(59)كِتَاب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ;
الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ
وَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: [التّوبَة: 29]{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *} يَعْنِي أَذِلاَّءُ {وَالْمَسْكَنَةُ} مَصْدَرُ الْمِسْكِينِ فُلاَنٌ أَسْكَنُ مِنْ فُلاَنٍ أَحْوَجُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكُونِ.
وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قُلْتُ: لِمُجَاهِدٍ مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ.
}3156{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الأَْحْنَفِ فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ.
}3157{ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.
}3158{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الأَْنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الأَْنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْفَجْرَ انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ: «أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ» قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:«فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
}3159{ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَْمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ فَقَالَ: إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ هَذِهِ قَالَ: نَعَمْ مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنْ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلاَنِ فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلاَنِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآْخَرُ نَهَضَتْ الرِّجْلاَنِ وَالرَّأْسُ وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتْ الرِّجْلاَنِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ فَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ وَالْجَنَاحُ الآْخَرُ فَارِسُ فَمُرْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ: جَمِيعًا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَقَامَ تَرْجُمَانٌ فَقَالَ: لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاَءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنْ الْجُوعِ وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَْرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ.
}3160{ فَقَالَ النُّعْمَانُ: رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنَدِّمْكَ وَلَمْ يُخْزِكَ وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَْرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ.
قوله: «بَاب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ» . والجزية: هي المال الذي يدفعه أهل الكتاب للمسلمين نظير بقائهم تحت الدولة الإسلامية وحمايتها، ويقول العلماء: الجزية تكون لأهل الذمة، والموادعة تكون لأهل الحرب، والموادعة تعني المصالحة.
فهذا الكتاب معقود لحكمين:
الأول: الجزية.
الثاني: الموادعة.
والجزية: مِن جزأت الشيء: إذا قسمته، وقيل: من الجزاء؛ لأنها جزاء تركهم في بلاد الإسلام؛ فيدفعون مالاً لذلك، أو من الإجزاء؛ لأنها تكفي من توضع عليه لعصمة دمه.
والموادعة معناها: المتاركة، أي: مصالحة أهل الحرب مدة معينة إذا اقتضت المصلحة؛ فالمسلمون إذا قاتلوا اليهود والنصارى واستولوا عليهم يخيرونهم بين واحدة من ثلاثة أمور:
إما أن يسلموا، وإما أن يدفعوا الجزية، وإما أن يقاتلوا.
فإن أسلموا فالحمد لله فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.
وإن أبوا الإسلام ودفعوا الجزية؛ تركوا في بلاد المسلمين، ويكون لهم أمكنة خاصة وزي خاص ويدفعون مالاً خاصًّا، والحكمة من هذا المال الذي يدفعونه أمران:
الأمر الأول: الذل والصغار الذي يلحقهم ببذلهم المال، وقد يحملهم هذا على الإسلام فيما بعد؛ فهي دعوة لهم إلى الإسلام ليتخلصوا من هذا الذل، والنص في هذا آية التوبة؛ حيث يقول الله تعالى: [التّوبَة: 29]{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}.
الأمر الثاني: نفع المسلمين بهذا المال الذي يدفعه أهل الذمة.
والصواب: أن الذي يدفع الجزية ثلاث طوائف: اليهود، والنصارى، والمجوس؛ فاليهود والنصارى بنص القرآن، والمجوس بالسنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» [(457)].
وأما بقية الكفرة من الوثنيين وغيرهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء، وهو الصواب.
وذهب بعض أهل العلم كالإمام مالك[(458)] وغيره إلى أن الجزية تؤخذ من كل كافر، سواء كان وثنيًّا أو كتابيًّا.
والصواب: أنها لا تؤخذ إلا من الكتابي، أما الوثني فليس له إلا الإسلام أو السيف، وإذا اقتضت المصلحة الصلح مع أهل الحرب بأن يكون المسلمون ضعفاء ولا يستطيعون قتالهم؛ فلا بأس أن يصالحوهم مدة حتى يتقووا، كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين، ثم بعد ذلك نقضوا العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة؛ ولهذا صدر المؤلف رحمه الله كلامه على الجزية بآية التوبة، في قول الله تعالى: [التّوبَة: 29]{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}؛ فالذين لا يؤمنون عام لجميع الكفرة.
وفي الآية دليل على أنه لايقبل أن يدفع الجزية أحد غير الذي يعطيها، حتى يشعر بالصغار والذل، فلا تؤخذ منه أخذًا سهلاً؛ بل بالقوة.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قُلْتُ: لِمُجَاهِدٍ مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ» ، يعني: أن ذلك على حسب اليسار والإعسار، فالجزية تفرض على حسب اليسار والإعسار، فالفقير تفرض عليه أقل من الغني؛ فالغني يفرض عليه مثلاً ألف ريال سنويًّا، والفقير يدفع خمسمائة أو مائتين على حسب يُسْرِه.
}3156{، }3157{ فيه: ذكر كتاب عمر رضي الله عنه الذي كتبه قبل موته بسنة؛ وفيه: «فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ» ؛ لأن المجوس يستحلون نكاح المحارم كالأم والبنت والأخت، فالمجوسي ينكح أمه وبنته وأخته، فأمر عمر بتفريق المحارم؛ لأنه منكر ظاهر، وهذا عند غلبتهم والقدرة عليهم؛ لكونهم من رعايا المسلمين، فإذا غلب المسلمون المجوس وأصبحوا من رعايا المسلمين؛ تفرض عليهم الجزية ويفرق بين المحارم؛ فينظر كل مجوسي تزوج محرمًا من محارمه ويفرق بينهما.
قوله: «وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ» ، وإنما كان يأخذها من اليهود والنصارى، «حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» ، وفي اللفظ الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» [(459)]، يعني: المجوس، والمجوس هم عباد النار، وكانوا في فارس، ويقال: إنه كان لهم كتاب فرفع.
}3158{ هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية، وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، وليس المراد بالبحرين البلد المعروف الآن، بل أوسع من هذا؛ فمن العراق إلى الأحساء كل هذا يسمى البحرين، وكان أهلها نصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم أبو عبيدة بالمال من البحرين تسامعت به الأصوات، فلما سمعوا بقدومه صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم الفجر وتعرضوا له؛ يريدون أن يعطيهم شيئًا من هذا المال، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: «أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ» قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:«فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ» ، لكن الذي يخشاه صلى الله عليه وسلم: المال والغنى؛ فقد قال تعالى: [العَلق: 6-7]{كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى *}، أي: ما أخشى عليكم الفقر، فالفقير يصبر في الغالب؛ لكن الغني في الغالب لا يصبر، فإذا كثر المال وكثر الغنى حصل التنافس، ثم حصل التوسع في المباحات، ثم فعلت المكروهات والمعاصي وتنافس الناس فيها؛ ومن هنا فإن الدنيا تهلكهم.
وفي هذا الحديث: دليل على أن الخطر في بسط الدنيا أكثر من الخطر في الفقر، وهذا هو الواقع؛ فإن الناس أصبر على الفقر منهم على الغنى، كما هو الآن واقع ومشاهد؛ فبعض الناس كانوا فقراء، وكانوا محافظين على الصلوات الخمس، وعلى العادات الشرعية والآداب الإسلامية والحجاب للنساء، فلما بسط الله عليهم الدنيا تغيرت أحوالهم، وتجرءوا على حرمات الله؛ فصاروا يسمعون الغناء ويشاهدون المسلسلات وتتبرج نساؤهم وصاروا يتساهلون في الصلاة.
وكان الناس في عافية من كثير من البلاء قبل أن تبسط عليهم الدنيا؛ فلم يكن قبل عشر سنوات أو قبل عشرين سنة خدم في البيوت، أو سائق خاص للسيارة، ولا تلفاز ولا دش ولا إنترنت، وهذه سببها المال، فإن الدول الفقيرة ليس عندهم تلفاز ولا دش ولا إنترنت، وليس عندهم خدم ولا سائق سيارات، وتبع ذلك انتشار السحر بسبب الخدم والخادمات، وكم من إنسان يقول: إن الخادمة سحرته وسحرت أهله، وكم نسمع من بعض الناس من يقول: إنه ولد له ولد يشبه سائق السيارة، ويشبه المزارع، ويشبه الطباخ، وكم حصل أيضًا من الفساد بين الخادمات وأولاد المخدوم! وكم حصل من الشر والفساد غير هذا كثير، وهذا بسبب بسط الدنيا، حتى إنه الآن في الإنترنت يكون الشخص عنده هذا الجهاز في بيته، ويكون جاره عنده نفس الجهاز؛ فيكلم ابنة جاره ويراها ويحادثها ويرى صورتها، وهو مغلق عليه بابه في الغرفة، وهي كذلك، ويدور بينهما الحديث، ويرى صورتها ووجهها ويواعدها ويخرج معها، ولا يدري الأبوان، فكل ذلك بسبب بسط الدنيا، وذلك مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «َوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» .
}3159{، }3160{ هذا الحديث فيه: بيان أن عمر رضي الله عنه لما بعث جنوده في الأمصار يقاتلون المشركين أسلم رجل من المشركين يقال له: الهرمزان، فاستشاره عمر في هذه الدول؛ لأنه منهم، يعني: استشاره في قوتهم وكيف يبدأ بهم وكيف يقاتل؟
قوله: «إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ هَذِهِ قَالَ: نَعَمْ مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنْ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ» ، أي: مثل الدول الثلاث: دولة كسرى ودولة فارس ودولة قيصر الروم، «مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلاَنِ فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلاَنِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآْخَرُ نَهَضَتْ الرِّجْلاَنِ وَالرَّأْسُ وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتْ الرِّجْلاَنِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ فَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ وَالْجَنَاحُ الآْخَرُ فَارِسُ» ، يعني: لو قاتلت فارس وحدها فلا يكفي؛ لأن الرأس وهو كسرى باق، لكن إذا غلبت كسرى سقطت الدول الأخرى، وهذا من نصيحته.
قوله: «فَمُرْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى» أي: ابدءوا بكسرى أولاً، أي: اشدخوا الرأس.
قوله: «وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ: جَمِيعًا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَقَامَ تَرْجُمَانٌ» ؛ لأنهم أعجمي، يعني: أن قائد كسرى له ترجمان.
قوله: «لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ» ، أي: من المسلمين؛ يريد أن يسأله.
قوله: «فَقَالَ الْمُغِيرَةُ:» ، هو القائد.
قوله: «سَلْ عَمَّا شِئْتَ» ، أي: سل عما بدا لك، يقوله للترجمان.
قوله: «مَا أَنْتُمْ؟» أي: أخبرني عن صفتكم، وما الذي جاء بكم؟
قوله: «نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاَءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنْ الْجُوعِ وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ» ، أي: مثل الوحوش يأكل القوي فينا الضعيف؛ فقر وكفر ـ نعوذ بالله ـ مجتمعان.
قوله: «فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَْرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ» ، يعني: لابد من قتالكم، ولا نترك قتالكم إلا بأحد أمرين: إما أن تعبدوا الله وحده وتسلموا، أو تدفعوا الجزية وأنتم أذلة صاغرون، وهذا هو الشاهد للترجمة.
قوله: «وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ» ، أي: وأخبرنا نبينا عن رسالة ربنا، ونحن الآن لا نبالي؛ فالمقتول منا شهيد وله الجنة، والحي ينصره الله ويؤيده ويملك رقابكم؛ فنحن لا نبالي بالموت.
قوله: «فَقَالَ النُّعْمَانُ: رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنَدِّمْكَ وَلَمْ يُخْزِكَ وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَْرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ» ، يعني: قال النعمان للمغيرة - وكان المغيرة يرى القتال في أول النهار: ينبغي أن يكون القتال في آخر النهار، والصواب أن الكفار إذا قاتلونا أول النهار قاتلناهم في أول النهار، وإذا اقتضت المصلحة أن نقاتلهم في أول النهار قاتلناهم ولا يؤخر القتال، أما إذا لم تدع الحاجة إلى القتال أول النهار فإنه ينتظر حتى تهب الأرواح وتفتح أبواب السماء وينزل النصر، كما جاء في الحديث الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتفتح أبواب السماء وتهب الرياح وينزل النصر[(460)].
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله فوائد عديدة من هذا الحديث الطويل:
أولا: منقبة للنعمان.
ثانيا: معرفة المغيرة بالحرب، وقوة نفسه وشهامته وفصاحته وبلاغته؛ ولقد اشتمل كلامه هذا الوجيز على بيان أحوالهم الدنيوية، من المطعم والملبس ونحوهما، وعلى أحوالهم الدينية أولاً وثانيًا، وعلى معتقدهم من التوحيد والرسالة والإيمان بالمعاد، وعلى بيان معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره بالمغيبات ووقوعها كما أخبر.
ثالثا: فضل المشورة.
رابعا: أن الكبير لا نقص عليه في مشاورة من هو دونه.
خامسا: أن المفضول قد يكون أميرًا على الأفضل؛ لأن الزبير بن العوام كان في جيش عليه فيه النعمان بن مقرن؛ والزبير أفضل منه اتفاقا، ومثله تأمير عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كما سيأتي.
سادسا: ضرب المثل وجودة تصور الهرمزان؛ ولذلك استشاره عمر، وتشبيه لغائب المجوس بحاضر محسوس؛ لتقريبه إلى الفهم.
سابعا: البداءة بقتال الأهم فالأهم.
ثامنا: بيان ما كان العرب عليه في الجاهلية من الفقر وشظف العيش، والإرسال إلى الإمام بالبشارة، وفضل القتال بعد زوال الشمس.
إِذَا وَادَعَ الإِْمَامُ مَلِكَ الْقَرْيَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِبَقِيَّتِهِمْ
}3161{ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: غَزَوْنَامَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ.
هذا الباب عقده المؤلف لمصالحة الإمام لملك القرية، فإذا صالح الإمام ملك القرية؛ هل يكون الصلح لجميع أهل القرية، أو يكون خاصًّا به؟ الصواب أنه يكون لبقية أهل القرية.
}3161{ ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي حميد؛ وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا تبوك أهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردًا وكتب له ببحرهم، وهذا من باب المصالحة، والبرد: كساء معروف.
وقوله: «وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ» ، يعني: يُبقي على قريتهم.
وفيه: جواز قبول هدية الكافر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن المنير: لم يقع في لفظ الحديث عند البخاري صيغة الأمان ولا صيغة الطلب، لكنه بناه على العادة في أن الملك الذي أهدى إنما طلب إبقاء ملكه، وإنما يبقى ملكه ببقاء رعيته، فيؤخذ من هذا أن موادعته موادعة لرعيته» .
وتعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: «هذا القدر لا يكفي في مطابقة الحديث للترجمة؛ لأن العادة بذلك معروفة من غير الحديث، وإنما جرى البخاري على عادته في الإشارة إلى بعض طرق الحديث الذي يورده، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في السيرة فقال: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه بحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا فهو عندهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله لبحنة بن رؤبة وأهل أيلة... فذكره[(461)].
قال ابن بطال: العلماء مجمعون على أن الإمام إذا صالح ملك القرية أنه يدخل في ذلك الصلح بقيتهم» .
الْوَصَاةِ بِأَهْلِ ذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالإِْلُّ الْقَرَابَةُ
}3162{ حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُوَيْرِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ التَّمِيمِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قُلْنَا أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ.
قوله: «بَاب الْوَصَاةِ» ، يعني: الوصية، والمراد: الوصية بأهل الذمة؛ أي: اليهود والنصارى الذين خضعوا للدولة الإسلامية، وصاروا تحت حكمها وظلوا يدفعون الجزية لها.
وعمر رضي الله عنه عند موته أوصى بأهل الذمة؛ لأنهم دفعوا الجزية في مقابل أن يعيشوا بأمان تحت راية الدولة الإسلامية لا يَظلمون ولا يُظلمون.
قوله: «وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالإِْلُّ الْقَرَابَةُ» ، يشير إلى قول الله تعالى: [التّوبَة: 8]{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}، وقوله: [التّوبَة: 10]{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}، يعني: الكفرة إذا انتصروا على المسلمين لا يرقبون فيهم إلًّا ولا ذمة؛ والإل: القرابة، والذمة: العهد، وهو الواقع؛ فالآن الكفرة إذا قاتلوا المسلمين لا يراعون العهد ولا يراعون القرابة، كما حصل في العراق وغيرها، فيأتون على الأخضر واليابس، ويقتلون الصغير والكبير والشيخ والطفل والمرأة؛ فلا يراعون في المسلمين إلًّا ولا ذمة.
}3162{ ذكر البخاري رحمه الله في هذا الحديث شيئًا من وصية عمر رضي الله عنه عند موته، ومنها:
قوله: «ُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ» ، وفي اللفظ الآخر: «وذمة رسوله» [(462)]، يعني: أوصيكم بأهل الذمة الذين لهم عهد من اليهود والنصارى.
قوله: «فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ» يعني: يجب الوفاء بالعهد، ما داموا يخضعون للدولة الإسلامية ويدفعون الجزية.
وهذه وصية عظيمة، فبعد طعنه رضي الله عنه أوصى بالمهاجرين والأنصار، وأوصى بأهل الثغور أن تؤخذ منهم الجزية.
وقوله: «وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ» ، يعني: ما يؤخذ من الجزية والخراج تستفيدون منه ويكون رزقًا لعيالكم، فما دام لهم ذمة وعهد ويدفعون الجزية؛ فيجب أن يوفى لهم بالعهد ولا يُظلمون.
مَا أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْبَحْرَيْنِ
وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ وَالْجِزْيَةِ وَلِمَنْ يُقْسَمُ الْفَيْءُ وَالْجِزْيَةُ
}3163{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَْنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: لاَ وَاللَّهِ حَتَّى تَكْتُبَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا فَقَالَ: «ذَاكَ لَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ يَقُولُونَ لَهُ قَالَ: فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».
}3164{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي: «لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا»، وَهَكَذَا فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ قَالَ لِي: «لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَأَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا»، فَقَالَ لِي: احْثُهُ، فَحَثَوْتُ حَثْيَةً، فَقَالَ لِي: عُدَّهَا فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُ مِائَةٍ فَأَعْطَانِي أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةٍ.
}3165{ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ، أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً، قَالَ: خُذْ فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: أْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لاَ قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، فَقَالَ: فَمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ»
هذه الترجمة لبيان «مَا أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْبَحْرَيْنِ، وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ وَالْجِزْيَةِ وَلِمَنْ يُقْسَمُ الْفَيْءُ وَالْجِزْيَةُ» ، ورأي: المؤلف أن مصرف الفيء ومصرف الجزية واحد، فيصرف لله ولرسوله ولمصالح المسلمين؛ بخلاف الغنيمة فإنها تكون أربعة أخماس إلى الغانمين، والخمس لله وللرسول ولمن ذكروا في الآية.
}3163{ ذكر حديث أنس قال: «دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَْنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ» ، يعني: يقطعهم من أرض البحرين، والبحرين عام من العراق إلى الأحساء؛ فهذه كلها تسمى: البحرين.
قوله: «فَقَالُوا: لاَ وَاللَّهِ حَتَّى تَكْتُبَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا» . وهذا فيه: منقبة للأنصار رضي الله عنهم في طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون للمهاجرين مثلهم من الأعطيات.
قوله: «فَقَالَ: «ذَاكَ لَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ» ، يعني: ذاك المال للمهاجرين ما شاء الله على ذلك.
قوله: «فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» يعني: إنكم أيها الأنصار سترون بعدي أثرة؛ أي: يؤثر ويفضل عليكم غيركم في الأعطيات، وهذه من علامات النبوة، يعني: إنكم ستجدون في المستقبل من لا يعطيكم حقكم من الأمراء، ويفضل غيركم عليكم ويمنعكم حقكم؛ فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، وقد حصل للأنصار رضي الله عنهم ذلك كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وفيه: إثبات الحوض، وإثبات القيامة، وأن الحوض في موقف القيامة، وحوض النبي صلى الله عليه وسلم طوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر، وأوانيه عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج وأطيب ريحًا من المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة[(463)]، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الواردين والشاربين.
ووجه دلالة الحديث للترجمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم هَمَّ بأن يعطي الأنصار ويقطعهم من مال الجزية فلم يقبلوا، فَنَزّل ما بالقول منزلة الفعل؛ لأنهم لو قبلوا لأعطاهم، لكنهم لم يقبلوا فدل على جواز الإقطاع، وأن ولي الأمر له أن يقطع من الأراضي ومن غيرها مثل ما يسمى اليوم بالمنح على حسب ما يراه ولي الأمر، وفي حق النبي صلى الله عليه وسلم واضح أنه لا يأمر إلا بما يجوز فعله.
}3164{، }3165{ الشاهد من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعد جابرًا أن يعطيه من مال البحرين، وهو مال يأتي من الجزية؛ فدل على أن ولي الأمر يتصرف في مال الجزية ويصرفه في مصارف الفيء، فكما أن الفيء الذي يغنمه المسلمون من دون قتال يكون لولي الأمر يتصرف فيه، ويصرفه في مصالح المسلمين، فكذلك مال الجزية يصرفه الإمام في مصالح المسلمين.
قوله: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً» ، والعباس من قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أن ذوي القرابة يعطون ولو كانوا أغنياء؛ لأن العباس من الأغنياء، ولما أُخذ أسيرًا في بدر فادى نفسه بمال وفادى عقيلاً بن أبي طالب.
قوله: «قَالَ: خُذْ فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: أْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لاَ قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، فَقَالَ: فَمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ» ، أراد صلى الله عليه وسلم من العباس أن يقتصد، وأن يأخذ حاجته من المال الذي سمح له فيه، لكنه ما أراد أن يعطى شيئًا لا يستطيع حمله، فالذي يستطيع رفعه يأخذه، والذي لا يستطيعه يأخذه غيره.
والشاهد من هذا: أن هذا المال الذي نثر في المسجد جاء من مال الجزية، وحكمه حكم مال الفيء يصرفه ولي الأمر في المصالح ويعطيه ذوي القرابة، والفيء الذي يأتي إلى بيت المال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن الصديق وفي زمن عمر يقسم بين الناس، ويعطى الناس كلهم أعطية سنوية، أي: راتبًا سنويًّا؛ فأبو بكر رضي الله عنه سوَّى في الأعطيات بين الكبير والصغير والغني والفقير والمتقدم في الإسلام والمتأخر، وأما عمر رضي الله عنه فلما تولى فاوت بينهم؛ فالذي تقدم إسلامه كان يعطيه أكثر، والذي تأخر إسلامه كان يعطيه أقل، والذي له تأثير في الإسلام يعطيه أكثر وهكذا.
إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ
}3166{ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
قوله: «باب إثم من قتل معاهَدًا» ، بالفتح على اسم المفعول، أي: إثم من قتل معاهدًا عاهده، ويجوز معاهدًا ـ بكسر الهاء ـ على أنه اسم فاعل؛ لأنه عاهد المسلمين لكن الأول أولى.
والمعاهد: هو الكافر الذي يدخل إلى بلاد المسلمين بعهد، وهذا لا يجوز قتله ولا أخذ ماله، ومن قتله عليه الوعيد الشديد كما في الحديث: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ، لكنه لا يقتل به وعليه الدية والتعزير والحبس.
ووقع الخلاف في أمان المرأة، وسيأتي أن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب أجارت واحدًا من المشركين فأنفذ النبي صلى الله عليه وسلم إجارتها وأمانها[(464)].
والذميون: هم اليهود والنصارى الذين يعيشون تحت الدولة الإسلامية.
والمستأمن: هو الذي أَمّنه المسلمون.
والكافر الحربي: هو الذي ليس بينه وبين المسلمين لا عهد ولا أمان ولا ذمة، وهذا يقتل ولا يعطى شيئًا ولا يسقى ولا يعان بشيء، وما عدا هذا فإنه يحسن إليه ويطعم ويسقى، كما فعل عمر رضي الله عنه وغيره، فبعضهم أوقف على بعض أقاربه المشركين، وعمر كسا حلة الحرير التي أعطيها لأخ له مشرك في مكة[(465)].
والمحاربون اليوم مثل اليهود، فهم أهل حرب، فأي: يهودي محارب تجده اقتله ولا تطعمه ولا تعطه ماء ولا شرابًا، واتركه حتى يموت ولا تعطه شيئًا؛ فهذا حربي، وماله حلال ودمه حلال.
أما الكافر الذمي والكافر المستأمن والكافر المعاهد فلا يجوز مسه بسوء، وماله حرام ودمه حرام.
}3166{ قوله: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ، فما دام قد دخل بأمان واحد من المسلمين أَمّنه أو أجاره فهو آمن، مثلما أجارت أم هانئ رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتل رجلاً أجرته فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» [(466)] يعني: أَمّنّا من أَمّنت.
والمعاهد: هو الكافر الذي يدخل إلى بلاد المسلمين بعهد أو أمان.
والذمي: هو الذي يدفع الجزية.
والمستأمن: هو الذي له عهد بينه وبين المسلمين، عهد إلى مدة محددة وجاء إلى بلاد المسلمين، وصالح النبي صلى الله عليه وسلم كفارًا حربيين، لكن صالحهم حتى تضع الحرب أوزارها، كما صالح أهل مكة[(467)]، وصار المشركون يختلطون بالمسلمين، فالمشركون يأتون إلى المدينة، والمسلمون يذهبون إلى مكة، وفي ذلك من المصلحة أن أسلم كثير من المشركين، ومن ذلك أن جبير بن مطعم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وقت الصلح يقول: دخلت المدينة ووصلت إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وسمعته يقرأ هذه الآية من سورة الطور: [الطُّور: 35]{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *}، فقال: كاد قلبي أن يطير[(468)]، وبدأ يدب فيه الإسلام، ثم أسلم بعد ذلك، فقد تدبر الآية لما سمعه يقرأ بقراءة حسنة الصوت: ُ " ! ( ' × % ، + ء «ف! ! ِ .
يعني: هؤلاء المخلوقون هل خلقوا أنفسهم؟ لا يمكن؛ لأنهم عدم، والعدم لا يخلق نفسه، أم هل خلقوا من غير شيء؟ لا يمكن أن يكونوا خلقوا من غير شيء؛ لأن المخلوق لابد له من خالق؛ فدل على أن خالقهم هو الله الخالق سبحانه وتعالى، وهو الذي يستحق أن يعبد، لأنه أوجد الناس من عدم؛ ولهذا قال: كاد قلبي يطير، ثم أسلم.
فهذه فائدة من فوائد الصلح مع الكفار، وهي أن يحصل اختلاط فيأتي هؤلاء إلى المسلمين ويسمعون الإسلام ويرون محاسن الإسلام ومعاملة المسلمين؛ فيكون هذا دعوة لهم إلى الإسلام.
ومن ذلك أن كثيرًا من تجار المسلمين الذين يسافرون إلى بلاد الكفار دعوا أهلها، فأسلم عدد كثير منهم على أيديهم وهم عوام، لكن لما رأوا حسن معاملة المسلمين دخلوا في الإسلام، وكثير من التجار ذهبوا إلى بلاد الكفار فأسلم عدد كثير من الكفار بسبب معاملة المسلمين لهم فقط، وهم ليسوا علماء ولا دعاة، لكنهم دعوا الناس بأفعالهم وبحسن معاملتهم.