شعار الموقع

شرح كتاب بدأ الخلق من صحيح البخاري (59-1)

00:00
00:00
تحميل
89

 

(60)كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ;

كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ

مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الرُّوم: 27]{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.

قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَالْحَسَنُ: كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ هَيْنٌ وَهَيِّنٌ مِثْلُ لَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ وَضَيْقٍ وَضَيِّقٍ.

{أَفَعَيِينَا} أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ لُغُوبٌ النَّصَبُ {أَطْوَارًا *} طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا عَدَا طَوْرَهُ أَيْ قَدْرَهُ.

}3190{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا بَنِي تَمِيمٍ أَبْشِرُوا!»، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا؛ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَجَاءَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْيَمَنِ اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَبِلْنَا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بَدْءَ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ رَاحِلَتُكَ تَفَلَّتَتْ لَيْتَنِي لَمْ أَقُمْ.

}3191{ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَْمْرِ، قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ»، فَنَادَى مُنَادٍ ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الْحُصَيْنِ فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا.

}3192{ وَرَوَى عِيسَى عَنْ رَقَبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ.

}3193{ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُرَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِي وَيُكَذِّبُنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي».

}3194{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي».

 

قوله: «كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ» المراد ابتداء المخلوقات.

وهذا الكتاب معقود لما جاء من نصوص من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بدء الخلق، ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله في بدء الخلق: خلق العرش، وخلق القلم، ثم خلق النجوم، وخلق الشمس والقمر، ثم خلق الجنة والنار، ثم خلق الملائكة، وخلق آدم، ثم خلق الأنبياء.

وصدر الباب بقوله تعالى: « [الرُّوم: 27]{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}» وذكر قول الربيع بن خثيم والحسن: «كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ» يعني: أن {أَهْوَنُ} في الآية بمعنى «هَيْنٌ» ، وليست على معنى اسم التفضيل، فلا يقال لشيء: أهون، ولا لآخر: هيِّن، فكل شيء هين بالنسبة لله.

قوله: «هَيْنٌ وَهَيِّنٌ مِثْلُ لَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ وَضَيْقٍ وَضَيِّقٍ» ، أي: يقال: هَيِّن وهَيْن بالتشديد والتخفيف، ثم ذكر النظير لذلك.

وعادة البخاري أن يفسر الكلمات اللغوية وكل ما يماثلها.

قوله: « [ق: 15]{أَفَعَيِينَا} أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا» أي: [ق: 15]{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ *} يعني: أن الله سبحانه وتعالى لا يشق عليه شيء ولا يتعبه شيء، فالخلق الأول والخلق الآخر سواء في البدء والإعادة، كله هين على الله.

ومثله قوله تعالى: [ق: 38]{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ *}، واللغوب: «النَّصَبُ» ، يعني: أن الله تعالى خلق السموات والأرض وما مسه من تعب أو إعياء.

وقوله تعالى: [نُوح: 14]{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا *}» أي: خلقكم على أطوار مختلفة: نطفة ثم مضغة ثم علقة إلى تمام الخلق.

 

}3190{، }3191{ هذا الحديث ساقه المؤلف رحمه الله من طريقين:

في الطريق الأولى أن عمران رضي الله عنه قال: « جاء نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني تميم أبشروا! فقالوا: بشرتنا فأعطنا؛ فتغير وجهه، فجاءه أهل اليمن» ، وهم أشعريون من قوم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال: «يَا أَهْلَ الْيَمَنِ اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ» . ووجه عدم قبول بني تميم البشرى أنهم قالوا: أعطنا، فكأنهم طلبوا شيئًا من الدنيا عاجلاً ولم يقبلوها على الإطلاق، والبشرى قد تكون الفقه في الدين والعمل الصالح المؤدي إلى رضوان الله وثوابه، أو تكون في الآخرة، ولهذا تغير وجهه صلى الله عليه وسلم أسفًا عليهم، وهذا هو الأرجح، أو لأنه لم يكن عنده شيء يعطيهم إيّاه.

قوله: «قَالُوا: قَبِلْنَا» ، يعني: قبلها أهل اليمن وفازوا بها.

قوله: «فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بَدْءَ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ» ، يعني: عن بدء الخلق وأحوال العرش، وكأنهم سألوا عن أحوال هذا العالم، وهو الظاهر، أو سألوا عن جنس المخلوقات.

وفي الطريق الثانية قالوا: «جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَْمْرِ» يعني: هذا الأمر الحاضر المشهود، والأمر يطلق ويراد به المأمور، ويطلق ويراد به الشأن؛ يريدون: كيف بدأ الخلق، ما الذي خُلق أولاً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولم يكن شيء غيره» ، وفي لفظ آخر: «كان الله ولم يكن شيء قبله» [(512)] وفي لفظ آخر: «ولم يكن شيء معه» [(513)] كل هذا بمعنى أن الله سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، وأن المخلوقات كلها حادثة.

قوله: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ، فيه: دليل على أن الماء خلق أولاً ثم خلق العرش، «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْء» . الذكر هو اللوح المحفوظ.

وفيه: أن الله تعالى خلق العرش والماء واللوح المحفوظ أولاً، ثم القلم والقدر ثم خلق السموات والأرض بعد ذلك.

وفي العرش والقلم أيهما خلق أولاً خلاف، فمن العلماء من قال: إن القلم خلق أولاً، ومنهم من قال: خلق العرش قبل القلم، والصواب: أن خلق العرش كان أولاً، ثم خلق القلم، وأما حديث: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب» [(514)] فالأولية مقيدة بالكتابة، والتقدير: أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، يعني: عند أول خلقه، قال الله له: اكتب، وليس المراد أنه أول المخلوقات، ولهذا نظم ابن القيم رحمه الله[(515)]:

والناس مختلفون في القلم الذي

كتب القضاء به من الديان

هل كان قبل العرش أو هو بعده

قولان عند أبي العلا الهمداني

والحق أن العرش قبل لأنه

قبل الكتابة كان ذا أركان

فالصواب أن العرش خلق قبل القلم، وظاهر قوله: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» أن الماء كان قبل ذلك، فخلق الماء أولاً ثم خلق العرش ثم خلق القلم، والظاهر أن اللوح مخلوق قبل ذلك، ثم كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلما كتبت المقادير ومضى خمسون ألف سنة خلق الله السموات والأرض.

قال عمران: «فَنَادَى مُنَادٍ ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الْحُصَيْنِ فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ» وكان قد عقلها فحُل عقالها، فانطلق إليها فإذا بينه وبينها مسافة بعيدة فقال: «فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا» يعني: ندم على ما فاته من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وما فاته من تحصيل الفائدة العلمية.

قوله: «لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا» . الجملة من الفعل والفاعل والمفعول في «تَرَكْتُهَا» في محل نصب خبر كان، وجملة كان واسمها وخبرها في موضع رفع خبر أن.

 

}3192{ الشاهد للباب قوله: «فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ» .

وفي الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتمدون على الحفظ، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يدرس الحديث في أول الليل أي: يحفظه، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه أن يوتر قبل أن ينام[(516)]، ورغم أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يكتب وأن أبا هريرة رضي الله عنه لا يكتب[(517)]؛ إلا أن أبا هريرة رضي الله عنه هو راوية الإسلام وأكثر الصحابة حديثًا.

 

}3193{ هذا حديث قدسي من كلام الله لفظًا ومعنى.

وفيه: إثبات الكلام لله تعالى، والرد على من أنكر صفة الكلام، وقول الله هو كلام الله لفظًا ومعنى بحرف وصوت يسمع، خلافاً للأشاعرة الذين يقولون: كلام الله معنى نفسي قائم بالنفس لا يسمع، بغير صوت، وقالوا: إن الله لم يتكلم بالقرآن ولكن القرآن معنى قائم بنفسه، والذي تكلم به هو جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الله تعالى اضطر جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه فعبر بهذا القرآن، فالقرآن عبر به جبريل أو عبر به محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ. سبحان الله! جعلوا الرب أبكم لا يتكلم نعوذ بالله من زيغ القلوب.

وكذلك المعتزلة يقولون: القرآن الكلام لفظًا ومعنى ولكنه مخلوق لفظًا ومعنى، وهذا باطل، فكلام الله صفة من صفاته لفظه ومعناه، بحرف وصوت يسمع، ليس معنى قائمًا بالنفس كما تقول الأشاعرة والكُلاَّبية، وليس مخلوقًا، والأشاعرة يقولون: القرآن والمصاحف التي بين يدي المسلمين ليس فيها كلام الله، فكلام الله غير مخلوق واللفظ والحروف مخلوقة، وكأنهم وافقوا أهل السنة في نصف المعنى أن القرآن غير مخلوق، ووافقوا المعتزلة والجهمية في قولهم، وفي أن اللفظ مخلوق.

وفي الحديث أن وصف الله بما لا يليق به يسمى شتمًا؛ قال: «أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا» ، وأن جحد ما أخبر الله به يسمى تكذيبًا؛ قال: «وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي» .

وفيه: دليل على أن الشتم ليس منحصرًا في اللعن؛ بل يشمله ويشمل غيره، فالذم والعيب يسمى شتمًا، ومنه قول الله تعالى: [الإسرَاء: 60]{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}، يعني: المذمومة.

 

}3194{ قوله: «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» ، وفي لفظ: «سبقت غضبي» [(518)].

وفي الحديث: إثبات ثلاث صفات لله عز وجل: الكتابة، والرحمة، والغضب.

وفيه: أن رحمة الله تغلب غضبه وتسبقه.

وفيه: أن صفات الله تتفاوت وأن بعضها أفضل من بعض، وكلام الله صفة تتفاضل، فآية الكرسي أفضل آية في القرآن، وسورة [الإخلاص: 1]{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}تعدل ثلث القرآن، والفاتحة أفضل سورة في القرآن ولا يوجد في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها.

  مَا جَاءَ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الطّلاَق: 12]{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا *}.

{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ *} السَّمَاءُ.

{سَمْكَهَا *} بِنَاءَهَا الْحُبُكُ اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا

{وَأَذِنَتْ *} سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ.

{وَأَلْقَتْ} أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنْ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ.

{طَحَاهَا *} دَحَاهَا.

{بِالسَّاهِرَةِ *} وَجْهُ الأَْرْضِ كَانَ فِيهَا الْحَيَوَانُ نَوْمُهُمْ وَسَهَرُهُمْ.

}3195{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الأَْرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ».

}3196{ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الأَْرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ».

}3197{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».

}3198{ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ خَاصَمَتْهُ أَرْوَى فِي حَقٍّ زَعَمَتْ أَنَّهُ انْتَقَصَهُ لَهَا إِلَى مَرْوَانَ فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أَنْتَقِصُ مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأَْرْضِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ».

قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ لِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

 

هذه الترجمة معقودة لبيان «بَاب مَا جَاءَ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ؛ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الطّلاَق: 12]{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا *}» فيه: إثبات أن الأرضين سبع، وأنها طبقات بعضها فوق بعض، مثل السموات بعضها فوق بعض.

وفيه: الرد على من قال: إن المراد به سبعة أقاليم، لقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} يعني: سبع أرضين مثل السموات.

قوله تعالى: « [الطُّور: 5]{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ *}» قيل: سقف السماء، وقيل: المراد بالسقف: العرش، والقول الأول أرجح، فالسقف المرفوع هو السماء.

قوله تعالى: [النَّازعَات: 28]{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *}» قال ابن كثير: «أي: جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء» [(519)].

قوله تعالى: « [الذّاريَات: 7]{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ *}» والحبك: الحُسن والاستواء، والمؤلف يفسر الكلمات التي تدور حول معنى الخلق وما يتعلق بالأرض وبالسماء.

قوله تعالى: « [الانشقاق: 4]{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ *}» أي: أخرجت الأرض ما فيها من الموتى وتخلت عنهم.

قوله تعالى: « [النَّازعَات: 14]{فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ *}» الساهرة: وجه الأرض، وسميت ساهرة لأن فيها نوم الحيوانات وسهرهم.

 

}3195{ أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف ـ تابعي معروف، قيل: إن اسمه كنيته ـ نصحته عائشة رضي الله عنها لما كان بينه وبين أناس خصومة فقالت: «يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الأَْرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» ، ومعنى «قِيدَ» : مقدار.

وفيه: إثبات سبع أرضين، وأنها طبقات بعضها فوق بعض.

وفيه: الوعيد الشديد للظالم، والظالم في الأرض خاصة، وأنه يطوق بعضها على بعض ولا يتحملها، وفي الحديث الآتي: أنه يخسف به يوم القيامة حتى يكون هذا الشبر الذي ظلمه طوقا في عنقه ينزل به في سبع أرضين.

 

}3196{ قوله: «مَنْ أَخَذَ شَيْئًا» أعم من اللفظ السابق في الحديث الأول: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ» يعني: ولو شيئًا يسيرًا، ولو مقدار أنملة، فهذا أبلغ من الأول.

قوله: «خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» والحديث الأول: «طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» والجمع بينهما أنه يخسف به ثم يطوقه فلا منافاة بينهما، وقيل في الأرضين السبع: بين كل أرضين فضاء، وقيل: متلاصقة ليس بينها فاصل، والله أعلم.

 

}3197{ قوله: «الزَّمَانُ» هو اسم لقليل الوقت وكثيره.

وقوله: «السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ» ، يقال: القِعدة والقَعدة والحِجة والحَجة، فهذه ثلاثة متواليات، فيها يوقفون القتال وتضع الحرب أوزارها «وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» وسمي رجب مضر لعنايتهم به.

والمعنى أن العرب كانوا يعملون بالنسيء، فإذا جاءت الأشهر الحرم أوقفوا القتال، وقد تطول عليهم الأشهر الثلاثة ويريدون أن يقاتلوا؛ فيجعلون شهراً مكان آخر وهكذا، حتى تَدَاخل الحساب عليهم واختلط، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أرجع كل شهر مكانه، ورجع الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض.

والمقصود: أن النسيء من عمل أهل الجاهلية، وهو مُحَرَّم وزيادة في الإثم ومعصية لله زيادة على الكفر، فهم مع كفرهم يزدادون إثمًا بفعل المعصية؛ ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} على حسب شهواتهم؛ إن احتاجوه أحلوه وقاتلوا فيه وجعلوا شهرًا مكانه، وإن لم يحتاجوه بقي مكانه من غير تغيير [التّوبَة: 37]{لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *}.

 

}3198{ الشاهد في الحديث قوله: «يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» .

وفيه: أن أروى خاصمته وزعمت أنه أخذ من أرضها وكانت ظالمة له، فدعا عليها ـ كما في رواية أخرى ـ وقال: «اللهم إن كانت ظالمة فأعمِ بصرها واقتلها في أرضها» [(520)]، فاستجيبت دعوته فعميت، وبينما هي تمشي في أرضها إذ سقطت في حفرة فماتت في الأرض، وهذا من الأدلة على أن المظلوم دعاؤه مستجاب.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد