}3437{ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ.
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى قَالَ: فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ قَالَ: وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالآْخَرُ فِيهِ خَمْرٌ فَقِيلَ لِي خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ لِي هُدِيتَ الْفِطْرَةَ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ».
}3438{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عِيسَى ومُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ».
}3439{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى عَنْ نَافِعٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَيْ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلاَ إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ».
}3440{ «وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعَرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلاً وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطِطًا أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ» تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ.
}3441{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِيسَى أَحْمَرُ وَلَكِنْ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ عَيْنِهِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ».
قَالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
}3442{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالأَْنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ».
}3443{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَالأَْنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ».
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
}3444{ وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلاَّ وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَقَالَ: عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي».
}3445{ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
}3446{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَخْبَرَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ».
}3447{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ثُمَّ قَرَأَ [الأنبيَاء: 104]{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *} فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [المَائدة: 117-118]{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ: هُمْ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ: [مَريَم: 16]{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}» . هذه الترجمة معقودة لأحاديث عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم من كتاب «أحاديث الأنبياء» ، وكذلك الترجمة التي قبلها، والمؤلف رحمه الله يذكر ما جاء في خبر عيسى عليه السلام في الآيات الكريمة، ثم في الأحاديث النبوية، ويفسر الكلمات اللغوية، فيكون هذا الكتاب «الجامع الصحيح» قد ضرب بسهم في التفسير، وفي البلاغة واللغة، وفي الحديث، وفي الفقه.
قوله: «نَبَذْنَاهُ أَلْقَيْنَاهُ» من قول الله تعالى: [الصَّافات: 145]{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ *}، وأما الآية التي في الباب فهي: «{انْتَبَذَتْ} بقوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ} ويقال: نبذت الشيء أي: ألقيته وطرحته، والمراد هنا: اعتَزَلَتْ عن أهلها وبعدت عنهم.
قوله: «اعْتَزَلَتْ [مَريَم: 16]{شَرْقِيًّا *} مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ» ، أي: جهة الشرق.
قوله: « {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ}: أَفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ، وَيُقَالُ أَلْجَأَهَا اضْطَرَّهَا» فسر البخاري رحمه الله قوله تعالى {فَأَجَاءَهَا} بقوله: «أَفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ» يعني: أنه متعدٍّ بالهمزة، وأصل الفعل: جاءها، وقوله «وَيُقَالُ أَلْجَأَهَا اضْطَرَّهَا» ، أي: اضطرها المخاض إلى جذع النخلة.
قوله: «{تُسَاقِطْ} تَسْقُطْ» اختلف في قراءة [مَريَم: 25]{تُسَاقِطْ} على أربعة وجوه[(879)]:
الأول: {تَسَاقَط} بفتح التاء والقاف وتخفيف السين وهي قراءة حمزة.
الثاني: {تُسَاقِطْ} بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين ، وهي قراءة حفص عن عاصم.
الثالث: {يَسَّاقَط} بالياء على التذكير وفتحها وتشديد السين ، وفتح القاف وهي قراءة يعقوب.
الرابع: {تَسَّاقَط} بالتاء على التأنيث وفتحها وتشديد السين وفتح القاف ، وهي قراءة الباقين.
قوله: « [مَريَم: 22]{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا *}، بقوله: «قَاصِيًا» أي: بعيدًا.
وقوله: « [مَريَم: 27]{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا *} وفسر البخاري رحمه الله ُ ر ء صلى الله عليه وسلمپ! ! ِ بأنه عظيم.
وقوله تعالى: [مَريَم: 23]{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}، أي: أن مريم تمنت الموت؛ لأنها خشيت مما يحصل لها في المستقبل من فتنة واتهامها بالفاحشة؛ لأنها أتت بولد من غير أن تتزوج.
واحتج بعض العلماء بهذا على أنه يجوز تمني الموت عند خوف الفتنة، فيكون هذا مستثنى من الأحاديث التي فيها النهي عن تمني الموت، كما ورد في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضر نزل به» [(880)] وفي «صحيح مسلم» : «لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا» [(881)] فاستثنى بعض العلماء إذا خاف الفتنة في الدين؛ ولهذا قال: «لضر نزل به» ، يعني: يتعلق بجسده وأهله وماله من أمور الدنيا ، أما إذا خاف الإنسان الفتنة في الدين فيجوز، ولهم أدلة في هذا، ومن أدلتهم : قول الله تعالى عن يوسف: [يُوسُف: 101]{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *} لكن الآية ليست واضحة، فإن يوسف سأل ربه أن يتوفاه على الإسلام إذا جاءه الموت، ولم يدعُ بالموت.
ومن أدلتهم تمني مريم الموت لما خشيت أن تفتن في دينها، [مَريَم: 23]{قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا *}.
قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ُ ! ِ : لَمْ أَكُنْ شَيْئًا» ، أي: تمنت مريم _ب أنها لم تكن شيئًا، وأنها لم تخلق.
قوله: «وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّسْيُ الْحَقِيرُ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هو قول السدي، وقيل: هو ما سقط في منازل المرتحلين من رذالة أمتعتهم، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال في قوله: وكنت نسيًا: أي: شيئًا لا يذكر» اهـ.
قوله: «وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ: [مَريَم: 18]{إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *}» ، يعني: التقي عنده وازع ديني في قلبه يأمره بالخير وينهاه عن الشر، والمعنى: إن كنت تقيًّا فابتعد عني. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: « «نهية» ـ بضم النون وسكون الهاء ـ أي: ذو عقل وانتهاء عن فعل القبيح، وأغرب من قال: إنه اسم رجل، يقال له: تقي، كان مشهورًا بالفساد فاستعاذت منه» اهـ.
قوله: «قَالَ وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ: [مَريَم: 24]{سَرِيًّا *}: نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ» . لما جاء مريم الولد ـ وهو عيسى عليه السلام ـ قالت: [مَريَم: 23]{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا *}، مخافة أن يرميها الناس بالفاحشة [مَريَم: 24]{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا *}. فسر البخاري رحمه الله السري بأنه «نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ» . و السريانية لغة النصارى، والعبرانية لغة اليهود، والداودية لغة داود، فالتوارة بالعبرانية، والإنجيل بالسريانية، والنهر الصغير يسمى بالسريانية سريًّا، وقيل هذا أيضًا في اللغة العربية، فيكون هذا اللفظ مما اتفقت فيه اللغات.
وهذا وإن كان في قصة مريم إلا أن فيه خبر ولادة عيسى عليه السلام.
}3436{ قوله: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ عِيسَى» ، وهذا هو الشاهد للترجمة، حيث أتى المؤلف رحمه الله بهذا الحديث في أخبار عيسى؛ لأنه تكلم في المهد.
واستُشكل قوله: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ» ، لأنه ورد في أحاديث أخرى أنهم أكثر من ثلاثة، منهم صاحب الأخدود، ومنهم صاحب يوسف، في تفسير قوله عز وجل: [يُوسُف: 26]{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا}.
وأجاب بعضهم على ذلك بأن العدد لا مفهوم له، ولا يراد به الحصر.
وأجاب آخرون بأن هؤلاء المذكورين هم الذين تكلموا في المهد، وأما غيرهم فقد تكلموا في مرحلة من العمر أكبر من المهد، يعني: تكلموا في الصغر، لكن بعد الفطام، وليس في المهد.
أما كلام عيسى فمذكور في القرآن الكريم: [مَريَم: 30-32]{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *} لأنه ليس له والد، بل له والدة، فتكلم تبرئة لأمه ومعجزة.
الثاني: صاحب جريج كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي» ، وفي الرواية الأخرى: «كان جريج يتعبد في صومعة» [(882)] وقد كان العباد من بني إسرائيل يبنون صوامع في طرف البلد أو بعيدة عن البلد ينقطعون فيها عن الناس يتعبدون. أما في شريعتنا فليس مشروعًا أن يتعبد الإنسان وينقطع عن الناس؛ لأن شريعتنا شريعة كاملة، فعليه أن يختلط بالناس، فيصلي الجماعة والجمعة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتزوج، ويقوم برعاية الأولاد، ويبر والديه، ويصل رحمه، ويحسن إلى الجيران، وينفع الناس بما يستطيع بتوجيهه وإرشاده وشفاعته، أو ببدنه أو بماله، ولاسيما إن كان نفعه متعديًا، أما أن ينقطع وينعزل عن الناس فليس هذا مشروعًا، لأنه يترك صلاة الجماعة؛ وهي واجبة؛ إلا إذا عمّت الفتن وكان يخشى على دينه، فلا بأس أن ينتقل إلى الصحراء وذلك إذا نُزع الخير من المدن، وليس هناك أمر ولا نهي، ولا جمعة ولا جماعة، ولا وعظ ولا إرشاد، وخشي على دينه، كما قال عليه السلام: «يوشك أن يكون خير مال المرء غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» [(883)] أي: يفر بدينه من الآدميين ويسكن في الصحراء، ويعيش مع السباع، فهذا أسلم لدينه؛ لأن الآدميين يفتنونه عن دينه، وفي ذلك يقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوَّت إنسان فكدت أطير
فجريج كان يصلي في صومعته، كما هو الأمر في دينهم وشريعتهم، فالصلوات عندهم لا تصلى إلا في أماكن العبادة. أما نحن فمن الخصائص التي أعطيناها قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ» [(884)].
وبعض عباد بني إسرائيل تجده منقطعًا عن الناس، يصلي الليل والنهار، ويجاهد في الدنيا فإذا أتاه شيء تصدق به في الحال، ومع ذلك يكون من أهل النار؛ لأنه يقول: إن الله ثالث ثلاثة، فلا ينفعه زهده في الدنيا وهو على شركه.
لكن جريجًا من العُبَّاد الصالحين قد انقطع للصلاة والعبادة، فجاءت أمه فدعته وقالت: يا جريج، فقال: «أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي» وفي اللفظ الآخر قال: «أمي وصلاتي» [(885)] فاجتهد وقدم الصلاة على إجابة أمه؛ ظنًّا منه أن هذا هو الأفضل، أو أنه لا يحب أن يكلم الناس، فكأنه استخار ربه: هل يجيب أمه أو يستمر في صلاته؟ فاستمر في صلاته، ثم جاءته المرة الثانية وقالت: يا جريج، أنا أمك، وفي اللفظ الآخر: «أنا أمك كلمني، فقال: رب أمي وصلاتي فاستمر في صلاته، ثم جاءته المرة الثالثة» [(886)] فغضبت ودعت عليه فقالت: «اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ» ، يعني: الزانيات، فاستجاب الله دعاءها.
وفيه: دليل على أن دعوة الوالد مستجابة.
وفيه: دليل على أنه يجب على المصلي صلاة النافلة أن يجيب والده إذا دعاه، وأن هذا مقدم على صلاة النافلة؛ لأن صلاة النافلة مستحبة، وإجابة الوالد فرض، والفرض مقدم على النافلة، اللهم إلا إن كان يعلم أنه لا ضرورة له، وأنه لا يغضب، ومثله إجابة الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته يقول الله تعالى: [الأنفَال: 24]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ ولهذا جاء في الحديث: عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: «ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[(887)].
لكن جريجًا الراهب خفي عليه الحكم الشرعي واجتهد، فدعت عليه أمه إلا أنها كانت دعوة خفيفة، فلم تدعُ عليه بفعل الفاحشة، وإنما دعت عليه أن يريه الله وجوه الزانيات فقط، ولهذا جاء في الحديث: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة الوالد على ولده ودعوة المسافر ودعوة المظلوم» [(888)] وجريج مجتهد ولكنه اجتهاد خاطئ؛ ولهذا برّأه الله بنطق الغلام، وأجرى على يديه هذه الكرامة.
قوله: «فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى» ، في اللفظ الآخر: «فقالت بغي منهم: لئن شئتم لأصيبنَّه، قالوا قد شئنا» [(889)] وظاهره أن من حوله قصدوا أن يفتنوه، وطلبوا منها وتواطئوا معها على أن تفتنه، فتعرضت له وجاءت إليه فلم يلتفت إليها، واستمر في عبادته، فلما رأت أنه لم يتلفت إليها جاءت وأمكنت منها راعي غنم ففعل بها الفاحشة حتى حملت، ثم ولدت، فلما ولدت قالوا: من أبو الغلام؟ قالت: جريج، فجاءوا وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه ويسبونه كما في الروايات الأخرى.
قوله: «فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ» ، أي: في الحال من دون سؤال، وهذا يدل على أنهم تواطؤوا معها.
قوله: «فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى» فيه: دليل على أن الوضوء مشروع في الأمم السابقة، وليس خاصًّا بهذه الأمة، كما في قصة إبراهيم وسارة، توضأ إبراهيم وصلى، لكن من خصائص هذه الأمة: الغرة والتحجيل، كما في الحديث: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء» [(890)] والغرة بياض في الوجه، والتحجيل في اليدين والرجلين.
قوله: «ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟» وفي اللفظ الآخر: «فطعنه بإصبعه فقال: بالله يا غلام من أبوك؟» [(891)] فتكلم الصبي و «قَالَ: الرَّاعِي» ؛ فهذه آية وكرامة لجريج، فلما تكلم الصبي عرفوا أنه صادق وأن المرأة كاذبة فاعتذروا له وجعلوا يسألونه أن يسامحهم فقالوا: «نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: لاَ إِلاَّ مِنْ طِينٍ» كما كانت.
وفي قوله: «مَنْ أَبُوكَ؟» قال بعضهم: كيف يقول: من أبوك وهو ولد زنا ومعروف أن ولد الزنا لا ينسب إلى أب؟ قيل: لعل هذا كان في شريعتهم أنه يجوز أن ينسب إلى أبيه، أو أنه قال ذلك مجازًا؛ لأن الناس قد ينسبونه إلى من فعل الفاحشة في أمه وإلا فولد الزنا لا ينسب.
قوله: «وَكَانَتْ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، وهو الثالث الذي تكلم في المهد كانت امرأة من بني إسرائيل ترضع ابناً لها.
قوله: «فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ» ، أي: له هيئة حسنة وحوله ناس يُقدّرونه ويحترمونه. فقالت هذه المرأة معجبة: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ» . وكان الصبي يرضع ، فترك الصبي الثدي وأقبل على أمه وقال: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمَصُّ إِصْبَعَهُ ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ» . أمة يعني: ليست حرة، والناس يضربونها ويقولون: زنيتِ، سرقتِ، وهي تقول: حسبي الله كما في اللفظ الآخر: «يقولون لها: تزني، وتقول: حسبي الله، ويقولون: تسرق، وتقول: حسبي الله» [(892)] فقالت المرأة: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا» . ثم بعد ذلك خاطبته لما رأت أنه يتكلم، فقالت: الرجل الذي عليه شارة حسنة أقول: اللهم اجعل ابني مثله؛ وتقول: اللهم لا تجعلني مثله. والمرأة التي تضرب ويقولون زانية وسارقة، أقول: اللهم لا تجعل ابني مثلها؛ وتقول: اللهم اجعلني مثلها. قال: نعم ذاك الرجل جبار متكبر ولذا قلت: اللهم لا تجعلني مثله، وهذه المرأة مظلومة، يقولون لها: زنيت وهي لم تزن، وسرقتِ ولم تسرق، فلذا قلت: اللهم اجعلني مثلها.
}3437{ ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الحديث وصف عيسى عليه السلام؛ لأن الترجمة في أخباره عليه السلام، وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم التقى بثلاثة من الأنبياء: التقى بموسى وعيسى وإبراهيم _ت، وكان ذلك ليلة الإسراء والمعراج؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم التقى بالأنبياء في السموات، والتقى بهم في بيت المقدس، وصلى بهم إمامًا، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم.
قوله: «رَجِلُ الرَّأْسِ» ، يعني: أنه معتنٍ بشعر رأسه مصففه.
قوله: «كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ» ، يعني: أنه رجل طويل، ورجال شنوءة المعروفون الآن في جهة جنوب المملكة العربية السعودية بأنهم رجال طوال، وفي اللفظ الآخر أنه: «آدم» [(893)] يعني: لونه كلون الأدمة بين البياض والسواد.
وأما عيسى عليه السلام فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «رَبْعَةٌ» ، يعني: متوسط ليس بالطويل ولا بالقصير.
وقوله: «أَحْمَرُ» ، أي: شديد البياض مع حمرة.
قوله: «كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ» . الديماس هو الحمَّام؛ ويصور لنا النبي صلى الله عليه وسلم هيئة عيسى عليه السلام حينما رآه، ويصف جريان الدم في بشرته عليه السلام كحال من خرج من فوره من حمام.
قوله: «وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ» ، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشبه أباه إبراهيم عليه السلام.
قوله: «وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالآْخَرُ فِيهِ خَمْرٌ فَقِيلَ لِي خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ لِي هُدِيتَ الْفِطْرَةَ» . فَسّر اللبن بالفطرة؛ والفطرة هي الإسلام، أي: هديت إلى الحق؛ فإن الله تعالى فطر بني آدم على الإسلام وعلى الحق وعلى الخير.
قوله: «أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ» . هذا من فضل الله عز وجل وإحسانه أنْ هدى نبيه صلى الله عليه وسلم للفطرة.
}3438{ هذا الحديث ذكر في رواية أبي ذر أنه عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي بعض الروايات والنسخ أنه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والشاهد هنا وصف عيسى عليه السلام ، لأن الترجمة في أخباره ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «رَأَيْتُ عِيسَى ومُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ» ، يعني: في ليلة الإسراء، ونعت كل واحد منهم ، «فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ» ، أي: لونه أحمر ، «جَعْدٌ» ، يعني: غير مسرح الشعر ، «عَرِيضُ الصَّدْرِ وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ» ، أي: لونه لون الأدمة ـ يعني: ـ بين البياض والسواد.
قوله: «سَبْطٌ» ، يعني: أنه مسرح الشعر «كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ» ، والزط بضم الزأي: وتشديدها وتشديد الطاء جنس من السودان، وقيل: هم نوع من الهنود طوال الأجسام مع نحافة الرجلين؛ فهو عليه السلام طويل ولونه يميل إلى الأُدمة ليس بأبيض ولا أحمر، وأما عيسى عليه السلام فإنه متوسط ربعة أحمر عريض الصدر، وأما إبراهيم عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ» .
}3439{، }3440{ هذا الحديث وهو حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فيه: خبر من أخبار عيسى عليه السلام.
وفيه: أن المسيح الدجال هو رجل يخرج في آخر الزمان، والمسيح يطلق على عيسى عليه السلام كما يطلق على الدجال إلا أن عيسى عليه السلام مسيح الهدى، والدجال مسيح الضلالة.
والدجال صيغة مبالغة من الدجل، وهو التزوير والكذب والتمويه، وهو أكبر الدجاجلة وآخرهم وأعظمهم، والدجاجلة هم الكهنة والسحرة، سموا دجاجلة لكثرة مخرقتهم وتمويههم، وأكبرهم المسيح الدجال الذي يخرج في آخر الزمان، وهو رجل يدعي أولا الصلاح كما جاء في الأحاديث ثم ينتقل ويدعي النبوة، ثم يتحول ويدعي الربوبية ـ والعياذ بالله عز وجل ـ ومعه صورة الجنة والنار، ويعطيه الله عز وجل خوارق تجري على يديه: يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويقطع رجلاً نصفين ويقول له: قم فيحييه الله عز وجل ويستوي قائمًا، ومن أطاعه واتبعه كثر ماله وكثر اللبن في ضروع أنعامه، ومن رد عليه دعوته أصبح فقيرًا ممحلاً، وهذا ابتلاء وامتحان وفتنة عظيمة؛ ولهذا جاء في الحديث: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال» [(894)] وفي لفظ: «أمر أكبر من الدجال» [(895)]. ولهذا شرع لنا أن نستعيذ بالله عز وجل من فتنة المسيح الدجال في كل صلاة لأنها فتنة عظيمة، وجاء في الحديث: «من سمع بالدجال فلينأ عنه» [(896)] فإن الإنسان يعتقد أنه يسلم منه فإذا جاءه فتن.
والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر بين أظهر الناس المسيح الدجال فقال: «إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلاَ إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ» ؛ فهذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه أنه وصفه لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم حتى يحذره الناس.
واحتج العلماء بهذا الحديث على إثبات العينين لله عز وجل، وذلك أن الدجال أعور والله ليس بأعور، والأعور هو الذي له عين واحدة، والذي ليس بأعور له عينان؛ فالله تعالى له عينان سليمتان، وأما قوله تعالى: [القَمَر: 14]{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [طه: 39]{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *} فهذا يفهم منه إثبات العينين، وإن جاءت بصيغة الجمع فهي للعظمة.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ» ، هذه رؤيا في النوم أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، ورؤيا الأنبياء وحي «فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ» . هذا في وصف عيسى عليه السلام، وفي الحديث الأول: «أحمر كأنه خرج من ديماس» ، والآدم يميل إلى السواد وليس بأبيض، ويجمع بينهما بأن قوله: في الحديث السابق: «أحمر» يحمل على أن الحمرة حصلت من بعض التعب، أو لأنه خرج من الحمام.
قوله: «تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ» . اللمة هي الشعر، والشعر له أسماء: فإذا كان دون الأذن يسمى وفرة، وإذا تجاوز الأذن يسمى لمة، وإذا وصل إلى الكتف يسمى جمة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يترك الشعر فيكون أحيانًا لمة وأحيانًا جمة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلق رأسه إلا في حج أو في عمرة؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله[(897)] « إن إبقاء الشعر سنة، لو نقوى عليه لاتخذناه، لكنه له كلفة ومشقة » ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان له شعر فليكرمه» [(898)] وإذا حلق رأسه فلا بأس فالحلق مباح، لكن الأفضل تركه إن تيسر ولم يشق عليه.
فعيسى عليه السلام كان شعره لمة، يعني: تجاوز الأذن.
قوله: «رَجِلُ الشَّعَرِ» ، يعني: أنه ممشط الشعر. «يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلاً وَرَاءَهُ» . هذا في الرؤية «جَعْدًا» ، وهذا عكس عيسى عليه السلام، فهو غير ممشط الشعر: «قَطِطًا» متجعد الشعر ليس ممشطًا، «أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ» جاء في اللفظ الآخر أن ابن قطن سأله: هل يضره هذا الشبه؟ قال: «لا، أنت امرؤ مسلم وهو امرؤ كافر» [(899)].
قوله: «وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ» . ويرد هنا إشكال، وهو أن الدجال ممنوع من دخول مكة كما جاء في الحديث أنه لا يدخل مكة ولا المدينة: «لا يترك الدجال بلدًا إلا وطأها إلا مكة والمدينة» [(900)] فكيف رآه النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ويطوف بالكعبة؟ أجيب بأن دخوله مكة كان قبل خروجه في الوقت الذي قدره الله عز وجل، وإنما الممنوع أن يدخل مكة بعد خروجه إذا خرج في آخر الزمان، وأحسن من هذا أن يقال: إن دخوله مكة كان في النوم، والممنوع هو دخوله في اليقظة.
}3441{ قوله: «وَاللَّهِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِيسَى أَحْمَرُ» ، أي: جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي سبق أنه «أَحْمَرُ» ، وابن عمر رضي الله عنهما فهم من الحديث أنه «آدم» وليس بأحمر، ويحتمل أن الحمرة شيء عارض له.
قوله: «قَالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» ، وعلى هذا فيكون ابن قطن هو عبد العزى بن قطن، لكن جاء أيضًا ما يدل على أنه شُبّه برجل من الصحابة وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يضرك شبهه» .
وهذا هو الحديث السابق، حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا عيسى عليه السلام رجلا آدم؛ يعني: لونه لون الأدمة ، «سبط الشعر» ، وأما الدجال فإنه «جَعْد الرأس» .
قوله: «جسيم» ، يعني: ممتلئ البدن.
}3442{ هذا الحديث الشاهد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالأَْنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ» فيه: دليل على أن عيسى عليه السلام هو آخر أنبياء بني إسرائيل وبعده نبينا صلى الله عليه وسلم، وأما أحاديث الرسل الثلاثة في سورة يس: [يس: 13]{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ *}، فهم قبل عيسى عليه السلام.
وأما الحديث الذي فيه: «أنه بعث من العرب نبي واسمه خالد بن سنان» [(901)] فهذا لا يقاوم الحديث الذي في البخاري رحمه الله، وهذا يدل على ضعفه، وأنه ليس بصحيح.
}3443{ قوله: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَالأَْنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» فالأنبياء دينهم واحد وهو التوحيد، فكل الأنبياء بعثهم الله عز وجل بالتوحيد، والإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأما الشرائع فهي مختلفة كما قال الله تعالى: [المَائدة: 48]{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. فالحلال والحرام والأوامر والنواهي تختلف من شريعة إلى شريعة؛ ففي شريعة آدم عليه السلام لما كان الناس قلة كان الرجل يتزوج أخته، وتحرم عليه أخته التي جاءت معه في بطن واحدة، وأما التي في البطن الثاني يتزوجها حتى كثر الناس، ثم حرمت الأخت، وفي شريعة يعقوب عليه السلام يجوز الجمع بين الأختين وفي شريعتنا ممنوع، فالشرائع تختلف لكن الدين واحد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالأَْنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» .
وكل نبي بعثه الله عز وجل ليأمر قومه بالتوحيد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 59] ، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَال ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 65] ، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَال ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 73] ، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَال ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 85] ، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الأنبياء: 25] .
فدين الأنبياء واحد هو التوحيد، لكن الشرائع مختلفة، ولهذا شبههم صلى الله عليه وسلم بإخوة العلات، وإخوة العلات هم الإخوة من الأب، فأبوهم واحد وأمهاتهم متعددة، وأما إذا كانت الأم واحدة والآباء متعددين يسمون أولاد الأخياف، وأما إذا كانوا إخوة من الأب والأم فيسمون أشقاء ويسمون أولاد الأعيان.
}3444{ قوله: «رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ» ، يعني: يأخذ مالاً في الظاهر أنه لا يحل له «فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟» فحلف الرجل ، «قَالَ: كَلاَّ وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ» ما سرقت ، «فَقَالَ: عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي» ، مبالغة في تصديق الحالف.
وفيه: تعظيم عيسى عليه السلام للحلف بالله عز وجل لأن هذا الرجل أخذ مالاً في الظاهر أنه لا يحل له، لكن يحتمل أن له فيه شبهة، أو أنه شريك، أو له حق، أو لأسباب خلاف ذلك؛ فلهذا صدقه عيسى عليه السلام تعظيمًا لله عز وجل، وكذّب بصره.
}3445{ هذا الحديث فيه: النهي عن الإطراء، والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه، فإذا كان في الأقوال سمي إطراءً وإذا كان في الأفعال سمي غلوًّا، كقول الله تعالى: [النِّسَاء: 171]{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}.
وقد يطلق أحدهما على الآخر، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإطراء يفيد التحريم.
قوله: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ، يعني: لا تمدحوني كما مدحت النصارى ابن مريم، فترفعوني من مقام العبودية والرسالة إلى مقام الألوهية كما فعلت النصارى.
فإن النصارى مدحوا عيسى عليه السلام وأطروه وزادوا في مدحه حتى رفعوه من مقام العبودية والرسالة إلى مقام الألوهية وقالوا: هو ابن الله ـ والعياذ بالله عز وجل ـ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ، فهذا أكمل المقامات له صلى الله عليه وسلم وهو مقام العبودية الخاصة والرسالة.
}3446{ في بعض النسخ «مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ» .
وهذا الحديث فيه: فضل هؤلاء الثلاثة، وأن كل واحد منهم يعطى أجرين:
الأول: الذي يؤدب أمته المملوكة، ويحسن تأديبها، ويعلمها ويحسن تعليمها، ثم يعتقها ويتزوجها فله أجران: الأجر الأول مقابل التعليم والتأديب، والأجر الثاني مقابل العتق والزواج.
الثاني: رجل آمن بعيسى عليه السلام ثم آمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فله أجران: أجر بإيمانه بعيسى عليه السلام، والأجر الثاني بإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: [الحَديد: 28]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}.
الثالث: العبد إذا اتقى ربه وأطاع مولاه فله أجران: أجر في طاعته ربه وتقواه، وأجر في طاعته لسيده والقيام بأعمال سيده.
وهذا فيه الحث على تأديب الأَمَة، وحث أهل الكتاب على الإيمان بنبينا عليه الصلاة والسلام، وحث الموالي على الإحسان إلى مواليهم والإحسان في عبادة الله عز وجل حتى يحوزوا على الأجرين.
}3447{ قوله: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً» . هذه حال الناس حينما يقومون من قبورهم بعدما ينزل الله عز وجل مطرًا تنبت به أجساد الناس، ويأمر إسرافيل فينفخ في الصور فتعود الأرواح إلى أجسادها فيقوم الناس من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم على هذه الحالة: «حُفَاةً» ليس لهم نعال ، «عُرَاةً» ليس عليهم ثياب ، «غُرْلاً» غير مختونين جمع أغرَل ـ يعني: أن الجلدة التي تقطع من الإنسان وهو صغير من ذكره تعود كما كانت، فيصير أغرَل غير مختون.
واستشكلت ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله، كيف يكون الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة الأمر أشد من ذلك» [(902)] فالكل مشغول بنفسه لا يلوي أحد على أحد، فالأمر شديد وعصيب، والأبصار شاخصة ما أحد ينظر إلى أحد: [عَبَسَ: 34-37]{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ *}، أي: يفر المرء من أبيه، ويفر من أخيه، ويفر من زوجته، ويتمنى أن يكون له حسنة عندهم حتى يطالبهم.
فالإنسان إذا كان مهمومًا لا ينظر إلى أحد؛ ولهذا تجد أحيانًا بعض الناس تمر عليه وتسلم عليه ولا يرد عليك السلام، وبعدها تقول له: يا فلان أنا سلمت عليك وما رددت علي السلام فيقول لك: والله ما سمعتك ولا رأيتك؛ لأنه مهموم ما يرى الذي أمامه، وهذا هم من هموم الدنيا فكيف بالهم العظيم يوم القيامة؟!
قوله: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} » ، أي: أن الإنسان أَوّل ما خلق نزل من بطن أمه حافيًا عاريًا غير مختون.
قوله: «فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ» هذه منقبة لإبراهيم عليه السلام أنه أول من يكسى ثوبًا يواري عورته، وهذه منقبة خاصة، ولكنها لا تقضي على المناقب العامة للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أن موسى عليه السلام له منقبة خاصة أنه بعدما يفيق نبينا صلى الله عليه وسلم يجده ممسكًا بقائمة العرش.
