شعار الموقع

شرح كتاب الجزية من صحيح البخاري (58-3)

00:00
00:00
تحميل
131

 

  كَيْفَ يُنْبَذُ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ

وَقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: [الأنفَال: 58]{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الآْيَةَ.

}3177{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ الأَْكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الأَْصْغَرُ فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ؛ فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكٌ.

 

هذه الترجمة معقودة لبيان كيفية نبذ العهد إلى أهل العهد إذا خيفت خيانتهم، قال الله تعالى: [الأنفَال: 58]{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، يعني: اطرح إليهم عهدهم، وأخبرهم أنه ليس بينك وبينهم إلا الحرب، ولا تغدر بهم ولا تقاتلهم وهم لا يعلمون.

}3177{ في هذا الحديث ذكر قصة أبي بكر لما حج بالناس في السنة التاسعة من الهجرة؛ حيث بعث مؤذنين يؤذنون في الناس بمنًى أنه: «لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» ، وفي رواية: «لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله أو أمده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسولُه، ولا يحج بعد العام مشرك» [(495)]، فالتزم الناس بهذه الكلمات الأربع، وكان المشركون يحجون عراة، فلما جاءت السنة العاشرة حج النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير بالبيت مشرك ولا عريان.  إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ

وَقَوْلِ اللَّهِ: [الأنفَال: 56]{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ *}.

}3178{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعُ خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا».

}3179{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلاَ صَرْفٌ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ».

}3180{ قَالَ أَبُو مُوسَى: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِي: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَشُدُّ اللَّهُ عز وجل قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.

 

هذه الترجمة معقودة لبيان إثم من عاهد ثم غدر بالعهد؛ فقد قال الله تعالى في وصف المشركين: [الأنفَال: 56]{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ *}، فوصف المشركين بأنهم ينقضون العهد ولا يبالون، وهذا يدل على إثم من نقض العهد، وأنه ليس من صفات المسلمين.

}3178{ ثم ذكر حديث عبدالله بن عمرو قال: «أَرْبَعُ خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا» ، وشرع في تفصيل هؤلاء الأربع، فقال: «مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ» ، يعني: ديدنه وعادته في الحديث أنه يكذب، «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» ، أي: أخلف في وعده، «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» ؛ وهذا هو الشاهد للترجمة، «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» ، أي: يفجر في الخصومة.

قال العلماء: معنى هذا الحديث أن كل خصلة من هذه الخصال معصية، وهي من النفاق العملي الذي لا يخرج من الملة، فهي معصية من المعاصي لكنها إذا توفرت في شخص واحد واستحكمت وكملت فإنها تجره إلى النفاق الأكبر ، وهو نفاق الاعتقاد، وهذا معنى قوله: «مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا» .

 

}3179{، }3180{ في الحديث: بيان عظم إثم الغادر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، وهو شاهد الترجمة، ومعنى أخفر مسلمًا: نقض عهده وذمته وأمانه، وقوله: «لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ» ، قيل: الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، وهذا الوعيد الشديد يدل على أنه من الكبائر.

وقوله: «فَمَنْ أَخْفَرَ» أي: فمن نقض العهد، يقال: أخفر عهده: إذا نقضه، وخفره ـ ضدها ـ أي: حفظه.

وفي الحديث: رد على الشيعة الرافضة الذين يقولون: إن أهل البيت خُصُّوا بشيء دون الناس؛ فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم خصهم بأن تكون الخلافة فيهم، وأن الخلافة بعده لعلي، ثم الحسن ثم الحسين ثم لبقية نسل الحسين، وأن الصحابة ارتدوا وكفروا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وولوا أبا بكر زورًا وظلمًا، وأخفوا النصوص التي فيها أن الخليفة بعده علي، ثم ولوا عمر زورًا وبهتانًا وظلمًا، ثم ولوا عثمان زورًا وبهتانًا وظلمًا، ثم وصلت النوبة إلى الخليفة الأول عليّ، هكذا يزعم الرافضة.

وقد خطب عليّ رضي الله عنه في الناس على رءوس الأشهاد، وقال: «مَا كَتَبْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ» ، أي: ما عندنا شيء يخصنا، وفي لفظ آخر أن عليًّا خطب فقال: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا شيء إلا كتاب الله وفهم يعطيه الله الرجل، وما في هذه الصحيفة» [(496)]، ثم أذاع الصحيفة فإذا فيها تحديد حرم المدينة؛ وهو قوله: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا» ، أي: ما بين عائر إلى ثور، «فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .

وفيه: الوعيد الشديد على من أحدث حدثًا في المدينة، أو آوى أهل البدع أو العصاة وحماهم من أن تقام عليهم الحدود.

قوله: «لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلاَ صَرْفٌ» ، أي: لا يقبل منه نافلة ولا فريضة.

قوله: «وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» ، يعني: أن المسلمين كالجسد الواحد ذمتهم واحدة، فإذا أجار شخص فإنه لا يجوز لأحد أن يخفره في جواره، ولو كان المجير امرأة، كما أجارت أم هانئ بنت أبي طالب رجلاً من المشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» [(497)].

قوله: «وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ» فيه: منع الرجل أن ينتسب إلى غير آبائه؛ لئلا تختلط الأنساب، وكذلك العبد ينتسب إلى غير مواليه، فكل هذا من كبائر الذنوب.

ثم ذكر البخاري حديثاً معلقاً، عن أبي هريرة: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا؟» يعني: يمنع أهل الجباية الدراهم التي يعطونها للمسلمين، والخراج هو: ما يجبيه المسلمون كل سنة من الدراهم والدنانير، أو الحبوب والثمار، لكنهم يُمنعون الخراج في آخر الزمان.

قوله: «فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ» ، هذا قسم، ونفوس العباد كلها بيد الله.

قوله: «عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ» ، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟» ، أي: ما سبب ذلك؟ قال: «تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَشُدُّ اللَّهُ عز وجل قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ» ، يعني: أن المسلمين إذا انتهكوا الذمة شد الله قلوب أهل الذمة فمنعوهم الخراج.

فهذا الحديث فيه: أن المسلمين إذا ظلموا أهل الذمة وانتهكوا ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وظلموا أنفسهم بالمعاصي والتفرق؛ فعند ذلك يمنع أهل الذمة الجزية، ويستقلون بديارهم؛ فلا يكون للمسلمين عليهم ولاية، فتضعف دولتهم، وهذا من علامات النبوة.

وفيه: التحذير من الظلم؛ وهو شاهد الترجمة: «إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ» .

وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا» ، من الجباية بالجيم والموحدة وبعد الألف تحتانية، أي: لم تأخذوا من الجزية والخراج شيئاً.

قوله: «تُنْتَهَكُ» بضم أوله، أي: تتناول مما لا يحل من الجور والظلم.

قوله: «فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ» ، أي: يمتنعون من أداء الجزية. قال الحميدي: أخرج مسلم معنى هذا الحديث من وجه آخر عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «منعت العراق درهمها وقفيزها» [(498)]، وساق الحديث بلفظ الفعل الماضي، والمراد به ما يستقبل؛ مبالغة في الإشارة إلى تحقق وقوعه. ولمسلم عن جابر رضي الله عنهما أيضا مرفوعا: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك» [(499)].

وفيه: علم من أعلام النبوة.

وفيه: الوصية بالوفاء لأهل الذمة.

وفيه: التحذير من ظلمهم وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد، فلم يجتب المسلمون منهم شيئاً؛ فتضيق أحوالهم.

وذكر ابن حزم أن بعض المالكية احتج بقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «منعت العراق درهمها...» الحديث، على أن الأرض المغنومة لا تقسم ولا تباع، وأن المراد بالمنع: منع الخراج، ورده بأن الحديث ورد في الإنذار بما يكون من سوء العاقبة، وأن المسلمين سيُمنعون حقوقهم في آخر الأمر؛ وكذلك وقع» .

 

}3181{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الأَْعْمَشَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، يَقُولُ: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لأَِمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا.

}3182{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو وَائِلٍ قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَقَالَ: «بَلَى»، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي: اللَّهُ أَبَدًا» فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ».

}3183{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِيهَا».

 

هذا الباب بغير ترجمة، وهو كالفصل لباب: «إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ» ، السابق؛ وقد ذكر فيه الصلح وأن النبي صلى الله عليه وسلم وفى للمشركين في صلحهم ولم يغدر بهم، وإنما هم الذين نقضوا العهد وغدروا.

}3181{ في الحديث: ذكر وقعة صفين، وكانت حربًا بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أهل العراق، وبين معاوية رضي الله عنه في أهل الشام؛ فيقول الأعمش: «سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، يَقُولُ: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ» ، يعني: إن الرأي: يخطئ فلا يعتد الإنسان برأيه كثيرًا، ووصف سهل حال المسلمين في يوم الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، من كونهم شق عليهم أن يصالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، إذ كيف يصالحهم ويرجعون ولم يعتمروا، ثم إنهم رأوا أن الشروط فيها غضاضة، فمنها: أنه من جاء من المشركين مسلما ردوه إليهم، ومن ذهب للمشركين لا يردوه؛ فكانت شروطًا قاسية ومع ذلك قبلها النبي صلى الله عليه وسلم.

 

}3182{ في هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه كان معترضًا على الصلح، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَقَالَ: «بَلَى»» ، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: «بلى» ، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟» ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي: اللَّهُ أَبَدًا» ، ثم رجع عمر إلى أبي بكر، فقال له مثل ذلك؛ حيث قال له أبو بكر: «إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا» ، وفي اللفظ الآخر قال: «إنه لرسول الله وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه» [(500)]، ثم نزل قوله تعالى: [الفَتْح: 1-2]{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا *} فسمى الله صلح الحديبية فتحًا؛ «فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»» . ووضعت الحرب أوزارها، واختلط المسلمون بالمشركين، وسمع المشركون القرآن وسمعوا السنة، وأسلم عدد كبير منهم، وتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لقتال اليهود في خيبر، ثم بعد سنتين نقض المشركون العهد؛ فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة.

فسهل بن حنيف استشهد بذلك في صفين، لما رفع أهل الشام المصاحف طلبًا للتحكيم، وقال: اتهموا رأيكم واقبلوا الصلح، فقد كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فشق علينا، فصار الصلح خيراً، فاتهموا أنفسكم ورأيكم في كراهيتكم للتحكيم ورغبتكم في القتال؛ فقد يكون التحكيم وإيقاف القتال خيرًا من القتال، فإن الناس يوم الحديبية كرهوا الصلح وأحبوا القتال؛ فكان الخير في الصلح، هكذا يقول سهل بن حنيف.

والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم وفى بشروط الصلح وأن الغدر ليس من صفاته صلى الله عليه وسلم.

 

}3183{ قوله: «قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا» ، فيه: تقديم وتأخير، وذكر الحافظ في مكان آخر أن قولها: «مع أبيها» ، تحريف، وأن الأصل: «مع ابنها» ، وجاء في رواية للمصنف في كتاب الأدب: «مع ابنها» [(501)].

والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح المشركين، قدمت أم أسماء عليها ـ وهي مشركة ـ أثناء الهدنة؛ ترغب في صلتها وفي رفدها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِيهَا»» ؛ فدل على أنه لا بأس أن يصل الإنسان قريبه المشرك إذا لم يكن محاربًا؛ فيحسن إليه بالمال والكلام؛ فالله تعالى يقول: [المُمتَحنَة: 8]{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ}، وإنما المنع عن الصلة يكون إذا كان حربيًّا.

  الْمُصَالَحَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ وَقْتٍ مَعْلُومٍ

}3184{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثنِي الْبَرَاءُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُقِيمَ بِهَا إِلاَّ ثَلاَثَ لَيَالٍ وَلاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ وَلاَ يَدْعُوَ مِنْهُمْ أَحَدًا، قَالَ: فَأَخَذَ يَكْتُبُ الشَّرْطَ بَيْنهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نَمْنَعْكَ وَلَبَايَعْنَاكَ، وَلكِنِ اكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ فَقَالَ: «أَنَا وَاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ! وَأَنَا وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ!»، قَالَ: وَكَانَ لاَ يَكْتُبُ، قَالَ: فَقَالَ لِعَلِيٍّ: «امْحَ رَسُولَ اللَّهِ»؛ فَقَالَ: عَلِيٌّ وَاللَّهِ لاَ أَمْحَاهُ أَبَدًا، قَالَ: «فَأَرِنِيهِ»، قَالَ: فَأَرَاهُ إِيَّاهُ، فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ وَمَضَتْ الأَْيَّامُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: مُرْ صَاحِبَكَ فَلْيَرْتَحِلْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «نَعَمْ»، ثُمَّ ارْتَحَلَ.

 

}3184{ هذا الحديث في قصة صلح الحديبية.

وفيه: أن من شروط الصلح أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يرجعون هذا العام ولا يعتمرون؛ فتحللوا وصاروا محصورين وذبحوا هديهم، ومن شروط الصلح أنهم يرجعون ويأتون من العام القادم، وسميت عمرة القضاء، ولكنها عمرة تامة؛ وإنما سميت القضاء: من المقاضاة والمصالحة، وفيها اشترط الكفار أنهم لا يمكثون إلا ثلاثة أيام بعد العمرة، واشترطوا ألا يدخل إلا بالسلاح الخفيف؛ كالسيوف في الجراب وغيرها وهو المراد بقوله: «بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ» .

قوله: «فَلَمَّا دَخَلَ وَمَضَتْ الأَْيَّامُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: مُرْ صَاحِبَكَ فَلْيَرْتَحِلْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «نَعَمْ»، ثُمَّ ارْتَحَلَ» فيه: الوفاء بالشروط والعهود مع الأعداء.

وفيه: الحديث جواز قبول الشروط ولو كان فيها غضاضة على المسلمين؛ إذا رأى ولي الأمر المصلحة فيها.

  الْمُوَادَعَةِ مِنْ غَيْرِ وَقْتٍ

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُقِرُّكُمْ عَلَى مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ بِهِ».

 

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الموادعة والمصالحة بغير وقت.

حيث إنه لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، صالح اليهود على أن يبقوا في النخيل ويعملوا فيها، ولم يحدد لهم مدة، وقال: «أُقِرُّكُمْ عَلَى مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ بِهِ» .

وذكر ابن قدامة في «المغني» أن الصلح مع المشركين لابد فيه من تحديد مدة الصلح؛ فقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع المشركين عشر سنين؛ لأنه قد يقوى المسلمون بعد سنة أو سنتين فيقاتلون المشركين ويجاهدونهم، فإذا صالح بدون مدة فمعناه ترك الجهاد[(502)].

وقال بعضهم: لا يجوز الزيادة على عشر سنين.

وعلى كل حال فالمسألة تحتاج إلى جمع الأدلة في هذا، والرجوع إلى كلام أهل العلم.

  طَرْحِ جِيَفِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْبِئْرِ وَلاَ يُؤْخَذُ لَهمْ ثَمَنٌ

}3185{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم فَأَخَذَتْ مِنْ ظَهْرِهِ وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلاَ مِنْ قُرَيْشٍ! اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ» فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ أَوْ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلاً ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِي الْبِئْرِ.

 

هذه الترجمة عقدها المؤلف لبيان مشروعية طرح جيف المشركين في البئر، وأنه لا يؤخذ لهم إذا طلب المشركون أجسادهم مقابل مال، وقد جاء في بعض الروايات أن المشركين طلبوا بعض الأجساد.

}3185{ في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجدا حول الكعبة، وحوله ناس من المشركين يضحكون، وكان هذا في مكة قبل الهجرة، فقال بعضهم لبعض: من يأتي بسلى جزور فلان، فإذا سجد محمد يضع ذلك عليه، فانبعث أشقى القوم فجاء بالسلى ووضعه عليه صلى الله عليه وسلم، فجاءوا يتضاحكون ويسقط بعضهم على بعض من الضحك، فلم يرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه حتى جاءت فاطمة رضي الله عنها فأخذته وألقته، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه دعا عليهم فقال: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلاَ مِنْ قُرَيْشٍ!» ، وسمى أشخاصا: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ» وجاء في رواية أخرى ما يؤيد أنه أمية بن خلف[(503)]، وأما أبي بن خلف فقد قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد؛ وكان أبي بن خلف قد قال: اليوم أقتل محمدًا، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أقتله إن شاء الله» [(504)] فبانت من أبيٍّ فرجة، فرماه النبي صلى الله عليه وسلم بحربة فقتله، ولم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا بيده غير أبي بن خلف، وكانت الحربة شديدة عليه حيث إنه لما أصابته كان له خوار كخوار الثور، ثم مات، لعنه الله.

فلما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم زال عنهم الضحك وخافوا؛ لأنهم يعرفون أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ أَوْ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلاً ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِي الْبِئْرِ» .

والشاهد: جواز إلقاء جثة المشرك في البئر.

وذكر ابن إسحاق في «المغازي » أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل ابن عبد الله بن المغيرة؛ وكان اقتحم الخندق؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده» [(505)]؛ فدل على أنه ليس لجثث المشركين ثمن، بل تلقى في البئر، أو يحفر لها؛ حتى لا تؤذي المسلمين برائحتها.

أما الآن فينظر ولي الأمر إلى ما فيه المصلحة؛ فيعمله.

  إِثْمِ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ

}3186{، }3187{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ وَعَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ وَقَالَ الآْخَرُ: يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ».

}3188{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

}3189{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «لاَ هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»، وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ؟ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، قَالَ: «إِلاَّ الإِْذْخِرَ».

 

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لعله أشار بقوله في الترجمة بالبر إلى المسلمين وبالفاجر إلى خزاعة؛ لأن أكثرهم إذ ذاك لم يكن أسلم بعد والله أعلم» .

}3186{، }3187{ هذا الحديث فيه: الوعيد الشديد للغادر، وأنه ذو إثم عظيم، وأنه يفضح يوم القيامة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ وَقَالَ الآْخَرُ: يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» ؛ ليس في رواية مسلم ينصب ولا يرى، وقد زاد مسلم من طريق غندر عن شعبة: «يقال: هذه غدرة فلان» [(506)]، وله من حديث أبي سعيد: «يرفع له بقدر غدرته» [(507)]، وله من حديثه من وجه آخر: «عند استه» [(508)]؛ قال ابن المنير: كأنه عومل بنقيض قصده؛ لأن عادة اللواء أن يكون على الرأس، فنصب عند السفل زيادة في فضيحته؛ لأن الأعين غالبًا تمتد إلى الألوية، فيكون ذلك سببًا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم، فيزداد بها فضيحة» .

 

}3188{ قوله: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، يعني: ينصب له علامة على غدرته.

وجاء في رواية عند مسلم: «لكل غادر لواء ينصب عند استه» [(509)] يعني: عند مقعدته؛ تشهيرًا وتهجينًا له، فإذا وضع عند مقعدته ينظر الناس إليه؛ فيفتضح فضيحة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، أي: بقدر غدرته، كما في رواية مسلم، قال القرطبي: هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر؛ ليشتهر بصفته في القيامة، فيذمه أهل الموقف، وأما الوفاء فلم يرد فيه شيء، ولا يبعد أن يقع كذلك، وقد ثبت لواء الحمد لنبينا صلى الله عليه وسلم» .

ثم قال رحمه الله: «وفي الحديث غلظ تحريم الغدر، لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير؛ ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء.

وقال عياض: المشهور أن هذا الحديث ورد في ذم الإمام إذا غدر في عهوده لرعيته، أو لمقاتلته، أو للإمامة التي تقلدها والتزم القيام بها، فمتى خان فيها أو ترك الرفق، فقد غدر بعهده، وقيل: المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام؛ فلا تخرج عليه ولا تتعرض لمعصيته؛ لما يترتب على ذلك من الفتنة، قال: والصحيح الأول، قلت: ولا أدري ما المانع من حمل الخبر على أعم من ذلك » أتم مما هنا، وأن الذي فهمه ابن عمر راوي الحديث هو هذا، والله أعلم » .

 

}3189{ قوله: «لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» ، فقد كانت الهجرة مشروعة قبل أن تفتح مكة، فكان يجب أن يهاجر إلى المدينة من أسلم؛ حتى يتبرأ من المشركين، وحتى ينصر الله ورسوله والمؤمنين، فلما فتحت مكة صارت بلد إسلام، فلم تشرع منها الهجرة بعد، لكن بقيت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام في أي: وقت وعصر.

وبقي الجهاد إلى يوم القيامة، وكذلك النية الصالحة؛ فمن نوى نية طيبة فله أجرها.

قوله: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» ، أي: وإذا نادى الإمام للجهاد وجب الخروج وتلبية النداء؛ فيكون الجهاد فرضًا في حق من سمع، وليس له عذر في التخلف.

قوله: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، والمراد بالبلد: مكة؛ فقد حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، وأما حديث: «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة» [(510)]. فالمراد أنه أظهر تحريمها، وإلا فمكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، وكذلك أظهر نبينا صلى الله عليه وسلم تحريم المدينة.

وفي الحديث ذكر المحرمات التي منها: «وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» ، يعني: أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم في جزء من النهار، من الضحى إلى العصر حتى تم الفتح، ثم رجعت الحرمة.

ومن المحرمات أنه: «لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» ، فلا يقطع الشوك إلا الشوك اليابس المؤذي، ولا ينفر الصيد، وإذا كان الأمان للطير والشوك فللمسلم أولى؛ فلا يجوز إيذاء المسلم ولا التضييق عليه، ولا أن يؤخذ حقه الذي سبق إليه، أو يقام من مكانه الذي اعتاده أو ألفه.

ومن المحرمات أيضًا: «وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا» ، يعني: لا يلتقط لقطتها إلا من التقطها ليعرفها أبد الدهر، ويوجد الآن لجنة عند باب الصفا؛ مكتوب عليها: «استقبال المفقودات» ؛ فإذا دفعها إليهم برئت ذمته، وإلا فإنه يعرفها مدى الدهر، أما في غيرها من البلدان فإن اللقطة تعرف سنة، فإذا مضى عليها سنة يملكها من التقطها مع ضبط أوصافها؛ حتى إذا جاء صاحبها يومًا دفعها إليه، وإلا فهي له.

ومن المحرمات أيضًا: «وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهُ» ، يعني: لا يقطع الحشيش الأخضر، أما الحشيش اليابس أو ما أنبته الآدميون؛ فلا بأس بقطعه.

قوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ؟ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ» ، القين هو: الحداد، والصائغ؛ حيث إنهم كانوا يحتاجون إليه في وقود نارهم، كما أنهم كانوا يستخدمون الإذخر في البيوت؛ لأنه يسقف به فوق الخشب ويخلطونه بالطين؛ لئلا يتشقق إذا بني به، كما يفعل بالتبن، وفي لفظ آخر: «وقبورنا» [(511)]؛ حيث يجعل الإذخر في القبور؛ لسد فرج اللحد المتخللة بين اللبنات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِلاَّ الإِْذْخِرَ» ؛ حيث نزل الوحي واستثناه.

ومناسبة الحديث للترجمة أن الله حرم القتل وتنفير الصيد وقطع الحشيش وأخذ اللقطة في مكة؛ فمن انتهك هذه الحرمات فقد غدر؛ والغادر ينصب له لواء عند استه، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي تعلقه بالترجمة غموض؛ قال ابن بطال: وجهه أن محارم الله عهوده إلى عباده، فمن انتهك منها شيئًا كان غادرًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أمن الناس، ثم أخبر أن القتال بمكة حرام، فأشار إلى أنهم آمنون من أن يغدر بهم أحد، فيما حصل لهم من الأمان... وقال الكرماني: يمكن أن يؤخذ من قوله: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» أن معناه: لا تغدروا بالأئمة ولا تخالفوهم؛ لأن إيجاب الوفاء بالخروج مستلزم لتحريم الغدر، أو أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغدر باستحلال القتال بمكة، بل كان بإحلال الله له ساعة، ولولا ذلك لما جاز له. قلت: ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع من سبب الفتح الذي ذكر في الحديث؛ وهو غدر قريش بخزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم لما تحاربوا مع بني بكر حلفاء قريش، فأمدت قريش بني بكر وأعانوهم على خزاعة وبيتوهم، فقتلوا منهم جماعة، وفي ذلك يقول شاعرهم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:

إن قريشًا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

فكان عاقبة نقض قريش العهد بما فعلوه، أن غزاهم المسلمون حتى فتحوا مكة، واضطروا إلى طلب الأمان، وصاروا بعد العز والقوة في غاية الوهن، إلى أن دخلوا في الإسلام، وأكثرهم لذلك كاره» .

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد