}3425{ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ ثُمَّ قَالَ: حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ وَالأَْرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ».
}3426{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ».
}3427{ وَقَالَ: كَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتْ: إلأُْخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ: الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى».
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةُ.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *} » . هذه الترجمة معقودة لأخبار سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وذكر المؤلف رحمه الله ما جاء من خبره في القرآن الكريم، وفسر معاني الكلمات التي قد يشكل معناها من باب الفائدة لطالب العلم، ثم أتبع ذلك بالأحاديث.
فقوله تعالى: «{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}» ، أي: أن الله تعالى وهب لداود سليمان وهو نبي كريم، وكل منهما آتاه الله الملك والحكمة فكلاهما نبي ملك.
قوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ}» مدحٌ، فمدحه الله وأثنى عليه، وهذه هي السعادة أن أثنى الله عليه، والعبودية هي أكمل وصف للمخلوق.
قوله: « ُ ذ د ء للهف! ! ِ » يعني: أن سليمان رجّاع إلى الله؛ ولهذا فسره المؤلف بقوله: «الرَّاجِعُ الْمُنِيبُ» فالأواب هو المنيب إلى الله الذي يرجع إليه ويتوب إليه ويستغفر ربه من ذنوبه.
وقوله: « ُ ف پ ـ لله ْ ّ ِ » ، يعني: أن سليمان سأل الله عز وجل أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب الله له ووهب له الريح مسخرة له؛ فكان سليمان يركب بساط فتطير به الريح وتذهب به حيث شاء، ذهابها شهر ورجوعها شهر، وهذا مُلْكٌ أعطاه الله سليمان ولم يعطه أحدًا بعده، وكذلك سخر له الشياطين ولم تسخر لأحد بعده؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سلط عليه عفريت أراد أن يربطه بسارية من سرايا المسجد، فذكر قول سليمان: ُ ف پ ـ لله ْ ّ ِ » ، فخشي أن يشاركه فأطلقه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أيضًا ما ورد من خبر سليمان في سورة البقرة في قول الله تعالى: [البَقَرَة: 102]{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، يعني: السحرة اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر؛ ولهذا قال الله تعالى: [البَقَرَة: 102]{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}.
ثم ذكر أيضًا ما جاء من خبر سليمان في سورة سبأ في قوله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}، هذا الملك الذي أعطاه الله سليمان ولم يعطه أحدًا بعده حيث سخر له الريح ذهابها شهر، ورواحها شهر، [سَبَإ: 12]{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} فسره البخاري بقوله: «أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ الْحَدِيدِ» ، أي: أن الحديد أذابه الله له فصار مثل الرصاص المذاب يتصرف فيه كيفما شاء.
وقوله تعالى: «{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ}» . هذا من الملك الذي أعطاه الله لسليمان، ولم يعطه أحدا غيره وهو أن الجن يعملون بين يديه ما يشاء.
قوله تعالى: «{مَحَارِيبَ}» ؛ فسرها البخاري بقوله: «قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ» ، أي: إذا أراد أن يبنوا له قصورًا بنوا له بنيانًا كالقصر في وقت وجيز.
وقوله: {وَتَمَاثِيلَ}» فالتماثيل كانت مباحة في شرع سليمان عليه الصلاة والسلام، فكانوا يبنون له التماثيل.
وقوله: «{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}: كَالْحِيَاضِ لِلإِْبِلِ» ، أي: جفنة عظيمة كحياض الإبل يكون فيها الطعام؛ وقال البخاري رحمه الله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنْ الأَْرْضِ» .
وقوله تعالى: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}» ، أي: يصنعون القدور العظيمة الثابتة في الأرض.
قوله تعالى: {إِلاَّ دَآبَّةُ الأَرْضِ}» . دابة الأرض هي «الأَْرَضَةُ» ، وهي من الحشرات الصغيرة التي تأكل الأشياء، فسليمان عليه السلام كان يصلي وكان يتكئ على عصاه؛ فكانت الشياطين تعمل وتشتغل فمات ولم يعلموا أنه ميت، بل كانوا يظنون أنه يصلي، حتى أكلت الأرضة العصا، فسقطت العصا، فسقط سليمان، فعرفوا أنه ميت؛ وهذا فيه: دليل على أن الجن لا يعلمون الغيب.
قوله: « [سَبَإ: 14]{فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ *}» و « ُ أ ئ ء »ـ! ! ِ » هو: الشغل بالليل والنهار.
والمؤلف رحمه الله فسر الكلمات التي في سورة ص، قال الله عز وجل: [ص: 32]{حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}، فسرها البخاري بقوله: «من ذكر ربي» .
وقوله: « [ص: 33]{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ *}» السوق: جمع ساق، والأعناق جمع عنق، والمؤلف رحمه الله فسرها بقوله: «يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا» ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، خرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، وزاد فيه: «حبًّا لها» ، والعرف: الشعر الذي يكون على رقبة الفرس، وهذا القول الأول في معنى الآية اختاره البخاري وهو غير المشهور.
القول الثاني ـ وهو المشهور: أن المراد بقوله: [ص: 33]{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ *} قطع رقابها وسيقانها بالسيف؛ لأنها ألهته وشغلته عن الصلاة، وكان هذا جائزًا في شرع سليمان ولهذا روي من طريق الحسن: «كشف عراقيبها وضرب أعناقها وقال: لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى» [(858)]، وهذا هو الراجح.
قوله: «{وَالشَّيْاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ *}» . الشياطين سُخّروا له؛ فمنهم من يبني له القصور، ومنهم من يغوص في البحار ويستخرج له اللآلئ والجواهر، {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ *}، أي: في الوثاق أي: عاقبهم سليمان فربط أيديهم إلى الأعناق بالوثاق.
وقوله تعالى: «{الصَّافِنَاتُ}» ، هي الخيل، سميت بذلك مِنْ: «صَفَنَ الْفَرَسُ رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ» .
وقوله: « ُ ة ء ـف! ! ِ السِّرَاعُ» . أي: الخيل السريعة.
قوله: « {جَسَدًا}، شَيْطَانًا» ، فالله تعالى فتن سليمان وابتلاه، فزال ملكه فترة فسقط خاتم الملك وأخذه شيطان وألقي عليه شبه سليمان وجلس على كرسيه.
قال تعالى: « [ص: 34]{جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ *}» يعني: أناب سليمان إلى الله ورجع إليه فرد الله عليه ملكه.
قوله: «{رُخَاءً} طَيِّبَةً [ص: 36]{حَيْثُ أَصَابَ *} حَيْثُ شَاءَ» ، أي: تجري به الريح الطيبة إلى حيث أراد.
قوله: « أَعْطِ» ، شرع الله لسليمان أن يعطي من شاء ويمنع من شاء.
}3423{ هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الليل فتسلط عليه شيطان، وأن الله سلّمه منه وأمكنه منه، وإذا كان الشيطان تسلط على نبي الله وهو أشرف الخلق فغيره من باب أولى، وفي الحديث الآخر: «إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي » [(859)] فمن خُبْث الشيطان وشدة عداوته أتى بشواظ من نار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجعله في وجهه ليحرقه.
قوله: «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ» ، يعني: تعرض لي فلتة ، أي: بغتة «لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاَتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ» ، وفي اللفظ الآخر: «فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين» [(860)].
قوله: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ» ، يعني: على عمود من عُمُد المسجد؛ «حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ [ص: 35]{وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا»» ، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تفلّت عليه هذا العفريت وأمسك به أراد أن يربطه بسارية من سواري المسجد؛ حتى يلعب به صبيان المدينة ، فخشي أن يكون هذا مشاركة لسليمان في ملكه؛ لأن سليمان هو الذي سُخّرت له الشياطين.
فَسّر البخاري كلمة «{عِفْرِيتٌ}» فقال: «مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ» ؛ فالمتمرد من الإنس يسمى عفريتًا ، والمتمرد من الجن يسمى عفريتًا ، «مثل زبنية جماعة زبانية» ، أي: مثل كلمة زبنية الجمع لها زبانية.
}3424{ هذا الحديث فيه: أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان له تسعون امرأة، وهذا يدل على إباحة تعدد الزوجات إلى مائة في شريعة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، وسليمان أراد أن يطوف على تسعين امرأة من نسائه، يعني: يجامعهن في ليلة واحدة.
وفيه: ما عليه اليهود من التعنت في طعنهم على هذه الأمة تعدد أربع زوجات، وطعنهم على نبيها بتسع، ولا ينظرون إلى أنبيائهم ، كما أن اليهود والنصارى يعيبون على المسلمين تعدد أربع زوجات ولا يرون بأسا باتخاذ الخليلات ولو إلى مائة، أما الزواج فلا يكون له إلا زوجة واحدة وهذا من تعنتهم.
وفيه: أن سليمان عليه الصلاة والسلام له عناية واهتمام بالجهاد في سبيل الله، فأراد أن يطوف على تسعين امرأة وقال: «تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فلم يرد الدنيا، بل أراد الجهاد في سبيل الله، «فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ» ، والصاحب هو المَلَك؛ ففي رواية: «قال له الملك: قل: إن شاء الله. فلم يقل» [(861)] وفي رواية: «فنسي» [(862)] فلما لم يقل: إن شاء الله طاف على تسعين امرأة في ليلة واحدة فلم تحمل إلا واحدة ، وولدت نصف إنسان، ففيه عاقبة الإخلال بالآداب الشرعية، ولو كان المخل بها نبيًّا.
وفيه: أنه ينبغي للمسلم أن يقيد أعماله بالمشيئة، قال الله تعالى [الكهف: 23-24]{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا *}.
وفيه: ما كان عليه نبي الله سليمان من القوة العظيمة والقدرة على جماع تسعين امرأة، فالأنبياء أعطاهم الله من القوة ما ليس لغيرهم وأبلغ من ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، مع ما عنده من قلة المأكل والمشرب واشتغاله بالدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة، ومع ذلك طاف على نسائه جميعًا في وقت واحد، فالأنبياء أعطوا من القوة ما لم يعط غيرهم، وهذا يدل على قوة الفحولة وكمال الرجولة وصحة البنية، وفي اللفظ الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان دركًا لحاجته» [(863)] أي: لو قال سليمان: إن شاء الله لكان دركًا لحاجته، وولد له تسعون ولدًا يجاهدون في سبيل الله.
}3425{ هذا الحديث ليس فيه ذكر سليمان عليه السلام، لكن فيه: إشارة إلى أن سليمان هو الذي جدد المسجد الأقصى، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» ، وهو مسجد إبراهيم، وهو أفضل المساجد، «قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ» ، أي: المسجد الحرام بني أولاً ثم بعد أربعين سنة بني المسجد الأقصى، وبناه يعقوب عليه السلام، ثم بني المسجد النبوي بالمدينة بعده بزمان طويل. وهذه تسمى مساجد الأنبياء وهي: المسجد الحرام وهو مسجد إبراهيم عليه السلام، ومسجد المدينة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى مسجد يعقوب عليه السلام، ويعقوب هو حفيد إبراهيم، فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
قوله: «ثُمَّ قَالَ: حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ وَالأَْرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ» ، يعني: كل الأرض مصلَّى، وهذا من خصائص هذه الأمة أن جعل الله لها الأرض كلها مسجدًا وطهورًا، بخلاف الأمم السابقة؛ فإنهم كانوا لا يصلون إلا في أماكن مخصصة للعبادة.
والحديث ـ كما قدمنا ـ ليس فيه ذكر سليمان عليه السلام، ولكن كأن الحديث أشار إلى أن سليمان عليه السلام جدد المسجد الأقصى، والذي بناه يعقوب عليه السلام.
}3426{، }3427{ هذان حديثان:
الحديث الأول: «مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ» ، أي: في دعوتهم إلى الإسلام «كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ» ، اختصره المؤلف، وبقية الحديث: «فأنا آخذكم بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون مني وتقحمون فيها» [(864)] فهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لأناس، يدعوهم إلى التوحيد وإلى الإيمان وهم يتفلتون منه ولا يقبلون دعوته، ويشركون بالله، والحُجَز جمع حجزة وهي معقد الإزار.
وقوله: «فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ» . المعنى: أنهم يعملون الشرك والمعاصي، والنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بحجزهم وهم يتفلتون منه.
الحديث الثاني: «كَانَتْ امْرَأَتَانِ» من بني إسرائيل في زمن سليمان وداود _ث، «مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا» ، كأنهما ذهبتا إلى البرية وكل واحدة منهما معها ابن لها فانشغلتا بالرعي أو غير ذلك، حتى «جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا» ، أي: أخذ ابن إحدى المرأتين وترك الآخر، فجاءت التي أُخذ ابنها فغارت من الأخرى، كيف يأخذ الذئب ابني ويترك ابنها؟ فادعت على صاحبتها أنه ابنها، «فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتْ: إلأُْخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ» ، أي: كل واحدة تقول للأخرى: إنما أكل الذئب ابنك، «فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى» أي: كان له قرائن رآها فقضى به للكبرى، «فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا» ، يريد بذلك أن يستخرج القرينة وأن يعرفها، «فَقَالَتْ: الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا» ، أي: لا أريده ما دام أن الأمر فيه شق بالسكين، وقالت الكبرى: أعطني النصف، «فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» ؛ لأن الصغرى رحمته ولم تقبل أن يُشق بالسكين، فعرف أنه ابنها، والثانية لما قالت: شق، رأى أنها ليس عندها رحمة به فعرف أنه ليس بابنها، فقضى به للمرأة الصغرى.
وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز قول الحاكم: أفعل كذا وهو لا يريد أن يفعله، ولهذا ترجم النسائي على هذا الحديث فقال: «باب قول الحاكم: أفعل كذا وهو لا يريد أن يفعله» ؛ لأن سليمان طلب السكين وهو لا يريد أن يشقه بينهما، ولكن يريد أن يعرف من هي أمه، فالتي ترحمه ولا تريد أن يقطع فهي أمه، والتي توافق فهذه ليست أمه.
وفيه: من الفوائد أيضًا: عدم اعتبار الإقرار إذا كانت القرينة على خلافه، فالصغرى أقرت أنه ابن الأخرى، لكن لا يعتبر هذا إقرارًا؛ لأن القرينة على خلافه؛ لذلك ترجم النسائي على هذا الحديث أيضًا فقال: «عدم اعتبار الإقرار إذا ثبتت القرينة على خلافه» .
وفي هذه القصة وقصة الحرث أنزل الله تعالى: {وَكُلاًّ} ، أي: داود وسليمان [الأنبيَاء: 78- 79]{آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
قوله: «وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ» . إن: نافية، بمعنى ما، والمعنى: والله ما سمعت بالسكين إلا يومئذ.
قوله: «وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةُ» ، أي: كانوا يسمون السكين المدية، لكن لما جاءت في الحديث عرفوا أنها تسمى السكين.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
[لقمَان:12- 18]{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ *}
[لقمَان: 18]{وَلاَ تُصَعِّرْ} الإِْعْرَاضُ بِالْوَجْهِ.
}3428{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَنَزَلَتْ [لقمَان: 13]{لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *}.
}3429{ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ [الأنعَام: 82]{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ، قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: [لقمَان: 13]{يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *}.
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لأخبار لقمان، ومناسبة الترجمة لحديث الأنبياء أن لقمان اختلفوا فيه: هل هو نبي أم عبد صالح؟ والصواب: أنه عبد صالح، قيل: إنه كان في زمن داود عليه السلام، وقيل: في زمن إبراهيم عليه السلام، والصواب: أنه كان في زمن داود عليه السلام، فلما كان مُختَلفًا فيه: هل هو نبي أم عبد صالح؟ ذُكر في حديث الأنبياء، كما ذُكرت مريم وآسية بنت مزاحم، للاختلاف فيهما: هل هما نبيتان أو صِدِّيقتان؟
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [لقمَان:12- 18]{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ *}» . في هذه الآيات منقبة للقمان؛ إذ آتاه الله الحكمة، والحكمة: هي الفقه في الدين، وذكر الله عز وجل وصية لقمان لابنه، حيث وصاه بالبعد عن الشرك وملازمة التوحيد، وبين له أن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء، وأن الله لطيف خبير، وأمره بالمحافظة على الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الدعوة وأن ذلك من عزم الأمور، وأمره بالتواضع ومجانبة الكبر، ومن مظاهر التواضع أن يمشي مشيًا مقتصدًا معتدلاً، ليس فيه تباطؤ ولا إسراع ولا تمايل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي مشيًا كأنما ينحدر من صبب[(865)]، ووصاه أن يخفض من صوته.
وهذه الوصية ساقها الله تعالى على لسان لقمان للثناء عليه ولبيان فضله، وهي وصية عظيمة ينبغي العمل بها، فهي وصية من لقمان لابنه ولغيره.
قوله: « {وَلاَ تُصَعِّرْ}: الإعراض بالوجه» فسر المؤلف رحمه الله التصعير بالإعراض بالوجه، يعني: لا تُمِل الوجه تكبرًا.
}3428{، }3429{ هذا الحديث ساقه المؤلف من طريقين في بيان معنى الظلم، وهذا من القرآن الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من التفاسير المرفوعة حيث فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك.
قوله: «لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ» ، وفي الحديث الثاني: «شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ» أي: شق ذلك على الصحابة، وحملوا الظلم على إطلاقه، بأنواعه الثلاث:
الأول: الشرك.
الثاني: ظلم العبد لنفسه بالمعاصي.
الثالث: ظلم الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
فظنوا أن الظلم في الآية على إطلاقه، ولا أحد يسلم من المعاصي، فلابد أن يقع الإنسان في هفوة أو زلة؛ فيكون ظالمًا لنفسه، والله تعالى اشترط في المؤمنين الذين لهم الأمن والهداية ألا يخلطوا إيمانهم بظلم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالظلم الشرك خاصة، وأن من يسلم من الشرك فله الأمن والهداية، وليس المراد الظلم على إطلاقه.
فالمراد بالظلم في الآية الشرك خاصة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: [لقمَان: 13]{يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *}» فهذه الآية مما فسره النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: « {الَّذِينَ آمَنُوا}» أي: وحدوا الله.
وقوله: « {وَلَمْ يَلْبِسُوا}» أي: ولم يخلطوا.
وقوله: « {أَيْمَانِهِمْ}» أي: توحيدهم.
وقوله: « {بِظُلْمٍ}» أي: بشرك.
وقوله: « [الأنعَام: 82]{أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *}» فمن سلم إيمانه من الظلم فله الأمن من العذاب في الآخرة، وله الهداية في الدنيا، ومن سلم إيمانه من أنواع الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم النفس بالمعاصي، وظلم العباد في دمائهم وأموالهم وأعراضهم فله الهداية التامة في الدنيا، وله الأمن من العذاب في الآخرة، فيدخل الجنة من أول وهلة، فضلاً من الله تعالى وإحسانًا. ومن سلم من الظلم الأكبر وهو الشرك، ولكنه لم يسلم من الظلم الأصغر من المعاصي والكبائر فله أمن ناقص وهداية ناقصة، أي: له الأمن من الخلود في النار، ولكن قد يدخلها، وقد يُعفى عنه، وإذا دخل النار فلابد له من دخول الجنة إن عاجلاً أو آجلاً.
[يس: 13]{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} الآْيَةَ
قَالَ مُجَاهِدٌ: [يس: 14]{فَعَزَّزْنَا} شَدَّدْنَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [يس: 19]{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} مَصَائِبُكُمْ.
قوله: «باب [يس: 13]{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} الآية» هذه الآية من سورة يس، في قصة الرسل الثلاثة الذين كانوا في قرية أنطاكية، كما ذكر ابن إسحاق وغيره.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «القرية المراد بها أنطاكية فيما ذكر ابن إسحاق ووهب في «المبتدأ» ، ولعلها كانت مدينة بالقرب من هذه الموجودة؛ لأن الله أخبر أنه أهلك أهلها، وليس لذلك أثر في هذه المدينة الموجودة الآن. ولم يذكر المصنف في ذلك حديثًا مرفوعًا، وقد روى الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعًا: «السبق ثلاثة: يوشع إلى موسى، وصاحب يس إلى عيسى، وعلي إلى محمد صلى الله عليه وسلم» وفي إسناده حسين بن حسين الأشقر، وهو ضعيف، فإن ثبت دل على أن القصة كانت في زمن عيسى أو بعده، وصنيع المصنف يقتضي أنها قبل عيسى» اهـ.
قال الله تعالى: [يس: 13-14]{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ *إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ *}، أي: أرسل الله لهذه القرية ثلاثة رسل، فأرسل الله إليهم أولاً اثنين، ثم قواهما بثالث، [يس: 14]{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ *}، أي: قال الرسل الثلاثة لأهل هذه القرية: إنا رسل الله إليكم، فردوا عليهم بالتكذيب، وقالوا للرسل محتجين عليهم: [يس: 15]{مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا}، أي: ما أنتم أيها المدعون للرسالة إلا بشر مثلنا، ولو كنتم رسلاً كما تزعمون لكنتم ملائكة وإلا فما الذي يميزكم عنا حتى نصدقكم به أنكم رسل؟! وزادوا في تكذيبهم فقالوا: [يس: 15]{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ *}، أي: وما أنزل الرحمن إليكم رسالة ولا كتابًا ولا أمركم بشيء وأنتم تكذبون فيما تقولون.
فردوا عليهم: [يس: 16-17]{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ *وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ *}، فقال المكذبون: [يس: 18]{إِنَّا تَطَيَّرْنَا}، أي: تشاءمنا بكم كما أخبر الله عن آل فرعون أنهم قالوا: [الأعرَاف: 131]{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، ثم قالوا: [يس: 18]{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ *}، أي: فإن لم تنتهوا عن دعوتنا إلى ربكم لنرجمنكم بالحجارة ولنقتلنكم.
فردت عليهم الرسل: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}، يعني: شؤمكم وما أصابكم إنما هو بسبب ذنوبكم وتكذيبكم للرسل لا بسببنا [يس: 19]{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ *}، إلى آخر ما قصه علينا القرآن من بيان عاقبة الحسنى للحق وأهله، وعاقبة السوء والخزي للمكذبين والكافرين.
قوله: «قَالَ مُجَاهِدٌ: [يس: 14]{فَعَزَّزْنَا} شَدَّدْنَا» ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن إسحاق: اسم الرسل الثلاثة: صادق، وصدوق، وشلوم. وقال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبئي ـ بالجيم والموحدة والهمز بلا مد ـ: كان اسم الرسولين: شمعون ويوحنا، واسم الثالث: بولص. وعن قتادة: كانوا رسلاً من قبل المسيح. والله أعلم» اهـ.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [يس: 19]{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} مَصَائِبُكُمْ» ، يعني: شؤمكم، وما أصابكم إنما هو بسبب ذنوبكم وتكذيبكم للرسل، لا بسببنا؛ لأن الرسل لا يحصل في اتباعهم إلا الخير، وإنما الشؤم والعذاب هو في مخالفة الرسل.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
[مَريَم:2- 7]{لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا *}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلاً يُقَالُ [مَريَم: 6]{رَضِيًّا *} مَرْضِيًّا [مَريَم: 8]{عِتِيًّا *} عَصِيًّا عَتَا يَعْتُو [مَريَم: 10]{لَيَالٍ سَوِيًّا *} وَيُقَالُ صَحِيحًا.
[مَريَم:11- 15]{وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا *}.
[مَريَم: 3]{خَفِيًّا *} لَطِيفًا [مَريَم: 5]{عَاقِرًا} الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى سَوَاءٌ.
}3430{ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ: مَرْحَبًا بِالأَْخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ».
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [مَريَم:2- 7]{لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا *}» هذه الترجمة معقودة لأخبار زكريا ويحيى _ث. وقد ذكر الله تعالى قصة زكريا ويحيى في أول سورة مريم، كما ذكرهما أيضًا في سورة آل عمران.
ففي أول سورة مريم: [مَريَم: 1-2]{كهيعص *ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا *} زكريا تقرأ بالمد «زكرياء» ، والقصر {زَكَرِيَّا} فبعدما ذكر الله تعالى الحروف المقطعة أخبر أنه سيذكر في هذه السورة رحمة الله لنبيه وعبده زكريا؛ حيث إنه كان عاقرًا عقيمًا لا يولد له، فدعا الله فاستجاب له دعاءه ورزقه نبيًّا كريمًا.
والمؤلف رحمه الله يفسر بعض الكلمات التي تحتاج إلى تفسير.
قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلاً» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: [مَريَم: 65]{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا *} يقول: هل تعلم له مثلاً أو شبهًا، ومن طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}. قال: لم يسم يحيى قبله غيره، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» » .
قوله: «يُقَالُ [مَريَم: 6]{رَضِيًّا *} مَرْضِيًّا» ، يعني: مرضيًّا في أعماله.
قوله: «{عِتِيًّا} في هذه السورة في موضعين:
الأول: في قوله عز وجل: ُ ٌ ً ي ى و ه ن م ل ك ق ف ض ص ء }! ! ِ ، والمراد بها في هذا الموضع أن زكريا عليه السلام بلغ من سن الكبر مبلغًا كبيرًا. قال الطبري: «يقول: وقد عتوت من الكبر فصرت نحل العظام يابسها، يقال منه للعود اليابس: عود عاتٍ وعاسٍ، وقد عتا يعتو عتِيًّا وعُتُوًّا، وعسى يعسو عِسِيًّا وعسوًّا، وكلُّ متناه إلى غايته في كبر أو فساد، أو كفر، فهو عات وعاس» [(866)].
الثاني: [مَريَم: 69]{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيًّا *}، والمراد بها في هذا الموضع: عصيانًا وكفرًا وتكذيبًا. وهذا الموضع هو الذي أراده المؤلف بقوله: « {عِتِيًّا} عَصِيًّا عَتَا يَعْتُو» .
قوله: « [مَريَم: 10]{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا *} وَيُقَالُ صَحِيحًا» .{عِتِيًّا} قُرئ ـ بكسر أوله وبضمه ـ والمقصود من الآية أن زكريا سأل متعجبًا، وليس منكرًا للقدرة ، فقال: كيف يكون لي غلام وهناك مانعان من الولد؟
المانع الأول: أن المرأة عقيم لا تلد.
المانع الثاني: أنه كبرت سنه، ومثله لا يولد له.
فقال الله تعالى: [مَريَم: 9]{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا *}، أي: هيّن على الله أن يفعل هذا. {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}، أي: لما أخبره الله بأنه سيولد له قال: رب اجعل لي علامة على وجود الولد، فقال الله تعالى: [مَريَم: 10]{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا *}، يعني: ثلاث ليال كاملة، وفسرها المؤلف رحمه الله بقوله «صَحِيحًا» ، أي: وأنت صحيح من غير علة لا تستطيع الكلام لمدة ثلاث ليال، وبينت الآية الأخرى معنى زائدًا، وهو السماح له بالإشارة في حالة عدم الكلام فقال تعالى: [آل عِمرَان: 41]{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ *}. وهذه العلامة الأخرى وهي أنك لا تستطيع الكلام مع الناس، ولكن تستطيع التسبيح والتهليل، فإذا رأيت العلامة فعليك أن تكثر من ذكر الله وتسبيحه في أول النهار وفي آخره.
قوله: « [مَريَم: 11]{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا *} فَأَوْحَى فَأَشَارَ، {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} إِلَى قَوْلِهِ [مَريَم: 12- 15]{وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا *}» . المحراب أي: المصلى، ومثله في قصة داود [ص: 21]{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ *}. والشائع عند الناس أنه المكان الذي يصلي فيه الإمام، والصواب أن المراد بالمحراب: المصلى.
والمراد بقوله: « {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} » ، يعني: أشار، والوحي يطلق على الإشارة.
ثم ذكر الله في القصة أن الله لما رزقه الولد وهو يحيى النبي الكريم أمره الله عز وجل فقال: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} لا بضعف، ثم قال: [مَريَم: 12]{وآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا *}، أي: آتاه الله الحكمة وهو في الصغر. ثم قال الله عز وجل: [مَريَم: 13-15]{وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا *وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا *وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا *}.
قوله: « ُ أ ء صلى الله عليه وسلم»! ! ِ : لَطِيفًا» . وهذه الكلمة مذكورة في قصة إبراهيم عليه السلام.
قوله: « ُ - ِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى سَوَاءٌ» ، أي: أن العاقر تطلق على الذكر والأنثى، فيقال للذكر: عاقر، وللأنثى: عاقر.
}3430{ هذا الحديث مختصر من حديث الإسراء الطويل، وقد اقتصر المؤلف رحمه الله على الشاهد منه وهو: ذكر يحيى عليه السلام وأنه من الأنبياء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُسري به وجد يحيى وعيسى في «السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ» ؛ وذكر درجة القرابة بينهما حيث قال: «فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ» ، أي: كل واحد ابن خالة الثاني.
قوله: «هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا» . أما يحيى فإنه مات بالقتل وروحه أخذت شكل الجسد، وأما عيسى فإن روحه في جسده وهو حي حتى الآن وسينزل في آخر الزمان.
وفيه: أن يحيى وعيسى ليسا من السلالة الأبوية؛ ولهذا قالا: «مَرْحَبًا بِالأَْخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ» ، بخلاف إبراهيم وآدم، فإنهما من السلالة الأبوية؛ ولهذا قالا: «مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح» [(867)].
وفيه: أن السموات لها حُرّاس وأنه لا يُرى من وراءها ولهذا لما استفتح جبريل قيل له: «مَنْ هَذَا؟» .
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا *}
[آل عِمرَان: 45]{إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ}.
[آل عِمرَان:33- 37]{قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَآلُ عِمْرَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: [آل عِمرَان: 68]{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ.
وَيُقَالُ آلُ يَعْقُوبَ أَهْلُ يَعْقُوبَ فَإِذَا صَغَّرُوا آلَ ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الأَْصْلِ قَالُوا: أُهَيْلٌ.
}3431{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلاَّ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ [آل عِمرَان: 37]{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *}.
هذه الترجمة معقودة لأخبار مريم _ب، ومناسبة ذكر هذه الترجمة في حديث الأنبياء أن مريم مختلف في نبوتها، وإن كان الصواب أنها ليست نبية، واستدل من قال: إنها نبية بقوله تعالى: [آل عِمرَان: 42]{وَاصْطَفَاكِ}، ولأن الله تعالى ذكرها مع الأنبياء، فلا تذكر مع الأنبياء إلا إذا كانت نبية. وأجابوا عن قوله تعالى: [المَائدة: 75]{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} بقولهم: لا يمنع وصفها بأنها صديقة أن تكون نبية، فقد وُصف يوسف عليه السلام بأنه صديق.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد نقل عن الأشعري أن في النساء عدة نبيات وحصرهن ابن حزم في ست: حواء وسارة وهاجر وأم موسى وآسية ومريم وأسقط القرطبي سارة وهاجر ونقله في التمهيد عن أكثر الفقهاء وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية وقال عياض: الجمهور على خلافه، ونقل النووي في «الأذكار» أن الإمام نقل الإجماع على أن مريم ليست نبية وعن الحسن ليس في النساء نبية» اهـ.
والصواب: أن مريم ليست نبية، وكذلك حواء وسارة وهاجر وأم موسى، كلهن لسن نبيات، بدليل قوله تعالى: [يُوسُف: 109]{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً}، فالرسالة خاصة بالرجال، وخاصة بالإنس، وما استدلوا به من أن الله تعالى قال لمريم: [آل عِمرَان: 42]{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} وذكرها مع الأنبياء، وكلمتها الملائكة، وقال في أم موسى: [القَصَص: 7]{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، ومن أن سارة بشّرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ـ لا يدل على أنهن نبيات؛ لأن هذا شيء خاص.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ُ « » ف پ ـ لله ِ » ؛ يعني: لما حملت مريم انعزلت عن الناس، فذهبت إلى مكان منعزل.
قوله: «و [آل عِمرَان: 59]{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}.
قوله: «{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *}» . آل عمران: منهم مريم ابنة عمران، ثم قال تعالى: [آل عِمرَان: 34]{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}. فنوح عليه السلام من ذرية آدم، وآل إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية إبراهيم عليه السلام، فهم ذرية بعضها من بعض، فاصطفى الله آل عمران من آل إبراهيم، واصطفى آل إبراهيم من أبناء نوح، واصطفى نوحًا من أبناء آدم.
قوله: «إِلَى قَوْلِهِ [آل عِمرَان:33- 37]{قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *}» والآيات: [آل عِمرَان: 34-35]{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *}، أي: لما حملت مريم نذرت أن يكون ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، وهذا كان جائزًا في شريعتهم، فظنت أنه يكون ذكرًا، فنذرته أن يكون خادمًا لبيت المقدس. [آل عِمرَان: 36]{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}. ليس الذكر كالأنثى في القوة والتحمل والقدرة، فلما وضعتها قالت: دونكم هذه النذيرة. [آل عِمرَان: 36]{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *}. استجاب الله دعاءها؛ ولهذا جاء في الحديث ـ كما سيذكر المؤلف ـ: «ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان غير مريم وابنها» . [آل عِمرَان: 37]{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}. كان زكريا زوج خالتها، وكان نبيهم ومعلمهم ومرشدهم [آل عِمرَان: 37]{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}. جاء في تفسيرها أنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في زمن الصيف، وفاكهة الصيف في زمن الشتاء وهذه كرامة من الله لمريم، [آل عِمرَان: 37]{قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *}. ثم قال الله تعالى: [آل عِمرَان: 38]{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}. أي: لما رأى أن الشيء يأتي في غير أوانه دعا ربه أن يرزقه الولد في غير أوانه، مستفيدًا في ذلك من الكرامة التي أعطيت لمريم؛ لأن امرأته كانت عاقرًا، وهو قد طعن في السن، ومع ذلك لم ييأس وسأل ربه الولد، [آل عِمرَان: 38]{قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ *}.
قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَآلُ عِمْرَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: [آل عِمرَان: 68]{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}، وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ» .
يعني: هؤلاء اصطفاهم الله، وآلهم هم المؤمنون.
قوله: «وَيُقَالُ آلُ يَعْقُوبَ أَهْلُ يَعْقُوبَ فَإِذَا صَغَّرُوا آلَ ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الأَْصْلِ قَالُوا: أُهَيْلٌ» ، أي: أصل آل: أهل، ولكن حذفت الهاء، وترجع الهاء إليها إذا صغرت فقالوا: تصغير آل: أُهيل، فإذا كُبِّرَت سقطت الهاء، والآل تطلق على الأهل وتطلق على الأتباع، وهذه فائدة لغوية من المؤلف.
}3431{ في الحديث: منقبة لمريم وابنها _ث، أن الشيطان لم يمسهما.
وفيه: دليل على أن بني آدم كلهم يمسهم الشيطان عند الولادة؛ ولهذا يستهل الوليد صارخًا من مس الشيطان، غير مريم وابنها.
وجاء في الحديث الآخر: «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب» [(868)] والحجاب: قيل هو المشيمة، وهي الغشاء التي يكون على الولد، وهي أحد الظلمات الثلاث التي يكون فيها الولد، فالظلمات الثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.
والصواب: أن الحجاب الذي طعن فيه الشيطان غير المشيمة؛ لأن الولد قد يخرج قبل المشيمة، والصواب: أنه حجاب جعله الله دونه فطعن فيه الشيطان ولم يطعن عيسى عليه السلام، وذلك ببركة دعوة أم مريم.
وفي الحديث منقبة لعيسى وأمه، ولا يدل ذلك على أن عيسى أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، فالمنقبة الخاصة لا تقضي على المناقب العامة، فهذه فضيلة خاصة لعيسى أنه لم يمسه الشيطان، كما أن من فضائل إبراهيم أنه أول من يكسى يوم القيامة ـ لأن الناس يحشرون عراة ـ وكذلك من مناقب موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يفيق حينما يصعق الناس يوم القيامة يجد موسى آخذًا بقائمة من قوائم العرش، قال صلى الله عليه وسلم: «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» [(869)] فهذه منقبة لموسى، ولا تدل على أن موسى أفضل الأنبياء؛ لأن الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة.
[آل عِمرَان: 42-44]{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ *يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَّبِكِ واسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ *ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ *}
يُقَالُ: يَكْفُلُ يَضُمُّ {كَفَلَهَا} ضَمَّهَا مُخَفَّفَةً لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا.
}3432{ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ».
قوله: «بَاب [آل عِمرَان: 42-44]{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ *يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَّبِكِ واسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ *ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ *}» . ذكر الله عز وجل في الآية الاصطفاء مرتين فقال: [آل عِمرَان: 42]{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ *}. قال ابن كثير[(870)]: «أي: اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهرها من الأكدار والوسواس، واصطفاها ثانيًا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين» .
قوله: «يُقَالُ: يَكْفُلُ يَضُمُّ {كَفَلَهَا} ضَمَّهَا مُخَفَّفَةً لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَاا» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أشار بقوله: «مُخَفَّفَةً» إلى قراءة الجمهور، وقرأها الكوفيون [آل عِمرَان: 37]{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}، يقال: «كفلها» ـ بفتح الفاء وكسرها ـ أي: ضمّها، وفي قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، أي: يضم. انتهى. وكسر الفاء هو في قراءة بعض التابعين» اهـ.
وقوله: «لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا» ، أي: أن الكفالة المذكورة في الآية ليست من كفالة الديون ولكنها من كفَالة التربية؛ لأن الكفالة نوعان: كفالة ديون، وكفالة تربية، وهي المقصودة.
}3432{ قوله: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ» ، فيه: منقبة لمريم وخديجة؛ والمراد خير نساء الدنيا في زمانها: مريم ابنة عمران، وخير نساء هذه الأمة: خديجة.
فدل الحديث على أن مريم وخديجة من فضليات النساء:
وقال بعضهم بأن مريم خير النساء.
وقال آخرون بأن خير النساء خديجة.
واستدل بعضهم بالحديث الآخر: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» [(871)] بأن عائشة أفضل النساء.
واحتج بعضهم بقوله: «لم يكمل من النساء إلا آسية بنت مزاحم» [(872)] بأنها أفضل النساء.
واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» [(873)] بأنها أفضل النساء.
والصواب: أن هؤلاء النساء الخمس أفضل النساء: آسية بنت مزاحم ـ امرأة فرعون، التي تبرأت من فرعون وعمله، وصبرت على القتل والعذاب، وآثرته على المُلْك؛ فبنى الله لها بيتًا في الجنة ـ وكذلك مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وعائشة بنت أبي بكر، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء النساء هن أفضل النساء، وهن اللائي كملن من النساء.
قَوْلِهِ تَعَالَى:
[آل عِمرَان:45- 47]{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}
{يَبْشُرُكِ} وَ{يُبَشِّرُكَ} وَاحِدٌ {وَجِيهًا} شَرِيفًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {الْمَسِيحُ} الصِّدِّيقُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَهْلُ: الْحَلِيمُ، وَالأَْكْمَهُ: مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ.
وَقَالَ: غَيْرُهُ مَنْ يُولَدُ أَعْمَى.
}3433{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ».
}3434{ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِْبِلَ أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ.
تَابَعَهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ
هذه الترجمة أيضًا في أخبار مريم، وجاءت بدون باب فتكون كفصل من الباب السابق.
فسر المؤلف رحمه الله ما جاء من الآيات في قصة مريم في سورة آل عمران: « [آل عِمرَان: 45-47]{إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ *وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ *قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} .
قوله: «{يَبْشُرُكِ} وَ{يُبَشِّرُكَ} وَاحِدٌ» . يذكر المؤلف رحمه اللهأنهما قراءتان بمعنى واحد.
قوله: « {وَجِيهًا}: شَرِيفًا» ، أي: فسر المؤلف رحمه الله قول الله عز وجل في شأن عيسى عليه السلام: « {وَجِيهًا}» بقوله: «شَرِيفًا» ، وقال الطبري: «يعني: بقوله وجيهًا: ذا وَجْهٍ ومنزلة عالية عند الله، وشرفٍ وكرامة، ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتُعظّمه الملوك والناس: وجيه، يقال منه: ما كان فلان وَجيهًا، ولقد وَجُهَ وَجاهةً، وإن له لَوجْهًا عند السلطان وجاهًا ووَجاهةً، والجاه مقلوب، قلبت واوه من أوّله إلى موضع العين منه، فقيل: جاه، وإنما هو وجه، وفعل من الجاه: جاهَ يَجوه، مسموع من العرب: أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه» [(874)].
قوله: «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {الْمَسِيحُ}: الصِّدِّيقُ» ، أي: سمي عيسى عليه السلام بالمسيح لشدة تصديقه، والمسيح يطلق على مسيح الهدى ومسيح الضلالة؛ فمسيح الهدى: عيسى، ومسيح الضلالة: الدجال.
قوله: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَهْلُ: الْحَلِيمُ، وَالأَْكْمَهُ: مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ» من معجزات عيسى عليه السلام أنه كان يبرئ الأكمه، والأكمه: فسرها مجاهد بأنه «مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ» .
قوله: «وَقَالَ: غَيْرُهُ مَنْ يُولَدُ أَعْمَى» . وهو قول مروي عن ابن عباس، وهو أصوب؛ فالذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل يسمى الأعشى، أما الأكمه فهو الذي يولد أعمى، وهذا أبلغ في المعجزة؛ لأن بني إسرائيل في زمن عيسى عليه السلام بلغوا شأنًا عظيمًا في الطب، فالله تعالى أعطاه مميزات فاق بها الأطباء وحيّرهم وعلموا أنهم ما يستطيعون هذا، وقال: [آل عِمرَان: 49]{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}. فهذه بعض معجزات عيسى عليه السلام أن يتحدى قومه من جنس ما تفوقوا فيه، كما كان الحال مع موسى عليه السلام لما برز قومه في السحر أعطاه الله العصا تتحول إلى ثعبان، واليد تخرج بيضاء للناظرين، وكذلك لمّا بلغ العرب في وقت نبينا صلى الله عليه وسلم شأنًا عظيمًا في البلاغة والفصاحة والبيان، أنزل الله القرآن الكريم معجزة؛ يتحداهم أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور، أو بسورة.
}3433{ في الحديث: فضل هؤلاء النسوة الثلاث: عائشة، ومريم، وآسية؛ واحتج بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن عائشة أفضل النساء؛ لأن الثريد أفضل الطعام، هو خبز ولحم، وقال بعض أهل العلم: إن مريم وآسية أكمل النساء، وقيل: إنهما نبيتان، والصواب: أنهما لم تبلغا درجة النبوة، كما سبق.
}3434{ قوله: «نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِْبِلَ» ، وفي اللفظ الآخر: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش» [(875)] فيه: منقبة ومزية لنساء قريش، ووصفهن بأنهن: «أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ» ، وفي اللفظ الآخر: «أحناه على ولد في صغره» [(876)] «وأرعاه على زوج في ذات يده» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي: أحفظ وأصون لماله بالأمانة فيه والصيانة له وترك التبذير في الإنفاق» اهـ.
قوله: «يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ» . أراد أبو هريرة أن مريم لا تدخل في هذا التفضيل، لأنها ما ركبت الإبل، يعني: مريم أفضل النساء ثم يليها من ركبن الإبل. وعلى كل حال، حاصل ما ورد من النصوص أن أفضل النساء خمس:
- آسية بنت مزاحم امرأة فرعون؛ لأنها آمنت بالله وكفرت بفرعون وصبرت على أذاه، وآثرت القتل على المُلك.
- مريم ابنة عمران لفضلها ولأنها صبرت على الابتلاء.
- خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ثبتّت النبي صلى الله عليه وسلم وواسته بنفسها ومالها.
- عائشة بنت أبي بكر؛ لعلمها وفضلها وفقهها؛ فقد نقلت من السنة الشيء العظيم.
- فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لفضلها وعلمها وكونها بنت نبي.
والله أعلم بفضل بعضهن على بعض.
وهؤلاء النسوة قد كملن من النساء، ثم بعدهن صالح نساء قريش، ثم بعدهن أتقاهن لله، قال تعالى: [الحُجرَات: 13]{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
[النِّسَاء: 171]{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً *}
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَلِمَتُهُ كُنْ فَكَانَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا {وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ}.
}3435{ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ الأَْوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ».
قَالَ الْوَلِيدُ حَدَّثَنِي: ابْنُ جَابِرٍ عَنْ عُمَيْرٍ عَنْ جُنَادَةَ وَزَادَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ.
قوله: «قَوْلُهُ: ُ ء _ . ع غ [ گ إ ئ ا ب ء آ أ ؤ ح خ د ذ ة ت ث ج } صلى الله عليه وسلم { « » ف پ ـ لله ْ ّ ِ ُ َ ٍ ٌ ً ي ى و ه ن م ل ك ق ف ء ـصلى الله عليه وسلمـ! ! ِ » هذه الترجمة معقودة لأخبار عيسى بن مريم عليه السلام.
وفي الآية يخاطب الله تعالى أهل الكتاب، وينهاهم عن الغلو، والغلو: هو الزيادة في العبادة حتى يخرج الإنسان عن الذي شرعه الله إلى ما حرمه.
وقال بعضهم: الغلو يكون في الأفعال، والإطراء يكون في الأقوال ويطلق أحدهما على الآخر، والمعنى: لا تزيدوا على ما شرع الله . فلا تقولوا: عيسى ابن الله؛ لأن هذا من الغلو الموصل إلى الكفر، فمن قال: إن عيسى ابن الله فقد كفر بالله؛ قال الله تعالى: [المَائدة: 72]{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، ومن قال: إنه إله، أو قال: إنه ثالث ثلاثة، فقد كفر، وهذا من الغلو في الدين الذي يخرج الإنسان من الإسلام إلى الكفر.
قوله تعالى: «{وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}» الحق: أن عيسى عبد الله ورسوله، فلا تغلوا كما غلت النصارى؛ وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» [(877)].
كما أنه لا يجوز الجفاء أيضًا؛ فاليهود جفوا في حق عيسى عليه السلام وقصروا، وتنقصوه وذموه وعابوه، وانتهكوا حرمته، حتى قالوا والعياذ بالله: إنه ولد بغي، وإنه ابن زنا، قبحهم الله.
والنصارى غلوا فيه حتى رفعوه إلى مقام العبودية وقالوا: إنه ابن الله.
ثم قال تعالى: « [النِّسَاء: 171]{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}» ، أي: هَدَى الله المسلمين إلى أنه عبد الله ورسوله.
فالحق أنه رسول الله، وأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، يعني: خلقه الله بكلمة «كن» ، حيث أمر الله جبريل فنفخ في جيب درعها فخُلق عيسى بكلمة «كن» .{وَرُوحٌ مِنْهُ} يعني: روح من الأرواح التي خلقها، وليس جزءًا من الله كما يقول النصارى، والعياذ بالله فهذا كفر وضلال، فالإضافة في قوله {مِنْهُ} للتشريف، مثل قوله تعالى: [الجَاثيَة: 13]{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، يعني: هذه إضافة مخلوق إلى خالق، فجميع ما في السموات والأرض مخلوقة من الله.
ومثل ذلك: عبد الله، ورسول الله، وناقة الله، وروح الله، فكل هذا أضيف إلى الله للتشريف.
قوله: «{وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ}» ، أي: لا تقولوا: الآلهة ثلاثة، كما تقول النصارى: الله، ومريم، وعيسى؛ فهذا كفر وضلال. ثم قال: {انْتَهُوا} أي: عن هذا الكفر [النِّسَاء: 171]{انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: «{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}» كما قال الله تعالى: [البَقَرَة: 163]{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ *}؛ تنزيهًا له أن يكون له ولد؛ كما زعمت النصارى، وقال الله تعالى عن المشركين: [الصَّافات: 151-153]{أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ *وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينِ *}. والإفك: هو أسوأ الكذب.
ثم قال تعالى: [النِّسَاء: 171]{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، أي: مالك السموات والأرض، كيف يتخذ ولدًا ولا حاجة له لأحد؟! لأن الذي يتخذ ولدًا يعينه هو المخلوق الضعيف ، أما الله سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى معين ولا إلى وزير.
قوله: «قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:» ، هو القاسم بن سلام اللغوي المعروف.
قوله: «كَلِمَتُهُ كُنْ فَكَانَ» . هذا الذي قاله أبو عبيد قولٌ متفق عليه بين العلماء، وهو أن الله سبحانه وتعالى خلق عيسى عليه السلام بكلمة «كن فكان» . وليس هو الكلمة نفسها كما تزعم النصارى، قال الله تعالى: [آل عِمرَان: 59-60]{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ *}.
قوله: «وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ}: أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا» ، أي: أن عيسى عليه السلام روح من الأرواح التي خلقها الله بكلمة «كن» .
وبعض الناس يقول في دعائه: يا من أمره بين الكاف والنون، ولا أعلم أن هذا مشروع، ولا أعلم لهذا أصلاً، ولكن يشرع له أن يقول: يا من أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، كما قال الله تعالى: [يس: 82]{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} فهذا توسل إلى الله بأسمائه وصفاته وليقل كذلك يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، ويشرع للمسلم أن يتوسل بالاسم المناسب لدعائه، فإذا كان يدعو بالرحمة، فيتوسل إلى الله باسم: الرحمن، فيقول: يا رحمن ارحمني، وإذا كان يطلب الرزق يقول: يا رزاق ارزقني، وهكذا. وليس من أسماء الله قولنا: «مَنْ أمره بين الكاف والنون» . فينبغي ترك هذا كما أن كلمة «كن» أمر مكوّن من كاف ونون، فكيف يقال: إن الأمر بين الكاف والنون، وعندما تفصل الكاف عن النون لا تجد أمرًا، فهذا يدل على أن هذا الدعاء لا أصل له.
قال الشيخ ابن عثيمين: «واشتهر عند العوام قولهم: يا من أمره بين الكاف والنون، وهذا غلط؛ ليس أمر الله بين الكاف والنون، بل بعد الكاف والنون؛ لأن الله قال: [البَقَرَة: 117]{كُنْ فَيَكُونُ *}»[(878)] .
}3228{ قوله: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» ، أي: شهد أن لا معبود بحق إلا الله، ونطق بالشهادة بلسانه، وصدّق بها بقلبه.
قوله: «وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ» أي: ليس له شريك، لا في الربوبية، ولا في الألوهية، ولا في الملك، ولا في الأسماء والصفات.
قوله: «وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» ، أي: وشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
قوله: «وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» ، يعني: آمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه مخلوق بكلمة كن، وأن هذه الكلمة ألقاها إلى مريم، وأنه روح من الأرواح التي خلقها.
قوله: «وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ» ، أي: شهد بأن الله خلق الجنة وأعدها لعباده المؤمنين رحمة منه وثوابًا لهم، وخلق النار وأعدّها عقوبة للكافرين، وأن الجنة والنار موجودتان ولا يفنيان.
فإذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فقد خرج من مذهب المشركين الذين أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا شهد أن عيسى عبد الله ورسوله، فقد خرج من ملة النصارى، الذين يقولون: عيسى ابن الله، وإذا شهد بأن الجنة حق، والنار حق، فقد خرج بذلك من مذهب الدهرية الذين ينكرون البعث والجنة والنار، فإذا مات بعد هذه الشهادة: «أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ» . وهذا مقيد بالإخلاص في العمل، والصدق في الشهادة، كما دلت على ذلك النصوص الأخرى.
وما كان هذا الفضل لهذه الشهادة إلا لأن الشهادة الصادقة تقتضي فعل ما يجب عليه، وترك ما يحرم عليه، فهي تقتضي أداء الواجبات وترك المحرمات، فإذا أخل بشيء من الواجبات، أو فعل بعض المحرمات دل ذلك على عدم الصدق الكامل في الشهادة، أو أن الصدق ليس قويًّا، فيحصل نقص في صدقه في الشهادة بحسب تقصيره في الواجبات أو ارتكابه المحرمات، والصدق الكامل التام في الشهادة يحرق الشبهات والشهوات؛ لأنها تقتضي من الصادق فيها أن يعمل فيؤدي الواجبات ويترك المحرمات، والكاذب فيها لا يعمل، فإن لم يعمل دل على أنه كاذب؛ فالمنافقون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله بألسنتهم، لكن قلوبهم مكذبة؛ ولهذا ما يعملون [المنَافِقون: 1]{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ *}. فلابد أن تكون الشهادة على صدق يمنع من النفاق، ولابد لها من إخلاص ينافي الشرك، ولابد لها من علم ينافي الجهل، ولابد لها من يقين ينافي الشك والريب، ومن قبول ينافي الرد، ولابد لها من الانقياد لحقوقها، وهي فعل الواجبات التي أوجبها الله، والانتهاء من المحرمات التي حرمها الله، وهذه شروط لابد منها، وهي مأخوذة من النصوص الأخرى.
فإذا وجدت هذه الشروط فإنه يحصل هذا الذي رتّبه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ» يعني: أدخله الله الجنة بالشهادة مع عمله، قليلاً كان أو كثيرًا، إن عاجلاً أو آجلاً، فإن مات على توبة دخل الجنة من أول وهلة ما لم يصر على كبيرة، وإن مات على كبيرة من كبائر الذنوب فإنه تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له وأدخله من أول وهلة، كما قال الله تعالى: [النِّسَاء: 48]{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وإن شاء عذّبه ثم يخرجه بعد تطهيره إلى الجنة.
قوله: «... مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ» ؛ فيه: بيان فضل التوحيد، وإثبات عدد أبواب الجنة وهي ثمانية.
قَوْلِ اللَّهِ:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}
نَبَذْنَاهُ أَلْقَيْنَاهُ اعْتَزَلَتْ [مَريَم: 16]{شَرْقِيًّا *} مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ {فَأَجَاءَهَا} أَفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ، وَيُقَالُ أَلْجَأَهَا اضْطَرَّهَا {تُسَاقِطْ} تَسْقُطْ [مَريَم: 22]{قَصِيًّا *} قَاصِيًا [مَريَم: 27]{فَرِيًّا *} عَظِيمًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [مَريَم: 23]{وَكُنْتُ نَسْيًا} لَمْ أَكُنْ شَيْئًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّسْيُ الْحَقِيرُ.
وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ: [مَريَم: 18]{إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *}.
قَالَ وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ [مَريَم: 24]{سَرِيًّا *} نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
}3436{ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ عِيسَى وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلاَمًا فَقَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِي قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: لاَ إِلاَّ مِنْ طِينٍ وَكَانَتْ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمَصُّ إِصْبَعَهُ «ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ الرَّاكِبُ: جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الأَْمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ».