[القَصَص: 76]{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} الآْيَةَ
[القَصَص: 76]{لَتَنُوءُ} لَتُثْقِلُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [القَصَص: 76]{أُولِي الْقُوَّةِ} لاَ يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنْ الرِّجَالِ.
يُقَالُ [القَصَص: 76]{الْفَرِحِينَ *} الْمَرِحِينَ.
[القَصَص: 82]{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} مِثْلُ أَلَمْ تَرَ [الرُّوم: 37]{أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ.
ذكر المؤلف رحمه الله هذه الترجمة ليذكر ما ورد في شأن قارون في الآيات الكريمات، ولم يذكر فيها حديثًا؛ لأنه لم يصح فيها على شرطه حديث فلهذا اكتفى بالآيات التي في سورة القصص: [القَصَص: 76]{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ}. وفيها أن قارون وُصِف بالبغي [القَصَص: 76]{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، أي: إن مفاتيح خزائن الذهب تثقل بالعصبة، وأن قارون حَصّل أموالاً عظيمة وكانت مفاتيح الخزائن تُحمَل على أربعين بغلاً فكل مخزن كان له مفتاح، والمخزن مملوء ذهبًا ابتلاء وامتحاناً؛ ولهذا قال الله تعالى: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، يعني: لا يستطيع أن يرفعها العصبة من الرجال.
ولكن قومه نصحوه خمس نصائح عظيمة، لو عمل بها لكان فيها سعادته.
النصيحة الأولى: قالوا له: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.
النصيحة الثانية: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} يعني: ابتغ بما أعطاك الله الدار الآخرة.
النصيحة الثالثة: {وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، يعني: مع كونك تبتغي وجه الله أنفق ما تحتاج إليه من أمور دنياك.
النصيحة الرابعة: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، أي: أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك.
النصيحة الخامسة: [القَصَص: 77]{وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ}.
وفي قوله تعالى: [القَصَص: 76]{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *}؛ فسر المؤلف الفرحين بالمرحين، فالفرح هنا بمعنى المرح والأشر والبطر، فالفرح يأتي ويراد به: الأشر ، والبطر ، والمرح ، كما في هذه الآية، ويأتي ويراد به السرور من محبة الشيء ، كقوله تعالى: [يُونس: 58]{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ *}، فهو من الأضداد.
وقوله تعالى: « [القَصَص: 82]{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} قال المؤلف إنها بمعنى: «مِثْلُ .
وقوله: « [الرُّوم: 37]{أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ ، ولم يجد المؤلف حديثًا على شرطه فلهذا اكتفى بالآيات.
قوله تعالى: « [القَصَص: 76]{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} ، أي: «لَتُثْقِلُ» .
[الأعرَاف: 85]{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}
إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لأَِنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ وَمِثْلُهُ [يُوسُف: 82]{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وَاسْأَلْ الْعِيرَ يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ.
[هُود: 92]{وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ يُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ حَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا.
قَالَ الظِّهْرِيُّ أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ مَكَانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ.
[الأعرَاف: 92]{يَغْنَوْا} يَعِيشُوا [المَائدة: 26]{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ} تَحْزَنْ [الأعرَاف: 93]{آسَى} أَحْزَنُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: [هُود: 87]{إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ} يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْكَةُ الأَْيْكَةُ.
[الشُّعَرَاء: 189]{يَوْمِ الظُّلَّةِ} إِظْلاَلُ الْغَمَامِ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ.
قوله: «بَاب: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}» ، هذه الترجمة في قصة شعيب صلى الله عليه وسلم، واكتفى المؤلف رحمه الله فيها بالآيات التي جاءت في قصة شعيب صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يجد حديثًا على شرطه.
وقوله تعالى: «{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}» ، يعني: أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبًا، وهو أخوهم في النسب وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ}، فسرها المؤلف رحمه الله بقوله: «إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لأَِنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ» أي: أرسلنا إلى أهل مدين رسولاً، والمؤلف يقول: مثلها مثل: « {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}: وَاسْأَلْ الْعِيرَ يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ» .
وفسر قوله: {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}» بقوله: «لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ يُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ حَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا» ، يعني: لا تهتم بي ولا تلتفت إلي. فقوله تعالى: [هُود: 92]{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ *} يعني: أنكم لم تلتفتوا إلى ما دعوتكم له، والآية في سورة هود حيث قال تعالى: [هُود: 84-89]{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَال ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ *وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ *بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ *قَالُوا ياشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ *قَال ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ *وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ *} إلى قوله: [هُود: 92]{قَال ياقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}.
قوله: «مَكَانَتُهُمْ» ، هكذا وقع؛ والذي في قصة شعيب: [هُود: 93]{ويَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
قوله: « {يَغْنَوْا}: يَعِيشُوا» أي: لما أهلك الله قوم شعيب عليه السلام قال عز وجل: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، يعني: كأن لم يعيشوا.
قوله: «{آسَى}: أَحْزَنُ» . قال الله عز وجل: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}، أي: كيف أحزن، يعني: لا أحزن على قوم كافرين.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: {إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ} : يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ» ، قال الله عز وجل: [هُود: 87]{قَالُوا ياشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ *}، يعني: يكفي أن تنهانا عن عبادة ما يعبد آباؤنا، وتنهانا عن التصرف في أموالنا كأنك حليم رشيد ونحن سفهاء، يستهزئون به ويسخرون منه.
قوله: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْكَةُ الأَْيْكَةُ» ، أي: يرى أن ليكة والأيكة واحد ، وهو الشجر الملتف.
قوله: «{يَوْمِ الظُّلَّةِ}: إِظْلاَلُ الْغَمَامِ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ» قال الله عز وجل: [الشُّعَرَاء: 189]{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}، أي: جاءتهم ظلة، أي: سحابة أظلتهم ثم أمطرتهم نارًا ـ نعوذ بالله ـ.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الصَّافات: 139 142]{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ *}
قَالَ مُجَاهِدٌ: مُذْنِبٌ الْمَشْحُونُ الْمُوقَرُ {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ *} الآْيَةَ.
[الصَّافات: 145-146]{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ *وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ *} مِنْ غَيْرِ ذَاتِ أَصْلٍ الدُّبَّاءِ وَنَحْوِهِ [الصَّافات: 147-148]{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ *فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ *}.
[القَلَم: 48]{وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ *} {كَظِيمٌ} وَهُوَ مَغْمُومٌ.
}3412{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثنِي الأَْعْمَشُ ح حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ» زَادَ مُسَدَّدٌ: «يُونُسَ بْنِ مَتَّى».
}3413{ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ».
}3414{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ فَقَالَ: لاَ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ فَقَامَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ وَقَالَ: تَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَبَا الْقَاسِمِ: إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلاَنٍ لَطَمَ وَجْهِي فَقَالَ: «لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ فَذَكَرَهُ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي».
}3415{ وَلاَ أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
}3416{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى».
هذه الترجمة في قصة يونس عليه السلام وهو نبي كريم أرسله الله إلى أهل نينوى بالموصل بالعراق، وأرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *}» . هذه الآية فيها تصريح بأن يونس رسول كريم ، وأن الله أرسله إلى أمة من الأمم.
قال الله عز وجل: « [الصَّافات: 142]{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ *}، قَالَ مُجَاهِدٌ: مُذْنِبٌ» ، والمليم: يعني: أتى بما يلام عليه.
قال تعالى: [الصَّافات: 140]{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *}. قوله: «الْمَشْحُونُ الْمُوقَرُ» ، يعني: الممتلئ.
قوله عز وجل: « [الصَّافات: 145]{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ}» ، العراء: هو وجه الأرض.
قوله: « [الصَّافات: 146]{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ *}» ، قيل: هي الشجرة التي ليس لها ساق، والصواب أن شجرة اليقطين هي القرع المعروف، وقيل: الحكمة في أن الله أنبت له هذه الشجرة أنها لا يقع عليها حشرة من الحشرات؛ لأن يونس لما جلس في بطن الحوت هذه المدة صار جلده رقيقًا جدًّا، بحيث لو مر الهواء أو حشرة جرحته، فأنبت الله تعالى له هذه الشجرة ليتقوى جلده ويتعود على الجو ويشتد، وهي شجرة القرع، وقيل: هي التين، وقيل: الموز، ولكن الصواب هو القول الأول.
قول الله تعالى: {وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}؛ نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون مثله ، يعني: في التسرع؛ [القَلَم: 48]{إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ *}، يعني: « {كَظِيمٌ} وَهُوَ مَغْمُومٌ» .
وقص الله تعالى علينا خبره في سورة الصافات فقال: [الصَّافات: 139-140]{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *}، يعني: هرب من قومه؛ وذلك أنه دعاهم فردوا عليه دعوته فتوعدهم بالعذاب وخرج، فلما رأوا أمارات العذاب تضرعوا إلى الله واستكانوا فرحمهم الله وكشف عنهم العذاب، وقوم يونس استثناهم الله من القاعدة، فالعادة أجراها الله سبحانه أنه إذا نزل العذاب فلا حيلة ولا تقبل التوبة، فمن شروط التوبة أن تكون قبل نزول العذاب، قال الله تعالى: [غَافر: 84-85]{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ *}، إلا قوم يونس فإنهم آمنوا بعد أن انعقدت أسباب العذاب، فرحمهم الله واستثناهم، قال الله تعالى: [يُونس: 98]{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ *}، يعني: فهم مستثنون، وما عداهم فإنه إذا نزل العذاب أو انعقدت أسباب العذاب فلا تقبل التوبة، فهم ندموا وتابوا، فتاب الله عليهم ، ولكن نبيهم غاضبهم ، وركب في السفينة؛ لكن السفينة كانت ممتلئة ـ قال تعالى: {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}: أي: الممتلئ ـ فقالوا: لابد من إلقاء البعض وإلا غرقت السفينة، وجاء في بعض الآثار أنه قال: إني عبد آبق وسألقي بنفسي، فقالوا: لا؛ إنك نبي كريم، فساهموا ـ يعني: اقترعوا ـ فوقعت القرعة عليه ثلاث مرات، ثم ألقى نفسه فكان في بطن الحوت، ولما خرج من بطن الحوت أرسله الله إلى قومه، فرجع إليهم فوجدهم قد ندموا وتابوا فآمنوا وكانوا مائة ألف أو يزيدون كما قال الله تعالى: [الصَّافات: 147-148]{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ *فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ *}.
}3412{ في هذا الحديث ، وهو حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ» ، وفي اللفظ الآخر من حديث ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى» ، وبنحوه من حديث أبي هريرة، وفي اللفظ الآخر: «من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب» [(842)] ولا يمكن أن يقول هذا نبي، ولو قاله غير نبي فهو كاذب؛ لأن يونس نبي ولا يمكن أن يلحق بالنبي من دونه، والحكمة في هذا ـ والله أعلم ـ أن يونس لما حصل له ما حصل مع قومه قد يتوهم بعض الناس أن يونس لم يصبر وأنه خير منه.
}3413{ قوله: «وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ» ، فيه: دليل على أن أباه اسمه متّى، وقال بعضهم: إن متى اسم أمه.
والصواب ما في الصحيح: أن أباه متّى وليس أمه.
}3414{، }3415{ حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا فيه: قصة اليهودي الذي أقسم فقال: «لاَ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ فَقَامَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ وَقَالَ: تَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا» . فذهب اليهودي يشتكي الأنصاري، «فَقَالَ أَبَا الْقَاسِمِ: إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلاَنٍ لَطَمَ وَجْهِي» فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه قال: والذي اصطفى موسى على البشر، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ» ، وفي لفظ: «لا تفضلوا بين الأولياء» ، لكن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى قطعًا فكيف ينهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن التفضيل؟ وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة منها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا من باب التواضع وهضم النفس.
أو أنه قاله حسمًا لمادة التفضيل بغير دليل.
أو أن الأنصاري لما قال هذا على وجه العصبية نهاه.
أو أنه إن كان على وجه التنقص فممنوع.
أو أن ذلك قبل أن يوحى إليه أنه أفضل من موسى.
قوله: «فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي» سبق في الباب السابق أن المحققين من العلماء كشيخ الإسلام ابن القيم في كتابه « الروح» بين أن هذا من وهم بعض الرواة، وهو قوله: «فَلاَ أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي» ، وأنه التبس على بعض الرواة في الاستثناء صعقة نفخة البعث بصعقة يوم القيامة، وهو الإغماء الذي يحصل للناس في موقف القيامة. يقول الله سبحانه في سورة النمل: [النَّمل: 87]{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، وفي سورة الزمر: [الزُّمَر: 68]{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، وهذه هي التي بها استثناء؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، أما نفخة البعث، وصعقة التجلي فليس فيها استثناء؛ وهذا التبس على بعض الرواة.
وجاء في حديث: «أن النفخ ثلاث مرات» [(843)] لكنه حديث ضعيف جدًّا، في سنده إسماعيل بن رافع، وهو متروك الحديث؛ والصواب نفختان: نفخة الصعق، ونفخة الموت، وليست ثلاثًا.
ونفخة الفزع ونفخة الصعق واحدة، وهي نفخة طويلة يمد إسرافيل بها صوته، فيلتقم الصور ويبدأ الصوت شيئًا فشيئًا، فعند سماع أول من يسمعه يلوي صفحة عنقه ليتمكن من سماعه، ثم يتزايد الصوت، وفي هذه الحالة وفي هذا الوقت يرفع الرجل لقمته إلى فمه فيموت قبل أن تصل اللقمة إلى فمه، وآخر يلوط الحوض لإبله فيموت قبل أن يفرغ من عمله، وآخران يمدان أثواب القماش يتبايعانه فلا ينتهيان حتى يموتا، وآخر يغرس الفسيلة، فالناس مشغولون بدنياهم والساعة تقوم عليهم بغتة.
فيبدأ الصوت شيئًا فشيئًا حتى يتزايد فلا يزال يقوى حتى يموت الناس، ومعروف أن الناس ينزعجون من الصوت عندما يسمعون صفارات الإنذار في الحروب، فيذهبون إلى المخابئ، وصفارات الإنذار هذه شيء يسير جدًّا بالنسبة إلى نفخة الفزع ، وهذه النفخة أولها فزع وآخرها صعق وقال الله [الزُّمَر: 68]{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، فاستثنى الأرواح ، فإنها لا تموت، والحور العين في الجنة. [الزُّمَر: 68]{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى}، وهذه نفخة البعث لا استثناء فيها، [الزُّمَر: 68]{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ *}. وفي نفخة البعث كل الأموات يبعثون، ويحيا بها الخلائق، وبينها وبين الأولى أربعون، قال أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث: «بينهما أربعون» ، فلما سألوه قالوا: «يا أبا هريرة، أربعون سنة؟ قال: أبيت، قيل: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، قيل: أربعون يومًا؟ قال: أبيت» ، يعني: ليس عندي دليل ولا خبر فلا أعرف؛ فالله أعلم هل هي أربعون سنة، أم أربعون شهرًا أم أربعون يومًا؟ ولكن جاء في حديث ضعيف: «أنها أربعون سنة» [(844)] ثم بعد ذلك ينزل الله مطرًا بين النفختين تنبت منه أجساد الناس، فإذا تكامل نباتهم أذن الله لإسرافيل فنفخ في الصور فعادت الأرواح إلى أجسادها ـ فالأرواح باقية لا تموت فإذا خرجت روح المؤمن تنقل إلى الجنة ولها صلة بالبدن، وروح الكافر تنقل إلى النار ولها صلة بالبدن، فتنعم وتعذب الروح مفردة ومتصلة بالبدن، فإذا وقف الناس في موقف القيامة وجاء الله تعالى لفصل القضاء صُعِق الناس، وهذه الصعقة فيها إغماء بدون موت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الناس يصعقون يوم القيامة» ، وهذا تصريح بأنه يوم القيامة: «فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟» [(845)] هذه هي التي فيها الاسثناء؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يكون أول من يفيق من الغاشية ، فيجد موسى صاحيًا آخذًا بقائمة العرش، وهذه منقبة لموسى عليه السلام، والتبس على بعض الرواة فظن أن الاستثناء في صعقة البعث فقال: «فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي» ، فالاستثناء من صعقة التجلي لا من صعقة البعث ـ فصعقة البعث لا استثناء فيها، وصعقة الموت فيها استثناء للأرواح ـ، فالصعقات ثلاث: صعقة الموت ثم بعدها بأربعين صعقة البعث، ثم في موقف القيامة صعقة التجلي ـ وسببها تجلي الرب للقضاء ـ فكل أهل الموقف يصعقون وأول من يفيق نبينا صلى الله عليه وسلم فيجد موسى آخذًا بقائمة من قوائم العرش، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يدري، هل موسى لم يصعق مجازاة له بصعقة يوم الطور ـ لأنه صعق في الدنيا لما تجلى الله للجبل، فجوزي بأنه لا يصعق يوم القيامة ـ أو أنه صعق يوم القيامة فأفاق قبل نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وفي كلتا الحالتين هذه منقبة لموسى وفضيلة؛ لكن القاعدة عند أهل العلم أن الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم له فضائل كثيرة، ومثل ذلك من الفضائل الخاصة قوله صلى الله عليه وسلم: «أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم» [(846)] فالناس يحشرون عراة ، وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، فهذه فضيلة خاصة ومنقبة خاصة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم له مناقب عظيمة؛ فهو أفضل الأنبياء وأفضل المرسلين وفضّله الله بالشفاعة العظمى والمقام المحمود، إلى غيرها من الفضائل.
}3416{ قوله: «لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» . تقدم شرحه في الحديث قبله.
[الأعرَاف: 163]{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}
يَتَعَدَّوْنَ يُجَاوِزُونَ فِي السَّبْتِ {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} شَوَارِعَ [الأعرَاف: 163]{وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ [الأعرَاف: 166]{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ *} بَئِيسٌ شَدِيدٌ.
هذه الترجمة في ذكر القرية التي تعدت حدود الله واصطادت الحوت يوم السبت وأن الناس كانوا ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: الذين فعلوا المنكر.
الطبقة الثانية: الذين نهوا عن المنكر.
الطبقة الثالثة: الذين سكتوا.
فالطبقة التي فعلت المنكر أهلكها الله، فمسخوا قردة وخنازير -والعياذ بالله.
وفيه: دليل على تحريم الحيل، وأن الحيلة لا تبيح الشيء المحرم ، بل قال بعض السلف: إن الحيلة يزداد بها المحتال عذابًا، فهؤلاء أصحاب السبت حرم الله عليهم اصطياد الحوت يوم السبت عقوبة لهم بسبب تعنتهم، فاحتالوا؛ ومن الابتلاء والامتحان صارت الحيتان لا تأتي إلا يوم السبت، وبقية الأيام لا تأتي؛ كما ابتلى الله المؤمنين لما أحرموا، بالصيد، حيث قال الله تعالى [المَائدة: 94]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}، فالمُحرم يحرم عليه الصيد، فابتلاه الله بصيد تناله يده ورمحه، فيقدر على أخذه كالأرنب والظبي والغزال، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فيمتنع عن المحرَّم، {فَمَنِ اعْتَدَى} وتجاوز الحد {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وأصحاب السبت ابتلاهم الله بسبب فسقهم [الأعرَاف: 163]{كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *} فحرم عليهم اصطياد الحوت يوم السبت، وأباح لهم أن يصطادوا الحوت في بقية أيام الأسبوع؛ لكن الله ابتلاهم فجعل الحوت لا يأتي إلا في يوم السبت ليتبين الصادق من الكاذب، ومن يطيع الله ومن يعصيه.
وقوله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} إلى قوله: [الأعرَاف: 163- 166]{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ *}، أي: طالت عليهم المدة واحتاجوا إلى أكل الحوت، فإذا جاء يوم السبت جاءت الحيتان شرعًا ـ أي: شوارع كل واحد يستطيع أن يأخذها ـ وبقية الأيام ليس فيها حوت، فاحتالوا فنصبوا الشراك يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت اصطادتها الشراك فيأخذونها يوم الأحد، وقالوا: ما اصطدنا الحوت يوم السبت، فهذه حيلة لا تبيح المحرم؛ فأهلكهم الله ومسخهم قردة وخنازير.
وفيه: دليل على أن من أنكر المنكر فإنه يسلم من العقوبة والعذاب؛ لأن الطائفة التي أنكرت عليهم سلموا من العقوبة والعذاب، والذين فعلوا المنكر جاءهم العذاب، والذين سكتوا سكت الله عنهم.
لكن الطائفة الساكتة قالت: إن هؤلاء قوم هلكى سيعذبون فلا فائدة من نصيحتهم؛ فقالت الطائفة الأخرى: لابد من النصيحة لأمرين:
أولاً: لنخرج بعذر لنا إلى الله.
ثانيًا: قد يستجيبون فيتقون؛ فلا تيأسوا.
يقول الله تعالى في هذه القصة: [الأعرَاف: 163]{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، أي: يَتَعَدَّوْنَ يُجَاوِزُونَ فِي السَّبْتِ [الأعرَاف: 163]{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}، فسر المؤلف {شُرَّعًا}» بقوله: «شَوَارِعَ، [الأعرَاف: 163]{وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ}» ، أي: لا تأتيهم الحيتان بقية الأسبوع، وعلة ذلك: [الأعرَاف: 163]{كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *}، فهذا عدل من الله وابتلاء بسبب فسقهم فعوقبوا، ومثل ذلك قوله تعالى: [الأنعَام: 146]{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ} ابتلاء وامتحانًا لهم.
ثم بين الله أن طائفة وعظتهم، ونصحتهم، وقالت: اتقوا الله، لا يجوز لكم أن تتعدوا حدود الله فتصطادوا الحوت يوم السبت، فقالت الطائفة الأخرى: [الأعرَاف: 164]{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}، أي: لا توجد فائدة من هؤلاء، لابد أن ينزل بهم العذاب، ولابد أن يهلكهم الله، فردت عليهم الطائفة المنكرة [الأعرَاف: 164-165]{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *}.
فالطائفة المنكرة نجت، فمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ينجيه الله، وهذه الطائفة التي فعلت المنكر مُسخوا قردة وخنازير، [الأعرَاف: 166]{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ *}، قال بعض السلف: مسخ الشباب قردة والشيوخ خنازير ـ نعوذ بالله ـ والممسوخ لا ينسل ولا يُعَقِّبْ بل يعيشون ثلاثة أيام ثم يموتون.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}
الزُّبُرُ الْكُتُبُ وَاحِدُهَا زَبُورٌ زَبَرْتُ كَتَبْتُ [سَبَإ: 10]{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ}.
قَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِّحِي مَعَهُ [سَبَإ: 10-11]{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ *أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} الدُّرُوعَ [سَبَإ: 11]{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} الْمَسَامِيرِ وَالْحَلَقِ، وَلاَ يُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَتَسَلْسَلَ وَلاَ يُعَظِّمْ فَيَفْصِمَ [سَبَإ: 11]{وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *}.
}3417{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام الْقُرْآنُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ وَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}3418{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ؟» قُلْتُ: قَدْ قُلْتُهُ قَالَ: «إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» قَالَ قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ» قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ».
}3419{ حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ النَّفْسُ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ أَوْ كَصَوْمِ الدَّهْرِ قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ بِي قَالَ مِسْعَرٌ: يَعْنِي قُوَّةً قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عليه السلام وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى».
هذه الترجمة في قصة داود عليه السلام وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله النبوة والملك.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}» . الزبور: كتاب أنزله الله على داود ، وهو من الكتب الأربعة العظيمة: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وهذا الكتاب كله مواعظ وأحكام وهو يعمل بشريعة التوراة. وكل الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى كُلفوا بالعمل بالتوراة ومنهم داود وسليمان وزكريا؛ قال الله تعالى: [المَائدة: 44]{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}، حتى نبأ الله عيسى فكان يعمل بالتوراة، ولكن الله خفف في الإنجيل من شريعة التوراة، قال الله عز وجل: [آل عِمرَان: 50]{وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}.
والنبي من الأنبياء قد يوحى إليه في قضية خاصة أو فيما يتعلق بالمؤمنين، والنبي هو الذي ينبأ في نفسه ولا يرسل إلى قوم كفار؛ أما الرسول فهو الذي يرسل إلى قوم كفار يؤمن به بعضهم ويرد دعوته بعضهم، مثل نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ولوط، ومحمد عليهم الصلاة والسلام؛ وأما أنبياء بني إسرائيل الذين كلفوا بالعمل بالتوراة فهم أنبياء لم يرسلوا إلى قوم كفار، مثل يحيى وزكريا وغيرهم.
والمؤلف رحمه الله يبين أنه سمي زبورًا؛ لأنه مكتوب من الكتابة، فقال: «الزُّبُرُ الْكُتُبُ وَاحِدُهَا زَبُورٌ زَبَرْتُ كَتَبْتُ» .
قوله: «قَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِّحِي مَعَهُ» . فَسّر الكلمات التي جاءت في قوله تعالى: [سَبَإ: 10]{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}، يعني: إن داود إذا قرأ الزبور فالجبال والطير كلها تسبح، ولها حنين وأصوات.
وقال عز وجل: [سَبَإ: 10]{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ *}، أي: من خصائصه أن الله تعالى جعل الحديد له لينًا يتصرف فيه كالعجين فيعمل منه دروعًا ويصنع ما يشاء.
قوله: « [سَبَإ: 11]{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}: الدُّرُوعَ» هذا إرشاد من الله عز وجل لداود عليه السلام أن يصنع دروعًا، والدرع: الذي يلبسه الفارس على جسده يتقي به وقع القتال.
قوله عز وجل: « [سَبَإ: 11]{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}»: الْمَسَامِيرِ وَالْحَلَقِ» .
هذا أمر من الله لداود أن يعمل دروعًا وأن يقدر في السرد بأن يجعل للمسمار مقدار فتحته.
قوله: «وَلاَ يُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَتَسَلْسَلَ» أي: يكون المسمار بمقدار الفتحة، وفي لفظ: «لا يُرِق المسمار فيسلس» ، أي: يدور.
وقوله: «وَلاَ يُعَظِّمْ فَيَفْصِمَ» يعني: يكون بمقدار معين.
والبخاري رحمه الله حريص على الفائدة فهو يأتي بكلمات من القرآن ويفسرها، ويأتي أيضًا بالكلمات القريبة منها والمشابهة لها وكل ما له صلة، وهذا الكتاب الجامع كتاب عظيم ضرب في من كل نوع من أنواع العلم بسهم:
ففيه: تفسير.
وفيه: حديث.
وفيه: فقه.
وفيه: لغة.
وفيه: أيضًا علم الرجال.
}3417{ هذا الحديث فيه: أن داود عليه الصلاة والسلام كان يقرأ الزبور ويتعبد إلى الله بقراءته.
قوله: «خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام الْقُرْآنُ» ، القرآن يعني: القراءة، والمراد قراءة الزبور. ويقال: قرآن الإنجيل، وقرآن التوراة، فقرآن مصدر قرأ يقرأ قرآنًا.
قوله: «فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ» . هذا من تخفيف الله له.
وفيه: أن البركة قد تقع في الزمن اليسير؛ فداود يقرأ الزبور قبل أن تسرج دوابه، والقراءة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان، فقد يكون الإنسان في بعض الأحيان شبعانًا فلا تكون القراءة خفيفة عليه وتكون ثقيلة، وقد يكون مشغول الذهن فيكون القرآن عليه ثقيلاً، وقد يكون خالي الذهن فيكون القرآن سهل عليه، فتجده في الزمن اليسير يقرأ الكثير فكذلك داود خفف عليه قراءة الزبور حتى إنه يقرأ قبل أن تسرج دوابه أي: قبل أن يوضع عليها السرج وهو ما يوضع على ظهر الفرس ونحوها تحت الراكب.
قوله: «وَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» . وهذه من فضائل داود عليه عليه السلام أنه كان لا يأكل إلا من عمل يده.
وفيه: فضل الأكل من عمل اليد، فعلى كل إنسان أن يأكل من عمل يده، من صناعة، أو زراعة، أو تجارة؛ وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن أفضل المكاسب وأحلها قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وإن داود كان يأكل من عمل يده» [(847)] كان داود عليه السلام حدادًا يصنع الدروع، وهو نبي كريم، وبعض الناس يعيب المهنة فنقول له: أن تكون حدادًا، أو نجارً،ا أو زارعًا، أو كهربائيًّا، أو سباكًا، أو بناءً، أو تصلح الساعات، أو تكون مبلطًا، أو دهانًا، أو جزارًا؛ لا عيب في هذا، وإنما العيب في كون الإنسان يكسل فيكون عالة على غيره، فهذا داود النبي عليه السلام كان حدادًا، وكان زكريا نجارًا، ونبينا صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، فليس هناك عيب في الحِرَف؛ فينبغي للإنسان أن يكون عنده نشاط.
وبعض الشباب لا يريد إلا وظيفة، ولو ذهب يبيع ويشتري لحصّل خيرًا كثيرًا في ساعات قليلة ويكون حرًّا غير مرتبط، وهذا واقع من يبيعون في الأسواق يُحصّلون خيرًا كثيرًا، فينبغي للإنسان أن يكون عنده همة ولا يأنف من الأعمال ولا من الأشغال ولا من المهن.
}3418{ هذا الحديث فيه: توجيه وإرشاد نبوي كريم للأمة كلها؛ لأن الشريعة عامة وليست خاصة، وهذه القصة حصلت مع عبد الله بن عمرو بن العاص، وهي توجيه للأمة كلها، وعبد الله بن عمرو بن العاص كان شابًّا، وكان عابدًا مجتهدًا وعنده نشاط وقوة، فكان يسرد الصوم، ويقوم الليل، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فجاء إليه، وفي بعض الروايات أنه أرسل إليه ـ وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام لأمته فهو أنصح الناس عليه الصلاة والسلام، لا خير إلا ودلّ الأمة عليه ولا شر إلا وحذرها منه ـ فقال له: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ؟» قال: نعم يا رسول الله، وأنا ما أريد إلا الخير، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ» ؛ ففيه: مشقة، ولو استطعت الآن في شبابك، فبعد ذلك تضعف، فأرشده إلى ما هو الأفضل فقال: «فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ» ، أي: صم بعض الأيام، وأفطر بعض الأيام، وقم بعض الليل، ونم بعض الليل.
قوله: «وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» . أرشده أولاً إلى صوم ثلاثة أيام من كل شهر، اليوم بعشرة أيام، والحسنة بعشرة أمثالها، فمن صام من كل شهر ثلاثة أيام فكأنما صام الدهر، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه؛ وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وأبا الدرداء بصيام ثلاثة أيام من كل شهر سواء أكانت هذه الأيام متتابعة أم متفرقة، وسواء كانت من أول الشهر، أو وسطه، أو آخره؛ فلو صام يومًا من أول الشهر ويومًا من وسطه ويومًا من آخره فلا حرج، ولو صام الإثنين والخميس من أسبوع، والإثنين من الأسبوع الثاني فلا حرج؛ لكن الأفضل إن تيسر أن يجعلها الأيام البيض الثلاثة وهي يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر؛ لحديث أبي ذر: «إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة» [(848)] فإن لم يتيسر فإنه يصومها في أي: وقت من الشهر، من وسطه أو آخره أو أوله متفرقة أو مجتمعة فالأمر في هذا واسع.
قوله: «إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» ، يعني: ثلاثة أيام لا تكفيني فإني، أطيق أكثر من ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» ، يعني: صم ثلث الشهر وأفطر ثلثي الشهر، فقال: «إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» ، أي: لا يكفيني ذلك، «قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ» . وهذا هو الشاهد من الحديث.
وفيه: أن أعدل الصيام وأفضله ـ لمن قدر عليه ولم يمنعه من القيام بالواجبات ـ أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، نصف الدهر. فإذا كان الإنسان متفرغًا وعنده نشاط وقوة ولا يخل بواجبات فإن أحب أن يصوم يومًا ويفطر يومًا فهذا أفضل، وإذا كان عنده مشاغل وعنده أعمال فهذا يختار صوم ثلاثة أيام من كل شهر أو يصوم الإثنين والخميس ولا يشق على نفسه.
قوله: «إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ» ، أي: لا يكفيني أن أصوم يومًا ، وأفطر يومًا أريد أفضل من ذلك؛ لأنه شاب نشيط وقوي ، وهو في وقت شبابه لا يتصور ما سيأتي في المستقبل كيف يكون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» ؛ فدل على أنه ليس هناك أفضل من أنه يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأن هذا هو الحد والنهاية، ولا ينبغي للإنسان أن يزيد على هذا.
وجاء في حديث آخر: «لا صام من صام الدهر» [(849)] وفي لفظ: «لا صام ولا أفطر» [(850)] يعني: لم يصب السنة، وجاء في حديث وإن كان فيه ضعف «أن من صام الدهر ضيقت عليه جهنم» [(851)] فلا يجوز للإنسان صوم الدهر كله؛ فهو إما أن يكون مكروهًا أو محرمًا، وحد النهاية أن يصوم يومًا ويفطر يومًا ـ نصف الدهر ـ وقد جاء عن عبدالله بن عمرو أنه بعد ذلك كبرت سنه وصار يشق عليه أنه يصوم يومًا ويفطر يومًا فتمنى وقال: «يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وهو وإن كان يجوز له أن يترك هذا، لكن لا يريد أن يترك شيئًا اتفق عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد اتفق معه على أنه يصوم يومًا ويفطر يومًا.
}3419{ هذا داود عليه السلام مع العمل الذي كان يعمله وكونه نبيًّا وملكًا ويحكم بين الناس أعطاه الله هذه القوة العظيمة ، حيث كان يصوم يومًا ويفطر يومًا.
قوله: «وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى» ، يعني: في الجهاد، فهذه قوة عظيمة مع ما أعطاه الله من النبوة والملك عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن سرد الصوم يحصل فيه مضار، فمن مضاره أنه إذا فعل ذلك «هَجَمَتْ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ النَّفْسُ» هجمت يعني: غارت العين، ونفهت النفس يعني: ضعفت، ولا ينبغي للإنسان أن يُضعف نفسه بل ينبغي للإنسان أن يحافظ على قوته ونشاطه حتى يؤدي الأعمال الأخرى.
وفيه: أن داود عليه الصلاة والسلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان لا يفر إذا لاقى، وكان يصلي ثلث الليل، وكان يصنع الدروع، وكان يقضي بين الناس، قال الله تعالى: [ص: 26]{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}.
أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا
قَالَ عَلِيٌّ: وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ نَائِمًا.
}3420{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَمْرِو ابْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ».
}3214{ قال عبدالله بن عمرو: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ» ، يعني: النصف الأول ينامه، ثم يقوم ثلثه يعني: السدس الرابع والسدس الخامس وينام السدس السادس حتى يستعين به على أعمال النهار.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما تقول عائشة رضي الله عنها: «ما ألفاه السحر عندي إلا نائمًا» [(852)] يعني: أنها ما وجدته في السحر عندها إلا نائمًا يعني: أنه كان ينام السدس الأخير، وعلى هذا فيوافق فعل داود عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث ابن عباس: «إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام يصلي» [(853)]، وجاء في الحديث الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يصلي السدس الأخير، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فإذا قضى صلاته نظر فإن كنت يقظى تحدَّث معي وإن كنت نائمة اضطجع[(854)]؛ فهذا يدل على أنه قد ينام السدس الأخير أحيانًا فيوافق فعل داود عليه السلام وقد يصلي السدس الأخير، وبكل حال فالنصف الأخير من الليل كله فاضل بأسداسه الثلاثة السدس الرابع والخامس والسادس.
والسدس الخامس والسادس داخل في حديث: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» [(855)].
وقوله: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» ، يعني: لمن لم يشق عليه ولم يمنعه من الواجبات الأخرى، أما إذا كان يشق عليه أو يخل بالواجبات الأخرى فإنه يصوم ثلاثة أيام من كل شهر أو يصوم الإثنين والخميس أو يصوم يومًا ويفطر يومين على حسب حاله واستطاعته.
وهذا الحديث فيه: بيان أن أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود.
[ص:17- 20]{وَفَصْلَ الْخِطَابِ *}
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَهْمُ فِي الْقَضَاءِ [ص: 21- 22]{وَلاَ تُشْطِطْ} لاَ تُسْرِفْ.
[ص: 22-23]{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ *} يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نَعْجَةٌ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا شَاةٌ {وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} مِثْلُ {وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ} ضَمَّهَا.
[ص: 23]{فِي الْخِطَابِ *} يُقَالُ الْمُحَاوَرَةُ {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} الشُّرَكَاءِ [ص: 24]{أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ.
وَقَرَأَ عُمَرُ فَتَّنَّاهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ [ص: 24]{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *}.
}3421{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَوَّامَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قُلْتُ: لاِبْنِ عَبَّاسٍ أَنَسْجُدُ فِي ص فَقَرَأَ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} حَتَّى أَتَى [الأنعَام:84- 90]{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ.
}3422{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَيْسَ {ص} مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا.
هذه الترجمة أيضًا تتعلق بداود عليه السلام، وفسر المؤلف رحمه الله فيها الكلمات التي جاءت في الآيات الكريمة في سورة ص.
قال الله تعالى: «{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ}» الأيد: القوة، وذو الأيد يعني: أعطاه الله قوة.
وقوله: «{إِنَّهُ أَوَّابٌ}» أي: رجاّع إلى الله منيب إليه.
وقوله: «{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ *}» فالله تعالى سخر له الجبال تسبح معه أول النهار وآخره، وهذا من آيات الله أن الجبال الصم تسبح مع داود صباحًا ومساءً.
وقوله: «{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ *}» ، أي: والطير مسخرة له، تسمع وتطيع وتمتثل أمره، فأعطاه الله الملك والنبوة وكذلك سليمان ابنه.
وقوله: «{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}» ، يعني: قوينا ملكه.
وقوله: «{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ}» ، أي: آتاه الله العلم النافع وهو النبوة.
وقوله: «{وَفَصْلَ الْخِطَابِ}» ، قيل: المحاورة، وقال بعضهم: فصل الخطاب هي الحكمة، والنبوة التي آتاه الله إياها، وقال البخاري رحمه الله: «قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَهْمُ فِي الْقَضَاءِ» ، وقيل: فصل الخطاب: العدل في الحكم، وقال بعضهم: هي قول: أما بعد؛ فأول من قال: أما بعد ـ داود، كما جاء في حديث: «أول من قال: أما بعد داود، وهو فصل الخطاب» . أخرجه ابن أبي حاتم[(856)] لكن الحديث لا يصح ولو صح لكان فصلاً، وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي.
قوله تعالى: « [ص: 22-23]{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ *}» ، فسر النعجة بالمرأة فقال: «يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نَعْجَةٌ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا شَاةٌ» .
وقوله تعالى: «{وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا}» ، يعني: «ضَمَّهَا» إلي «مِثْلُ {وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ}» .
ومعنى الآية أن خصمين اختصما إلى داود، أحدهما له تسع وتسعون امرأة وواحد له امرأة واحدة {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} يريد أن يضمها إلى التسع والتسعين.
وقوله تعالى: «{وَعَزَّنِي}» يعني: «غَلَبَنِي صَارَ أَعَزَّ مِنِّي أَعْزَزْتُهُ جَعَلْتُهُ عَزِيزًا» .
قوله: « [ص: 23]{فِي الْخِطَابِ *} يُقَالُ الْمُحَاوَرَةُ» ، يعني: أقوى مني في الحجة والمحاورة، فأجاب داود {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}، أي: ظلمك لأنه يريد أن يضم نعجتك؛ لأنه الأقوى منك.
قوله: «{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} الشُّرَكَاءِ» ، أي: كثير من الشركاء يبغي بعضهم على بعض {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، استثناهم الله؛ لأنهم لا يبغون على غيرهم ولا يتعدون.
قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ» ، أي: قول الله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} يعني: اختبرناه، [ص: 22]{قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}، يعني: أنت احتجبت عنا ولابد أن تحكم بيننا؛ ثم بعد ذلك لما قال أحدهما: [ص: 23]{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ}، لم يسمع داود حجة الثاني فقال: [ص: 24]{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}، فلهذا قال الله تعالى: [ص: 24]{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *}، وما ذكر من أن هذا الاستغفار أنه كان بسبب أن داود عليه السلام رأى امرأة أحد الجنود فأعجبته ، وأنه أرسل زوجها للجهاد حتى قتل ثم تزوجها فهذا باطل ومن القصص الإسرائيلية التي لا تصح.
قوله: «وَقَرَأَ عُمَرُ فَتَّنَّاهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ [ص: 24]{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *}» ، وهي قراءة.
}3421{ في هذا الحديث: بيان مشروعية سجدة سورة ص؛ لأن داود عليه السلام سجدها، والله تعالى أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فقال: [الأنعَام: 90]{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، فأمره أن يقتدي بالأنبياء ومنهم داود، ومن الاقتداء به أن نقتدي به في سجوده، وبعض العلماء قال: إنها توبة نبي وليست سجدة.
}3422{ هذا اجتهاد من ابن عباس حيث يقول: «لَيْسَ {ص} مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ» ، أي: ليست من السجدات المؤكدة.
قوله: «وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا» ، فيكفي في تأكيد السجود أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها، فما دام النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها فيكفينا هذا.
فالصواب أن في {ص} سجدة، وهناك روايتان عن الإمام أحمد[(857)] إحداهما أنه لو سجد في الصلاة هذه السجدة ما صحت الصلاة.
والصواب: أن الصلاة صحيحة وأنها سجدة.
والحديث: صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها، ولأنه سجدها داود، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بداود ومن معه من الأنبياء، ومن الاقتداء بهم الاقتداء بهم في هذه السجدة.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
[ص: 30]{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *}
الرَّاجِعُ الْمُنِيبُ.
وَقَوْلِهِ {هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي}.
وَقَوْلِهِ [البَقَرَة: 102]{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ الْحَدِيدِ [سَبَإ: 11- 13]{مِنْ مَحَارِيبَ}.
قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ {وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} كَالْحِيَاضِ لِلإِْبِلِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنْ الأَْرْضِ [سَبَإ: 13-14]{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ *فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَآبَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ *} الأَْرَضَةُ {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} عَصَاهُ [سَبَإ: 14]{فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ *}.
[ص: 32]{حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 33]{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ *} يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا الأَْصْفَادُ الْوَثَاقُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {الصَّافِنَاتُ} صَفَنَ الْفَرَسُ رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ [ص: 31]{الْجِيَادُ *} السِّرَاعُ {جَسَدًا} شَيْطَانًا {رُخَاءً} طَيِّبَةً [ص: 36]{حَيْثُ أَصَابَ *} حَيْثُ شَاءَ {فَامْنُنْ} أَعْطِ [ص: 39]{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ *} بِغَيْرِ حَرَجٍ.
}3423{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاَتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ [ص: 35]{وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا».
{عِفْرِيتٌ} مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَةُ.
}3424{ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلاَّ وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
قَالَ شُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: تِسْعِينَ وَهُوَ أَصَحُّ.