شعار الموقع

شرح كتاب أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري (60-7)

00:00
00:00
تحميل
153

}3404{ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلاَسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا: لِمُوسَى فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلإٍَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: [الأحزَاب: 69]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا *}».

}3405{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَْعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ».

 

قوله: «باب حَدِيثِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى _ث» هذا الباب تابع للتراجم التي تتعلق بموسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء، والخضر نبي يوحى إليه على الصحيح من قولي العلماء، وحكى بعضهم أنه عبد صالح يلهم، والصواب أنه نبي، وحكى القرطبي رحمه الله أنه قول الجمهور؛ لأن هذه الأعمال التي عملها لا يعملها إلا بوحي من الله عز وجل أي: كونه يقتل الغلام ويقيم الجدار، ثم قوله في ذلك [الكهف: 82]{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يعني: أنه فعله عن أمر الله عز وجل؛ فدل على أنه نبي يوحى إليه، والقول بأنه رجل صالح وأنه ولي وأنه يلهم فيه فتح باب للصوفية وغيرهم ممن يعملون أعمالاً منكرة ويدعون أنهم يلهمون.

}3400{ أورد المؤلف رحمه الله حديثين لابن عباس رضي الله عنهما فيهما قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، والحديث الأول فيه: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ الْفَزَارِيُّ» يعني: اختلفا وتناظرا «فِي صَاحِبِ مُوسَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ» أي: تماريا هل موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل أو موسى آخر؟ فقال الحر بن قيس: هو موسى آخر ليس موسى بني إسرائيل وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بل هو موسى بني إسرائيل، «فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ» وهو صحابي كبير رضي الله عنه «فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ» للفَصْل بينهما.

وفيه: دليل على أنه عند الاختلاف ينبغي الرجوع إلى أهل العلم، حيث إنهما لما اختلفا في هذه المسألة العلمية ـ وهي في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ رجعا إلى أهل العلم إلى أبيّ بن كعب رضي الله عنه.

قوله: «إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، يعني: في جماعة «جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ» فيه: الرحلة في طلب العلم، حيث رحل موسى عليه السلام فركب البحر في طلب العلم.

وفيه: فضيلة موسى عليه السلام حيث إنه سأل السبيل إلى لقي الخضر حتى يزداد علمًا، والله تعالى قال لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: [طه: 114]{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا *} أي: أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله الازدياد من العلم.

وفيه: تَعَلُّم الفاضل من المفضول؛ فموسى عليه السلام أفضل من الخضر قطعًا؛ لأن موسى عليه السلام من أولي العزم، والخضر مختلف فيه هل هو نبي أم عبد صالح ـ والصواب: أنه نبي ـ وعلى الحالين فموسى عليه السلام أفضل منه قطعًا.

وفيه: أن العلم ميسر، وهو فضل من الله تعالى؛ فقد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، وأنه ينبغي للإنسان أن يحرص على الفائدة العلمية، ولو كانت عند من هو أقل منه، وقد يستفيد الأستاذ أو الشيخ من الطالب؛ ولهذا قال المحدثون وأهل العلم والأئمة: لا ينبل الرجل حتى يأخذ ممن هو فوقه، وممن هو دونه، وممن هو مثله.

وفيه: حرص الأنبياء على العلم؛ حيث سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل: كيف السبيل إلى لقيه؟ فجعل الله عز وجل له آية، وهي الحوت، فقيل له: إذا فقدت الحوت فإنك تجده، فقال موسى عليه السلام لفتاه: [الكهف: 62-63]{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا *قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا *} فاختصر القصة وجاء بها مطولة في الحديث الذي بعده.

 

}3401{ ثم ساق الحديث الثاني من رواية سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: «قُلْتُ: لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ» ، وسعيد بن جبير سيد التابعين رضي الله عنه من أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما، وسأل شيخه ابن عباس رضي الله عنهما عن مقالة نوف البكالي: إن موسى الذي جرت له القصة مع الخضر ليس هو موسى النبي عليه السلام وإنما هو موسى آخر؛ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ» ، يقصد نوفًا البكالي، وهذا لا يراد به الحقيقة، وإنما هي كلمة تجري على اللسان من غير قصد، وذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عقرى حلقى» [(808)] والمراد أنه أخطأ؛ فيقال لمن أخطأ: كذب، ويقال لمن قال شيئًا خلاف الواقع: كذب، مثل الحديث الآخر: «كذب أبو السنابل» [(809)] ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء وقال: إن أخاه استطلق بطنه فأمره أن يسقيه عسلاً، ثم لما أخبره بأنه لم يزده إلا استطلاقًا قال له في الثالثة: «صدق الله وكذب بطن أخيك» [(810)] يعني: أخطأ؛ فكلمة كذب تقال لمن أخطأ سواء كان متعمدًا أو غير متعمد.

ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما مبينًا أن موسى عليه السلام هو موسى بني إسرائيل: «حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ» .

وفيه: أنه ينبغي للإنسان أن يرد العلم إلى الله عز وجل، وإذا قيل: أي: الناس أعلم فينبغي أن يقال: الله أعلم.

وفيه: أن الأنبياء قد يفعلون خلاف الأولى، ثم يوجههم الله عز وجل ويربيهم، كما قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: [عَبَسَ: 1-7]{عَبَسَ وَتَوَلَّى *أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى *وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى *أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى *أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى *فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى *وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى *} فعتب الله عز وجل عليه لما جاءه عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه وقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله عز وجل، وكان عنده جماعة من أشراف قريش، وكان صلى الله عليه وسلم حريصًا على هدايتهم فأعرض عنه، وأقبل على هؤلاء الأشراف لعل الله عز وجل أن يهديهم؛ فعتب الله عز وجل عليه وأنزل هذه الآية، كذلك موسى عليه السلام لما سئل: «أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا» فعاتبه الله عز وجل وقال: «بَلَى لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ» .

وفيه: دليل على أن الأنبياء قد تقع منهم الصغائر وتغفر لهم، والأنبياء معصومون من الشرك ومعصومون عن الكبائر، ومعصومون عن الخطأ فيما يبلغون عن الله عز وجل لكن قد تقع منهم الصغائر، والصغائر مغفورة، قال الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: [محَمَّد: 19]{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وقال سبحانه: [الفَتْح: 2]{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، وقال عن موسى عليه السلام: [القَصَص: 16]{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *}، وقال عن آدم عليه السلام: [طه: 122]{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى *}، وقال عن داود عليه السلام: [ص: 24]{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *}، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ الله فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» [(811)] والغين نوع من الغطاء القليل يكون على القلب بسبب الغفلة، وأعلى منه الغيم بالميم، وأعلى منه الران يكون على القلب، وأعلى منه الغشاء والختم والقفل والأكنة كما قال الله تعالى: [فُصّلَت: 5]{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}، [المطفّفِين: 14]{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *}، [البَقَرَة: 7]{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}.

فموسى عليه السلام فعل خلاف الأولى، ولكنه لما علم أن هنالك في مجمع البحرين عبدًا أعلم منه حرص على العلم والتعلم منه وهو نبي كريم، ولهذا جاء في بعض روايات القصة: «مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قَالَ: أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ» [(812)].

قوله: «تَأْخُذُ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ» ، يعني: زنبيل، «حَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ وَرُبَّمَا قَالَ: فَهُوَ ثَمَّهْ» ، يعني: فإذا فقدت الحوت فإنك تجد الخضر عنده، «وَأَخَذَ حُوتًا» مشويًّا غداء ليأكلاه «فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَرَقَدَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فَخَرَجَ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ» ، وهناك زيادة ذكرت في غير حديث عمرو هذا قال عنها الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قد أخرجها ابن مردويه من رواية إبراهيم بن يسار عن سفيان مدرجة في حديث عمرو، ولفظه: «حتى انتهينا إلى الصخرة، فقال موسى عندها ـ أي: نام ـ قال: وكان عند الصخرة عين ماء يقال لها: عين الحياة، لا يصيب من ذلك الماء ميت إلا عاش، فقطرت من ذلك الماء على الحوت قطرة فعاش، وخرج من المكتل فسقط في البحر» اهـ.

وهذا من آيات الله عز وجل العظيمة ومن دلائل قدرته تعالى على إحياء الموتى، فهذا حوت مشوي مع موسى عليه السلام قد أعده للأكل، أحياه الله عز وجل فاضطرب وخرج من المكتل وسقط في البحر [الكهف: 61]{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا *}، أي: صار يمشي في البحر، «فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ» أي: مثل الكوة «فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ» أحسا بالجوع « [الكهف: 62]{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا *}، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ» ، فأخبره فتاه يوشع بن نون ـ وهو صاحبه وليس عبدًا وصار نبيًّا بعد وفاة موسى عليه السلام، وهو الذي فتح بيت المقدس بعد وفاة موسى عليه السلام، وهو الذي حبست له الشمس حتى أتم الله عز وجل له الفتح، كما جاء في «صحيح مسلم» : «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا، أو خلفات وهو منتظر ولادها، قال: فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئًا، فحبست عليه حتى فتح الله عليه» [(813)] وفي رواية أحمد: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس» [(814)].

قال النووي[(815)]: «قال القاضي: وقد روي أن نبينا صلى الله عليه وسلم حبست له الشمس مرتين: إحداهما: يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت فردها الله عليه حتى صلى العصر، ذكر ذلك الطحاوي، وقال: رواته ثقات. والثانية: صبيحة الإسراء حين انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس، ذكره يونس بن بكير في زيادته على «سيرة ابن إسحاق» » اهـ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ووجه الجمع أن الحصر محمول على ما مضى للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم تحبس الشمس إلا ليوشع وليس فيه نفي أنها تحبس بعد ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم» اهـ.

وأخبره فتاه أنه نسي الحوت، فقال: هذا الذي نريده «{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ » فوجدا الخضر عليه السلام عند العلامة، «فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ مُوسَى فَرَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ» ، وفي اللفظ الآخر: «فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال وهل بأرضِي من سلام» [(816)] استغرابًا كأن هذه الأرض أرض كفرة ليس فيها مسلم، قال: من أنت؟ «قَالَ: أَنَا مُوسَى قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ» ، وهذا فيه: دليل على أن الخضر عليه السلام ما كان يعلم موسى عليه السلام.

وفيه: دليل على أن الخضر عليه السلام لم يكن مكلفًا بالعمل بشريعة موسى عليه السلام، والأقرب أن له شريعة وموسى عليه السلام له شريعة.

وفيه: دليل على أن شريعة موسى عليه السلام ليست عامة ولكنها خاصة ببني إسرائيل، بخلاف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنها عامة للثقلين الجن والإنس، العرب والعجم.

ولهذا قال العلماء: من زعم أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر عليه السلام الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر مرتد؛ لأن شريعة موسى عليه السلام خاصة ببني إسرائيل وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين الجن والإنس؛ ولهذا كان من نواقض الإسلام من اعتقد أنه يسوغ له أن يخرج عن شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا» [(817)] وفي لفظ: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» [(818)] وفي رواية: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة» [(819)] فمن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن بعثته عامة للناس كافة العرب والعجم، الجن والإنس، قال تعالى: [سَبَإ: 28]{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وقال تعالى: [الفُرقان: 1]{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا *}، وقال تعالى: [الأنعَام: 19]{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» [(820)] وبهذا يتبين فضل نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.

قوله: «أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي [الكهف: 66]{مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا *}» ، وهذا فيه: تواضع من المتعلم للمعلم؛ فموسى عليه السلام تواضع لأنه الآن تلميذ، تتلمذ على الخضر عليه السلام، فقال له الخضر عليه السلام: إنك لن تستطيع أن تصبر، فمن الصعب أن ترى شيئًا ظاهره يخالف الشرع الذي أنزل عليك وتسكت؛ قال تعالى: [الكهف: 67-68]{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *}. ثم قال الخضر: لا بأس أن تتعلم مني ولكن بشرط أن تصبر؛ قال موسى عليه السلام: إن شاء الله عز وجل أصبر، قال: إذا كنت وعدتني أن تصبر فلا تسألني عن شيء أعمله حتى أحدث لك منه ذكرًا.

قوله: «قَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لاَ تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ» . هذا فيه بيان سعة علم الله عز وجل وأن ما أعطي الخلق من العلم شيء يسير في علم الله عز وجل، وأن العلم فضل من الله.

قوله: «فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ كَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ» ، أي: أشاروا لهم ليحملوهم، «فَعَرَفُوا الْخَضِرَ» ولم يعرفوا موسى عليه السلام لأنه كان غريبًا، «فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ» أي: بغير أجرة.

قوله: «فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ» فيه: بيان سعة علم الله عز وجل، فهذا بحر متلاطم، آلاف الأميال طولاً وعرضًا، ماذا ينقص منه منقار العصفور؟!

قوله: «إِذْ أَخَذَ الْفَأْسَ فَنَزَعَ لَوْحًا» ، أي: وهم في السفينة أخذ لوحًا فنزعه، «فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إِلاَّ وَقَدْ قَلَعَ لَوْحًا بِالْقَدُّومِ» ، أي: ظل يضرب في السفينة حتى قلع لوحًا فدخل الماء من أسفل، فانزعج موسى عليه السلام ولم يصبر وقال: سبحان الله! ناس أحسنوا إلينا وحملونا بغير أجرة تسيء إليهم وتخرب سفينتهم وتخرقها فيدخل علينا الماء فنغرق جميعًا! كيف تقابل الإحسان بالإساءة؟! فذكره الخضر عليه السلام فقال: [الكهف: 72]{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *}. فاعتذر موسى عليه السلام وقال: نسيت هذه المرة، [الكهف: 73]{قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا *}؛ فقبل منه؛ «فَكَانَتْ الأُْولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا» ، ثم انتهت هذه الرحلة. وهذه السفينة كانت لمساكين وكان هناك ملك ظالم يأخذ السفينة الصالحة ويترك السفينة المعيبة؛ فأراد الخضر أن يجعل فيها عيبًا حتى تبقى لهم؛ فقلع اللوح وسده بخرقة حتى لا يدخل الماء فإذا مرت ووجد فيها هذا العيب تركها.

وفيه: دليل على أن المساكين يملكون؛ فالفرق بين الفقير والمسكين أن الفقير هو المعدم الذي لا يجد شيئًا أو يجد أقل من نصف الكفاية، وأما المسكين فهو أحسن حالاً من الفقير حيث يجد نصف الكفاية.

قوله: «فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ الْبَحْرِ مَرُّوا بِغُلاَمٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَلَعَهُ بِيَدِهِ هَكَذَا وَأَوْمَأَ سُفْيَانُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ كَأَنَّهُ يَقْطِفُ شَيْئًا» ، أي: غلام صغير يلعب مع الأطفال فاقتلع الخضر رأسه بيده، فانزعج موسى عليه السلام انزعاجًا عظيمًا أشد من الأولى، وأنكر عليه أشد الإنكار، وقال: [الكهف: 74]{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ}، أي: قتلت نفسًا طاهرة ليس عليها ذنوب؛ [الكهف: 71]{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا *}، أي: عملت شيئًا منكرًا؛ فذكره الخضر عليه السلام مرة ثانية بقوله: [الكهف: 75]{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *} فأكد فيها قوله بلفظ {لَكَ} بخلاف الأُولى؛ لأن إنكاره أشد وآكد من الأولى، أي: أخبرتك أني على علم من علم الله عز وجل لا تعلمه، وقلت لك: إنك لا تستطيع الصبر معي؛ فقال موسى: نعم هذا صحيح، ولكن إن سألتك مرة ثالثة فلست بمعذور، كأنه يقول: سأحاول أن أسكت المرة الثالثة، قال: [الكهف: 76]{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا *}.

قوله: [الكهف: 77]{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}» ، مروا على قرية لئام، رفضوا ضيافتهم، وبينما هم يمشون في هذه القرية [الكهف: 77]{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}، يعني: كاد الجدار أن يسقط؛ فجعل الخضر عليه السلام يبني الجدار ويقيمه ويصلحه، وكان يعمل بناء، فأتى بما يحتاج من الطين والماء وجعل يعمل حتى أقام الجدار؛ فأنكر عليه موسى عليه السلام وقال: هؤلاء قوم لئام، ما أضافونا ولا أعطونا حق الضيافة فلم لا تأخذ منهم أجرة؟! وهذا الجدار كان تحته كنز لغلامين يتيمين في المدينة وكان أبوهما صالحًا، ومما أطلع الله عز وجل عليه الخضر عليه السلام أن هذين الغلامين سيكبران ويعيشان ويأخذان كنزهما، فلو انهدم الجدار ضاع الكنز فأراد أن يبنيه حتى لا يعرف محل الكنز تحت الجدار، [الكهف: 82]{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، وهذا دليل على أنه فعل ذلك بوحي من الله عز وجل، وهذا يدل على أنه نبي.

فقال الخضر لموسى عليه السلام: انتهى الشرط الذي بيني وبينك، [الكهف: 78]{هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *} سأنبئك بالمسائل الثلاثة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ودِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ فَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا» ، وفي اللفظ الآخر: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوْ كَانَ صَبَرَ لَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا» ، تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لو أن موسى عليه السلام صبر وما أنكر على الخضر عليه السلام حتى يقص الله عز وجل علينا من خبرهما ما نستفيد منه علمًا.

قوله: «وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا» ، هذه قراءة شاذة، والمعنى: وكان قدامهم ملك ظالم يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا.

وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: «وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ» ، أي: وأما الغلام فإنه طبع يوم طبع كافرًا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا، والله تعالى قدر أن يبدلهما خيرًا منه؛ فهذه قراءة شاذة لكنها تحمل على أنها تفسير.

ثم قال علي بن عبدالله شيخ المؤلف رحمه الله: «قال لي سفيان: سمعته منه مرتين» ، يعني: من عمرو بن دينار «وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ قِيلَ لِسُفْيَانَ حَفِظْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَسْمَعَهُ مِنْ عَمْرٍو أَوْ تَحَفَّظْتَهُ مِنْ إِنْسَانٍ فَقَالَ: مِمَّنْ أَتَحَفَّظُهُ وَرَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ عَمْرٍو غَيْرِي» يعني: هل رواه أحد غيري عن عمرو؟ «سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ» .

 

}3402{ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ» ؛ لذلك سمي الخضر.

ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أقوالاً في الخضر عليه السلام، قال بعضهم: هو من أولاد نوح عليه السلام، وقال بعضهم: إنه من أولاد آدم عليه السلام، وقال بعضهم: إنه ابن عم فرعون أو ابن عمة موسى عليه السلام، وهذه أقوال كلها من أخبار بني إسرائيل ليس عليها دليل، وقال بعضهم: إنه من المعمرين وأنه عاش وأنه لا يموت إلا في آخر الزمان، والصواب: أنه مات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في آخر حياته أنه لن يبقى أحد ـ ممن كان حيًّا وقتئذ ـ بعد مائة سنة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ» [(821)]، فلو كان حيًّا لمات، ولو كان حيًّا لجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، لأن كل نبي أخذ الله عز وجل عليه العهد والميثاق: لئن بُعِث محمد وأنت حي أن تتبعه؛ فلو كان حيًّا لجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ولما لم يأت دل على أنه ميت.

قال بعضهم: إنه مستثنى من حديث: «فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ» وقالوا: ليس هو على ظهر الأرض بل هو في البحر، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قولان:

القول الأول: إنه ميت.

والقول الثاني: إنه في البحر وإنه حي، والقول الأول هو الصواب.

 

}3403{ قوله: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [البَقَرَة: 58]{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}» يعني: ادخلوا باب البلدة وأنتم تسجدون لله عز وجل خضوعًا وقولوا: حطة؛ يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفرها لنا، لكن من عتوهم وعنادهم بدلوا القول والفعل؛ أما القول فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حنطة، وبعضهم قال: حبة في شعرة سخرية واستهزاء.

والجهمية الذين ينكرون أسماء الله عز وجل وصفاته شابهوا اليهود؛ فاليهود لما قيل لهم: قولوا: حطة، زادوا النون وقالوا: حنطة، والجهمية حرفوا استواء الله عز وجل على العرش، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] فزادوا اللام، قالوا: معنى استوى: استولى.

قال ابن القيم رحمه الله في النونية:

نون اليهود ولام جهمي هما

في وحي رب العرش زائدتان[(822)]

وأما الفعل: أمرهم الله عز وجل أن يدخلوا سجدًا، «فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ» يعني: على مقاعدهم، فاالإست هي المقعدة، وهذا فيه دليل على عتو بني إسرائيل وتعنتهم على أنبيائهم.

 

}3404{ هذا الحديث فيه: أن الله تعالى برأ نبيه وكليمه موسى عليه السلام مما وصمه به بنو إسرائيل من العيب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا» ، يعني: يحب الستر، وجاء في الحديث الآخر: «إن الله حيي ستير» [(823)] فمن أسماء الله عز وجل الحي - من الحياء - ومن أسمائه أيضا: الستير، أما الستار فليس من أسمائه تعالى، لكن يجوز إطلاقه عليه سبحانه من باب الخبر؛ لأن باب الخبر أوسع من باب الدعاء.

قوله: «لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ» . كان موسى عليه السلام إذا أراد أن يغتسل اغتسل وحده، وكان بنو إسرائيل يتساهلون في العورات، فيغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وذكر الشارح رحمه الله أن هذا لعله كان جائزًا في شريعتهم، وهذا ليس بظاهر، بل من المعروف أنهم كانوا يتساهلون في العورات كما أن العرب في الجاهلية كانوا يتساهلون في العورات؛ إذ إن قريشًا لما بنت الكعبة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات جعلوا ينقلون الحجر فقال العباس رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وكان ينقل اللبن: ضع إزارك على كتفك يقيك من الحجارة، وكان الرجال يرفعون أزرهم مظهرين العورة ولا يبالون؛ فلما رفعه النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم سقط مغشيًّا عليه وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: «إزاري إزاري» [(824)] فشد عليه إزاره ولم ير له صلى الله عليه وسلم بعد عورة.

قوله: «مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ» أي: بياض «وَإِمَّا أُدْرَةٌ» ؛ والآدر هو: عظيم الخصيتين «وَإِمَّا آفَةٌ» ، أي: عيب ، «وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا: لِمُوسَى فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ» . كان موسى عليه السلام على عادته يغتسل وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ففر الحجر بثوبه، وهذا آية من آيات الله عز وجل ودليل من دلائل قدرته، فالله عز وجل على كل شيء قدير، [يس: 82]{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}.

لما فر الحجر بثوب موسى عليه السلام ظل يتبعه ويناديه: «ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ» يعني: أعطني ثوبي يا حجر؛ فصار يخاطبه كالعاقل وجعل يمشي وراءه حتى مر على ملأ من بني إسرائيل فجعلوا ينظرون إليه فقالوا: سبحان الله! هو من أحسن الخلق ليس به عيب؛ فبرأه الله عز وجل، وعند ذلك توقف الحجر، فأخذ موسى عليه السلام ثوبه «وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ» ، أي: جعل يضرب الحجر بالعصا من حنقه عليه، وكلما ضربه تأثر حتى صار فيه ندب من ضربه ولهذا قال في الحديث: «فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا» . ندب يعني: حفر، لكن كيف يؤثر العصا في الحجر؟! هذا من قدرة الله العظيم، فهذا حجر أصم لا يتأثر في العادة لكن الله عز وجل خرق العادة بهذه المعجزة؛ حتى يشفي موسى غيظه من هذا الحجر الذي فر بثوبه وجعله يمشي عريانًا؛ «فَذَلِكَ قَوْلُهُ: [الأحزَاب: 69]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا *}» .

 

}3405{ هذا الحديث من رواية عبدالله وهو ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن أبا وائل من أصحابه.

قوله: «قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا» أي: قسم بعض الغنائم في بعض المغازي، وجعل يعطي ضعفاء الإيمان حتى يثبت إيمانهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم لا للهوى ولا للتشهي ولكن لمصلحة الشرع؛ ولذا فإنه صلى الله عليه وسلم في غزوة هوازن أعطى بعض رؤساء القبائل مائة من الإبل، وترك الأنصار ولم يعطهم شيئًا تركهم لإيمانهم؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات قال: «إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ الله فِي النَّارِ» [(825)] وفي لفظ آخر: «مخافة أن يكبه الله عز وجل في النار» [(826)] يعني: مخافة أن يرتدوا، وأما أقوياء الإيمان فلا يعطيهم.

وهذا الرجل لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعطي بعض ضعفاء الإيمان ولا يعطي الأقوياء ظن أن العطية لا تكون إلا حسب التقدم في الإسلام؛ فقال: «إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ» ، فسمعه ابن مسعود رضي الله عنه فقال: «فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ» ، وفي رواية: «فتغير وجهه حتى كان كالصرف» [(827)]، والصرف هو صبغ أحمر يصبغ به الجلود حتى تمنى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه ما أخبره، وهذه الكلمة ردة عن الإسلام، والمعروف أن هذا القائل من الخوارج؛ لكن لا يدرى هل هو ذو الخويصرة التميمي أو غيره، ومثله قول الأنصاري الذي كانت له مزرعة بجوار مزرعة الزبير رضي الله عنه لما كانوا يسقون فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» ، فغضب الأنصاري وقال: أن كان ابن عمتك! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اسق ثم احبس الماء إلى الجدر ثم أرسل إلى جارك» [(828)] فلما أغضب الأنصاري النبي صلى الله عليه وسلم استوفى للزبير رضي الله عنه حقه في صريح الحكم؛ وهو: حبس الماء مقدار ما يغطي الكعب حتى يبلغ الأرض ثم إرساله إلى الجار.

وقيل: إن هذا الرجل كان منافقًا، وقيل: إنه حاطب بن أبي بلتعة، وقيل: إنه ليس بمنافق، ولكن الذي حمله على ذلك شدة الغضب.

والشاهد من الحديث قوله: «َرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» .

وفيه: فضل موسى عليه السلام.

  [الأعرَاف: 138]{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}

[الأعرَاف: 139]{مُتَبَّرٌ} خُسْرَانٌ.

[الإسرَاء: 7]{وَلِيُتَبِّرُوا} يُدَمِّرُوا.

[الإسرَاء: 7]{مَا عَلَوْا} مَا غَلَبُوا.

}3406{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَجْنِي الْكَبَاثَ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالأَْسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ» قَالُوا: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: «وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ رَعَاهَا».

 

هذه الترجمة معقودة لتفسير قوله تعالى: [الأعرَاف: 138-139]{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ *إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}، أي: أخبرهم موسى عليه السلام أن هؤلاء الذين يعكفون على أصنام لهم خاسرون وأنهم هالكون.

فسر قوله تعالى: « {مُتَبَّرٌ}» بقوله: «خُسْرَانٌ» .

وفسر قوله تعالى: « {وَلِيُتَبِّرُوا}» أي: يدمروا ما علوا تدميرًا.

 

}3406{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث جابر رضي الله عنه قال: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَجْنِي الْكَبَاثَ» . والكباث هو ثمر الأراك، ويقال هذا للنضيج منه.

قوله: «عَلَيْكُمْ بِالأَْسْوَدِ مِنْهُ» ، دل على أنه يميز بين أنواعه؛ فثمر الأراك أنواع لا يعرفها إلا الذي يعيش في البرية.

قوله: «وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ رَعَاهَا؟» ، وفي اللفظ الآخر: «كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» [(829)] يعني: أنه ما من نبي إلا ورعى الغنم.

قال العلماء: والحكمة في كون النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم وهي لا تعقل أنه يقوم على رعايتها والصبر عليها واختيار الأنفع لها ومراعاة المتأخر منها؛ فيصير ذلك توطئة لرعاية العقلاء بإرساله إليهم والصبر عليهم ودعوتهم، فيترقى من سياسة الغنم إلى سياسة الدول والأمم.

والشاهد من حديث جابر رضي الله عنه لقصة موسى عليه السلام من جهة عموم قوله: «وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ رَعَاهَا؟» فيدخل موسى عليه السلام في ذلك لأنه من الأنبياء، بل إنه وقع في بعض كتب السُّنة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعث موسى وهو يرعى الغنم» [(830)].

 

ُ 0 / * ) ، + × % ( ' ِ الآْيَةَ

قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْعَوَانُ النَّصَفُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ.

[البَقَرَة: 69]{فَاقِعٌ} صَافٍ.

[البَقَرَة: 71]{لاَ ذَلُولٌ} لَمْ يُذِلَّهَا الْعَمَلُ {تُثِيرُ الأَرْضَ} لَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الأَْرْضَ وَلاَ تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ {مُسْلِمَةً} مِنْ الْعُيُوبِ {لاَ شِيَةَ} بَيَاضٌ.

[البَقَرَة: 69]{صَفْرَاءُ} إِنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ.

وَيُقَالُ صَفْرَاءُ كَقَوْلِهِ {جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} .

[البَقَرَة: 72]{فَادَّارَأْتُمْ} اخْتَلَفْتُمْ.

 

هذه الترجمة لبيان قصة البقرة التي حدثت لبني إسرائيل، ذكر الله تعالى في سورة البقرة: « [البَقَرَة: 67-68]{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ *}» ، يعني: لا صغيرة ولا كبيرة.

وقوله تعالى: ، العوان النصف، أي: نصف بين الصغيرة وبين الكبيرة، وهذا من تعنت بني إسرائيل، ولو أخذوا أية بقرة لأجزأت عنهم، لكن صاروا يُشدّدون [البَقَرَة: 69]{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ *}. شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، قالوا: يا موسى [البَقَرَة: 70]{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}. فجعل الوصف الثالث للتحديد، فقال: [البَقَرَة: 71]{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ *}، أي: ليست مذللة تثير الأرض، ولا تعمل في الزرع والسقي، مسلمة من العيوب ، لا بياض فيها.

قوله: {صَفْرَاءُ}» : فسرت بأنها صفراء تميل إلى السواد.

قوله: ُ $ ِ {فَادَّارَأْتُمْ}» أي: «اخْتَلَفْتُمْ» .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآية. لم يذكر فيه سوى شيء من التفسير عن أبي العالية رحمه الله، وقصة البقرة أوردها آدم بن أبي إياس في «تفسيره» قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: [البَقَرَة: 67]{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}. قال: كان رجل من بني إسرائيل غنيًّا ولم يكن له ولد، وكان له قريب وارث فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى إلى موسى عليه السلام فقال: إن قريبي قُتل وأتى إلي أمر عظيم وإني لا أجد أحدًا يبين لي قاتله غيرك يا نبي الله، فنادى موسى عليه السلام في الناس: من كان عنده علم من هذا فليبينه، فلم يكن عندهم علم، فأوحى الله عز وجل إليه، قل لهم فليذبحوا بقرة، فعجبوا وقالوا: كيف نطلب معرفة من قتل هذا القتيل فنؤمر بذبح بقرة! وكان ما قصه الله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ}، يعني: لا هرمة ولا صغيرة [البَقَرَة: 68]{عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}، أي: نصف بين البكر والهرمة.{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا}، أي: صاف [البَقَرَة: 69]{تَسُرُّ النَّاظِرِينَ *}، أي: تعجبهم [البَقَرَة: 68]{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}.{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ}، أي: لم يذلها العمل {تُثِيرُ الأَرْضَ} يعني: ليست بذلول فتثير الأرض {وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ}. يقول: ولا تعمل في الحرث.{مُسْلِمَةً} أي: من العيوب {لاَ شِيَةَ فِيهَا} ، أي: لا بياض. [البَقَرَة: 71]{قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} قال: ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استرضوا أيّة بقرة كانت لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا فشدّد عليهم ، ولولا أنهم استثنوا فقالوا: [البَقَرَة: 70]{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ *}، لما اهتدوا إليها أبدًا، فبلغنا أنهم لم يجدوها إلا عند عجوز، فأَغَلَت عليهم في الثمن. فقال لهم موسى عليه السلام: أنتم شددتم على أنفسكم فأعطوها ما سألت، فذبحوها فأخذوا عظمًا منها فضربوا به القتيل فعاش فسمى لهم قاتله، ثم مات مكانه؛ فأُخذ قاتله وهو قريبه الذي كان يريد أن يرثه فقتله الله عز وجل على أسوأ عمله» .

ويؤخذ من القصة أنه ينبغي للإنسان أن يقبل شرع الله عز وجل ودينه، وألا يتعنت ولا يبحث عن الحيل التي تؤدي إلى الانسلاخ من الشرع، ولا يحرف النصوص، ولا يتأول، ولا يحتال.

وأن يحذر من التعنتات التي كان يفعلها بنو إسرائيل؛ فإن الله عز وجل قص علينا ذلك لنحذرها؛ لئلا يصيبنا ما أصابهم.

  وَفَاةِ مُوسَى وَذِكْرِهِ بَعْدُ

}3407{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى _ث فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ: قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَنَةٌ قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالآْنَ قَالَ: فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الأَْرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَْحْمَرِ».

قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ: عَنْ هَمَّامٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.

}3408{ أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعَالَمِينَ فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ يَدَهُ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَقَالَ: «لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ».

}3409{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ».

}3410{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُْمَمُ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُْفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ».

 

}3407{ هذا الحديث فيه: ذكر وفاة موسى عليه السلام، وأن الله تعالى أرسل إليه ملك الموت في صورة آدمي، فلما جاءه صكه وَفَقأ عينه، وهذا لا يستغرب؛ لأن موسى عليه السلام كان لا يعرفه ولا يعلم حاله، ولما جاءت الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام في صورة أضياف ولم يعرف حالهم قَدّم لهم الضيافة، فلم تصل أيديهم إلى الضيافة فنكرهم وأوجس منهم خيفة، فأخبروه أنهم ملائكة، وجاءوا أيضًا إلى لوط عليه السلام في صورة بشر، والشاهد أنه لم يعرفهم.

قوله: «صَكَّهُ» ، وفي لفظ آخر: «ففقأ عينه» [(831)].

وفي الحديث: أن الله عز وجل يغفر لصاحب المنزلة عنده كالأنبياء ـ ولا سيما أولو العزم منهم ـ ما لا يكون لغيرهم؛ حيث إن موسى عليه السلام لما صك ملك الموت وفقأ عينه لم يعاتبه الله عز وجل ـ وهذا أمر عظيم ـ وإنما قال للملك: «ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَنَةٌ» ، ومن المعروف أن شعر الثور كثيف، فإذا وضع يده على ظهره كم يكون في يده من شعره؟ لا شك أنه كثير.

قوله: «قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالآْنَ» فوضع الله عز وجل في نفسه أن يقبل، «قَالَ: فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الأَْرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ» . قال بعضهم: فيه استحباب الدفن في الأرض المباركة والأرض التي فيها أناس صالحون؛ أخذًا من سؤال موسى عليه السلام ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة.

 

}3408{ هذا الحديث فيه: النهي عن تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على موسى عليه السلام، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» أي: لا تفضلوني، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى عليه السلام، وأجيب عنه بأجوبة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب التواضع وهضم النفس، ومنها أن صلى الله عليه وسلم نهاه لأنه قالها على وجه التعصب والحمية وانتقاص المفضول، أو أن النهي قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفضل من موسى عليه السلام ثم أخبره الله عز وجل.

قوله: «فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ» ، فيه: إشكال، وهو أن هذه الصعقة تكون في موقف القيامة وليس فيها استثناء، والصعقات ثلاث: الصعقة الأولى صعقة الموت، قال تعالى: [الزُّمَر: 68]{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} وهذه صعقة البعث.

وهناك صعقة ثالثة في موقف القيامة إذا تجلى الله عز وجل لفصل القضاء، ليس فيها موت وإنما هي غشية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «فأكون أول من يُفيق فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي» [(832)] وهذه منقبة لموسى عليه السلام.

فقوله: «مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ» ؛ الصواب: «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» [(833)] لأن هذه الصعقة ليس فيها استثناء، أما الاستثناء ففي صعقة الموت: ُ ئ أ ؤ ء آ  } صلى الله عليه وسلم { « » ف پ ـ ِ ، فانقلب على بعض الرواة فظن أن الاستثناء إنما هو في صعقة التجلي، والاستثناء إنما هو في صعقة الموت، هذا هو الصواب الذي عليه المحققون، وقرره شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وغيرهم.

 

}3409{ بين العلماء أن آدم حجَّ موسى بأمرين:

الأمر الأول: أن موسى عليه السلام لام آدم عليه السلام على الذنب والذنب قد تاب منه، فقال: «أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنْ الْجَنَّةِ» كأن آدم عليه السلام قال: كيف تلومني على ذنب قد تبت منه! والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ فلهذا حج آدم موسى؛ أي: غلبه بالحجة وخصمه.

الأمر الثاني: أن موسى عليه السلام لام آدم عليه السلام على المصيبة التي لحقته بإخراجه من الجنة وإهباطه إلى الأرض، فاحتج آدم عليه السلام بأن الخطيئة مكتوبة ومقدرة عليه وقال: «تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ» ، وفي اللفظ الآخر عند البخاري أيضًا ومسلم: «قبل أن يخلقني بأربعين سنة» [(834)].

والاحتجاج بالقدر على المصيبة جائز ليس فيه مانع، إنما المانع أن يحتج الإنسان بالقدر على الذنب والمعصية، ولو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان حجة لقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، فإذا حلت المصيبة شرع أن يقول: قَدَرُ الله وما شاء فعل، لكن إذا وقع الذنب فإنه لا يحتج بالقدر بل يبادر بالتوبة.

 

}3410{ هذا الحديث مختصر، أتى بالشاهد منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُْفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ» وفيه: كثرة أتباع موسى عليه السلام والحديث طويل، وساقه الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في «كتاب التوحيد» باب «يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب» بطوله، وذكر أن موسى عليه السلام رأى سوادًا سد الأفق، «فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ» ، فقيل له: «انظر فإذا بسواد أعظم، فقيل: هذه أمتك ومنهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب» [(835)] لكن المؤلف رحمه الله اختصر الحديث، وأراد الشاهد في كثرة أتباع موسى عليه السلام.

  قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[التّحْريم: 11- 12]{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ *}

}3411{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ».

 

هذه الترجمة تتعلق بصفوة النساء: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وعائشة، وأدخلها المؤلف رحمه الله في أحاديث الأنبياء؛ لأن آسية ومريم قال بعض العلماء: إنهما نبيتان، وإن كان هذا قول ضعيف.

قال المؤلف رحمه الله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [التّحْريم: 11- 12]{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ *}» ، في هذه الآية ضرب الله مثلاً للمؤمنين بامرأة فرعون، وهي امرأة مؤمنة تحت رجل كافر؛ فدل هذا على أن المرأة المؤمنة لا يضرها كفر كافر ولو كان أقرب الناس إليها إذا تبرأت منه ومن دينه، فهذه آسية بنت مزاحم من النساء المؤمنات التقيات تبرأت من فرعون ومن عمله فلم يضرها قربها منه، كما أن الآية التي قبلها ضرب الله فيها مثلاً للكافرين بأن الكافرة إذا كانت قريبة من المؤمن فإنه لا ينفعها إذا لم تؤمن، فقال سبحانه: [التّحْريم: 10]{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامَرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ *}، أي: خانتاهما في الدين لا في الفراش والعرض؛ فإن الله تعالى صان فُرش الأنبياء عما يدنسها، فهذه امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين تحت رجلين مؤمنين بل نبيين كريمين ولم ينفعهما قرب كل واحدة منهما من نبي لمّا كانت كافرة غير مؤمنة.

}3411{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» . في الحديث: فضل هؤلاء النساء الثلاث آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وعائشة رضي الله عنها.

واستُدل به بعضهم على تفضيل عائشة رضي الله عنها على النساء؛ لأن الثريد أفضل أنواع الطعام؛ لأنه خبز ولحم، فكذلك فضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وقيل: لا يدل ذلك على الأفضلية.

وقد جاء في الأحاديث الأخرى ـ التي سبقت ـ فضل خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وفضل فاطمة أيضًا بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون النساء الفاضلات خمس: مريم بنت عمران عليه الصلاة والسلام، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في أفضلهن؛ فمن العلماء من قال: أفضلهن خديجة رضي الله عنها؛ حيث جاء في شأنها ما لم يأت لغيرها، فإن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «فاقرأ عليها السلام من ربها ومني» [(836)] فهذه منقبة عظيمة، من يصل إليها؟

وأما عائشة رضي الله عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إن جبريل يقرئك السلام» ، فقالت له: وعليه السلام ، ترى ما لا أرى؟![(837)] وموقف خديجة رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم ومؤازرتها له في أول البعثة وتثبيتها له موقف عظيم، وعائشة رضي الله عنها أيضًا صديقة بنت صديق، وهي أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه، حفظت من السنة ونقلت من العلم الشيء الكثير؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن فضل خديجة رضي الله عنها كان في أول الإسلام وعائشة رضي الله عنها فضلها بعد ذلك.

وفاطمة رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيها أنها سيدة نساء أهل الجنة[(838)].

وعلى كل حال فهذه النساء الخمس كلهن فضليات؛ ففي هذا الحديث: «كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ» ، وفي اللفظ الآخر: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» [(839)] فهؤلاء النساء الخمس كلهن كاملات، أما الرجال فكمل منهم كثير.

$ر مسألة: واختلف العلماء، هل في النساء نبية أم لا؟

_خ الجواب: الصواب أنه ليس من النساء نبية، وأن النبوة مختصة بالرجال، وهذا هو الذي عليه جماهير العلماء وعليه المحققون؛ لقول الله عز وجل في كتابه العظيم: [يُوسُف: 109]{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، وقال ابن حزم[(840)]: إن مريم نبية لأن الملائكة كلمتها: [آل عِمرَان: 43]{يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَّبِكِ واسْجُدِي}، وكذلك أم موسى قال: إنها نبية لقوله تعالى: [القَصَص: 7]{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، وسارة زوجة الخليل صلى الله عليه وسلم قال أيضا: إنها نبية لقوله تعالى: [هُود: 71]{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *}، كذلك القرطبي ذهب إلى هذا، وأبو الحسن الأشعري ذهب إلى أن من النساء ست نبيات: حواء، وسارة، وأم موسى، وهاجر، وآسية، ومريم؛ والصواب ـ كما تقدم ـ أنه ليس في النساء نبية، ومريم ابنة عمران ذكر الله تعالى مرتبتها في مقام الامتنان ووصفها بالصديقة، ولو كان لها مرتبة أعلى منها لذكرها في مقام الامتنان، قال: [المَائدة: 75]{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}.

وقال القرطبي: «الصحيح أن مريم نبية؛ لأن الله أوحى إليها بواسطة الملك» [(841)]، والصواب أن هذا لا يدل على أنها نبية.

وكذلك من أدلتهم أن الله لما ذكر مريم في سورة مريم، قال: [مَريَم: 58]{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ}، قال: فهي داخلة في هذا العموم، لكن هذا الاستدلال ضعيف.

ومن فضائل آسية أنها اختارت الموت على الملك ، واختارت العذاب في الدنيا على النعيم؛ لأنها كانت تحت فرعون وهو ملك، فاختارت القتل والعذاب؛ ولهذا لما أظهرت إيمانها قتلها فرعون وتبرأت منه ومن عمله، وقالت: [التّحْريم: 11]{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *}، وظاهر الآية أن الله استجاب لها وبنى لها بيتًا في الجنة.

وأما ما ورد من الوحي في قوله: [القَصَص: 7]{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، فالمراد من الوحي الإلهام، والمراد ألهمها الله أن ترضع ولدها، فإذا خافت عليه ألقته في اليم وربطته بحبل، كما أوحى إلى النحل: [النّحل: 68]{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، يعني: ألهمها، فالوحي يأتي بمعنى الإلهام، ولا يلزم منه أن تكون نبية، وكلام الملائكة لمريم لا يدل على أنها نبية ولا أنها يوحى إليها؛ لكن هذا خاص ببيان فضلها، ولتثبيتها مما حصل من كونها ولدت ولدًا دون أن يمسها بشر.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد