إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ
وَقَالَ عُمَرُ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ بِهِ.
}3167{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ»، فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَالَ: «أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَْرْضِ، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ».
}3168{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الأَْحْوَلِ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ مَا يَوْمُ الْخَمِيسِ، قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا فَتَنَازَعُوا، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ، فَقَالَ: ذَرُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فَأَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ، قَالَ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَالثَّالِثَةُ خَيْرٌ إِمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا وَإِمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا»، قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ.
قوله: «وَقَالَ عُمَرُ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ بِهِ» ، والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر أراد أن يجلي اليهود، فقالوا: أبقنا في الأرض نزرعها، وأنتم مشغولون بالجهاد، ولم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم لهم مدة، واستدل العلماء بذلك على أن المساقاة والمزارعة عقدان جائزان، فمتى أراد بعضهم فسخه فله ذلك؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد مدة.
}3167{ قوله: ««انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ»، فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ» ، وهو البيت الذي يدرس فيه كتابهم، ويسمى ببيت المدراس.
قوله: «فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ» ، يعني: من يجد من يشتري شيئًا من ماله فبيعوا أموالكم استعدادًا للإجلاء وتخففوا من أموالكم.
قوله: «وَإِلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» ، وكما في الآية الكريمة: [الأعرَاف: 128]{إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *}، فالأرض لله ولرسوله وللمؤمنين، وهم أولى بالأرض، فمثلاً أرض فلسطين هي للمتقين في كل زمان وفي كل مكان؛ فلا يقول اليهود: إننا أولى بها وكانت لنا، ولا يقول النصارى كذلك، فلما كان اليهود في الزمن الأول على دين صحيح قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا مستقيمين صاروا أولى بفتح بيت المقدس؛ حيث أمرهم الله تعالى أن يفتحوا بيت المقدس على يد موسى عليه السلام ولكنهم رفضوا وامتنعوا؛ حيث قال لهم نبيهم موسى عليه السلام: افتحوا الأرض واحملوا عليهم، قالوا: لا نستطيع؛ فإن فيها قومًا جبارين كما ذكر الله في سورة المائدة: [المَائدة: 21-23]{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ *قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *}، فقد أصابهم الهلع والجبن والخوف؛ فعاقبهم الله بالتيه في الأرض، فلا يسكنون بلدًا وأرض التيه هي صحراء سيناء التي بمصر وحدود فلسطين، واستمر هذا حالهم حتى هلك هذا الجيل الضعيف الذي ليس عنده قوة ولا نشاط ولا استعداد، ونشأ جيل جديد رباهم موسى عليه السلام، ثم توفي موسى معهم فقادهم يوشع بن نون وهو فتى موسى، وصار نبيًّا فقادهم وفتح بهم بيت المقدس كما في الحديث، وفتحه قرب غروب الشمس ليلة السبت ـ وكانوا في السبت لا يعملون ـ فخاطب الشمس قائلاً: «أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئًا، فحبست عليه حتى فتح الله عليه» [(469)]؛ فاستجاب الله له فحبست الشمس حتى تم الفتح والنصر؛ ولهذا يقال: لم تحبس الشمس إلا ليوشع بن نون[(470)].
}3168{ قوله: «يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى» ، فقد تذكر حالة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخميس، وهو اليوم الذي مرض فيه النبي صلى الله عليه وسلم مرض وفاته.
قوله: «قُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ مَا يَوْمُ الْخَمِيسِ، قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا» ، والكتف ، أي: اللوح، وهو عظم الشاة يكتب فيه، ولم يكن عند الناس ورق في ذلك الوقت، وكانوا إذا أرادوا أن يكتبوا كتبوا في اللوح.
قوله: «فَتَنَازَعُوا» ، يعني: قال بعض الصحابة: نأتي له بكتاب، وقال بعضهم: لا نأتي بكتاب؛ فالرسول قد اشتد به المرض؛ فلا تؤذوه ولا تشقوا عليه، ويكفينا كتاب الله.
قوله: «وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ» يعني: هل الرسول صلى الله عليه وسلم هذى من المرض وشدته.
قوله: «فَقَالَ: ذَرُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فَأَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ، قَالَ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» ، وهذا هو الشاهد.
وقوله: «الْمُشْرِكِينَ» يشمل كل مشرك؛ فيشمل اليهودي والنصراني والوثني وغيرهم، والسبب في ذلك أن جزيرة العرب هي منبع الإسلام، وقد قام الإسلام على أكتاف العرب الذين هم معدن الإسلام؛ فينبغي أن تكون سالمة خالصة ليس فيها دين آخر، أما غير جزيرة العرب فلا بأس أن يبقى اليهود والنصارى فيها، كمصر أو الشام أو العراق؛ فلا بأس مع الحذر من شرهم، وكانوا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي الذمي يبيع الشيء فيمكث يومين أو ثلاثة ولكن لا يبقى.
إِذَا غَدَرَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ
}3169{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ»؛ فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ» فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَبُوكُمْ؟» قَالُوا: فُلاَنٌ، فَقَالَ: «كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ» قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ»، قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اخْسَئُوا فِيهَا! وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا» ثُمَّ قَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟» قَالُوا: نَعَمْ؛ قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟» قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ».
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم ما إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم عند المقدرة عليهم أم لا؟ والغدر: هو الخيانة، وهو ضد الوفاء، يعني: نقض العهد.
}3169{ ذكر في هذا الحديث قصة المرأة اليهودية التي أهدت شاة مسمومة للنبي صلى الله عليه وسلم، والسم تثلث سينه؛ فيكون بالفتح: السَّم، وبالكسر: السِّم، وبالضم: السُّم، والأفصح الفتح.
قوله: «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ» ، فسألهم عن أبيهم فكذبوا عليه فكذبهم، وسألهم: من أهل النار؟ فقالوا: نجلس فيها أيامًا يسيرة، مقدار عبادة العجل، سبعة أيام، ثم تخلفوننا، فكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا» ، كما قال الله تعالى حكاية عنهم: [البَقَرَة: 80]{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، فكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: «اخْسَئُوا فِيهَا! وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا» .
قوله: ««هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟» قَالُوا: نَعَمْ؛ قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟» قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ»» . وهذا هو الشاهد على غدر وخيانة اليهود؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم صالحهم وغدروا به، فهل يعفى عنهم إذا غدروا أم لا يعفى؟
لم يجزم المصنف بالحكم؛ للخلاف في معاقبة المرأة التي أهدت السم، هل قتلها من أجل الغدر، أم من أجل القصاص؟ والأقرب أنه من أجل القصاص؛ لأن الصحابي ـ البرء بن معرور ـ مات فاقتص منها، ولم يقتص لنفسه صلى الله عليه وسلم، وجاء في اللفظ الآخر: «فقال: ما حملك على ما صنعت؟» [(471)]، فقالت: نِلْتَ من قومي ما نلت؛ قتلت أبي وعمي وزوجي. يعني: أرادت أن تنتقم، والمسألة محل نظر وتأمل، وسيأتي بسطها في كتاب المغازي.
دُعَاءِ الإِْمَامِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدًا
}3170{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه عَنْ الْقُنُوتِ قَالَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ فَقُلْتُ: إِنَّ فُلاَنًا يَزْعُمُ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: كَذَبَ ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، قَالَ: بَعَثَ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْقُرَّاءِ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَعَرَضَ لَهُمْ هَؤُلاَءِ فَقَتَلُوهُمْ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَمَا رَأَيْتُهُ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ.
هذه الترجمة لدعاء الإمام على من نكث عهدًا.
}3170{ قوله: «يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ» ، دعا عليهم؛ لأنهم نقضوا العهد؛ حيث إنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أناسًا يعلمونهم ويقرئونهم القرآن، فأرسل لهم النبي صلى الله عليه وسلم أربعين من القراء، وفي اللفظ الآخر: «يقال لهم القراء» [(472)]، فلما ذهبوا معهم غدروا بهم وقتلوهم، فاشتد على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر، فقنت عليهم أربعين صباحًا يدعو عليهم بعد الركوع في الفجر وفي غيره، قال أنس: «فَمَا رَأَيْتُهُ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ» ، يعني: تأثر تأثرًا شديدًا لما أصابهم.
وفي الحديث: مشروعية الدعاء على من نكث العهد.
وفيه: دليل على مشروعية القنوت في النوازل.
وفيه: أن القنوت في النوازل لا يستمر وإنما يترك بارتفاع النازلة.
وفيه: أن القنوت في النوازل لا يتجاوز به إلى نوازل أخرى ماضية؛ فلا يكون الدعاء مثلا على نازلة من خمسين سنة أو ستين سنة، وبعض الأئمة لا يحسن الدعاء؛ فتجد بعضهم يدعو بدعاء القنوت.
وفي هذا الحديث بيان محل القنوت؛ حيث سئل أنس: هل القنوت قبل الركوع أم بعده؟ فأجاب أنه قبل الركوع، فقيل له: «إِنَّ فُلاَنًا يَزْعُمُ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: كَذَبَ ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ» .
والأحاديث الصحيحة الكثيرة دلت على أن القنوت الذي هو الدعاء يكون بعد الركوع لا قبله، وأما هذه الرواية لأنس أنه قبله فهي محمولة على أنه نسي، أو أن المراد بالقنوت طول القيام؛ فالقنوت له معان منها:
طول القيام؛ كما قال الله تعالى: [البَقَرَة: 238]{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *}.
أو الدعاء، وهو الذي يكون بعد الركوع.
ولا منافاة بين نفي القنوت بعد الركوع وإثباته؛ لأن القنوت له عدة معان، حتى قال بعضهم: له عشرون معنى.
أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهِنَّ
}3171{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ، تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ، فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ»، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ، فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ، أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ، فُلاَنُ بْنُ هُبَيْرَةَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ»، قَالَتْ: أمُّ هَانِئٍ وَذَلِكَ ضُحًى.
هذه الترجمة عقدت لأمان النساء وجوارهن، فإذا أمّنت المرأة كافرًا، وقالت: هو مؤمَّن لا أحد يمسه بسوء؛ فهذه يُنفذ جوارها وأمانها، ولا يمس الرجل بسوء؛ لأنها من المسلمين، والمسلمون ذمتهم واحدة يسعى بها أدناهم.
}3171{ هذا الحديث فيه: أن أم هانئ أجارت رجلاً يسمى ابن هبيرة، فأراد علي رضي الله عنه أن يقتله، فشكت للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ» ، وهذا من باب الاستعطاف، «أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ، فُلاَنُ بْنُ هُبَيْرَةَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ»» .
وفي هذا الحديث فوائد؛ منها:
ما دلت عليه الترجمة من جواز أن تجير المرأة المسلمة وتُؤَمّن من شاءت، ويلزم على المسلمين إنفاذ جوارها وأمانها.
وفيه: مشروعية سلام المرأة على الرجل، ورده عليها، إذا أمنت الفتنة، فالمرأة تسلم على الرجل وتقول: السلام عليكم، ويرد عليها، والرجل أيضًا يسلم إذا أمنت الفتنة، أما إذا كان هناك فتنة فلا.
وفيه: اغتسال الرجل وابنته تستره؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل وابنته فاطمة تستره.
وفيه: أن التحية يقال فيها: مرحبًا بفلان.
وفيه: مشروعية صلاة الضحى واستحبابها.
وفيه: جواز الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، فإن كان ضيقًا ائتزر به، وقد جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم سلم من كل ركعتين[(473)]، ويعضده حديث: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» [(474)].
وصلاة الضحى مشروعة، وأقلها ركعتان، ولا حد لأكثرها، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعًا ويزيد ما شاء الله» [(475)]، أما تحديد بعض العلماء والفقهاء بأن صلاة الضحى أكثرها ثمان ركعات؛ فهذا التحديد لا دليل عليه.
وقياسا على جِوَار المرأة وأمانها اختلف العلماء في الصبي؛ هل له أن يجير أم لا؟
وكذلك اختلفوا في العبد إذا أجار؛ هل تنفذ إجارته أم لا؟
فمن العلماء من قال في حق العبد: تنفذ إذا أذن له سيده، ومنهم من قال: تنفذ مطلقًا، وقد ذكر الشارح الخلاف في هذا.
وأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم يقاتل، وقال أبو حنيفة[(476)]: إن قاتل جاز أمانه وإلا فلا. وقال البعض: إن أذن له سيده صح أمانه.
وأما الصبي فقد قال ابن المنذر[(477)]: وأجمعوا على أن أمان الصبي غير جائز.
ومن العلماء من قال: إذا كان مراهقًا ينفذ جواره.
والذمي هل يجير على المسلمين؟ فيه خلاف:
فمن العلماء من قال: إذا غزا الذمي مع المسلمين فأمَّن؛ فإن شاء الإمام أمضاه وإلا رده.
وفي الحديث أيضا أنه إذا سئل الإنسان عن نفسه يسمي نفسه، ولا يقل: أنا؛ ودليله ما في حديث جابر: «لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من؟» قال: أنا، فقال: «أنا أنا»؛ كأنه كرهها» [(478)]؛ وذلك لأن لفظة «أنا» ليس فيها توضيح، وليست بجواب.
ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجِوَارُهُمْ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ
}3172{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلاَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَقَالَ فِيهَا الْجِرَاحَاتُ وَأَسْنَانُ الإِْبِلِ وَالْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى كَذَا فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى فِيهَا مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ، وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ.
هذا الباب معقود لبيان أن ذمة المسلمين واحدة وجوارهم واحد؛ لأن المسلمين كالجسد الواحد، فإذا أَمّن واحد من المسلمين شخصًا، صار هذا الأمان على جميع المسلمين، فإذا أمَّنت امرأة شخصًا فيجب أن ينفذ هذا الأمان.
وأما العبد والصغير ففيهما خلاف سبق عرضه، فذمة المسلمين واحدة؛ لأنهم كالجسد الواحد.
}3172{ قوله: «أَوْ آوَى فِيهَا مُحْدِثًا» ـ بكسر الدال ـ أي: آوى مبتدِعا فعل محدَثًا في الدين، يعني: أجاره وحماه ومنعه من أن يقام عليه الحد، وروي: «آوى محدَثًا» ، أي: آوى الحدَث وأقره ورضي به، ومثله أن يحدث الحدث هو بنفسه، كما في الجملة التي قبلها: «فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا» .
قوله: «فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . فيه: الوعيد الشديد على من آوى المحدث، وهو لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فمن فعل الكبيرة، أو آوى من فعل الكبيرة؛ لئلا يقام عليه الحد، أو آوى الحدث نفسه ـ فعليه الوعيد الشديد، وهذا من خواص المدينة.
وفيه: الرد على الشيعة القائلين بأن عليًّا عنده نصوص في خلافته والأئمة من بعده من ولده.
وفيه: تحديد حرم المدينة.
قوله: «وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ» فيه: أن من تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ كأن يكون الشخص غير قبلي فينتسب إلى تميم مثلاً أو إلى قحطان، أو ينتمي إلى سبيغ أو عتيبة، فهذا من كبائر الذنوب؛ لما فيه من اختلاط الأنساب، إلا من أكره؛ كأن يهدد بالقتل في هذا الوقت، كما لو أكره على الكفر، ثم يزيله بعد الإكراه.
والشاهد: أن ذمة المسلمين واحدة؛ يسعى بها أدناهم وأقلهم.
إِذَا قَالُوا: صَبَأْنَا وَلَمْ يُحْسِنُوا أَسْلَمْنَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ».
وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ مَتْرَسْ فَقَدْ آمَنَهُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الأَْلْسِنَةَ كُلَّهَا، وَقَالَ: تَكَلَّمْ لاَ بَأْسَ.
هذه الترجمة معقودة لبيان الحكم فيما إذا أخطأ القائد، وقتل من لا يستحق القتل.
وفي الحديث أن خالدًا أرسل إلى بني جذيمة، فلما أقبل عليهم جعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، يريدون أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، لكن لا يدرون؛ لأنهم يسمعون أن الصابئ من يخرج من دينه؛ فقالوا: صبأنا صبأنا، يعني: خرجنا من ديننا إلى دين الإسلام، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، فجعل خالد يقتلهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، اشتد عليه الأمر ورفع يديه وقال: «أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» ، ثم وَدَاهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف الدية[(479)]، وقيل: إنه ضمن لهم الإناء الذي يسقى فيه الكلاب[(480)].
وفيه: دليل على أن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فهو معذور.
وفيه: أن من أخطأ مجتهدًا فلا يُبعد عن العمل ولا يُقصى؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقص خالدًا عن الولاية والإمارة، بل أبقاه قائدًا.
وفيه: أن من أظهر الإسلام من المشركين بأي: لغة يكف عنه، ثم ينظر بعد ذلك في أمره، فإذا التزم، فالحمد لله، وإلا قتل.
قوله: «وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ مَتْرَسْ» ، بفتح الميم وتشديد المثناة وإسكان الراء، وقيل: بإسكان المثناة وفتح الراء، يعني: أسلمت، بلغة الفرس.
قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الأَْلْسِنَةَ كُلَّهَا» ، يعني: تكلم بأية لغة شئت؛ فإن الله يعلم الألسنة كلها، فإذا تكلم المشرك بكلام يفهم منه أنه أسلم، فيقبل ذلك منه، سواء أكان ذلك باللغة العربية أو باللغة الإنجليزية أو باللغة الفارسية، أو بأية لغة كانت.
الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ
وَغَيْرِهِ وَإِثْمِ مَنْ لَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ
وَقَوْلِهِ: [الأنفَال: 61]{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} الآْيَةَ.
}3173{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلاً فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ: «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ؟»، قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟، قَالَ: «فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ؟» فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ.
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان حكم المصالحة مع المشركين، وهل يجوز المصالحة مع المشركين بالمال ـ أي: ندفع إليهم مالاً إذا ضعف المسلمون ـ أو لا يجوز الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره؛ كالأسرى مثلاً؟
وكذا بيان إثم من لم يفِ بالعهد، وصدّر المؤلف الترجمة بالآية: [الأنفَال: 61]{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، وفسر المؤلف الجنوح بالطلب، وفسره غيره بالميل.
}3173{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث سهل بن أبي حثمة في قصة قتل عبدالله بن سهل في وسط خيبر، والقصة معروفة يذكرها العلماء في باب القَسَامة.
قوله: «انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ» وهذا هو الشاهد.
وقوله: «وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ» يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح اليهود على خيبر.
قوله: «فَتَفَرَّقَا» ، أي: في خيبر؛ فسار عبدالله بن سهل في جهة، ومحيصة بن مسعود في جهة، فلما رجع محيصة وجد عبدالله مقتولاً؛ وهو قوله: «يَتَشَمَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلاً فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ» ، أي: ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحاله.
قوله: «فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ» ؛ وذلك لأنه يجيد الكلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كَبِّرْ كَبِّرْ» ، يعني: ليتكلم الأكبر، وكان عبدالرحمن أحدث القوم؛ «فَسَكَتَ» .
وفيه: دليل على أن الأكبر أحق بالحديث أو التقديم وإن لم يكن أقرب نسبًا، فإن عبدالرحمن ابن سهل أقرب؛ لأنه أخوه الشقيق، ومحيصة وحويصة ابنا عمه وأخواه لأمه.
قوله: «فَتَكَلَّمَا» ، أي: محيصة وحويصة، وأخبراه أن اليهود قتلوا عبدالله بن سهل، ولكنهم لم يشاهدوا ولم يروا، لكن العداوة بين المسلمين وبين اليهود تجعل التهمة قوية في أنهم هم الذين قتلوه، فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب من عبدالرحمن بن سهل ومحيصة أن يحلفوا خمسين يمينًا على شخص معين أنه قتله، ويُدفع إليهم فيقتلوه؛ وهذه قسامة، وهي: أن يوجد قتيل في مَحَلةٍ أو في حَي، وتكون هناك قرينة تُغَلّب الظن أن أهل هذا الحي هم الذين قتلوه؛ كأن يكون هناك عداوة بينه وبينهم، أو يوجد تعامل مادي يمكن أن يتطرق الخلاف إليه، ونحو ذلك، وفي هذه الحالة يحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا على شخص معين أنه الذي قتله؛ فيدفع إليهم، فإن أبوا ردت الأيمان على الخصوم، فإن حلفوا خمسين يمينًا يبرءون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: ««تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ؟»، قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟، قَالَ: «فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ؟» فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ» أي: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء لا يحلفون، ولا يقبلون أيمان اليهود؛ عقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده؛ أي: دفع ديته من عنده مائة ناقة، وأدخلت في مربد، وقال بعضهم: فركضتني ناقة حمراء برجلها[(481)].
واللوث في القسامة: شهادة الصبيان أو النساء بأنهم قتلوه، ولا تقبل شهادة النساء والصبيان؛ لكن هذا يجعله تهمة، فيحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا على شخص معين توزع عليهم، فإذا كانوا خمسة فيحلف كل منهم عشرة أيمان، وإذا كانوا عشرة حلف كل واحد خمسة أيمان، فإذا نكلوا وُجّهت الأيمان إلى المتهمين فيبرئونه بخمسين يمينًا.
والشاهد أن هذا الحديث ساقه المؤلف مع الآية؛ لبيان جواز الموادعة والمصالحة مع المشركين، سواء كانوا مشركين وثنيين، كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، أو يهودًا إذا اقتضت الحال الصلح.
ومعروف عند العلماء أنه لابد من تحديد مدة للصلح؛ فلا يجوز أكثر من عشر سنين؛ لأن المسلمين قد يتقووا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ» ، وقوله: [الأنفَال: 61]{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، أي: أن هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين، وتفسير جنحوا بطلبوا هو للمصنف، وقال غيره: معنى جنحوا: مالوا. وقال أبو عبيدة: السَّلم والسِّلم واحد وهو: الصلح. وقال أبو عمر: والسَّلم ـ بالفتح ـ الصلح، والسِّلم ـ بالكسر ـ الإسلام.
ومعنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظ للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرًا على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا. ذكر فيه حديث سهل بن أبي حثمة في قصة عبدالله بن سهل وقتله بخيبر، والغرض منه قوله: «انطلق إلى خيبر وهي يومئذ صلح» ، وفهم المهلب من قوله في آخره: «فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ» أنه يوافق قوله في الترجمة: «وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ» ، فقال: إنما وداه من عنده استئلافًا لليهود وطمعًا في دخولهم في الإسلام، وهذا الذي قاله يرده ما في نفس الحديث من غير هذه الطريق: «فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه» ، فإنه مشعر بأن سبب إعطائه ديته من عنده كان تطييبًا لقلوب أهله، ويحتمل أن يكون كل منهما سببًا لذلك، وبهذا تتم الترجمة، وأما أصل المسألة فاختلف فيه، فقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على مال يؤدونه إليهم فقال: لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة، كشغل المسلمين عن حربهم، ولا بأس أن يصالحهم على غير شيء يؤدونه إليهم، كما وقع في الحديبية» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال الشافعي: إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين، جازت لهم مهادنتهم على غير شيء يعطونهم؛ لأن القتل للمسلمين شهادة، وأن الإسلام أعز من أن يعطى المشركون على أن يكفوا عنهم، إلا في حالة مخافة اصطلام المسلمين لكثرة العدو؛ لأن ذلك من معاني الضرورات» .
ومراد الشافعي رحمه الله[(482)]: إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جاز الصلح على غير شيء؛ لأن المسلمين عليهم أن يقاتلوا ولو كان الكفار أكثر منهم؛ لأنه من قتل منهم فهو شهيد، والإسلام ينبغي أن يعلو ولا يعلى عليه، فلا يجوز للمسلمين أن يدفعوا للكفرة جزية، بل يستعينوا بالله ويقاتلوهم ولو كانوا أكثر منهم، إلا في حال مخافة اصطلام المسلمين من كثرة العدو، فإذا خافوا أن يقضى عليهم بسبب كثرة المشركين وقوة عدتهم ـ كما هو موجود في الوقت الحاضر ـ فهذا من باب الضرورة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وكذلك إذا أُسِر رجل مسلم فلم يطلق إلا بفدية جاز» .
أي: إذا أُسِر رجل مسلم عند الكفرة، ولم يطلق إلا بفدية؛ فيفادى، إما بمال أو بأسير مشرك لدى المسلمين، وهذا قريب من حال المسلمين الآن.
فَضْلِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ
}3174{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي مَادَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ.
}3174{ ذكرالبخاري في الترجمة قصة أبي سفيان لما دعاه هرقل هو وبعض أصحابه لما كانوا تجارًا بالشام، وكان في ذلك الوقت مشركًا، فسأله هرقل عن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل يغدر؟ قال: لا يغدر؛ وهذا هو الشاهد.
وفيه: فضل الوفاء بالعهد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم من صفاته أنه لا يغدر وكذلك أصحابه؛ ولهذا قال ابن بطال: «أشار البخاري إلى أن الغدر عند كل أمة قبيح مذموم، وليس هو من صفات الرسل؛ لأن هرقل لما سأل أبا سفيان، قال: هل يغدر؟ قال: لا» .
هَلْ يُعْفَى عَنْ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ سُئِلَ أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
}3175{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ.
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الذمي إذا سحر، والذمي هو اليهودي أو النصراني الذي له عهد عند المسلمين، ويكون رعية من رعايا المسلمين، فالمسلمون إذا انتصروا على اليهود والنصارى يخيرونهم بين الإسلام أو دفع الجزية، ويبقون تحت ولايتهم ويلتزمون بالشروط، أو القتال، فإن أسلموا فالحمد لله، وإن دفعوا الجزية صاروا ذميين ويلتزمون بالشروط، ومن الشروط أنهم لا يعتدون على أحد من المسلمين، ولا يعلنون دينهم، ولا يبنون كنيسة يستحدثونها، ولا يرفعون كنيسة، ولا يرممون كنيسة، فإذا أخلوا بشرط من هذه الشروط؛ بأن قتلوا واحدًا من المسلمين مثلا؛ فهل يعتبر هذا نقضًا للعهد أم لا؟ وكذا إذا فعلوا السحر؛ فهل يعتبر نقضًا للعهد أيضا أم لا؟
ولم يجزم المصنف رحمه الله بالحكم؛ لأن المسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إنه يعتبر نقضًا إذا سحر، ومنهم من قال: لا يعتبر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب هَلْ يُعْفَى عَنْ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ» ، قال ابن بطال: لا يقتل ساحر أهل العهد، لكن يعاقب، إلا إن قتل بسحره فيقتل، أو أحدث حدثًا فيؤخذ به، وهو قول الجمهور. وقال مالك: إن أدخل بسحره ضررًا على مسلم نقض عهده بذلك» ، وهذا هو الصواب.
ثم قال: «وقال أيضًا: يقتل الساحر ولا يستتاب، وبه قال أحمد وجماعة، وهو عندهم كالزنديق» .
والمشهور عند أهل العلم أن الساحر لا يستتاب بل يقتل زنديقًا، والزنديق إذا أظهر نفاقه قتل، ولا يستتاب، وكذلك المستهزئ بالله وبكتابه وبرسوله يقتل، ولو أظهر التوبة، ولو قال: إنه تائب، لا تقبل توبته في الدنيا، لكن تقبل في الآخرة إن كان صادقًا في توبته، وأمره إلى الله، لكن في الدنيا لابد أن يقتل زجرًا له ولأمثاله؛ حتى لا يتجرأ الناس على هذا الكفر الغليظ.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه إذا تاب قبل وصحت توبته، لكن المشهور عند أهل العلم أن الزنديق، والمنافق، ومن تكررت ردته، وكذلك الساحر، والساب الذي سب الله وسب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب دين الإسلام، لا تقبل توبته في الدنيا.
وذكر المصنف رحمه الله أثرًا معلقًا عن ابن وهب: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقوله: «وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ:» إلخ، وصله ابن وهب في جامعه هكذا، قوله: «وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» ، قال الكرماني: ترجم بلفظ الذمي، وسئل الزهري بلفظ أهل العهد، وأجاب بلفظ أهل الكتاب؛ فالأولان متقاربان، وأما أهل الكتاب فمراده من له منهم عهد، وكان الأمر في نفس الأمر كذلك. قال ابن بطال: لا حجة لابن شهاب في قصة الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه؛ ولأن السحر لم يضره في شيء من أمور الوحي ولا في بدنه، وإنما كان اعتراه شيء من التخيُّل، وهذا كما تقدم أن عفريتًا تفلت عليه ليقطع صلاته فلم يتمكن من ذلك، وإنما ناله من ضرر السحر ما ينال المريض من ضرر الحمى.
قلت: ولهذا الاحتمال لم يجزم المصنف بالحكم » .
ثم ذكر طرفًا من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وأشار بالترجمة إلى ما وقع في بقية القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عوفي أمر بالبئر فردمت، وقال: «كرهت أن أثير على الناس شرًّا» [(483)].
}3175{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ» ، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حقيقة؛ إلا أن السحر الذي سحر به يتعلق بأمور الدنيا، ولا يتعلق بأمور الدين ولا بالتشريع ولم يصل إلى قلبه.
والظاهر أن الذمي إذا سحر انتقض عهده واستحق القتل؛ لأن السحر يضر ضررًا عظيمًا، وأما كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتله وعفا عنه؛ فيحتمل أنه فعل ذلك تأليفًا لليهود وترغيبًا لهم في الإسلام؛ ليكثر تابعوه، كما قال الله تعالى: [آل عِمرَان: 159]{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، ويحتمل أن تركه صلى الله عليه وسلم معاقبة اليهودي؛ لأن سحره لم يصل إلى حالة الضرر الذي يضر بجسمه ويتغير به عقله.
مَا يُحْذَرُ مِنْ الْغَدْرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [الأنفَال: 63]{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *}.
}3176{ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلاَءِ ابْنِ زَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفَ ابْنَ مَالِكٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلاَّ دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَْصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا».
قوله: «وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [الأنفَال: 63]{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *}» ، في هذه الآية إشارة إلى أن احتمال طلب العدو للصلح خديعة؛ فإذا ظهر للمسلمين أن المصلحة في الصلح يصالحونهم، ولو كان محتملاً أنهم يغدرون.
}3176{ ثم ذكر المؤلف حديث عوف بن مالك في علامات الساعة وأشراطها، وفيه: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ» ، يعني: خيمة من أدم، والأدم هو: الجلد، «فَقَالَ: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ» ، يعني: اعدد ست علامات لقيام الساعة، أو لظهور أشراطها القريبة منها:
وجعل أولها موته صلى الله عليه وسلم فقال: «مَوْتِي» ؛ لأنه نبي الساعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» [(484)]، بل بعثته صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة.
الثانية: «فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» ، وقد فتح بيت المقدس مرات.
الثالثة: «مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ» ، الموتان: موت كثير الوقوع بسبب داء يصيب الناس؛ فيموتون به موتًا ذريعًا.
الرابعة: «اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ» ، يعني: كثرته، «حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا» ، وكثرة المال حصلت في زمن عثمان رضي الله عنه، لما فتحت الفتوحات العظيمة، وحصلت في زمن عمر بن عبدالعزيز، وتحصل أيضًا في آخر الزمان مع نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، حتى إن الرجل يطوف بالصدقة أو الزكاة فلا يجد من يأخذها؛ فهذا من أشراط الساعة الكبرى.
الخامسة: «فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلاَّ دَخَلَتْهُ» ، قيل: المراد فتنة الحروب، والتي ابتدأت بقتل عثمان، ومن نتائجها حرب علي ومعاوية رضي الله عنهما.
وقيل: ما يدخل على الناس في دينهم من النقص، فيحدث لهم بعد ذلك فتنة الملاهي وغيرها.
السادسة: «هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَْصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ» ، وهذا هو الشاهد للترجمة: «بَاب مَا يُحْذَرُ مِنْ الْغَدْرِ» ، والهدنة: الصلح، وبنو الأصفر: هم النصارى الصليبيون، فيغدرون وينقضون العهد، ويأتون لحرب المسلمين؛ «فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» ، وقد حدث ذلك مرات؛ لكن ليس بهذا العدد، وهم الآن يعدون أنفسهم لغزو المسلمين؛ فليس ذلك ببعيد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «سِتًّا» ، أي: ست علامات لقيام الساعة أو لظهور أشراطها المقتربة منها، قوله: «ثُمَّ مُوْتَانٌ» بضم الميم وسكون الواو؛ قال القزاز: هو الموت، وقال غيره: الموت الكثير الوقوع، ويقال: بالضم لغة تميم، وغيرهم يفتحونها، ويقال للبليد: موتان القلب ـ بفتح الميم والسكون ـ وقال ابن الجوزي: يغلط بعض المحدثين فيقول: موتان ـ بفتح الميم والواو ـ وإنما ذاك اسم الأرض التي لم تحى بالزرع والإصلاح.
قوله: «كَقُعَاصِ الْغَنَمِ» [(485)] بضم العين المهملة وتخفيف القاف وآخره مهملة: هو داء يأخذ الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة. قال أبو عبيد: ومنه أخذ الإقعاص وهو القتل مكانه، وقال ابن فارس: العقاص داء يأخذ في الصدر كأنه يكسر العنق.
ويقال: إن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس.
قوله: «ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ» ، أي: كثرته، وظهر ذلك في خلافة عثمان عند تلك الفتوح العظيمة.
والفتنة المشار إليها افتتحت بقتل عثمان، واستمرت الفتن بعده.
السابعة: وهي الشاهد، وهي التي لم تجئ بعد؛ قوله: «هُدْنَةٌ» ـ بضم الهاء وسكون المهملة بعدها نون ـ هي: الصلح على ترك القتال بعد التحرك فيه.
قوله: «بَنِي الأَْصْفَرِ» ، هم الروم.
قوله: «غَايَةً» ، أي: راية. وسميت بذلك لأنها غاية المتبع، إذا وقفت وقف. ووقع في حديث ذي مِخْبَر ـ بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة ـ عند أبي داود في نحو هذا الحديث بلفظ: «راية» [(486)] بدل غاية، وفي أوله: «ستصالحون الروم صلحًا آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدوًّا فتنصرون، ثم تنزلون مرجًا فيرفع رجل من أهل الصليبِ الصليبَ فيقول: غَلَب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه فيدفعه، فعند ذلك تغدر الروم ويجتمعون للملحمة فيأتون...» [(487)] فذكره، ولابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا وقعت الملاحم بعث الله بعثًا من الموالي يؤيد الله بهم الدين» [(488)]، وله من حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر» [(489)].
وهذا ـ والله وأعلم ـ في زمن المهدي؛ لأن خروج الدجال يكون في زمنه، فيكون خروج الدجال بعد فتح القسطنطينية، فإذا فتحت القسطنطينية صاح صائح الشيطان: إن الدجال خلفكم في أهليكم[(490)].
ثم قال رحمه الله: «وله من حديث عبد الله بن بسر رفعه: «بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين، ويخرج الدجال في السابعة» [(491)]، وإسناده أصح من إسناد حديث معاذ. قال ابن الجوزي: رواه بعضهم «غابة» بموحدة بدل التحتانية، والغابة: الأجمة، كأنه شبه كثرة الرماح بالأجمة. وقال الخطابي: الغابة: الغيضة؛ فاستعيرت للرايات ترفع لرؤساء الجيش لما يشرع معها من الرماح، وجملة العدد المشار إليه: تسعمائة ألف وستون ألفًا» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ووقع مثله في رواية ابن ماجه من حديث ذي مخبر، ولفظه: «فيجتمعون للملحمة، فيأتون تحت ثمانين غابة، تحت كل غابة اثنا عشر ألفًا» [(492)]. ووقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن الوليد بن مسلم قال: تذاكرنا هذا الحديث وشيخًا من شيوخ المدينة، فقال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يقول في هذا الحديث مكان فتح بيت المقدس: «عمران بيت المقدس» .
قال المهلب: فيه: أن الغدر من أشراط الساعة.
وفيه: أشياء من علامات النبوة قد ظهر أكثرها. وقال ابن المنير: أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر في هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد» .
يعني: أن غدر النصارى وقع مرات، إلا أنه بهذا الوصف تحت ثمانين راية، تحت كل راية ثمانون ألفًا لم يقع بعد.
ثم قال رحمه الله: «وفيه: بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش» ، فعدده ما يقرب من ألف ألف، ومع ذلك ينتصر المسلمون عليهم.
وقال رحمه الله: «وفيه: إشارة إلى أن عدد جيش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه» .
وهذا دليل على أن جيوش المسلمين ستكون كثيرة بما يجعلهم يقابلون هذا العدد.
ثم قال رحمه الله: «ووقع في رواية للحاكم من طريق الشعبي عن عوف بن مالك في هذا الحديث، أن عوف بن مالك قال لمعاذ في طاعون عمواس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: «اعدد ستًّا بين يدي الساعة فقد وقع منهن ثلاث» [(493)]، يعني: موته صلى الله عليه وسلم وفتح بيت المقدس والطاعون، قال: وبقي ثلاث، فقال له معاذ: إن لهذا أهلاً.
ووقع في الفتن لنعيم بن حماد أن هذه القصة تكون في زمن المهدي على يد ملك من آل هرقل[(494)]» .