قَوْلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: وَإِذْ صَرَفْنَا...
[الأحقاف: 29- 32]{وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *}
[الكهف: 53]{مَصْرِفًا *} مَعْدِلاً.
[الأحقاف: 29]{وَإِذْ صَرَفْنَا} أَيْ وَجَّهْنَا.
هذه الترجمة فيها بيان أن الجن صُرِفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قرأ عليهم القرآن، وجاء في الحديث أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الزاد فقال: «لكم كل عظم ذُكِر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا وكل بعرة علف لدوابكم» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» [(654)] هذا من قدرة الله عز وجل العظيمة؛ أن العظم الذي يُرمى من الشاة المذبوحة إذا ذكر اسم الله عز وجل عليه يرجع إليه لحمه الذي أُكِل ويكون طعامًا للجن، والبعرة يرجع إليها حَبُها الذي أكل فيكون علفًا لدوابهم؛ ولهذا يحرم على الإنسان أن يستجمر بالعظم أو بالروث؛ لأنه يفسده على إخواننا من الجن.
وفيه: دليل على أن الجن المؤمنين إخوان لنا، فالمؤمن أخو المؤمن سواء كان من الإنس أو من الجن، من العرب أو من العجم، والكافر ليس أخًا وإن كان أخًا في النسب!!
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 164]{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا.
يُقَالُ: الْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالأَْفَاعِي وَالأَْسَاوِدُ [هُود: 56]{آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ يُقَالُ: [المُلك: 19]{صَآفَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} بُسُطٌ أَجْنِحَتَهُنَّ {يَقْبِضْنَ} يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ.
}3297{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالأَْبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ».
}3298{ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً لأَِقْتُلَهَا فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ لاَ تَقْتُلْهَا فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ قَالَ: إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ وَهِيَ الْعَوَامِرُ.
}3299{ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ وَالزُّبَيْدِيُّ وَقَالَ صَالِحٌ: وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَابْنُ مُجَمِّعٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَآنِي أَبُو لُبَابَةَ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ}» ، عام في الدواب وكل ما يدب على الأرض فيشمل الحيات والطيور وغيرها.
قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا» ، أي: الذَّكَر يسمى ثعبانًا والحية اسم للأنثى.
قوله: «الْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالأَْفَاعِي وَالأَْسَاوِدُ» ، يعني: ليست نوعًا واحدًا، فمنها الطويل ومنها القصير ومنها السام ومنها العامر، وقد تتشكل الجن في صورة حيات وعقارب.
}3297{، }3298{، }3299{ قوله: «وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ» تثنية طفية وهي كما يقول ابن حجر: خوصة المقل والطفي خوص المقل، شبه به الخط الذي على ظهر الحية، وقال ابن عبدالبر: يقال: إن ذا الطفيتين جنس من الحيات يكون على ظهره خطان أبيضان.
قوله: «وَالأَْبْتَرَ» هو مقطوع الذنب، وقيل: الأبتر الحية القصيرة الذنب، وقال الداودي: الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكبر قليلً.
قوله: «وَالأَْبْتَرَ» يقتضي التغاير بين ذي الطفيتين والأبتر، قال ابن حجر رحمه الله: «ووقع في الطريق الآتية: «لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين» [(655)] وظاهره اتحادهما، لكن لا ينفي المغايرة؛ قوله: «فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ» ، أي: يمحوان نوره، وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر رضي الله عنهما[(656)] «ويذهب البصر» [(657)]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها «فإنه يلتمس البصر» [(658)]؛ قوله: «وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ» ، هو بفتح المهملة والموحدة الجنين، وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر رضي الله عنه الآتية بعد أحاديث[(659)] ««فإنه يسقط الولد» [(660)] وفي حديث عائشة رضي الله عنها الآتي بعد أحاديث «ويصيب الحبل» [(661)] وفي رواية أخرى عنها: «ويذهب الحبل» [(662)] وكلها بمعنى» .
ثم قال رحمه الله: «وزعم الداودي أن الجن لا تتمثل بذي الطفيتين والأبتر، فلذلك أذن في قتلهما، وسيأتي التعقب عليه بعد قليل، وفي الحديث النهي عن قتل الحيات التي في البيوت إلا بعد الإنذار، إلا أن يكون أبتر، أو ذا طفيتين، فيجوز قتله بغير إنذار؛ ووقع في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم الإذن في قتل غيرهما بعد الإنذار، وفيه: «فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر» [(663)] قال القرطبي رحمه الله: والأمر في ذلك للإرشاد، نعم ما كان منها محقق الضرر وجب دفعه» . يعني: ليس قتلها بواجب.
قوله: «الْعَوَامِرُ» ، سميت عوامر لأنها تعمر البيت.
والحيات إذا كانت في البراري والصحاري فإنها تُقتل على كل حال، أما في البيوت فإنها تنذر ثلاث مرات أو ثلاثة أيام على اختلاف الروايتين: كأن يقول: ليس لك أن تجلسي هاهنا، اخرجي إلى الخربات وإلى الصحاري؛ خشية أن تكون من الجن، وإن وجدها بعد ذلك يقتلها وليس عليه شيء.
وثبت في الحديث أن أنصاريًّا تزوج ـ وكان حديث عهد بعرس ـ فلما رجع يومًا إلى بيته وجد امرأته خرجت أمام الباب فهوى عليها بالرمح ـ من غيرته ـ فقالت: اصبر انظر ما الذي أخرجني! فلما دخل وجد حية ملتوية على فراشه فانتظمها بالرمح فأصيب في الحال، فلم يدر أيهما أسرع موتًا الحية أم الأنصاري؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فحرجوا عليها ثلاثًا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه، فإنه كافر» [(664)]. فإذا كانت الحيات في البيوت فإنها تنذر ثلاثة أيام أو ثلاث مرات، ثم إن وجدت بعد ذلك فإنها تقتل إلا نوعين من الحيات فإنهما يقتلان مطلقًا في البراري والصحاري وفي البيوت وفي كل مكان بدون إنذار؛ لعظم شرهما، وهما ذو الطفيتين والأبتر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في كونهما يقتلان فقال: «فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ» ، لأن هذين النوعين إذا رآهما الإنسان ـ مجرد رؤية ـ يطمس بصره ويعمى والعياذ بالله، وكذلك يستسقطان الحبل إذا رأتهما المرأة الحامل يسقط الحمل، حيث جعل الله فيه قوه الجذب والاسقاط نسأل الله عز وجل السلامة والعافية.
خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ
}3300{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكَ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ».
}3301{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالإِْبِلِ وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ».
}3302{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثنِي قَيْسٌ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ فَقَالَ: «الإِْيمَانُ يَمَانٍ هَا هُنَا أَلاَ إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِْبِلِ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ».
}3303{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا».
}3304{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الأَْبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا».
قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ مَا أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ.
}3305{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَإِنِّي لاَ أُرَاهَا إِلاَّ الْفَارَ إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِْبِلِ لَمْ تَشْرَبْ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ فَحَدَّثْتُ كَعْبًا، فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ لِي مِرَارًا فَقُلْتُ: أَفَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ.
}3306{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِلْوَزَغِ الْفُوَيْسِقُ وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَزَعَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِهِ.
}3307{ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا بِقَتْلِ الأَْوْزَاغِ.
}3308{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْتَمِسُ الْبَصَرَ وَيُصِيبُ الْحَبَلَ».
}3309{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الأَْبْتَرِ وَقَالَ: إِنَّهُ يُصِيبُ الْبَصَرَ وَيُذْهِبُ الْحَبَلَ.
}3310{ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ أَبِي يُونُسَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ، ثُمَّ نَهَى، قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: هَدَمَ حَائِطًا لَهُ فَوَجَدَ فِيهِ سِلْخَ حَيَّةٍ فَقَالَ: «انْظُرُوا أَيْنَ هُوَ فَنَظَرُوا فَقَالَ: اقْتُلُوهُ فَكُنْتُ أَقْتُلُهَا لِذَلِكَ».
}3311{ فَلَقِيتُ أَبَا لُبَابَةَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلاَّ كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْوَلَدَ وَيُذْهِبُ الْبَصَرَ فَاقْتُلُوهُ».
}3312{ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ.
}3313{ فَحَدَّثَهُ أَبُو لُبَابَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ فَأَمْسَكَ عَنْهَا».
قوله: «بَاب خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ» . هذه الترجمة جاءت في أكثر الروايات وسقطت في رواية النسفي، والراجح عدم إثباتها، والأحاديث بعدها تابعة للترجمة السابقة «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 164]{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ}» . والدليل على هذا أن الأحاديث ليست لها علاقة بالغنم، فكلها في الدواب إلا حديثًا واحدًا وهو الحديث الأول.
وكذا الترجمتان التاليتان ـ وهما مكررتان بعنوان واحد «باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم» ـ الصواب أن الأحاديث بعدهما تابعة للترجمة السابقة: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: » . وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله بدأ أولاً كتاب بدء الخلق بخلق العرش والكرسي واللوح والقلم ثم خلق السموات والأرض ثم خلق الملائكة ثم خلق الجنة ثم خلق النار ثم خلق إبليس وجنوده ثم خلق الدواب، ثم بعد ذلك يأتي كتاب أحاديث الأنبياء كتاب خلق آدم وذريته.
}3300{ هذا الحديث فيه: بيان ما يكون في أوقات الفتن، وأنه في أوقات الفتن لا بأس أن يفر الإنسان بدينه من مواطن الفتن ويسكن البراري وشعف الجبال؛ ولهذا قال: «يُوشِكَ» أي: يقرب «أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ» ، أي: رءوس الجبال «وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ» ، أي: المواضع التي يصيبها المطر؛ «يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ» . وهذا إنما يكون عند فساد الزمان، وقد حصل ذلك منذ أزمنة وسيحصل في المستقبل، وهذا عندما لا يكون هناك جمع ولا جماعة ولا حلق علم ولا آمر بمعروف ولا ناه عن المنكر، وخاف الإنسان على دينه من الفتن، فإنه يفر من المدن والقرى ويسكن البراري والصحاري، يصلي ويعبد ربه حتى يسلم من الفتن، أما إذا كانت المدن فيها الصلوات والجماعة وخطبة الجمعة وحلق الذكر وفيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيها أهل الخير فإنه لا ينبغي للإنسان أن يسكن في البراري، بل إن هذا عليه الوعيد الشديد؛ لما يترتب عليه من المفاسد من ترك الجمعة والجماعة، ولما يترتب عليه من الحرمان والبعد عن العلم الشرعي.
فهذا الحديث يعمل به في أوقات الفتن، إذا نُزع الخير، وخاف الإنسان على نفسه من الفتن، فيكون في هذه الحالة البعد عن الناس أولى وأسلم لدينه، ويتنزل على هذا قول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوَّت إنسان فكدت أطير
أي: استأنس بالذئب والوحوش؛ لأن الذئب والوحوش لا تفتنه عن دينه، ولما صوت إنسان كاد أن يطير، نسأل الله عز وجل السلامة والعافية. وهذا تابع للترجمة السابقة «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 164]{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ}» ، والغنم من الدواب.
}3301{ قوله: «رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ» هذا يشمل المشرق الأقصى مثل الصين وخراسان والفرس والمجوس فإن الفتن فيها شديدة، ويشمل أيضًا الشرق الأدنى وهي العراق وما حولها؛ فإن فتنة التتار جاءت من العراق، وفتنة الدجال تخرج من خلة بين الشام والعراق، وفتنة المعتزلة والجهمية كلها جاءت من جهة الشرق الأدنى، ويشمل شرق الجزيرة العربية وهي نجد وما حدث فيها من الفتن: فتنة مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقاتله الصدّيق والصحابة رضي الله عنهم حتى قُتِل، وكذلك فتنة سجاح التي ادعت النبوة أيضاً.
وليس في الحديث أن بقية الجهات ليس فيها شر بل فيها من الفتن ما فيها، فالغرب يبثون إلينا الشرور في الصباح والمساء، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة، لكن المشرق في الغالب أكثر وأشد.
قوله: «وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالإِْبِلِ» فأصحاب الخيل والإبل يعتريهم فخر وخيلاء وتعاظم على الناس واحتقار لهم.
قوله: «وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ» ، الوبر يكون في الإبل، والصوف يكون في الغنم؛ فأهل الإبل يصيبهم تعاظم وتعالٍ على الناس واحتقار لهم وإعجاب بأنفسهم؛ لأن الإبل فيها قوة وشيطنة فالذي يلابسها يتأثر بخلقها من القسوة والغلظة والشدة بخلاف أهل الغنم؛ فإن رعاة الغنم يتأثرون بالغنم فتعتريهم سكينة وذلة ورقة ولين؛ ولهذا فإن الأنبياء رعوا الغنم ولم يرعوا الإبل، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا رعى الغنم» قالوا: وأنت؟ قال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» [(665)].
}3302{ قوله: «الإِْيمَانُ يَمَانٍ هَا هُنَا» فالنبي صلى الله عليه وسلم أثنى على أهل اليمن، وسبب ثنائه عليهم إسراعهم إلى الإيمان وقبولهم له، وقد تقدم في الحديث أنهم قبلوا البشرى، حيث لم يقبلها بنو تميم[(666)]، وفي اللفظ الآخر: «أهل اليمن أرق أفئدة» [(667)] يعني: أن غشاء قلب الواحد منهم رقيق، وإذا رق الغشاء أسرع نفوذ الشيء إلى ما وراءه، ورقة القلب دلالة على رقة ولين صاحبه، والمراد بأهل اليمن ليس المراد اليمن الجغرافي، بل المراد أن كل ما كان جنوب الكعبة فيشمل الآن جنوب المملكة كله: غامد وزهران، والمراد أيضاً أن هذا الوصف كان في ذلك الوقت، ولا يعني: أن ذلك يكون في كل الأوقات فقد يكون في بعض الأوقات ليس عندهم رقة، فهذا وصف أغلبي، وقد يتغير الوصف وقد يبقى في بعض الأزمنة، وكذلك الغلظة والشدة في غيرهم قال صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِْبِلِ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» ، وهي شرق الجزيرة؛ وذلك لما حصل من الفتن مثل فتنة مسيلمة وسجاح، وحصل من الغلظة والجفاء عند القبائل النجدية في ذلك الوقت ربيعة ومضر، وقد يستمر هذا الوصف وقد يزول، لكنه في ذلك الوقت كان موجودًا.
والمقصود من كان فيه هذا الوصف فهو مذموم، وإذا زال الوصف زال الذم؛ فالعبرة بالوصف.
}3303{ هذا الحديث فيه: مشروعية سؤال الله عز وجل من فضله عند سماع صياح الديكة لأنها رأت ملكًا.
وفيه: مشروعية الاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان عند سماع نهيق الحمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا» وهذا يدل على أن الأحكام معللة خلافًا للجبرية الذين يقولون: إن الرب يفعل ما يريد بلا حكمة!
وذكر الداودي رحمه الله أنه يُتعلم من الديك خمس خصال: حسن الصوت، والقيام في السحر، والغيرة، والسخاء، وكثرة الجماع، فالديك عنده سخاء حتى إنه يؤثر الدجاجة على نفسه في الحَب، والديك فطره الله على الصياح آخر الليل وقت السحر علامة على دنو وقت الفجر على ترتيب معروف لا يفارقه في الصيف أو في الشتاء.
وجاء في حديث: «لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة» [(668)] وجاء عند البزار سبب ذلك أن ديكًا صاح عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبه رجل فنهى عن سب الديك[(669)]، وقال له ذلك.
}3304{ في هذا الحديث: مشروعية إغلاق الباب مع التسمية، ومشروعية كف الصبيان عند جنح الظلام عند الغروب، فإذا ذهبت ساعة من الليل يتركون، ومناسبته للترجمة أن الشيطان من الدواب.
قوله: «فَخَلُّوهُمْ» ، مرت بالحاء المهملة: «فحلوهم» ؛ يعني: كأنهم موثوقون فحلوا وثاقهم، وهنا بالخاء المعجمة من التخلية، والمعنى متقارب: خله يعني: اتركه، وحله يعني: فك وثاقه.
}3305{ قوله: «فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَإِنِّي لاَ أُرَاهَا إِلاَّ الْفَارَ إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِْبِلِ لَمْ تَشْرَبْ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ» ، يعني: أن أمة من بني إسرائيل مسخت فصارت فأرًا، والدليل على هذا أنها إذا وضع لها ألبان الإبل لا تشرب، وإذا وضع لها ألبان الشاء تشرب؛ لأن بني إسرائيل لا يأكلون الإبل ولا يشربون ألبانها؛ لأنها مما حرمها إسرائيل على نفسه، وهو يعقوب عليه السلام، كما قال الله تعالى: [آل عِمرَان: 93]{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}، أي: نذر ألا يأكلها، وهذا جائز في شريعتهم؛ أما في شريعتنا فلا يجوز للإنسان أن يحلف على تحريم شيء من الطيبات، وإذا حلف فإنه يكفر عن يمينه، قال الله تعالى: [التّحْريم: 1-2]{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *}.
وهذا أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ظن ثم أعلمه الله عز وجل بعد ذلك أن الفأر ليست الأمة الممسوخة وإنما هي أمة من الأمم؛ لأن الأمة الممسوخة لا تعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا تنسل ولا يكون لها عقب فقد؛ جاء في «صحيح مسلم» «إن الله لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً» [(670)].
وبنو إسرائيل مُسخوا قردة وخنازير، ولكن ليسوا هم القردة والخنازير الموجودة الآن؛ لأنهم بعدما مسخوا قردة وخنازير ماتوا ولم يكن لهم عقب ولا نسل، أما القردة فأمة من الأمم، والخنازير أمة من الأمم، والكلاب أمة، والفأر أمة.
وقد حدث أبو هريرة رضي الله عنه كعبًا رضي الله عنه بهذا الحديث فقال: «أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ لِي مِرَارًا فَقُلْتُ: أَفَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ» ؛ أي: أنا لا أقرأ التوراة، وكعب رضي الله عنه كان أحد الأحبار فأسلم، فلما كرر عليه قال له: أتظنني أقرأ التوراة؟! لأنه لا ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا الكتاب والسنة.
}3306{ الشاهد من الحديث: أن الوزغ من الدواب، فهو داخل في قوله عز وجل: [البَقَرَة: 164]{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ}.
}3307{ قوله: «أُمَّ شَرِيكٍ» . الأصل في الأسماء أن شريكًا وشراحيل يكونان بالفتح أما شريح فيكون بالضم.
قوله: «الأَْوْزَاغِ» : جمع وزغ، وهو معروف، وسمي فويسقًا لخروجه عن طبيعة غيره بالإيذاء، ومن فِسْقه أن ينفث الأذى في الإناء وغيره، وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الفأرة، والعقرب، والحديا،والغراب، والكلب العقور» [(671)] فهؤلاء سموا فواسق لخروجهن عن طبيعة غيرهن بالإيذاء، وجاء في الحديث الآخر في «صحيح مسلم» : «من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية» . وفيه: «من قتل وزغًا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك» [(672)] ومن فسقه أنه كان ينفخ في النار التي أضرمت لإبراهيم عليه السلام، وإن كان نفخه لا يفيد ولا يشعل النار.
}3308{ قوله: «اقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ» ، وهو نوع من الحيات في ظهره خطان، أما الأبتر فهو قصير الذنب أو مقطوع الذنب، وهذان النوعان يُقتَلان في البراري والبيوت؛ فالحيات التي في البيوت لا تقتل حتى تنذر ثلاثة أيام خشية أن تكون من الجان إلا ذا الطفيتين والأبتر لشدة ضررهما وفسادهما كما جاء في الحديث أنهما «يطمسان البصر ويسقطان الحبل» [(673)] فإذا رأى الإنسانَ يطمس بصره من شدة سمه، وإذا رأى الحاملَ يُسقط الحمل، والأقرب ـ والله أعلم ـ أن ذلك يحدث بمجرد رؤيته بالعين، مثل صاحب العين يرى الإنسان بعينه فيخرج من نفسه ما هو مقارن للشر، فبمجرد أن يراه ويتأمله يصيبه بعينه؛ فكذلك ذو الطفيتين والأبتر بمجرد أن يرى الإنسان ويتأمله يصيبه من بعد، ويحتمل أنه يقذف سماًّ من بعيد كما ذكر علماء هذا الشأن، والله تعالى أعلم.
وفي الحديث الآخر أن العائن عليه أن يذكر الله دائمًا، ويدعو لأخيه إذا رأى عنده ما يعجبه: «إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة» [(674)] وعلى المسلم أن يذكر الله عز وجل دائمًا إذا كان يخشى على نفسه العين، وعليه أن يرقي نفسه الرقية الشرعية، والعائن إذا أصاب بعينه أحدًا فقتله واعترف فإنه يُقتَل قصاصًا، وإن كان خرج من عينه دون اختياره فعليه الدية لأنه قتل خطأ، وذكر العلماء أن الإنسان المعروف بالعين يحبس في بيته ويجرى له راتب من بيت المال ولا يصلي الجمعة ولا الجماعة لأنه يصيب الناس، فإذا كان الذي يأكل كراثًا أو بصلاً ممنوعًا من الصلاة لئلا يؤذي الناس، فهذا أولى؛ فهو يؤذيهم بالقتل.
}3309{ قوله: «إِنَّهُ يُصِيبُ الْبَصَرَ وَيُذْهِبُ الْحَبَلَ» . والحبل: الحمل، وفي اللفظ الآخر كما في الحديث الماضي: «يطمس البصر ويستسقط الحمل» [(675)].
}3310{، }3311{ قوله: «لاَ تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلاَّ كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ» ، ظاهره أن الأبتر هو ذو الطفيتين، وسبق أن الأبتر قصير الذنب أو مقطوع الذنب، وأن ذا الطفيتين الذي في ظهره خطان؛ فهما حيتان مختلفان، والحيات إذا كانت في البيوت يخشى أن تكون من الجن فلا تقتل حتى تنذر ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؛ فإذا ظهرت بعد ذلك قتلت، أما إذا كانت في البراري فهي تقتل على كل حال، وظاهر الحديث أن الأبتر وذا الطفيتين يقتلان ولو كانا في البيوت من شدة شرهما وضرهما، وبين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك وهي أنهما يسقطان الولد الذي في بطن أمه ويذهبان البصر.
}3312{، }3313{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ» ، أي: إلا بعد الإنذار ثلاثة أيام أو ثلاث مرات لأنها قد تكون من الجن، وإن كان الإنذار بالمرات الثلاث في ثلاثة أيام كان أحوط، يقول لها: اخرجي عن هذا المكان، ليس هذا مكان لك، سوف أقتلك، أعوذ بالله منك، ويمهلها ثلاثًا فإذا ظهرت بعد ثلاث فإنه يقتلها، وكان سبب هذا قصة الأنصاري الشاب الذي كان حديث عهد بعرس فلما جاء ليدخل البيت وجد امرأته بالباب، ومن غيرته أهوى بالحربة عليها فقالت له: انظر ما الذي أخرجني؟ فلما دخل وجد حية ملتوية على فراشه فانتظمها بالرمح فصرع الرجل، فلم يُدر أيهما أسرع موتًا، هو أو الحية التي انتظمها؟! فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئًا منها فحرّجوا عليها ثلاثًا» [(676)].
خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ
}3314{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحُدَيَّا وَالْغُرَابُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ».
}3315{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ الْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ».
}3316{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ كَثِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما رَفَعَهُ قَالَ: «خَمِّرُوا الآْنِيَةَ وَأَوْكُوا الأَْسْقِيَةَ وَأَجِيفُوا الأَْبْوَابَ وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ».
قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ وَحَبِيبٌ عَنْ عَطَاءٍ فَإِنَّ لِلشَّيَاطِينِ».
}3317{ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ فَنَزَلَتْ وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ جُحْرِهَا فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا فَقَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا».
وَعَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ قَالَ: وَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَامِنْ فِيهِ رَطْبَةً.
وَتَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ.
وَقَالَ حَفْصٌ: وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
}3318{ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ» قَالَ: وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
}3319{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَزَلَ نَبِيٌّ مِنْ الأَْنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَهَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً».
الأرجح حذف هذه الترجمة ـ كما مر ـ وعليه فالأحاديث بعدها تابعة لقوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 164]{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ}» .
}3314{، }3315{ هذا الحديث بإسناديه فيه: أن هذه الخمس تقتل في الحل والحرم .
وفي الحديث الأول وصفها بأنها «خَمْسٌ فَوَاسِقُ» وفي الثاني وصفها بأنها «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ» ، وهذا هو الشاهد من الترجمة أنها من الدواب، وسميت فواسق لخروجها عن طبيعة غيرها بالإيذاء ـ فالدواب الأخرى لا تؤذي مثل الغنم والدجاج والطيور ـ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، ويقاس عليها كل مؤذ مثل الذباب، وما وقع الأذى منه ولا يندفع إلا بالقتل يقتل، مثل الهرة إذا فسقت وصارت تأكل الدجاج أو النملة إذا كانت تؤذي.
وهذه الفواسق الخمس الأذى فيها ظاهر؛ فالحية أذاها أنها تلدغ وكذلك العقرب تلدغ والفأرة تخرب ما في البيت فتقرض الثياب وتخرقها وتجر فتيلة السراج فتحرق البيت، والغراب كذلك يأكل سنبل الزرع ويؤذي البعير؛ وهذا من فسقه، والكلب العقور الذي يعقر الناس ويعضّهم؛ وهذا من فسقه، والحُديا تخطف اللحم وقد تخطف الصبيان، والوزغ كذلك يقتل بسمه؛ لأنه من الفواسق مشارك لها في الوصف.
وكل هذه الفواسق تقتل في الحل والحرم.
وسمي العاصي فاسقًا لخروجه عن وصف المؤمنين من الطاعة إلى المعصية، وكذلك الكافر يسمى فاسقًا لخروجه من الإيمان إلى الكفر [المنَافِقون: 6]{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ *} فالكافر فاسق، وفسوقه كفر لخروجه من الإيمان إلى الكفر.
}3316{ هذه إرشادات نبوية قالها النبي صلى الله عليه وسلم نصحًا لأمته في دينهم ودنياهم، فما من خير إلا جاء به هذا الدين ودل عليه وما من شر إلا وحذرنا منه.
قوله: «خَمِّرُوا الآْنِيَةَ» ، أي: غطوها؛ لأنها إذا كانت مكشوفة يسقط فيها الأذى والهوام، وجاء في الحديث الآخر: «فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابًا، ولا يكشف إناءً، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا ويذكر اسم الله فليفعل» [(677)] أي: إذا لم يجد شيئًا يخمره به يضع عودًا ويذكر اسم الله عز وجل عليه، وجاء في الحديث الآخر[(678)] أن هناك ليلة في السنة ينزل فيها الوباء فلا يجد إناء مكشوفًا إلا سقط فيه.
قوله: «وَأَوْكُوا الأَْسْقِيَةَ» ، الأسقية جمع سقاء كالقربة وغيرها التي يكون فيها الماء أو العسل أو اللبن، ويوكى فمها أي: يربط بالرباط؛ لأنه إذا ترك دون رباط ينساب ما فيه، وكذلك تدخله بعض الحشرات والهوام.
قوله: «وَأَجِيفُوا الأَْبْوَابَ» ، أي: أغلقوها، وفي الحديث الآخر: «وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله عليها» [(679)].
قوله: «وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ» اكفتوا بكسر الفاء ويجوز ضمها يعني: ضموهم إليكم وامنعوهم من الحركة عند المساء، وبين النبي صلى الله عليه وسلم العلة فقال: «فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً» ، يعني: قد تؤذي الصبيان، وفي رواية ابن جريج وعطاء: «للشياطين» بدل «للجن» ، فيكف الصبيان حتى إذا ذهبت فحمة العشاء خلوهم، والخطف على ظاهره، والله أعلم.
وفيه: دليل على أن الشريعة معللة.
قوله: «وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ» . هذا هو الشاهد من الحديث، حيث ذكر الفويسقة لأنها من الدواب، والأمر بإطفاء المصابيح خاص بذلك الوقت لما كانت السرج عن طريق الفتيلة؛ وهي خرقة توضع في أسفلها دهن أو ودك وتشعل النار فيها؛ فإذا نام الناس تأتي الفويسقة وتجر الفتيلة فيحترق المنزل، وقد ثبت في الحديث أن بيتًا احترق في المدينة على أهله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذه النار إنما هي عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم» [(680)].
}3317{ هذا الحديث فيه: الأمر بقتل الحية، وأنها تضم إلى الخمس الفواسق: الفأرة والعقرب والحديا والغراب والكلب العقور، وليس المراد بالحديث الحصر؛ فالحية تقتل لفسقها.
قوله: «وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا» . سماه صلى الله عليه وسلم شرًّا؛ لأن قتل الصحابة رضي الله عنهم لها شر بالنسبة إليها؛ لأنه يضرها، فهي وقيت شركم، وأنتم وقيتم شرها، فلم تلدغكم ولم تقتلوها.
قوله: «رَطْبَةً» أي: أن هذه السورة نزلت قريبًا فسمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤها ويتلفظ بها وريقه رطب بقراءتها.
}3318{ قوله: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» . حرف «فِي» للسببية، والمعنى: دخلت النار بسبب هرة، وفيه: إثبات الأسباب والرد على من أنكر الأسباب من الأشاعرة وغيرهم، فالأشاعرة ينكرون الأسباب لأنهم جبرية؛ ولهذا يقولون: إن الأكل ليس سببًا في الشبع، والشرب ليس سببًا في الري، ولكن الله يوجد الشبع عند الأكل، ويوجد الري عند الشرب،