فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه من أموال هوازن، حتى قيل: إن الغنائم بلغت ألفين من الشياه والإبل، فساقها الله غنيمة للمسلمين ومعها النساء والذراري، وانتظر النبي صلى الله عليه وسلم مدة بضع عشرة ليلة لعلهم يتوبون حتى يرد عليهم أموالهم ونساءهم، فلم يأتوا، فوزع على الغانمين الأموال والنساء والذراري، ثم جاءوا تائبين فقالوا: يا رسول الله، رُدّ علينا أموالنا ونساءنا؛ فخيرهم النبي صلى الله عليه وسلم إما هذا وإما هذا؛ فقالوا: إذن نختار أولادنا ونساءنا؛ فردهم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، من سمح فله ذلك، ومن لم يسمح عوّضه عنه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم صار يعطي من هذا المال ـ من الإبل والغنم ـ رؤساء القبائل والعشائر الذين أسلموا حديثًا في قريش؛ حتى يتقوى إسلامهم؛ فأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة، وأعطى فلانًا مائة، وفلانًا مائة، ولم يعط الأنصار شيئًا، فالذين تقدم سنهم من الأنصار يعرفون هذا ويعلمونه وهم راضون ومطمئنون، ولكن بعض الشباب الصغار السن قالوا: كيف يعطي النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا؟ نحن قاتلناهم وسيوفنا تقطر من دمائهم، ونحن أسبق منهم إسلامًا.
ولكن هؤلاء الشباب عندهم قصر نظر، ولا يعلمون ما وجهة النبي صلى الله عليه وسلم، ولماذا يعطيهم؟ فإنه لا يعطي الأنصار؛ لأنه وكلهم إلى إيمانهم، وأما ضعفاء الإيمان، فلو لم يعطوا فربما انتكسوا.
ولما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هذه المقالة عجل «فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ» ، أي: خيمة من جلد، «وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ» .
قوله: «مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ» فقال بعض فقهائهم: «أَمَّا ذَوُو آرَائِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا» ، وأما الشباب صغار السن فقالوا: «يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُ الأَْنْصَارَ وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ» .
قوله: «إِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ» ، يعني: حتى يتقوى إسلامهم، وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟» [(444)].
فجعلوا يبكون حتى أخضلت لحاهم، وكلما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا، قالوا: «الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ» فقال لهم: «إِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَْمْوَالِ وَتَرْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَاللَّهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً» ، وفي لفظ: «أُثرة» [(445)] بضم الهمزة وسكون الثاء، يعني: سوف تجدون بعدي من الأمراء من يؤثر غيركم عليكم في الأعطيات، ولا يعطيكم حقكم فاصبروا، وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من علامات النبوة.
قوله: «فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَوْضِ» قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ» . وأنس كان من صغار الصحابة، فمن باب التواضع وهضم النفس قال: ما صبرنا، يعني: أنه ينبغي الصبر.
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى هذه الأعطيات لقريش من الخمس أو من الفيء؛ تأليفًا لهم على الإسلام.
}3148{ هذه القصة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من حنين وقد وزع الغنائم وأعطى من أعطى لتأليف القلوب على الإسلام، جاءه الأعراب، ومعروف أن الأعراب أهل بادية عندهم عجلة وعندهم جفوة وجرأة، فليسوا كالحضر في الغالب بسبب الجفاء، فجاءوا وتعلقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: أعطنا، فأنت أعطيت هذا وأعطيت هذا، حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت الشجرة رداءه؛ لأنه يلبس رداء وإزارًا على عادة العرب.
قوله: «أَعْطُونِي رِدَائِي فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ» أي: لو كان لي عدد هذا الشجر إبلاً لأعطيتها وقسمتها بينكم.
قوله: «ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلاَ كَذُوبًا وَلاَ جَبَانًا» .
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم وعد الأعراب العطية من الخمس والفيء؛ للتأليف على الإسلام.
}3149{ هذه القصة فيها حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وما جبله الله عليه من الأخلاق الكريمة، وهي من أسباب دخول كثير من الناس في الإسلام، وقد كان بعض اليهود يستثير النبي صلى الله عليه وسلم في قول أو فعل؛ ليغضبه ليستدل بذلك على نبوته، كما حصل من بعض اليهود أنه أغلظ عليه وكان يطلب منه مالاً، وقال: أنتم يا بني عبدالمطلب قوم مُطْل، فلم يزدد النبي صلى الله عليه وسلم إلا حلمًا؛ فقال اليهودي: عرفت أنه نبي بهذا[(446)].
وكذلك هذا الأعرابي الجلف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله حتى جذبه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية الرداء في جسده الشريف صلى الله عليه وسلم، فصار جلده أحمر من أثر تلك الجذبة، وقال: أعطني يا محمد من مال الله، فالتفت إليه وهو يضحك صلى الله عليه وسلم وأمر له بعطاء وأعطاه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كهره ولا نهره ولا سبه، وإنما التفت إليه وهو يضحك وأمر له بعطاء صلى الله عليه وسلم وهذا هو الشاهد؛ أن هذا العطاء من الخمس؛ تأليفًا له على الإسلام.
وفي هذا الحديث: جواز لبس الثياب التي تجيء من النصارى أو المشركين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عليه برد نجراني من بلاد نجران، وهم في ذلك الوقت نصارى مشركون، فلبس النبي صلى الله عليه وسلم هذا الثوب الذي يأتي من بلاد النصارى؛ فلا حرج في لبس الثياب التي تأتي من المشركين أو اليهود أو النصارى، وكذلك أكل الفاكهة، إلا اللحم؛ فاللحم إذا كان من بلاد كتابية من اليهود والنصارى تحل ذبائحهم جاز أكله، أما إذا علمنا أنه يذبح بالصعق الكهربائي أو بالخنق فلا نأكل، وإذا جهلنا أكلنا.
أما الوثني والشيوعي والمجوسي وغيرهم فلا تحل ذبيحتهم، وكذا الرافضي والدرزي؛ فكل هؤلاء ذبيحتهم لا تحل، ولو قال: بسم الله، وقطع الحلقوم والمريء؛ لأنه ليس أهلاً للذبح؛ لأن للذبح شروطًا ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون الذابح أهلاً لها، وهو أن يكون مسلمًا أو كتابيًّا.
الشرط الثاني: أن يقطع الحلقوم والمريء بآلة حادة.
الشرط الثالث: أن يسمي الله.
وفيه: جواز لبس الغليظ من الثياب؛ لأن الثوب الذي كان يرتديه صلى الله عليه وسلم كان غليظ الحاشية.
$ر مسألة: ما حكم الشراء من المنتجات التي ثبت أن المالك لها رافضي المذهب؟
_خ الجواب: الشراء والبيع يجوز؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عامل اليهود، واشترى من مشرك غنمًا[(447)] فالشراء شيء مباح، لكن كون الإنسان يعامل إخوانه المسلمين وينفعهم؛ فهذا هو الأولى.
}3150{ هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسَّم غنائم حنين آثر أناسًا في القسمة وأعطى رؤساء القبائل؛ فأعطى الأقرع بن حابس رئيس قبيلة بني تميم مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى أيضًا رئيسًا ثالثًا، وأعطى واحدًا فنقصه عن المائة فشق عليه ذلك، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم أبياتًا قال فيها:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ
ـد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما
ومن تضع اليوم لا يرفع
فكمل له النبي صلى الله عليه وسلم المائة[(448)].
فهذه الأعطية لها تأثير كبير، فإذا أعطي الواحد مائة بعير فهذا مال عظيم، ولكن الدنيا لا تساوي شيئًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اعترض بعضهم عليه صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعطي من أجل شهوته وإنما يعطيه؛ ليتألفه على الإسلام، ولأجل مصلحة الإسلام والمسلمين، وأعطى أناسًا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة.
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم من الخمس أو من الفيء؛ ليتألفهم على الإسلام، وهذا راجع إلى اجتهاد الإمام.
قوله: «وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ» ، وقد سمع هذه المقالة عبدالله بن مسعود.
قوله: «فَقُلْتُ:» القائل هو ابن مسعود.
قوله: «وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» يعني: أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو بأمر الله، وبوحي من الله؛ فمن الذي يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟!
قوله: «رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَر» ، يعني: أن هذه أذية عظيمة، وفي رواية لمسلم قال ابن مسعود: فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصرف[(449)]، والصرف: صبغ أحمر تصبغ به الجلود، يعني: تغير وجه النبي من هذه الكلمة حتى صار وجهه أحمر، وفي رواية أخرى: قال عبدالله بن مسعود: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته ـ يعني: ساره في أذنه ـ فغضب غضبًا شديدًا حتى تمنى ابن مسعود أنه لم يذكر له مقالة الرجل[(450)].
لكن هذا الرجل قائل تلك المقولة؛ ما حكمه؟
قال القاضي عياض: حكمه الشرعي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر وقتل، وهذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه جائر، وإن قسمته ما أريد بها وجه الله، فحكمه أنه يكفر ويقتل، لكن لماذا لم يقتل هذا الرجل؟
ذكر بعض الشراح كالمازري قال: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم منه الطعن في النبوة، وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، أو لأنه لم يثبت عليه ذلك، وإنما نقله عنه واحد؛ وبشهادة واحد لا يراق الدم، أو لغير ذلك، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم تركه؛ لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؛ فهذا الرجل إما أنه منافق قال هذا لنفاق في قلبه، أو أنه ارتد بهذه الكلمة والعياذ بالله، وأنه اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجور والظلم، وأنه لا يريد بعمله وجه الله، وأي: شيء أعظم من هذا؟!
قال العلماء: إن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عن حقه في حياته، لكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يعفى عنه؛ فمن سب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يقتل، ولا يستتاب في أصح قولي العلماء؛ لأن كفره غليظ، والكفر الغليظ لا يستتاب صاحبه في أصح قولي العلماء، نعم تقبل توبته فيما بينه وبين الله، لكن العفو عن ذلك إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عفا عن المرأة اليهودية التي سمته ولم يقتلها[(451)]، وعفا عن هذا الرجل، وعفا عن ذي الخويصرة التميمي[(452)].
وقال بعض العلماء: إنه يستتاب أيضًا، وقد حقق شيخ الإسلام هذا الأمر في كتاب خصصه لهذا الشيء سماه: «الصارم المسلول على شاتم الرسول » ، والصارم: السيف الذي يقطع، يعني: السيف الصارم القوي على من شتم الرسول صلى الله عليه وسلم.
}3151{ في هذا الحديث: أن النبي أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير، وهذا الإقطاع من الخمس أو غيره؛ لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من المصلحة في إعطائه.
وهذا هو الشاهد، وهو أن الإمام يعطي من الخمس أو من غيره على حسب المصلحة؛ فلقد رأى المصلحة في إعطاء الزبير، فأعطاه أرضًا، وكانت هذه الأرض على ثلثي فرسخ، يعني: بعيدة عن المدينة، فكانت أسماء بنت أبي بكر زوج الزبير تنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعد ثلثي فرسخ من المدينة، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل يقرب من كيلو ونصف أو كيلوين إلا ثلثًا؛ وعلى هذا تكون المسافة ستة كيلومترات، أو قريبًا من ذلك.
وهذه مشقة عظيمة على أسماء رضي الله عنها، حتى إن أباها لما أعطاها خادمًا يساعدها قالت: كأنما أعتقني.
واحتج به العلماء على أن المرأة تخدم زوجها بما جرت به العادة، لكن هذا تبرع منها.
وبعض الفقهاء يقولون: لا تخدم، وأنه لا يجب عليها شيء.
والصواب: أنها تخدم بما جرت به العادة، يعني: تغسل ثيابه وتطبخ له، وغير ذلك.
}3152{ هذا الحديث فيه: أن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» [(453)]، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر: «نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» .
قوله: «وَكَانَتْ الأَْرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ» ، أي: وكانت الأرض بعضها لليهود وبعضها للرسول والمسلمين؛ وبعضها لليهود لأنها لم تفتح، وبعضها للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها فتحت صلحًا، وبعضها للمسلمين؛ لأنها فتحت بعد القتال، وفي اللفظ الآخر: «وكانت الأرض لمّا ظهر عليها لله وللرسول وللمسلمين» [(454)]، يعني: بعد أن فتحت، ولما فتحت خيبر أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، فقالت اليهود: يا رسول الله، أنتم مشغولون بالجهاد، فاتركنا نعمل بالنخيل ونقوم بملاحظتها وملاحظة الثمرة ويكون ذلك على النصف، أي: لنا نصف الثمرة مقابل العمل، ولكم نصف الثمرة مقابل أن النخيل لكم؛ فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ما شاء.
قوله: «أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ» يعني: أن يكفوا الرسول صلى الله عليه وسلم العمل؛ أي: يقومون بالعمل.
قوله: «نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» ، فلم يحدد مدة؛ ولهذا قال العلماء: إن المساقاة عقد جائز؛ فقد أبقاهم النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وأبقاهم أبو بكر رضي الله عنه، ثم لما تولى عمر رضي الله عنه استتبت الأحوال في وقته؛ فأجلاهم إلى تيماء وأريحا، وتيماء معروفة في أطراف المملكة، وهي من أرض الشام.
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهل خيبر؛ يتألف بذلك قلوبهم.
مَا يُصِيبُ مِنْ الطَّعَامِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ
}3153{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ لآِخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ.
}3154{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلاَ نَرْفَعُهُ.
}3155{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما يَقُولُ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْفِئُوا الْقُدُورَ فَلاَ تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْنَا إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ قَالَ: وَقَالَ: آخَرُونَ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ.
وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ.
قوله: «بَاب مَا يُصِيبُ مِنْ الطَّعَامِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ» بمعنى ما يصيبه المجاهد من الطعام في أرض الحرب، فإذا أصاب المجاهد طعامًا في أرض الحرب، فهل يأكل أم لابد أن يكون تابعًا للغنيمة؟
}3153{ في حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه: «كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ فَرَمَى إِنْسَانٌ» ، يعني: من اليهود، «بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ» .
قوله: «فَنَزَوْتُ» ، أي: عبدالله، يعني: أسرعت وقفزت؛ «لآِخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ» .
}3154{ في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلاَ نَرْفَعُهُ» ، يعني: ولا نرفعه للغنيمة.
وفيه: دليل على أن الشيء اليسير مما يحتاج إليه في الأكل من القوت ونحوه لا حرج في أخذه قبل القسمة، فإذا وجد مجاهد شيئًا من تمر أو عنب أو عسل أو شحم مما يحتاج إليه في الأكل من القوت ونحوه، فلا حرج في أخذه قبل القسمة أو بعدها بإذن الإمام أو بغير إذنه ولا يجب تخميسه، ومثله أيضًا علف الدواب، ومن ذلك جراب الشحم الذي أراد عبدالله بن مغفل أن يأخذه.
والمسألة خلافية بين أهل العلم، والشارح ذكر الخلاف في هذا، والجمهور على جواز أخذ الغانمين من القوت وكل طعام يعتاد أكله، وكذلك علف الدواب سواء كان قبل القسمة أو بعدها بإذن الإمام أو بغير إذنه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَا يُصِيبُ» ، أي: المجاهد من الطعام في أرض الحرب، أي: هل يجب تخميسه في الغانمين أو يباح أكله للمقاتلين، وهي مسألة خلاف، والجمهور على جواز أخذ الغانمين من القوت وما يصلح به، وكل طعام يعتاد أكله عمومًا، وكذلك علف الدواب، سواء كان قبل القسمة أو بعدها بإذن الإمام وبغير إذنه، والمعنى فيه: أن الطعام يعز في دار الحرب فأبيح للضرورة، والجمهور أيضًا على جواز الأخذ ولو لم تكن الضرورة ناجزة.
واتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم في حال الحرب، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب، وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام وعليه أن يرده كلما فرغت حاجته ولا يستعمله في غير الحرب، ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا يعرضه للهلاك، وحجته حديث رويفع بن ثابت مرفوعًا: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركبن دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه» [(455)]، وذكر في الثوب مثل ذلك، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والطحاوي، ونقل عن أبي يوسف أنه حمله على ما إذا كان الآخذ غير محتاج يبقي دابته أو ثوبه، بخلاف من ليس له ثوب ولا دابة. وقال الزهري: لا يأخذ شيئًا من الطعام ولا غيره إلا بإذن الإمام، وقال سليمان بن موسى: يأخذ إلا إن نهى الإمام.
وقال ابن المنذر: قد وردت الأحاديث الصحيحة في التشديد في الغلول، واتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام، وجاء الحديث بنحو ذلك فليقتصر عليه، وأما العلف فهو في معناه، وقال مالك: يباح ذبح الأنعام للأكل كما يجوز أخذ الطعام، وقيده الشافعي بالضرورة إلى الأكل حيث لا طعام، وقد تقدم في باب: ما يكره من ذبح الإبل» .
}3155{ في حديث عبدالله بن أبي أوفى أن الصحابة أصابتهم مجاعة ليالي خيبر فذبحوا الحمر الأهلية وطبخوها، وكانت قبل هذه الواقعة حلالاً وما حرمت إلا يوم خيبر، فبعد أن غلت القدور أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي بأعلى صوته: «أكفئوا القدور، ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئًا» ، فأكفئت.
واختلف العلماء: لماذا نهي عنها؟ هل نهي عنها لأنها لم تخمس؟ يعني: استعجلوا وأخذوا من الخمس، ولا يجوز للمجاهد أن يأخذ شيئًا من المال إلا إذا أخذ منه الخمس.
وقال آخرون: إنها حرمت لأنها تأكل العذرة.
وقال آخرون: حرمت لذاتها كما في اللفظ الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديًا ينادي: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس» [(456)]، والرجس: النجس، وهذا هو الذي عليه عامة العلماء، وهو الصواب.
وقال بعض العلماء: إنها لا زالت باقية على حلها، وكان ابن عباس يفتي بأنها حلال، وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: ليس عندي شيء أطعم به أهلي إلا من سمين حمري، قال: أطعم أهلك من سمين حمرك، ثم بعد ذلك تبين له فرجع إلى قول الجمهور وأفتى بتحريمها.