قوله: «ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ» ، أي: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رأوه وآمنوا به «فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ» . قال العلماء: هؤلاء الأعراب الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم، وأما الصحابة رضي الله عنهم الذين رسخ الإيمان في قلوبهم فإن الله تعالى ثبتهم وعصمهم من الردة، ولهذا قال في آخر الحديث: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ: هُمْ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه» .
قوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ، يعني: كنت شهيدًا عليهم ما دمت حيًّا {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} قيل المعنى: أنه رُفع وهو نائم لأن النوم وفاة، وقيل: معنى توفيتني: قبضتني، كما تقول: توفيت الطعام يعني: قبضته، أي: قبضه الله عز وجل ورفعه حيًّا [المَائدة: 117-118]{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}
وفيه: أن الإنسان يسأل ربه الثبات، ويبتعد عن أسباب الردة، نسأل الله عز وجل السلامة والعافية.
نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ _ث
}3448{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ [النِّسَاء: 159]{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا *}.
}3449{ حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ» تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ.
هذه الترجمة تابعة لأخبار عيسى بن مريم _ب، وهي خاصة بنزوله في آخر الزمان، ونزوله شرط من أشراط الساعة الكبرى، وهو الشرط الثاني، وأشراط الساعة قسمها العلماء إلى قسمين: صغار وكبار، وبعضهم قسمها إلى ثلاثة: الأشراط الصغرى، ثم المتوسطة، ثم الكبرى؛ والكبرى عشرة إذا ظهرت واحدة تتابعت كالعقد؛ لأن الخرز إذا انقطع تتابع.
أول هذه الأشراط: المهدي، وهو رجل من سلالة فاطمة رضي الله عنها، اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، يُبَايع له في وقت ليس للناس فيه إمام.
الشرط الثاني: خروج الدجال.
الشرط الثالث: نزول عيسى عليه السلام قال الله تعالى: [الزّخرُف: 61]{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} يعني: نزول عيسى عليه السلام، وفي قراءة: (وإنه لعلَم) فينزل عيسى عليه السلام فيقتل الدجال.
الشرط الرابع: خروج يأجوج ومأجوج.
هذه أربعة متوالية وهي أول الأشراط العشر، ثم تتتابع الأشراط بعد ذلك، منها الدخان الذي يملأ ما بين السماء والأرض، ومنها نزع القرآن من الصدور، ومنها هدم الكعبة، ومنها خروج الدابة، ومنها طلوع الشمس من مغربها، وآخرها نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا.
}3448{ قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» ، أ قسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق وإن لم يقسم، لكن القسم لتأكيد الأمر.
وفيه: إثبات اليد لله عز وجل، والنفس تطلق على الروح.
قوله: «لَيُوشِكَنَّ» ، يعني: يقرب «أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً» ، يعني: حاكمًا يحكم بالعدل، وهو شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيكون فردًا من أفراد الأمة المحمدية فلن يأتي بشرع جديد، وكل نبي أخذ الله عز وجل عليه الميثاق لئن بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليتبعنه.
قوله: «فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ» ، لإبطال ما عليه النصارى من عبادة الصليب، والصليب خطان أحدهما فوق الآخر ، أحدهما قصير والثاني طويل؛ والنصارى يزعمون أن عيسى عليه السلام قتل وصلب عليه، وهذا من جهلهم وضلالهم، قال الله تعالى: [النِّسَاء: 157]{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، أي:ألقى الله تعالى شبهه على أحد أصحابه فقتل، وهم يقولون: إنه قتل ثم صلب، وإذا كان الأمر كما زعموا فلم يعبدون الصليب؟! والأجدر بهم أن لا يعبدوه ، بل أن يحرقوه ويكسروه.
قوله: «وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ» ؛ لأنهم يأكلون لحم الخنزير أيضًا، ودل ذلك على تحريم اقتناء الخنزير وتحريم أكله، وأنه نجس حتى قال كثير من الفقهاء من الحنابلة[(903)] والشافعية[(904)]: إن الخنزير مثل الكلب يُغسل ما ولغ فيه سبع مرات، والحديث إنما ورد في الكلب «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار» [(905)] لكن قاسوا عليه الخنزير، والصواب أن الخنزير ليس مثل الكلب، وهذا القياس ليس عليه دليل.
قوله: «وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ» هذا في رواية الكشميهني، وفي رواية المستملي: «ويضع الحرب» والمعنى أن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس مؤقت بنزول عيسى عليه السلام، وليس هذا شرعًا شرعه عيسى عليه السلام، ولكنه من شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ،فإذا نزل عيسى عليه السلام انتهى أخذ الجزية ولا تقبل منهم، إنما هو الإسلام أو السيف.
أما الوثنيون فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ولا جزية عليهم؛ لأن اليهود والنصارى لما خف كفرهم ساروا يخيرون بين ثلاثة أمور: إما الإسلام أو الجزية أو السيف.
ويحكم عيسى عليه السلام بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ويكون فردًا من أفراد الأمة، بل هو أفضل هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه نبي، ثم يليه في الفضيلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وأما معنى «ويضع الحرب» ، يعني: أنه يضع الحرب فلا يقيمها، لأنهم لا يقاومون.
ومن لبس الصليب راضيًا به ومقرًّا له ومعتقدًا أنه حق، وأن النصارى على حق، فهذا كفر وردة ـ والعياذ بالله عز وجل ـ فهم يجعلونه شعارًا لهم، ويزعمون أن عيسى عليه السلام صلب عليه، وهذا باطل، ومن زعم أن عيسى عليه السلام صلب وقد بلغه القرآن فقد كفر، قال الله تعالى: [النِّسَاء: 157]{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، فهو مكذب لله عز وجل، أما من لبس تشبها فهذا على خطر، وقد أتى كبيرة.
قوله: «وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» فيه: بيان أن في زمن عيسى عليه السلام يكثر المال حتى لا يقبله أحد، وجاء في الحديث الآخر: «تصدقوا فسيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فيقول الرجل لو جئت بها بالأمسِ لقبلتها منك فأما اليوم فلا حاجة لي فيها» [(906)] قال العلماء: هذا إنما يكون في زمن عيسى عليه السلام إذا كثر المال. وقال بعضهم: هذا حصل في زمن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بسبب العدل، وأنه طيف بالمال ولم يقبل.
قوله: «حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . والمراد بالسجدة الركعة، والمعنى أنه لقرب الساعة ورؤية أماراتها وتوقع قيامها تعظم رغبة الناس في الصلاة والعبادة حتى تكون الركعة عندهم خيًرا من الدنيا وما فيها.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: «وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ [النِّسَاء: 159]{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا *}» ، يعني: وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام قبل موته أي قبل موت عيسى عليه السلام، وقيل: قبل موت هذا الرجل من أهل الكتاب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «لَيُوشِكَنَّ» بكسر المعجمة ، أي: ليقربن؛ أي: لابد من ذلك سريعًا؛ قوله: «أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ» ، أي: في هذه الأمة؛ فإنه خطاب لبعض الأمة ممن لا يدرك نزوله، قوله: «حَكَمًا» ، أي: حاكمًا؛ والمعنى أنه ينزل حاكمًا بهذه الشريعة؛ فإن هذه الشريعة باقية لا تنسخ بل يكون عيسى عليه السلام حاكمًا من حكام هذه الأمة، وفي رواية الليث عن ابن شهاب عند البخاري ومسلم «حكمًا مقسطًا» . وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب «إمامًا مقسطًا» . والمقسط العادل بخلاف القاسط فهو الجائر» اهـ. لأن المقسط من الفعل الرباعي كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين على منابر من نور» [(907)] وهو العادل، أما القاسط فمن الثلاثي قسط وهو الجائر الظالم، ومنه قوله تعالى: [الجنّ: 15]{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا *}، يعني: الظالمون.
ثم قال رحمه الله: «ولأحمد من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: «فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَمَ» [(908)] وعند أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها «ويمكث عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة» [(909)] وللطبراني من حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه: «ينزل عيسى بن مريم عليه السلام مصدقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم على ملته» [(910)] قوله: «فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ» ، أي: يبطل دين النصرانية بأن يكسر الصليب حقيقة، ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه، ويستفاد منه تحريم اقتناء الخنزير وتحريم أكله وأنه نجس؛ لأن الشيء المنتفع به لا يشرع إتلافه، وقد تقدم ذكر شيء من ذلك في أواخر البيوع، ووقع للطبراني في «الأوسط» من طريق أبي صالح عن أبي هريرة: «فيكسر الصليب ويقتل الخنزير والقرد» [(911)] زاد فيه: «القرد» ، وإسناده لا بأس به، وعلى هذا فلا يصح الاستدلال به على نجاسة عين الخنزير؛ لأن القرد ليس بنجس العين اتفاقًا» اهـ.
قلت: وهذا قد لا يسلم به.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ويستفاد منه أيضًا تغيير المنكرات وكسر آلة الباطل، ووقع في رواية عطاء بن ميناء عن أبي هريرة عند مسلم «ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد» [(912)]. قوله: «وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ» ، في رواية الكشميهني «الحرب» ؛ والمعنى أن الدين يصير واحدًا فلا يبقى أحد من أهل الذمة يؤدي الجزية، وقيل: معناه أن المال يكثر حتى لا يبقى من يمكن صرف مال الجزية له فتترك الجزية استغناء عنها» اهـ.
وهذا القول لا قيمة له، والصواب القول الأول.
ثم قال رحمه الله: «وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بوضع الجزية تقريرها على الكفار من غير محاباة، ويكون كثرة المال بسبب ذلك. وتعقبه النووي وقال: الصواب أن عيسى صلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا الإسلام» اهـ.
وهذا هو الصواب، وهو ما دل عليه الحديث.
ثم قال رحمه الله: «قلت: ويؤيده أن عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة: «وتكون الدعوى واحدة» . قال النووي: ومعنى وضع عيسى عليه السلام الجزية مع أنها مشروعة في هذه الشريعة، أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى عليه السلام ،لما دل عليه هذا الخبر، وليس عيسى عليه السلام بناسخ لحكم الجزية، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ بقوله هذا» اهـ.
وكلام النووي هذا كلام جيد.
ثم قال رحمه الله: «قال ابن بطال: وإنما قبلناها قبل نزول عيسى عليه السلام للحاجة إلى المال بخلاف زمن عيسى عليه السلام فإنه لا يحتاج فيه إلى المال؛ فإن المال في زمنه يكثر حتى لا يقبله أحد، ويحتمل أن يقال: إن مشروعية قبولها من اليهود والنصارى لما في أيديهم من شبهة الكتاب وتعلقهم بشرع قديم بزعمهم؛ فإذا نزل عيسى صلى الله عليه وسلم زالت الشبهة بحصول معاينته؛ فيصيرون كعبدة الأوثان في انقطاع حجتهم وانكشاف أمرهم؛ فناسب أن يعاملوا معاملتهم في عدم قبول الجزية منهم، هكذا ذكره بعض مشايخنا احتمالاً والله أعلم» .
ثم قال رحمه الله: «قوله: «وَيَفِيضَ الْمَالُ» ، بفتح أوله وكسر الفاء وبالضاد المعجمة، أي: يكثر؛ وفي رواية عطاء بن ميناء المذكور «وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» [(913)] وسبب كثرته نزول البركات وتوالي الخيرات بسبب العدل وعدم الظلم، وحينئذ تخرج الأرض كنوزها، وتقل الرغبات في اقتناء المال لعلمهم بقرب الساعة. قوله: «حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، أي: إنهم حينئذ لا يتقربون إلى الله عز وجل إلا بالعبادة لا بالتصدق بالمال، وقيل: معناه أن الناس يرغبون عن الدنيا حتى تكون السجدة الواحدة أحب إليهم من الدنيا وما فيها، وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري بهذا الإسناد في هذا الحديث: «حتى تكون السجدة واحدة لله رب العالمين» » اهـ.
}3449{ قوله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ» . المراد به ـ على أحد المعنين ـ القرآن؛ يعني: أنهم يؤمون القرآن ويحكمون به، وهذا فيه بشارة باستمرار العمل بالقرآن إلى نزول عيسى بن مريم عليه السلام، بل بعد طلوع الشمس من مغربها، حتى تأتي الريح الطيبة وتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة؛ يعني: أن الخير سيبقى في هذه الأمة، وفي الحديث الآخر: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى» [(914)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد أخرجه مسلم من طريق ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بلفظ: «وأمكم منكم» [(915)] قال الوليد بن مسلم: فقلت لابن أبي ذئب إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري فقال: «وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ» . قال ابن أبي ذئب: أتدري ما أمكم منكم؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم، وأخرجه مسلم من رواية ابن ابن أخي الزهري عن عمه بلفظ: «كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم» [(916)] وعند أحمد من حديث جابر في قصة الدجال «ونزول عيسى وإذا هم بعيسى فيقال تقدم يا روح الله، فيقول ليتقدم إمامكم فليصل بكم» [(917)] ولابن ماجه في حديث أبي أمامة الطويل في الدجال قال: «وكلهم ـ أي: المسلمون ـ ببيت المقدس في الشام وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم إذ نزل عيسى عليه السلام، فرجع الإمام ينكص ليتقدم عيسى عليه السلام فيقف عيسى عليه السلام بين كتفيه ثم يقول: تقدم فإنها لك أقيمت» اهـ.
وجاء في الحديث الآخر أنه عليه السلام ينزل في وقت صلاة الفجر، وقد أقيمت الصلاة؛ فيتقدم الإمام فإذا نزل عيسى عليه السلام تأخر الإمام لِيقُدّم عيسى عليه السلام، فيمتنع عيسى عليه السلام فلا يتقدم؛ فيصلي عيسى عليه السلام خلف رجل من هذه الأمة.
والبعض وَجّهَ هذا فقال: هذا فيه بيان أن عيسى عليه السلام فرد من أفراد الأمة المحمدية وأنه تابع، ولهذا صلى خلف رجل من هذه الأمة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال أبو الحسن الخسعي الآبدي في مناقب الشافعي: تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة وأن عيسى عليه السلام يصلي خلفه» اهـ.
والمهدي هو الحاكم الذي يبايع له في زمن نزول عيسى عليه السلام، وهو رجل من هذه الأمة، وهو أول أشراط الساعة، وأن عيسى عليه السلام يصلي خلفه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ذكر ذلك ردًّا للحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وفيه: «ولا المهدي إلا عيسى» [(918)] وقال أبو ذر الهروي: حدثنا الجوزقي عن بعض المتقدمين قال: معنى قوله: «وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ» يعني: أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل. وقال ابن التين: معنى قوله: «وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ» أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم، وهذا والذي قبله لا يبين كون عيسى عليه السلام إذا نزل يكون إمامًا أو مأمومًا، وعلى تقدير أن يكون عيسى عليه السلام إمامًا فمعناه أنه يصير معكم بالجماعة من هذه الأمة قال الطيبي: المعنى يؤمكم عيسى عليه السلام حال كونه في دينكم، ويعكر عليه قوله في حديث آخر عند مسلم «فيقال له: صل لنا فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء» [(919)] تكرمة لهذه الأمة.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: لو تقدم عيسى عليه السلام إمامًا لوقع في النفس إشكال ولقيل: أتراه تقدم نائبًا أو مبتدئًا شرعًا فصلى مأمومًا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجهُ قوله: «لا نبي بعدي» [(920)] وفي صلاة عيسى عليه السلام خلف رجل من هذه الأمة ـ مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة ـ دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو عن قائم لله عز وجل بحجة، والله أعلم» اهـ. يعني: الطائفة المنصورة ومعهم الحجة قائمة.
بسم الله الرحمن الرحيم مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
}3450{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو لِحُذَيْفَةَ: أَلاَ تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ مَاءً وَنَارًا فَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا النَّارُ فَمَاءٌ بَارِدٌ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ فَنَارٌ تُحْرِقُ فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَى أَنَّهَا نَارٌ فَإِنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ».
}3451{ قَالَ حُذَيْفَةُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ قِيلَ لَهُ: انْظُرْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ.
}3452{ فَقَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلاً حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَامْتُحِشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا، ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَاكَ وَكَانَ نَبَّاشًا.
}3453{، }3454{ حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالاَ: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.
}3455{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَْنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الأَْوَّلِ فَالأَْوَّلِ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ».
}3456{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ».
}3457{ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَأُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَْذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِْقَامَةَ.
}3458{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ فِي خَاصِرَتِهِ وَتَقُولُ إِنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَْعْمَشِ.
}3459{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلاَ مِنْ الأُْمَمِ مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالاً فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلاَ فَأَنْتُمْ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلاَ لَكُمْ الأَْجْرُ مَرَّتَيْنِ فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلاً وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ».
}3460{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا».
تَابَعَهُ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}3461{ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا الأَْوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ».
}3462{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ».
}3463{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثنِي حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَمَا نَسِينَا مُنْذُ حَدَّثَنَا وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
هذا الباب في بني إسرائيل جعله المؤلف رحمه الله تابعًا لأحاديث الأنبياء، وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وهو ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام؛ فهو حفيد إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو الذي بنى بيت المقدس، وكان بين بنائه وبين بناء المسجد الحرام أربعون عامًا؛ فإبراهيم الخليل عليه السلام هو الذي بنى الكعبة ويسمى مسجد إبراهيم، ويعقوب بن إسحاق حفيده بنى المسجد الأقصى بعده بأربعين عامًا، ثم نبينا صلى الله عليه وسلم بنى مسجده في المدينة، وهذه المساجد الثلاثة تسمى مساجد الأنبياء، ولا تشد الرحال إلا إليها.
والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة لمن تقبل الله عز وجل منه، والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة لمن تقبل الله عز وجل منه، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة لمن تقبل الله عز وجل منه، هكذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، والمؤلف رحمه الله بوب فقال: «بَاب مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» يعني: من الأعاجيب.
وأخبار بني إسرائيل ـ كما بين أهل العلم كالحافظ ابن كثير رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيرهم ـ لها ثلاث حالات:
الأولى: ما جاء شرعنا بقبوله وتقريره والعمل به؛ فهذا يجب العمل به وهو من شرعنا.
الثانية: ما جاء شرعنا برده وإبطاله؛ فهذا يجب رده وإبطاله ولا يجوز قبوله ولا التحديث به.
الثالثة: ما سكت عنه شرعنا فلم يأت في شرعنا ما يرده ولا ما يقبله؛ فهذا لا يصدق ولا يكذب، ويحدث به لما فيه من الأعاجيب، وهو الذي ورد فيه الحديث: «تحدثوا عن بني إسرائيل فإنه كانت فيهم أعاجيب» [(921)].
}3450{، }3451{، }3452{ ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أحاديث بسند واحد: الحديث الأول حديث الدجال، والحديث الثاني حديث الرجل الذي يبايع الناس، والحديث الثالث قصة الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه.
أما الحديث الأول فهو حديث الدجال، ولا مناسبة له في الترجمة، لكن ذكره المؤلف رحمه الله لأن الراوي حذيفة رضي الله عنه روى ثلاثة أحاديث بسند واحد، منها حديث الدجال، والدجال رجل من بني آدم يخرج في آخر الزمان يدّعي الصلاح أولا ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية ويقول للناس: أنا ربكم.
وسمي دجالاً للمبالغة؛ لكثرة دجله وتمويهه وتلبيسه وكذبه وافترائه. والدجالون كثيرون ـ ومنهم السحرة والمخرقون ـ لكن هذا الدجال أكبرهم وأشدهم فتنة.
وهذا الدجال الذي يخرج في آخر الزمان وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأوصاف لا تكون لغيره، وفتنته عظيمة؛ ولهذا ثبت في «صحيح مسلم» [(922)] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين خلق آدم وقيام الساعة أمر أو خلق أكبر من الدجال» . وجاء في الحديث: «من سمع بالدجال فلينأ عنه» [(923)] وجاء في الحديث أيضًا: «ليفرن الناس من الدجال في الجبال» [(924)].
وهذا الرجل يجري الله عز وجل على يديه خوارق ابتلاء وامتحانًا، فمن هذه الخوارق أنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، ومنها أنه يأتي بالخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ومنها أنه يسلط على رجل ممن يكذبه فيقول للناس: أترون إن قتلته ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا؛ فيقطعه نصفين ويمشي بين طرفيه ثم يقول: قم فيستوي قائمًا فيقول: أما عرفتني فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة أنت الدجال الكذاب الذي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في «صحيح مسلم» : «هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين» [(925)].
ومنها: ما جاء في هذا الحديث أن معه صورة الجنة وصورة النار ومعه ماء ومعه نار، والأمر معكوس فالذي يراه الناس نارًا هو في الحقيقة ماء بارد، والذي يراه الناس ماء باردًا هو في الحقيقة نار تحرق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَى أَنَّهَا نَارٌ فَإِنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ» .
وهذا الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤها كل مؤمن كاتب أو غير كاتب وجاء في بعض الروايات: «كفر» [(926)].
وهذا الحديث فيه: البيان والتحذير من النبي صلى الله عليه وسلم لمن أدرك زمن الدجال حتى يكون على بصيرة، وذلك الزمن ليس بالبعيد فقد كثر الظلم والشر والفساد والشرك والتبست الأمور، فهذه هي الأسباب التي تسوق الدجال والله أعلم.
وأول أشراط الساعة أن يخرج المهدي وذلك إذا كثر الظلم والفساد في الأرض، وكثر الشرك والتبست الأمور، وجاءت سنون خداعة، يُخَوّن فيها الأمين، ويُؤّمن فيها الخائن، ويُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، وهو رجل من سلالة فاطمة اسمه محمد، ولقبه كلقب النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته ككنيته، يبايع له بالخلافة في وقت ليس للناس فيه إمام، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا، وفي زمنه تكون حروب طاحنة بين المسلمين وبين النصارى، من آخرها فتح القسطنطينية، وإذا فتحت القسطنطينية خرج الدجال بعد ذلك، وهو العلامة الثانية.
ثم بعد ذلك ينزل عيسى بن مريم عليه السلام وهو العلامة الثالثة، ويقتل الدجال، ثم يخرج يأجوج ومأجوج وهذه العلامة الرابعة، فهذه أربع علامات متوالية ومرتبة، ثم تتتابع العلامات العشرة، ومنها: الدخان الذي يملأ الأرض، ومنها نزع القرآن من الصدور، ومنها هدم الكعبة، ثم طلوع الشمس من مغربها، والدابة، ثم آخرها النار التي تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم إذا باتوا، ثم تأتي الريح الطيبة تقبض روح المؤمنين والمؤمنات، ثم تقوم الساعة على الكفرة نسأل الله السلامة والعافية.
و الحديث الثاني هو حديث الرجل المؤمن الذي عمله قليل، ومن أعماله العظيمة أنه يُنظِر الموسرين ويتجاوز عن المعسرين، وفي هذا الحديث فضل إنظار الموسر والتجاوز عن المعسر في المبايعات، وأنه من أسباب دخول الجنة، والموسر قد يحتاج إلى إنظار؛ فقد تكون نقوده غير حاضرة، مثل ما هو موجود الآن في هذا الزمن حيث تجد الإنسان عنده أموال، لكن ليست عنده سيولة ـ كما يقولون ـ فكلها أراضٍ وعقارات ومصانع وتجارات؛ فإذا صار عليه دين فإنه يحتاج مهلة حتى يجمع المال، أما المعسر فُيتجَاوز عنه ويُسقَط عنه بعض الدين ويخفف عنه، قال الله تعالى: [البَقَرَة: 280]{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فهو خبر بمعنى الأمر، والمعنى أنظروه حتى يُوسر، وقال تعالى: [البَقَرَة: 280]{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} يعني: أن تتصدقوا بإسقاط بعض الدين فهذا أفضل، وعلى هذا فكونه ينظره فهذه فريضة، أما التخفيف بإسقاط بعض الدين فهذه نافلة، والنافلة أفضل من الفريضة في حق هذا الفقير.
فهذا الرجل كان من خلقه ذلك، وفي اللفظ الآخر أنه قال: «كان من خلقي الجواز» [(927)] يعني: يتجاوز عن المعسر وينظر الموسر؛ فدل هذا على فضل إنظار الموسر والتجاوز عن المعسر وأنه من أسباب دخول الجنة، مع الإيمان بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لو كان ينظر الموسر وليس مؤمنًا لا يدخل الجنة؛ فالنصوص يضم بعضها إلى بعض كما ثبت في «الصحيح» : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا رضي الله عنه ينادي في إحدى الغزوات: «أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» [(928)] والله تعالى حرم الجنة على المشرك بنص القرآن [المَائدة: 72]{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}.
وكان هذا الرجل مؤمنًا إلا أن عمله قليل؛ ولهذا لما قيل له: «هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ؟» تقالّ عمله فقال: «مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ» . والشاهد للترجمة قوله: «إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ، يعني: من بني إسرائيل.
و الحديث الثالث الذي ساقه حذيفة رضي الله عنه بهذا السند «فَقَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلاً حَضَرَهُ الْمَوْتُ» يعني: فيما سبق من الأمم السابقة، وهذا هو الشاهد للترجمة «فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَامْتُحِشَتْ» يعني: إذا احترق واسود «فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا» ، وفي اللفظ الآخر: أنه جمع بنيه لما حضرته الوفاة فقال: «أي: أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم عاصف» [(929)].
قوله: «ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ» ، يعني: في يوم شديد الهبوب انثروه في البحر، وفي اللفظ الآخر: «أن نصفه في البر ونصفه في البحر» [(930)] وفي اللفظ الآخر أنه قال: «فوالله لئن قَدِر عليّ ربي ليعذبني عذابًا ما عُذبه أحد» [(931)] فهذا الرجل ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة يفوت على الله عز وجل. «فَفَعَلُوا» ، أي: ففعل به أهله ذلك، فلما مات أحرقوه ثم سحقوا العظام وطحنوها، ثم ذروه ، «فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، وفي اللفظ الآخر: «فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر الله البحر فجمع ما فيه فقال له: قم فإذا هو إنسان قائم فقال الله: لما فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك فغفر الله له» [(932)]، فهذا الرجل كان لا ينكر البعث ، فهو يعلم أنه لو مات سيبعث، لكنه ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة وأحرق وسحق وطحن وذُرَّ في البر والبحر أنه يفوت على الله عز وجل ولا يدخل تحت القدرة؛ فهو لم ينكر قدرة الله عز وجل عليه ولكن أنكر كمال تفاصيل القدرة، والذي حمله على ذلك ليس الإنكار وليس التكذيب، وإنما حمله على ذلك أمران:
الأول: الجهل حيث ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله عز وجل وهذه مسألة دقيقة تخفى عليه.
الثاني: خشية الله عز وجل والخوف العظيم؛ فاجتمع عنده الأمران: الجهل مع الخوف العظيم، فغفر الله عز وجل له، فلو كان مكذبًا بالبعث لكان كافرًا، ولو كان منكرًا للقدرة لكان كافرًا، لكن هذا هو مبلغ علمه، وليس مكذبًا بالبعث ولا منكرًا لقدرة الله عز وجل.
فدل هذا على أن الجاهل الذي ينكر أمرًا دقيقًا خفيًّا يعذر بجهله، أما الذي ينكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة معروفًا عند كل أحد لا يعذر؛ فلو أن إنسانًا يعيش بين المسلمين وصار يدعو غير الله عز وجل، ويذبح لغير الله عز وجل ويقول: أنا جاهل فهذا ليس معذورًا، أو أن إنسانًا يعيش بين المسلمين يتعامل بالربا وإذا قلت له: لماذا تتعامل بالربا؟ قال: أنا جاهل فإنه لا يصدق، لكن لو أن شخصًا عاش في مجتمع ربوي، ثم أسلم ووجد الناس يتعاملون بالربا ثم تعامل فممكن أن يعذر بجهله.
فدل هذا على أن إنكار دقائق الصفات التي تخفى على الشخص لا يكفر بها، فهذا الرجل أنكر كمال قدرة الله عز وجل على بعثه ولم ينكر البعث، وحمله على ما أمر به أهله وأولاده من إحراقه وطحنه خوف الله عز وجل لذلك أعذره الله عز وجل فغفر له، وهذا هو الراجح في المسألة.
وهذا هو الذي قرره المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره أن هذا الرجل غفر الله عز وجل له لكونه أنكر أمرًا دقيقًا خفيًّا وهو كمال تفاصيل القدرة، لا عن عناد ولا عن تكذيب، وإنما عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم فغفر الله عز وجل له.
وفي المسألة ثلاثة أقوال أخرى:
أحدها: أن هذا كان جائزا في شرع من كان قبلنا، وهو جواز المغفرة للكافر لكن هذا بعيد جدًّا؛ لأن الله عز وجل لا يغفر أبدًا للمشرك شركًا أكبر؛ فكل نبي بعثه الله عز وجل يقول لقومه: [الأعرَاف: 59]{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
الثاني: أن معنى قوله: «إن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عُذبه أحد» [(933)] يعني: لئن ضيق الله عز وجل علي؛ ففسر القدرة بالتضييق كقوله تعالى: [الطّلاَق: 7]{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}، يعني: من ضُيق عليه.
الثالث: أنه قال هذا الكلام: «إن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عُذبه أحد» في حال دهشة وغلبة الخوف عليه حتى ذهب عقله، ولم يقله قاصدًا لحقيقة معناه فهو كالغافل والذاهل والناسي.
والصواب القول الأول الذي عليه المحققون، وهو أن هذا الرجل أنكر أمرًا خفيًّا دقيقًا يجهله، وحمله على ذلك الخوف العظيم؛ لذلك غفر الله عز وجل له، ولو كان مكذبًا أو معاندًا، أو كان هذا الذي أنكره أمرًا معلومًا لكان كافرًا.
وأما عمل هذا الرجل ففي بعض الروايات قال: «فإنه لم يبتئر عند الله خيرًا» [(934)] أي: لم يدخر، وفي هذا الحديث قال: «وَكَانَ نَبَّاشًا» ، أي: ينبش القبور فهذه جريمته، وفي روايات أخرى: «أنه كان يسرف على نفسه» [(935)] وفي الرواية التي جاءت في الرقاق وساقها المؤلف رحمه الله في عدة مواضع في «الصحيح»: «أنه كان يسيء الظن بعمله» [(936)].
}3453{، }3454{ هذا الحديث فيه: التحذير من اتخاذ القبور مساجد، وأنه من أسباب لعنة الله عز وجل، وأنه من أفعال اليهود والنصارى؛ لأنه وسيلة للشرك، واتخاذ القبور مساجد يكون بالمكث عندها والتردد عليها، والدعاء عندها والصلاة عندها، وبناء القباب عليها، وإضاءتها بالأنوار والكهرباء، ووضع الرياحين والزهور عندها، فكل هذا من وسائل الشرك، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك في آخر لحظة من حياته.
قوله: «لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» يعني: لما نزلت به علامات الموت «طَفِقَ» يعني: جعل «يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ» الخميصة: كساء له أعلام «فَإِذَا اغْتَمَّ» أي: احتبس نفسه «كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ» ثم يعيدها من شدة الكرب الذي أصابه صلى الله عليه وسلم، ثم قال في هذه الحالة الحرجة: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . قالت عائشة رضي الله عنها: «يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا» يعني: يحذر من صنيعهم؛ يعني: لا تصنعوا مثلهم ولا تفعلوا مثل فعلهم فيصيبكم ما أصابهم؛ وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد وسيلة قريبة للشرك.
وجاء في الحديث الآخر: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» [(937)] فشرار الناس نوعان:
النوع الأول: الذين تقوم عليهم الساعة وهم الكفرة.
النوع الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد؛ لأنها وسيلة إلى الشرك.
وفيه: دليل على أن الصلاة عند القبور لا تصح؛ لأن اللعن يدل على التحريم، والتحريم يدل على الفساد؛ فإذا صلى عند القبر فصلاته باطلة، وكذلك لو صلى في مسجد فيه قبر فالصلاة غير صحيحة، أما إذا كانت الصلاة خارج القبر أو خارج المسجد فلا بأس، وإذا كان القبر في ساحة تابعة للمسجد، فلا يُصلَّى فيه.
}3455{ هذا الحديث عن بني إسرائيل؛ فمناسبته للترجمة واضحة، فإن فراتًا القزاز يقول: «سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَْنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ» ، يعني: أنه كان إذا ظهر فيهم فساد وانحراف بعث الله عز وجل فيهم نبيًّا يقيم لهم أمر دينهم، ويدلهم على الصواب، ويزيل ما غيروا من أحكام التوراة.
وفيه: إشارة أنه لابد للرعية من قائم يقوم بأمرها يحملها على العمل بكتاب الله عز وجل، وينصف المظلوم من الظالم؛ لذلك كان الأنبياء كثيرين في بني إسرائيل.
قوله: «وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» ، فيه: دليل على أن نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، قال الله تعالى: [الأحزَاب: 40]{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}. فمن زعم أن بعد نبينا صلى الله عليه وسلم نبيًّا فهو كافر بإجماع المسلمين.
قوله: «وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» ، يعني: أن هذه الأمة ليس بعد نبيها صلى الله عليه وسلم نبي، لكن تكثر فيهم الأمراء والخلفاء والملوك والرؤساء.
قوله: «قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟» ، يعني: ماذا نعمل مع هؤلاء الأمراء والملوك؟ «قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الأَْوَّلِ فَالأَْوَّلِ» فوا: فعل أمر من الوفاء وفعله: وفى يفي، وفعل الأمر إذا كان أوله واو تحذف الواو عند الأمر، يعني: إذا كثر الأمراء فالأول الذي تبايعونه عليكم أن تفوا بالبيعة له؛ فإذا جاء أحد بعده ينازعه يقتل؛ لأنه معتد وظالم يريد أن يفرق المسلمين ويشتتهم؛ ولهذا جاء في «صحيح مسلم » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» [(938)].
فإذا مات الخليفة واستخلف غيره يوفى ببيعة الذي بعده.
قوله: «أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ» ، أي: من السمع والطاعة في المعروف، والنصح والدعاء لهم، وعدم الخروج عليهم، وأما حقكم أنتم فإذا لم يعطوكموه فاطلبوه من الله عز وجل «فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» ، يعني: كون الأمراء لا يؤدون الحق الذي عليهم لا يمنعكم أنتم أن تؤدوا الحق الذي عليكم من السمع والطاعة، وعدم الخروج عليهم، والجهاد معهم، والحج معهم ولو كانوا فساقًا؛ ولهذا فأهل السنة يعتقدون أن الجهاد ماض مع كل أمير، برًّا كان أو فاجرًا، حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال.
وهذا فيه: دليل على عدم الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي والكبائر والجور والظلم، ولكن النصيحة تبذل من أهل الحل والعقد بقدر الإمكان، فإن قبلوا فالحمد لله تعالى، وإن لم يقبلوا فقد أدى الناس ما عليهم، والله تعالى هو سائلهم، وليس كونهم لم يقبلوا النصيحة، أو كونهم يفعلون الفجور والظلم مسوغًا للخروج عليهم، فلا يسوغ الخروج إلا بالكفر الصريح الواضح الموصوف بثلاثة أوصاف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان» [(939)].
فالوصف الأول: لابد أن يفعلوا الكفر فإن كان فسقًا فلا.
والوصف الثاني: أن يكون الكفر بواحًا يعني: واضحًا لا لبس فيه؛ فإن كان فيه شك أو لبس أو اختلاف فلا.
والوصف الثالث: أن يكون دليله واضحا من الكتاب والسنة.
فهذه ثلاثة أوصاف، وهناك وصف رابع: وهو القدرة على الخروج عليهم، وصف خامس: وهو وجود البديل المسلم الذي يحل محله.
فإذا وجدت هذه الشروط جاز الخروج، وإلا فلا حتى ولو كان الحاكم كافرًا ما دام الناس غير قادرين على ذلك [البَقَرَة: 286]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أو أنه لا يوجد بديل؛ لأنه إذا أزيل وحل محله كافر آخر فلا يحصل المقصود، إذن يُبقيِ الناس على الكافر الأول، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
}3456{ هذا الحديث فيه: علم من أعلام النبوة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة تعمل مثل عمل من قبلها فقال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ » ، يعني: طريقتهم وأعمالهم وتفعلون مثل فعلهم «شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» ، يعني: كل الذي فعلوه لابد أن تفعله هذه الأمة، فكما أن الشبر يساوي الشبر، والذراع يساوي الذراع، فكذلك أنتم سوف تفعلون مثل فعلهم «حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ» . وهذا مبالغة في الاتباع للأمم السابقة، حتى لو كان في الأمم السابقة من دخل جحر الضب فلابد لهذه الأمة أن تدخل جحر الضب مثلهم، وتسلك مثل سلوكهم مع أن جحر الضب لا يسع الإنسان! وذلك مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم «من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة» [(940)].
قوله: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ» يعني: فمن غيرهم؟ وفي اللفظ الآخر: «فمن الناس إلا أولئك؟!» [(941)] يعني: سوف تفعلون كما يفعل اليهود والنصارى، وهذا الحديث وأمثاله يفيد أمرين:
الأمر الأول: أن ما فعلته الأمم السابقة لابد أن تفعله هذه الأمة، وليس معنى ذلك أن كل فرد يفعل كما تفعل الأمم السابقة، بل المعنى أنه يوجد في هذه الأمة من يفعل فعل اليهود والنصارى.
الأمر الثاني: التحذير من أن نفعل مثل فعلهم فيصيبنا ما أصابهم، وهناك طائفة من هذه الأمة على حق مستقيمة لا تفعل مثل فعل اليهود والنصارى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى» [(942)].
والحديث له طرق متعددة.
}3457{ مناسبة هذا الحديث لبني إسرائيل: أن النار والناقوس كان يفعله بنو إسرائيل عند إرادة العبادة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشرعت الصلاة شاور النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم في طريقة الإعلام بدخول وقت الصلاة، فقال بعضهم: إذا جاءت الصلاة نشعل نارًا؛ فمن رأى هذه النار جاء إلى المسجد، وقال بعضهم: بل نضرب الناقوس! والنبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك؛ لأنه من أفعال اليهود والنصارى، ثم جاء عبدالله بن زيد رضي الله عنه وقال: إنه رأى في الرؤيا أنه جاءه رجل وقال له: إذا أردت أن تعلن عن الصلاة تقول: الله أكبر الله أكبر... إلى آخر الآذان، ثم جاء عمر رضي الله عنه ورأى شيئًا مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألقها على بلال فهو أندى منك صوتًا» [(943)].
قوله: «فَأُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَْذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِْقَامَةَ» يشفع الأذان أي: يأتي بألفاظه شفعًا، أي: مثنى مثنى، فيقول: «الله أكبر» أربع مرات، و«أشهد أن لا إله إلا الله» مرتين، و«أشهد أن محمدًا رسول الله» مرتين، و«حي على الصلاة» مرتين، و«حي على الفلاح» مرتين، و«الله أكبر» مرتين، وآخرها كلمة التوحيد مرة واحدة، وأما الإقامة فتكون وترًا إلا التكبير في أولها وآخرها، و«قد قامت الصلاة» .
}3458{ الشاهد من هذا الحديث: النهي عن فعل اليهود ـ وهم من بني إسرائيل ـ في الصلاة، وهو أن يجعل الإنسان يده على خاصرته في جنبه؛ وسبق هذا الحديث في «كتاب الصلاة» بلفظ: «نهى عن الخصر في الصلاة» [(944)] وفي رواية: «نهى أن يصلي الرجل مختصرًا» [(945)] وعائشة رضي الله عنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خصره وتقول: إنه فعل اليهود ونحن نهينا عن مشابهة اليهود.
}3459{ في الحديث: فضل هذه الأمة ومضاعفة أجورها بالنسبة للأمم السابقة.
وفيه: بيان نسبة زمان هذه الأمة إلى الأمم السابقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلاَ مِنْ الأُْمَمِ مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ» ، أي: أن الأمم السابقة زمنها من طلوع الشمس إلى صلاة العصر، وهذه الأمة زمنها من صلاة العصر إلى مغرب الشمس؛ وهذا يشكل قريبًا من خمس أو سدس النهار وهذا يدل على أن هذه الأمة هي آخر الأمم، وأنه ما بقي إلا جزء قليل من بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة؛ ولهذا فإن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ويسمى صلى الله عليه وسلم نبي الساعة، وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» [(946)].
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم أجر هذه الأمة على من سبقها بضرب المثل، وفي ضرب الأمثال فوائد، فبها ينتقل الإنسان من المعنى المعنوي إلى المعنى الحسي، قال الله تعالى: [العَنكبوت: 43]{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ *}.
المثل الأول: الذي ضربه صلى الله عليه وسلم هو أَجَلُ هذه الأمة بالنسبة إلى الأمم السابقة، وهو من صلاة العصر إلى المغرب.
المثل الثاني: في مضاعفة أجور هذه الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالاً فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ» . القيراط: وحدة معروفة، وهو جزء من أربعة وعشرين جزءًا، وهو مثل أن يقول: من يعمل على درهم أو على مائة درهم؟ «فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ» ، أي: اشتغلوا من طلوع الشمس إلى نصف النهار وأخذوا أجورهم وانتهى الأمر ، «ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ» ، فجاءت النصارى وعملت وأخذوا قيراطًا قيراطًا، ثم قال صلى الله عليه وسلم في المرة الثالثة: «مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ» ، فعملت هذه الأمة على ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ فَأَنْتُمْ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلاَ لَكُمْ الأَْجْرُ مَرَّتَيْنِ» ، أي: أن الأجر مضاعف مع أن المدة من بعد العصر إلى المغرب أقل من المدة من أذان الظهر إلى العصر، وكذلك أيضًا أقل من المدة من الصباح إلى أذان الظهر «فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلاً وَأَقَلُّ عَطَاءً» ، كأنهم قالوا: كيف تعطينا أجرة قليلة وعملنا كثير، وهؤلاء تعطيهم أجرة مضاعفة والوقت قليل؟! «قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟» كأنه قال لهم: اتفقت أنا وإياكم على أجرة معينة محددة، هل ظلمتكم ونقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا،بل أعطيتنا حقنا كما اتفقنا، فقال: «فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ» ، وهذا فضل هذه الأمة.
وجاء في بعض الآثار أن عُمُرَ هذه الأمة سبعة آلاف سنة، وهذا باطل ليس له أصل وهو من التكلف ومن دعوى علم الغيب، فموعد الساعة لا يعلمه إلا الله عز وجل فلا يعلم مقدار ما مضى بتحديد السنين إلا الله عز وجل، ولا يعلم مقدار ما بقي أيضًا من السنين إلا الله عز وجل.
}3460{ هذا الحديث فيه: الإخبار عن فعل اليهود والتحذير من فعلهم.
قوله: «قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا» ، قاله عمر رضي الله عنه: وهذا من شدة غيظه عليه، وكأن هذا الرجل فعل شيئًا فيه حيلة على الباطل، وقد يكون عمر ما أراد المعنى الحقيقي كقول المرء: عقرى حلقى.
قوله: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ» فيه: جواز لعن اليهود على العموم، وكذلك النصارى، بل والفساق أيضًا يلعنون على العموم، تقول: لعن الله السارق لعن الله شارب الخمر، أما الشخص المعين فلا يلعن على الصحيح، حتى ولو كان كافرًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا» [(947)]، إلا من اشتد أذاه أو كان للتحذير من بدعته أو كفره.
قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا» فيه: دليل على تحريم الحيل، وأن الحيلة لا تحل المحرم.
وفيه: تعنت اليهود حيث حرم الله عز وجل عليهم الشحوم، قال الله تعالى: [الأنعَام: 146]{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} فتحيلوا فأخذوا الشحوم وأذابوها وباعوها وقالوا: نحن ما بعنا الشحوم بل بعنا دهنًا! فلعنهم الله عز وجل بهذا، ومثل ذلك أصحاب السبت الذين حرم الله عز وجل عليهم اصطياد الحوت يوم السبت، وابتلاهم الله عز وجل بأن الحوت لا يأتي إلا يوم السبت؛ فتحيلوا فجعلوا ينصبون الشباك لاصطياد الحوت يوم الجمعة، ويوم السبت تقع في الشباك فيأخذونه يوم الأحد ويقولون: ما صدنا يوم السبت، ولذلك مسخهم الله عز وجل قردة وخنازير ـ نعوذ بالله عز وجل ـ.
فالحديث فيه: دلالة على إبطال الحيل وتحريمها وأن الحيلة لا تبيح المحرم.
وفيه: لعن اليهود والنصارى على العموم، ولعن العصاة والفساق على العموم، أما المعين فلا يلعن على الصحيح.
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة» [(948)] أي: إذا كان مُعَيّناً بخلاف من لعنه بالوصف كلعن السارق، ولعن شارب الخمر، وقول: لعنة الله على الكاذبين.
}3461{ هذا الحديث فيه الأمر بالتبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» يعني: يشرع للإنسان أن يبلغ ما فهمه من العلم، وما علمه من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن بعد التأكد.
قوله: «وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ» . هذا هو الشاهد للترجمة، والمراد فيما لم يأت شرعنا بمخالفته، أما ما جاء شرعنا بمخالفته فلا يحدث به إلا على وجه البيان.
قوله: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . هذا من الأحاديث المتواترة
وفيه: التحذير من الكذب.
وفيه: الوعيد الشديد على من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم متعمدًا، وجاء في الحديث الآخر: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» [(949)] حتى قال بعضهم: إن من كذب عليه صلى الله عليه وسلم متعمدًا كفر، وهذا قول فيه مبالغة.
}3462{ هذا الحديث فيه: الأمر بالصبغ، والمراد صبغ شعر الرأس واللحية، والشاهد من الحديث أن اليهود والنصارى لا يصبغون الشيب؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم والأصل في الأمر الوجوب إلا إذا صرفه صارف، والأمر مصروف هنا للاستحباب بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة على عدم الصبغ.
والصبغ يكون بالصفرة أو بالحمرة الخالصة أو بالحمرة والسواد معًا، وثبت في «صحيح مسلم»: أن أبا بكر رضي الله عنه صبغ بالحناء والكتم، وأن عمر رضي الله عنه صبغ بالحناء والكتم، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رؤي شعره أحمر[(950)] لكن قيل: إن السبب في ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الطيب حتى يحمر الشعر، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم ما شاب كما قال أنس رضي الله عنه: ليس في رأسه ولحيته إلا ما يقارب عشرين شعرة شيبًا[(951)].
أما الصبغ بالسواد الخالص فهذا فعله بعض العلماء، ونسب إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وجماعة، كما نقله ابن القيم في «زاد المعاد» [(952)].
والصواب أن الصبغ بالسواد لا يجوز لما ثبت في « صحيح مسلم» : أنه أتي بأبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا فقال صلى الله عليه وسلم: «غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد» [(953)].
وبعضهم طعن في زيادة: «واجتنبوا السواد» ، وقال إن هذه مدرجة من كلام بعض الرواة، والصواب أنها صحيحة وأنها ثابتة، وأنه لا يجوز الصبغ بالسواد، ويؤيده حديث: «يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة» [(954)]، وهذا يدل على عدم جواز الصبغ بالسواد الخالص بالمرة، وإنما يكون الصبغ بالحمرة الخالصة، أو الصفرة الخالصة، أو الحمرة والسواد يجمع بينهما.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» يقتضي مشروعية الصبغ، والمراد به صبغ شيب اللحية والرأس، ولا يعارضه ما ورد من النهي عن إزالة الشيب؛ لأن الصبغ لا يقتضي الإزالة. ثم إن المأذون فيه مقيد بغير السواد، لما أخرجه مسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «غيروه وجنبوه السواد» [(955)] ولأبي داود وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعًا : «يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة» [(956)] وإسناده قوي، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال بالرأي: فحكمه الرفع، ولهذا اختار النووي أن الصبغ بالسواد يكره كراهية تحريم» اهـ.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وعن الحليمي أن الكراهة خاصة بالرجال دون النساء ، فيجوز ذلك للمرأة لأجل زوجها» اهـ.
وهذا ذكره الحليمي استحسانًا لكن ما ذكر عليه دليلاً.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال مالك: الحناء والكتم واسع، والصبغ بغير السواد أحب إلي، ويستثنى من ذلك المجاهد اتفاقًا، وليس المراد بالصبغ في هذا الحديث صبغ الثياب، ولا خضب اليدين والرجلين بالحناء مثلاً؛ لأن اليهود والنصارى لا يتركون ذلك، وقد صرح الشافعية بتحريم لبس الثياب المزعفرة للرجل وبتحريم خضب الرجال أيديهم وأرجلهم إلا للتداوي» اهـ.
وقوله: «ويستثنى من ذلك المجاهد اتفاقًا» فيه: نظر؛ لأنه ما ذكر دليلاً.
}3463{ هذا الحديث أخبر فيه: النبي صلى الله عليه وسلم عمن سبقنا بقوله: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» . وهذا هو الشاهد للترجمة، وهي قوله: «باب ما ذكر عن بني إسرائيل» .
قوله: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ» ؛ يعني: لم يصبر على قضاء الله عز وجل وقدره، ولم يصبر على المصيبة «فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ» . فالجرح كان يؤذيه ويؤلمه، فأخذ سكينًا فقطع هذا الجرح «فَمَا رَقَأَ الدَّمُ» ، يعني: ما انقطع «حَتَّى مَاتَ» . فصار هذا الرجل قاتلا نفسه «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:» ـ هذا حديث قدسي، وهو كلام الله عز وجل لفظًا ومعنى ـ «بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . هذا وعيد شديد يدل على أن قتل النفس من كبائر الذنوب، ولا يدل على أنه كافر إلا إذا استحله.
فقتل النفس لا يكون كفرًا؛ لأنه ليس شركًا بالله عز وجل، ولا ناقضًا من نواقض الإسلام، إلا إذا استحله بأن قال: أعتقد أنه حلال فهذا كفر؛ لأنه استحل أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، أما إذا كان لا يستحله ويرى أنه حرام، ولكن غلبه هواه وغلبته النفس الأمارة، وغلبه الوجع والجزع فقتل نفسه فلا يكون كافرًا، ولكنه يكون ناقص الإيمان أو ضعيف الإيمان، وما يُكَفِّر بهذا إلا الخوارج والمعتزلة.
وجاء في الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه» [(957)]. قال العلماء: إنما لا يصلي عليه أعيان الناس ووجهاؤهم ـ مثل العلماء والأمراء ورؤساء القبائل والعشائر ـ تحذيرًا للأحياء حتى لا يفعلوا مثل فعله، فإذا رأى الأحياء أن الأعيان والعلماء يتأخرون عن الصلاة عليه صار ذلك زجرًا لهم فلا يفعلون مثل فعله خشية ألا يصلى عليهم، لكن يصلي عليه عامة الناس؛ لأنه ليس بكافر.
وهذا الذي تسبب في قتل نفسه مات بأجله خلافًا للمعتزلة الذين يقولون: المقتول قطع أجله، ولو لم يُقتَل لعاش، وهذا باطل؛ لأن الله عز وجل قدر أن تكون وفاته بسبب قتله لنفسه؛ فسمى الله عز وجل هذه مبادرة.
حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
}3464{ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ح.
وحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ عز وجل أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الأَْبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ: الإِْبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِنَّ الأَْبْرَصَ وَالأَْقْرَعَ، قَالَ أَحَدُهُمَا: الإِْبِلُ وَقَالَ الآْخَرُ الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وَأَتَى الأَْقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلاً وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وَأَتَى الأَْعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي فَقَالَ: قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَْبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الأَْقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الأَْعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ».
}3464{ هذا الحديث ترجم له المؤلف رحمه الله وهو تابع لأخبار بني إسرائيل.
وهذا الحديث نقله الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في «كتاب التوحيد في بيان شكر النعم» ، وأنه ينبغي للإنسان أن يشكر نعم الله عليه، وأن يحذر كفران النعم، وهذه القصة قصها النبي صلى الله عليه وسلم علينا لما فيها من العبرة والعظة.
فإن هؤلاء الثلاثة ابتلاهم الله عز وجل في أول الأمر بالمرض والفقر ثم ابتلاهم الله عز وجل بعد ذلك بالصحة والعافية والمال، قال تعالى: [المُلك: 2]{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ *}. فالله تعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء ليتبين الصادق من الكاذب، وليعلم الصابر من الجازع، وهو عِلْم ظهور؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء.
قوله: «إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى» الأبرص: هو الذي في جلده مرض، والأقرع: هو الذي ليس له شعر في رأسه، «بَدَا لِلَّهِ عز وجل» يعني: أراد الله عز وجل، وليس في هذا حجة لليهود الذين يقولون: بدا لله شيء لا يعلمه، فليس المعنى هكذا؛ لأن الله تعالى يعلم ما كان في الماضي، ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما يكون في الحال، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ومن أنكر علم الله عز وجل فقد كفر.
والمراد أن الله عز وجل أراد أن يبتليهم ـ يعني: يختبرهم ـ هل يشكرون أو يكفرون؟ «فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا» على صورة آدمي، وهذا فيه دليل على أن للملك قدرة على التصور، «فَأَتَى الأَْبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ: فَمَسَحَهُ» يعني: الملك بأمر الله عز وجل «فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا» في الحال، والله تعالى على كل شيء قدير «فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ: الإِْبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِنَّ الأَْبْرَصَ وَالأَْقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الإِْبِلُ وَقَالَ الآْخَرُ: الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ» أي: ناقة مضى على حملها عشرة أشهر، وهذه من أفضل ما يكون «فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا» أي: دعا له الملك فأنزل الله عز وجل فيها البركة «وَأَتَى الأَْقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ» ، لأنه لا ينبت له شعر، «قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلاً وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا» ، أي: دعا له بالبركة، «وَأَتَى الأَْعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي فَقَالَ: قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ» ، يعني: الأبرص أنتج الإبل والأقرع أنتج البقر ، «وَوَلَّدَ هَذَا» يعني: ولدت الشاة للأعمى، وتقبل الله عز وجل دعاء الملك.
ومضت مدة فتوالدت الإبل البقر والغنم «فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ» للأبرص «وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ» للأقرع «وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ» للأعمى، وجعله الله عز وجل ابتلاء وامتحانًا لهم «ثُمَّ إِنَّهُ» في المرة الثانية «أَتَى الأَْبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ» ، أي: أتاه الملك في صورة أبرص فقير ليذكره بحالته السابقة «فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي» . والحبال: الأسباب، والمعنى أنه تقطعت به أسباب طلب الرزق فما وجد عملاً؛ فهو فقير عابر سبيل مسافر «فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ» فيه: الأدب مع الله عز وجل حيث أتى بـ «ثُمَّ» ، «أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ» ، يذكره بحالته السابقة. «بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي» يعني: أعطني بعيرًا واحدًا يبلغني في سفري، ويكتب في حسناتك فأنت عندك واد من الإبل، وذكّره بحالته السابقة، وبأن الله عز وجل أنعم عليه وأعطاه المال وأعطاه الصحة «فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ» فإذا أعطيناك وأعطينا الثاني والثالث انتهى المال «فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ» يذكره بحالته السابقة «فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ» ، أي: أنكر نعمة الله عز وجل عليه ـ نعوذ بالله عز وجل ونسأل الله عز وجل السلامة والعافية ـ «فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ» دعا عليه الملك، والظاهر أن الله عز وجل استجاب فرجع على حالته السابقة، فكما استجيبت دعوته في الأولى استجيبت كذلك في الثانية، ولم يذكر في الحديث.
قوله: «وَأَتَى الأَْقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ» يعني: في صورة أقرع فقير «فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا» ، أي: أسألك بالذي أعطاك المال والشعر الحسن، أنا فقير ومسكين أريد بقرة أتبلغ بها في سفري ، فقال: الحقوق كثيرة ـ مثل ما قال الأول ـ فقال له: ألم تكن أقرع يقذرك الناس فقيرًا فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: لا بل ورثت هذا كابرًا عن كابر، فدعا عليه وقال: «إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ» .
قوله: «وَأَتَى الأَْعْمَى فِي صُورَتِهِ» يعني: في صورة أعمى أيضًا يذكره بحالته السابقة «فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي» يعني: الأسباب، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «في رواية الكشميهني: «بي الحبال في سفري» ، والحبال بكسر المهملة بعدها موحدة خفيفة جمع حبل، أي: الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق، وقيل: العقبات، وقيل: الحبل هو المستطيل من الرمل. ولبعض رواة مسلم: «الحيال» بالمهملة والتحتانية جمع حيلة، أي: لم يبق لي حيلة، ولبعض رواة البخاري: «الجبال» بالجيم والموحدة وهو تصحيف» اهـ.
قوله: «فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي» . فكان الرد منه أن اعترف على نفسه «فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ» ، وفي اللفظ الآخر زيادة: «ودع ما شئت فوالله لا أحمدك اليوم بشيء أخذته لله» [(958)] أي: خذ الذي تريد من هذا الوادي «فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ» قال له الملك: أنا لا أريد مالا «فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ» ، أي: فتنتم وامتحنتم «فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» .
والحديث فيه: ابتلاء الله عز وجل بالامتحان لهؤلاء الثلاثة.
وفيه: إثبات صفة الرضا والسخط لله عز وجل، والرد على الأشاعرة والمعتزلة الذين أنكروا صفة الرضا والسخط.
وفيه: أن أكثر الناس هالك، وهو شاهد لقوله تعالى: [البَقَرَة: 243]{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ *} فإنهم كانوا ثلاثة فهلك اثنان ونجا واحد؛ فيكون الثلثان كفروا نعمة الله عز وجل، والثلث شكر نعمة الله عز وجل.
وفيه: أن العاقبة للحمد والشكر، وأن من شكر الله عز وجل وشكر نعمة الله عز وجل فإنه تبقى عليه النعم، مع ما أعد الله عز وجل له من الثواب العظيم والأجر الكبير، ومن كفر نعمة الله عز وجل سلبت منه النعم، مع ما أعد له من العذاب والخزي؛ فالأبرص والأقرع سلبا النعمة، وسلبا الصحة، وحل عليهما سخط الله عز وجل، أما الأعمى فبقي عليه ماله وبقيت النعمة عليه وحل عليه الرضوان من الله عز وجل.
وشكر النعمة له ثلاثة أركان لابد من أدائها: الإقرار بالنعمة باللسان ونسبتها إلى الله عز وجل، والاعتراف بالقلب، وبذلها في مرضاة الله عز وجل.
وفيه: جواز السؤال بالله عز وجل لقول الملك: «أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ» ، ومنه الحديث: «من سأل بالله فأعطوه» [(959)] وأما حديث: «إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه» [(960)] فهذا من رواية محمد بن جبير بن مطعم، وهو مقبول ولكنه لا يقاوم هذا الحديث.
[الكهف: 9]{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}
الْكَهْفُ الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ وَالرَّقِيمُ الْكِتَابُ {مَرْقُومٌ} مَكْتُوبٌ مِنْ الرَّقْمِ.
{رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا [الكهف: 14]{شَطَطًا *} إِفْرَاطًا.
الْوَصِيدُ الْفِنَاءُ وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ.
وَيُقَالُ الْوَصِيدُ الْبَابُ [البَلَد: 20]{مُؤْصَدَةٌ *} مُطْبَقَةٌ آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ [الكهف: 12]{بَعَثْنَاهُمْ} أَحْيَيْنَاهُمْ [الكهف: 19]{أَزْكَى} أَكْثَرُ رَيْعًا فَضَرَبَ اللَّهُ [الكهف: 11]{عَلَى آذَانِهِمْ} فَنَامُوا [الكهف: 22]{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} لَمْ يَسْتَبِنْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: [الكهف: 17]{تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ
هذه الترجمة في تفسير بعض الكلمات التي جاءت في قصة أصحاب الكهف، وهم قوم صالحون كانوا في زمان فيه ملك ظالم وفي قرية يعبدون الأصنام، ففر هؤلاء الفتية بدينهم واجتمعوا ـ وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا لا يعرفون بعضهم بعضًا ـ فأووا إلى هذا الكهف ـ وهو «الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ» ـ فناموا هذه المدة التي أخبر الله عز وجل عنها في كتابه: [الكهف: 25]{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا *}.
ذكر الشارح رحمه الله أن العلماء اختلفوا في المكان الذي كان فيه أصحاب الكهف؛ فقال بعضهم: إنه في بلاد الروم، وبعضهم قال: إنه بالقرب من أيلة، وقيل: بالقرب من طرسوس، وقيل: بين أيلة وفلسطين، وقيل: بغرناطة من الأندلس، والله أعلم بالصواب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «تنبيه لم يذكر المصنف رحمه الله في هذه الترجمة حديثًا مسندًا، وقد روى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قصة أصحاب الكهف مطولة غير مرفوعة، وملخص ما ذكر أن ابن عباس رضي الله عنهما: غزا مع معاوية رضي الله عنه الصائفة فمروا بالكهف الذي ذكر الله عز وجل في القرآن، فقال معاوية رضي الله عنه: أريد أن أكشف عنهم، فمنعه ابن عباس رضي الله عنهما، فصمم وبعث ناسًا، فبعث الله عز وجل ريحًا فأخرجتهم، قال: فبلغ ابن عباس رضي الله عنهما فقال: إنهم كانوا في مملكة جبار يعبد الأوثان، فلما رأوا ذلك خرجوا منها فجمعهم الله عز وجل على غير ميعاد، فأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، فجاء أهاليهم يطلبونهم ففقدوهم، فأخبروا الملك فأمر بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص وجعله في خزانته، فدخل الفتية الكهف فضرب الله على آذانهم فناموا، فأرسل الله عز وجل من يقلبهم وحول الشمس عنهم، فلو طلعت عليهم لأحرقتهم، ولولا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض. ثم ذهب ذلك الملك وجاء آخر فكسر الأوثان وعبد الله عز وجل وعدل، فبعث الله عز وجل أصحاب الكهف فأرسلوا واحدًا منهم يأتيهم بما يأكلون، فدخل المدينة مستخفيًا فرأى هيئة وناسًا أنكرهم لطول المدة» .
ودخل مستخفيًا؛ لأنه كان يظن أن الملك السابق باق؛ لأنه ظن أنهم ناموا يومًا أو بعض يوم، وما ظنوا أنهم ناموا هذه المدة الطويلة.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فدفع درهمًا إلى خباز فاستنكرَ ضَرْبَه وَهَمّ بأن يرفعه إلى الملك» .
أي: لما أعطاه عملة لا يعرفها استنكر الخباز فقد تغيرت الأمور وتغيرت البلاد ومن عليها وتغيرت الناس والعملات؛ لأن ثلاثمائة سنة مدة طويلة.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فقال: أَتُخوفني بالملك وأبي دهقانه؟ فقال من أبوك؟ فقال: فلان، فلم يعرفه، فاجتمع الناس فرفعوه إلى الملك فسأله فقال: عليّ باللوح وكان قد سمع به، فسمى أصحابه فعرفهم من اللوح، فكبّر الناس وانطلقوا إلى الكهف، وسبق الفتى لئلا يخافوا من الجيش، فلما دخل عليهم عمّى الله عز وجل على الملك ومن معه المكان، فلم يدر أين ذهب الفتى، فاتفق رأيهم على أن يبنوا عليهم مسجدًا فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون لهم. وذكر ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن شهر بن حوشب قال: كان لي صاحب قوي النفس، فمرّ بالكهف فأراد أن يدخله فنُهي، فأبى فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره. وعن عكرمة: أن السبب فيما جرى لهم أنهم تذكروا هل يبعث الله عز وجل الروح والجسد أو الروح فقط؟ فألقى الله عز وجل عليهم النوم فناموا المدة المذكورة، ثم بعثهم فعرفوا أن الجسد يبعث كما تبعث الروح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اسم الملك الأول دقيانوس واسم الفتية مكسلمينا ومخشليشا وتمليخا ومرطونس وكنشطونس وبيرونس ودينموس» .
وكلها أسماء أعجمية.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي النطق بها اختلاف كثير، ولا يقع الوثوق من ضبطها بشيء. وأخرج أيضًا عن مجاهد: أن اسم كلبهم قطميروا، وعن الحسن: قطمير، وقيل: غير ذلك. وأما لونه فقال مجاهد: كان أصفر وقيل غير ذلك. وعن مجاهد: أن دراهمهم كانت كخفاف الإبل، وأن تمليخا هو الذي كان رسولهم لشراء الطعام. وقد ساق ابن إسحاق قصتهم في «المبتدأ» مطولة، وأفاد أن اسم الملك الصالح الذي عاشوا في زمنه بتدرسيس، وروى الطبري من طريق عبدالله بن عبيد بن عمير: أن الكلب الذي كان معهم كان كلب صيد، وعن وهب بن منبه أنه كان كلب حرث، وعن مقاتل: كان الكلب لكبيرهم وكان كلب غنم، وقيل: كان إنسانًا طباخًا تبعهم وليس بكلب حقيقة، والأول المعتمد» .
والصواب: أنه كلب حقيقة، وهذه كلها أسانيد ضعيفة ما عدا ما ساقه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصته مع معاوية رضي الله عنه.
ولو كانت هناك فائدة في ذلك لبين الله عز وجل وصفهم ووصف كلبهم ومكانهم، وإنما العبرة تؤخذ مما حصل وأنهم فرّوا بدينهم، وأن الله عز وجل أكرمهم ونجاهم من هؤلاء الكفرة، وأن الله عز وجل ثبتهم على دينهم، ثم حصلت لهم هذه الكرامة حيث إنهم ناموا هذه المدة، وصاروا آية وعبرة ودليلا على البعث.
والمؤلف رحمه الله لم يذكر حديثًا لأنه لم يوجد حديث على شرطه؛ فاكتفى بتفسير الكلمات اللغوية التي جاءت في الآيات الكريمة.
قوله تعالى: « {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ}» فسر المؤلف رحمه الله {الْكَهْفِ} بقوله: «الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ» .
وفسر المؤلف رحمه الله قوله تعالى: «» فقال: «الْكِتَابُ» .
كما فسر رحمه الله قوله تعالى: « ُ پ ء ! ! ِ » فقال: «مَكْتُوبٌ مِنْ الرَّقْمِ» ، كأنّ أسماءهم كتُبت في لوح كما جاء.
وفسر قوله تعالى: «{رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}» فقال: «أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا» ؛ لأن الله عز وجل ألهمهم صبرًا فثبتوا على دينهم.
وفسر قوله تعالى: « ُ ء ء »ـ! ! ِ » فقال: «إِفْرَاطًا» . والإفراط هو الزيادة عن الحد؛ يعني: تجاوزوا الحد المشروع.
فقد بين الله عز وجل أنهم تركوا دين قومهم من عبادة للأصنام في قوله تعالى: [الكهف: 14]{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا *} يعني: لو دعونا من دون الله عز وجل إلهًا [الكهف: 14]{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا *}.
قوله: «الْوَصِيدُ الْفِنَاءُ وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ.، وَيُقَالُ الْوَصِيدُ الْبَابُ» يشير إلى قوله تعالى: [الكهف: 18]{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}.
وفسّر المؤلف رحمه الله الكلمات التي تدور حولها فقال: « ُ * ء للهپ! ! ِ : مُطْبَقَةٌ آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ» يعني: مغلقة على الكفرة.
وفسّر المؤلف رحمه الله قوله تعالى: «{بَعَثْنَاهُمْ}» فقال: «أَحْيَيْنَاهُمْ» . يعني: أحياهم الله عز وجل من النوم؛ لأن النوم موتة صغرى.
وفسّر قوله تعالى: «{أَزْكَى}» فقال: «أكثر ريعًا» .
وفسّر المؤلف رحمه الله قوله تعالى: «{رَجْمًا بِالْغَيْبِ}» : فقال: «لَمْ يَسْتَبِنْ» أي: ما تبينوا القول، بل قالوا هذا بغير دليل.
حَدِيثُ الْغَارِ
}3465{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ لاَ يُنْجِيكُمْ إِلاَّ الصِّدْقُ فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ: لَهُ اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ فَقُلْتُ: لَهُ اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ فَسَاقَهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ فَقَالَ الآْخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ فَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ فَكُنْتُ لاَ أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ الآْخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلاَّ أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا فَقَالَتْ: إتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا».
}3466{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «بَيْنَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وَهِيَ تُرْضِعُهُ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتْ: إللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ: أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِي وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ».
}3467{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ».
}3468{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ وَكَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ.
}3469{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الأُْمَمِ مُحَدَّثُونَ وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ».
}3470{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لاَ فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ».
}3471{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ: إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ فَقَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ قَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ».
وحَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
}3472{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَْرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَْرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَْرْضَ وَمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ، قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآْخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا».
}3473{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعُونِ فَقَالَ أُسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» قَالَ أَبُو النَّضْرِ لاَ يُخْرِجْكُمْ إِلاَّ فِرَارًا مِنْهُ.
}3474{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ».
}3475{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
}3476{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ الْهِلاَلِيَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ آيَةً وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلاَفَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ: «كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا».
}3477{حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ قَالَ: حَدَّثنِي شَقِيقٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَْنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
}3478{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَجُلاً كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالاً فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عز وجل فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ» وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}3479{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: قَالَ عُقْبَةُ لِحُذَيْفَةَ أَلاَ تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ رَجُلاً حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَمَّا أَيِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْرُوا نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا فَذَرُّونِي فِي الْيَمِّ فِي يَوْمٍ حَارٍّ أَوْ رَاحٍ فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتَكَ فَغَفَرَ لَهُ» قَالَ عُقْبَةُ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ.
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَالَ فِي يَوْمٍ رَاحٍ.
}3480{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ: لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ».
}3481{ حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الأَْرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ: مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ».
}3482{ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ».
}3483{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ».
}3484{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ».
}3485{ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنْ الْخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَْرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَابَعَهُ» عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
}3486{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَحْنُ الآْخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ كُلِّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى».
}3487{ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ.
}3488{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الْوِصَالَ فِي الشَّعَرِ.
تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ.
}3465{ هذا الحديث ترجم له المؤلف رحمه الله: «حَدِيثُ الْغَارِ» وذكر الحافظ رحمه الله أنه أتى بهذا الحديث عقب قصة أصحاب الكهف إشارة إلى ما ورد أنه قد قيل: إن الرقم المذكور في قوله تعالى: [الكهف: 9]{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} أنه الغار الذي أصاب الثلاثة فيه ما أصابهم، والغار أو الكهف هو نقب في الجبل.
فهؤلاء الثلاثة انطلقوا «يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ» ، فانطبقت عليهم صخرة من أعلى الجبل حتى أحكمت باب الغار ، «فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ لاَ يُنْجِيكُمْ إِلاَّ الصِّدْقُ» ، يعني: اصدقوا مع الله عز وجل، فالصدق هو الذي ينجي من الشدائد في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: [التّوبَة: 119]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *}، وقال الله تعالى: [المَائدة: 119]{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} وقال في وصف المؤمنين: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} ثم قال عز وجل: [الأحزَاب: 35]{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا *}.
والصدق يكون بالأقوال وبالأعمال، والصدق يكون في الإيمان، فيحرق الشبهات والشهوات فلا يواقع معصية ولا كبيرة، أما إذا ضعف الإيمان وضعف الصدق جاءت المعاصي والكبائر، ولهذا فإن الصديقين مرتبتهم بعد مرتبة الأنبياء، وفوق مرتبة الشهداء، وفي مقدمتهم الصديق الأكبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسمي صديقًا لقوة تصديقه.
ولهذا قال هؤلاء لبعضهم: «فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ» ، يعني: العمل الذي أخلص فيه مع ربه؛ فتوسل الأول بأمانته فقال: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ» والفرق مكيال يسع ثلاثة آصع «فذهب وتركه» وفي لفظ آخر أنهم كانوا أجراء ففيه: «اللهم إني استأجرت أجراء» [(961)] ومنهم واحد هو الذي ترك أجرته.
وجاء في بعض الروايات: أنه استأجر أجيرًا في منتصف النهار، وأن هذا الأجير لم يعمل من أول النهار إلى آخره فقال: والله لأعطينه أجرته كاملة فحسده بعضهم وقال: كيف تعطيه أجرة كاملة؟! فسخط أجرته وتركها.
قوله: «وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ» ، وبارك الله عز وجل فيه «فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي رواية سالم: «فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال» ، وفيه: «فقلت له كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق من أجرك» ، وفي رواية الكشميهني: «من أجلك» ، وفيه: «فاستاقه فلم يترك منه شيئًا» . ودلت هذه الرواية على أن قوله في رواية نافع: «اشتريت بقرًا» أنه لم يرد أنه لم يشتر غيرها وإنما كان الأكثر الأغلب البقر فلذلك اقتصر عليها» اهـ.
قوله: «أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ: لَهُ اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ» ، وفي اللفظ الآخر: «يا عبد الله لا تستهزئ بي» [(962)] فإن أجرتي فرق ـ وهو ثلاثة آصع ـ ثم تقول لي: اعمد إلى هذا الوادي من الإبل والبقر والغنم والرقيق! «فَقُلْتُ: لَهُ اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ فَسَاقَهَا» . كل ذلك يخاطب ربه عز وجل ثم قال: «فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ» أي: انفرجت الصخرة قليلاً.
قوله: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ» دعا الثاني وتوسل ببره لوالديه، وأنه يروح على والديه، ويحلب لهما من غنمه ويسقيهما في المساء وفي الصباح، وشراب المساء يسمى الغبوق، وشراب الصباح يسمى الصبوح، وأنه ذات ليلة نأى به طلب المرعى والشجر وتأخر فجاء وحلب اللبن ـ وكان من خُلُقه أنه لا يقدم على أبويه أحدًا من الأولاد والصبية ـ وجاء والإناء في يده فوجدهما قد ناما؛ فكره أن يوقظهما، وكره أن يسقي الصبية قبلهما.
قوله: «فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا» ؛ لأن إيقاظهما من النوم فيه إتعاب لهما وقطع للنوم.
قوله: «وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا» أي: يحصل لهما مسكنة وضعف من ترك العشاء «فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ» وفي لفظ: «فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر» [(963)] وكان يجوز له أن يسقي الصبية، ولكنه سلك المسلك الأشد والأكمل والأفضل، فلما برق الفجر استيقظا فسقاهما، ثم توسل إلى الله عز وجل فقال: «فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ» ولا يستطيعون الخروج.
ثم توسل الآخر بعفته عن الفاحشة وقال: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلاَّ أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي رواية أخرى عن النعمان: «أنها ترددت إليه ثلاث مرات تطلب منه شيئاً من معروفه ويأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها، فأجابت في الثالثة بعد أن استأذنت زوجها فأذن لها وقال لها أغني عيالك، قال: فرجعت فناشدتني بالله فأبيت عليها، فأَسْلَمَت إليّ نفسها، فلما كشفتها ارتعدت من تحتي، فقلت ما لك؟ قالت أخاف الله رب العالمين، فقلت خفتيه في الشدة ولم أخفه في الرخاء فَتركتُها» [(964)] اهـ. أي: أصابتها شدة وحاجة؛ فكانت تريد صدقة أو قرضًا فأبى إلا أن تمكنه من نفسها فأبت، ثم أصابتها شدة فجاءت إليه مرة ثانية فقال لها: إلا أن تمكنيني من نفسك فأبت، ثم جاءت بعد مدة في المرة الثالثة وقد اشتدت حاجتها فقال: إلا أن تمكنيني من نفسك، فوافقت في هذه المرة، فأعطاها مائة وعشرين دينارًا، وأمكنته من نفسها، قال: «فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا» ذكّرته بالله عز وجل «فَقَالَتْ: إتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الْخَاتَمَ» الخاتم: الفرج، والفض المراد به الجماع «إِلاَّ بِحَقِّهِ» يعني: بالنكاح لا بالزنا؛ فخاف من الله عز وجل وتذكر وقوفه بين يديه، وفي لفظ أنها: ارتعدت من تحتي فسألها فقالت: أخاف الله، فخاف وكبح جماح نفسه، وهو يتمنى الحصول عليها وموافقتها منذ دهر طويل.
فالخوف من الله عز وجل حسنة عظيمة، وهذا ترك الفاحشة خوفًا من الله عز وجل؛ وقد جاء في الحديث: «إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سيئة» [(965)] وفي لفظ آخر: «وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ» [(966)] يعني: من أجلي.
فتوسل بهذه الحسنة العظيمة وقال: «فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ» ، فانزاحت الصخرة، «فَخَرَجُوا» يمشون.
والحديث فيه: مشروعية التوسل إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة؛ فالأول توسل بأمانته، والثاني توسل ببره لوالديه، والثالث توسل بعفته وخوفه من الله عز وجل.
فالتوسل إلى الله عز وجل يكون بالأعمال الصالحة، ويكون بأسماء الله الحسنى: يا غفور يا رحيم يا ودود، وبصفات الله العلا، قال الله تعالى: [الأعرَاف: 180]{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.
وكذلك يُتوسل إلى الله عز وجل بالتوحيد فيقول: اللهم أني أسألك أني أشهد أنه لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
ويكون التوسل بالإيمان؛ لقوله تعالى: [آل عِمرَان: 16]{رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *}.
ويكون كذلك بإظهار الفقر والحاجة كقول موسى عليه السلام: [القَصَص: 24]{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ *}.
ويكون التوسل بعبودتيه لله وبربوبيته سبحانه.
ويكون النوسل بدعاء الحي الحاضر بأن يدعو الداعي ومن خلفه يؤمن.
أما التوسل بجاه فلان أو بحرمة فلان، أو التوسل بذات فلان فهذا من البدع، أما أن يدعو الصالحين من دون الله عز وجل، ويذبح لهم أو ينذر لهم، فهذا من الشرك.
فالتوسل ثلاثة أنواع:
النوع الأول: توسل شركي، وهو أن يدعو الصالحين من دون الله عز وجل، أو يذبح لهم أو ينذر لهم فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
النوع الثاني: توسل بدعي، وهو التوسل بذات فلان أو بجاهه أو بحرمته.
النوع الثالث: توسل شرعي، وهو: التوسل بأسماء الله الحسنى، والتوسل بصفات الله العلا، والتوسل بالإيمان، والتوسل بالتوحيد، والتوسل بالعمل الصالح، والتوسل بالفقر والحاجة، والتوسل بعبودية الإنسان لربه وربوبيته له، والتوسل بدعاء الحي الحاضر.
وفيه: أن الأعمال الصالحة سبب في تفريج الكربات في الدنيا والآخرة.
وفيه: أن من عرف الله عز وجل في الرخاء عرفه في الشدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة» [(967)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك» [(968)].
وتكلم العلماء على هؤلاء الثلاثة أيهم أفضل؟ وأيهم أكثر نفعًا؟ قالوا: إن هذا الرجل الذي استأجر الأجير أكثر نفعًا؛ لأن نفعه متعد، بخلاف البار لوالديه فهذا نفعه قاصر، وقال بعضهم: إن الذي ترك ابنة عمه أفضل.
واحتج به بعضهم على جواز تصرف الفضولي، كأن يبيع الإنسان مال غيره؛ فإذا أذن له صح البيع، وإن لم يأذن له فلا؛ فهذا الرجل تصرف تصرفًا فضوليًّا بأجرة الأجير بأن زرعها، واشترى بها إبلا وبقرًا وغنمًا ورقيقًا، وأقره صاحبها فلا بأس، ومن ذلك حديث عروة البارقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه درهمًا يشتري به شاة، فاشترى شاتين، ثم باع إحديهما بدرهم فجاء بشاة ودرهم، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة[(969)].
ومثال ذلك إذا جاء إنسان يريد أن يشتري سيارة جارك فقلت له: أنا أبيع عليك هذه السيارة، فأعطاك ثمنها وزيادة، فلما جاء الجار قلت: يا فلان أنا بعت سيارتك بأكثر من ثمنها، فإذا أقره وقبل نفذ البيع، وإن قال: لا أريد بيعها لا ينفذ ويبطل العقد.
فتصرف الفضولي موقوف على الإجازة؛ فإن أجازه نفذ وإن لم يجزه فلا ينفذ.
}3466{ هذا الحديث فيه: قصة امرأة من بني إسرائيل، كانت ترضع ابنًا لها فمر رجل له شارة حسنة وله هيئة فقالت المرأة: «اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا» وفي رواية: «اللهم اجعل ابني مثل هذا» [(970)] فتكلم الرضيع ـ وهذا من الثلاثة الذين تكلموا وهم في المهد ـ فترك الثدي وقال: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ» ، ثم مرت بجارية وهم يضربونها ويجرونها ويقولون: زنيت سرقت وهي تقول: «حَسْبِيَ اللَّهُ» ، فقالت المرأة كما في الرواية الأخرى: «اللهم لا تجعل ابني مثل هذه؛ فترك ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها» [(971)] ثم لما رأت أنه يتكلم راجعته وقالت: لماذا قلت ذلك، فقال: «أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ» ، وفي اللفظ الآخر: «كان هذا جبارًا فقلت: اللهم لا تجعلني مثله وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا» [(972)].
وهذا من أخبار بني إسرائيل.
وفيه: العبرة والعظة، حيث إن الله عز وجل أنطق هذا الصبي، وعرفوا حال هذا الرجل وهذه المرأة.
}3467{ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «يُطِيفُ» بضم أوله من أطاف يقال: أطفت بالشيء إذا أدمت المرور حوله.
وقوله: «بِرَكِيَّةٍ» ـ بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية ـ البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها: جب وقليب، ولا يقال لها: بئر حتى تطوى، وقيل: الركي: البئر قبل أن تطوى فإذا طويت فهي الطوي.
قوله: «بَغِيٌّ» ـ بفتح الموحدة وكسر المعجمة ـ هي الزانية، وتطلق على الأمة مطلقًا.
قوله: «مُوقَهَا» ـ بضم الميم وسكون الواو بعدها قاف ـ هو الخف، وقيل: ما يلبس فوق الخف» اهـ.
والشاهد من الحديث: ذكر قصة هذه المرأة من بني إسرائيل.
}3468{ قوله: «قُصَّةً» هي شعر الناصية.
قوله: «حَرَسِيٍّ» يعني: واحد الحرس.
قوله: «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ» يعني: لماذا لا ينهونكم عن هذا؟!
قوله: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ» . وهذا نص لما يسمى الآن : بالباروكة، وهي الشعر الذي يركب على الرأس زورًا، وأنه محرم وأنه من أسباب الهلاك؛ لما فيه من الزور والتدليس والتغيير لخلق الله عز وجل، وفي اللفظ الآخر أنه قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم سمّاه الزور» [(973)] لأنها تركب على الرأس تركيبًا دقيقًا بحيث إن الرائي يظن أنه رأس حقيقي وهو رأس صناعي.
والشاهد من الحديث قوله: «إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ» ؛ لأن هذا الباب في أحاديث بني إسرائيل.
وفيه: فضل معاوية رضي الله عنه وعنايته وتنبيهه ونصحه والرد على من تنقصه.
وفيه: أن العلماء هم الذين يبينون للناس الأحكام من حلال وحرام.
وفيه: العناية بالرعية؛ لأنه لما حج زار المدينة وتفقدها وخطب الناس.
}3469{ قوله: «مُحَدَّثُونَ» يعني: ملهمون.
قوله: «وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» . هذه منقبة لعمر رضي الله عنه وأنه ملهم.
والشاهد من الحديث قوله: «فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ» . ففيه دليل على أن الأمم السابقة فيهم ملهمون، وفيهم أخيار، وفيهم أشرار كثيرون، كما قال الله تعالى لما ذكر أهل الكتاب: [آل عِمرَان: 113]{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}.
}3470{ هذا الحديث فيه: دليل على أن التوبة مقبولة من كل شخص إذا وجدت الشروط، والتوبة لها أركان ثلاثة:
أولها: الإقلاع عن المعصية التي كان متلبسًا بها.
الثاني: الندم على ما مضى، وهذا هو الركن الأعظم.
الثالث: العزم الجازم على عدم العودة إليها.
وإذا كانت المعصية فيما بينه وبين الناس فلها ركن رابع: وهو رد المظلمة إلى أهلها، والتحلل منها، سواء كانت المظلمة بالبدن أو بالمال أو بالعرض، ولابد أن تكون التوبة قبل الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل نزول العذاب فإنها مقبولة من أي: ذنب كان حتى الشرك بالله عز وجل الذي هو أعظم الذنوب؛ فالله تعالى عرض التوبة على المُثَلِّثةَ الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة فقال تعالى: [المَائدة: 73]{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} ثم قال في الآية التي بعدها مباشرة: [المَائدة: 74]{أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} فعرض الله تعالى عليهم التوبة مع عظم ذنبهم؛ فمن تاب من أي: ذنب تاب الله عز وجل عليه، والصحيح أن التوبة تتجزأ فيصح أن يتوب من ذنب ويبقى على ذنب آخر، فإذا كان يتعامل بالربا ويشرب الخمر ثم تاب من أحد الذنبين كأن يكون تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر صحت توبته من الربا لكن ما زال ملصقًا به ذنبٌ آخر وهو شرب الخمر، والأكمل أن تكون التوبة عامة من جميع الذنوب، والكافر إذا تاب من الشرك تاب الله عز وجل عليه، لكن إذا حسنت توبته غفر الله عز وجل له ما مضى، وإن لم تحسن توبته بأن تاب من الكفر ولم يتب من المعاصي فاستمر على شرب الخمر فإنه يؤاخذ بشرب الخمر في الأول وفي الآخر يعني: قبل الإسلام وبعده، أما إذا حسنت توبته فإن الله عز وجل يمحو بهذه التوبة جميع ما مضى من الذنوب ومن الكفر.
قوله: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ» وفي رواية مسلم رحمه الله: «فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب» [(974)] والراهب: عابد ليس عنده علم «فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لاَ فَقَتَلَهُ» فالراهب استعظم الذنب فأفتاه ـ بجهل ـ بأنه ليس له توبة؛ فلما أيس من التوبة قتله وأكمل به المائة، وهذه عقوبة عاجلة للذي يفتي في دين الله عز وجل بغير علم ويحلل ويحرم بجهل، ثم بعد ذلك قذف الله عز وجل في قلبه الندم وأراد أن يتوب «فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:» ، وفي رواية مسلم: «ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم» [(975)] أي: لما سأل في المرة الثانية دل على عالم، وفرق كبير بين العالم والعابد.
قوله: «ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا» وفي مسلم: «فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء» [(976)]، أي: قال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ولكن أنصحك أن تترك هذه القرية السفيهة قرية السوء وتذهب إلى تلك القرية الصالحة فإن فيها أناسًا صالحين تعبد الله عز وجل معهم فتاب الرجل، وكان من توبته هجرة بلد السوء إلى تلك القرية الصالحة.
قوله: «فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ» وفي رواية مسلم رحمه الله: «فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت» [(977)]، أي: لما كان في أثناء الطريق جاءه الموت فمات.
قوله: «فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ» وفي رواية مسلم رحمه الله: «فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة» [(978)]، أي: لما قاسوا ما بين القريتين وجدوه إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فأخذته وقبضته ملائكة الرحمة، وذلك بفضل الله تعالى.
وفي رواية مسلم رحمه الله: «لما أتاه الموت نأى بصدره» [(979)] أي: نأى بصدره إلى القرية الصالحة وهو في سكرة الموت؛ لما استقر في قلبه من حقائق الإيمان والتوبة، حتى قرب إلى القرية الصالحة بشبر فقبضته ملائكة الرحمة فغفر الله عز وجل له.
وفيه: سعة رحمة الله عز وجل.
وفيه: قبول التوبة ممن تاب إذا وجدت الشروط.
وفيه: التحذير من الفتيا بغير علم.
وفيه: العقوبة العاجلة لمن عمل شيئًا ليس أهلاً له فهذا الراهب أفتى بغير علم فعوقب وقتل، نسأل الله عز وجل السلامة والعافية.
}3471{ قوله: «بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً» ، يعني: فيمن سبق من بني إسرائيل، وهذا هو الشاهد أن هذه القصة حصلت فيمن قبلنا أن بقرة تكلمت وذئبًا تكلم، وهذا من آيات الله عز وجل فكما تكلم ثلاثة في المهد تكلمت هذه البقرة وتكلم هذا الذئب والله على كل شيء قدير، ومن رحمة الله عز وجل أن البهائم العجماوات لا تتكلم، وإلا لو كانت تتكلم لكان فيه مضرة شديدة.
قوله: «إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ» ، يعني: في الغالب وإلا فإنها تؤكل وتركب ويحمل عليها لقوتها، وكذلك الغنم قد يحمل عليها ما تستطيعه، ولا يؤخذ بقول البقرة.
قوله: «سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ» فيه: التسبيح عند التعجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.
وفيه: منقبة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ» أي: كانا رضي الله عنهما غير موجودين في القوم، وهما رغم هذا يؤمنان ويصدقان بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرن إيمانهما بإيمانه.
ولما اعتدى الذئب على الغنم وذهب بشاة جاء الراعي وطلبها حتى استنقذها منه فالتفت الذئب إليه وقال: أنت استنقذتها مني الآن لكن «فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي» لعل هذا اليوم يكون في آخر الزمان حينما تُترك الغنم لا راعي لها من شدة الفتن وكثرتها وعظمها.
}3472{ هذا الحديث فيه: أن بني إسرائيل فيهم أخيار.
وفيه: الورع العظيم لهذين المتبايعين؛ فكل من البائع والمشتري تورع من أخذ الذهب؛ فرجل باع عقارًا على شخص فالمشتري وجد في الأرض جرة فيها ذهب ـ والجرة: يعني: قارورة من زجاج، أو آنية من خزف فيها ذهب ـ فجاء المشتري إلى البائع وقال: وجدت في الأرض التي بعتها علي ذهبًا خذ ذهبك فقال البائع: لا؛ أنا بعتك الأرض وما فيها، فقال المشتري: لا؛ أنا ما اشتريت إلا الأرض وما اشتريت الذهب فتحاكما إلى رجل ـ يحتمل أنه قاض ـ فقال الذي تحاكما إليه وأراد أن يصلح بينهما: «أَلَكُمَا وَلَدٌ، قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآْخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا» فزوّج أحدهما ابنه بنت الآخر وأنفقا عليه من هذا الذهب من باب الصلح، وهذه القصة في شرع من كان قبلنا، فما هو الحكم في شرعنا ولمن يكون الذهب؟ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «الحكم في شرعنا على هذا في مثل ذلك أن القول قول المشتري وأن الذهب باق على ملك البائع، ويحتمل أنهما اختلفا في صورة العقد بأن يقول المشتري: لم يقع تصريح ببيع الأرض وما فيها بل يبيع الأرض خاصة، والبائع يقول: وقع التصريح بذلك، والحكم في هذه الصورة أن يتحالفا ويستردا المبيع، وهذا كله بناء على ظاهر اللفظ أنه وجد فيه جرة من ذهب، لكن في رواية إسحاق بن بشر أن المشتري قال: «أنه اشترى دارًا فعمرها فوجد فيها كنزًا، وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه: ما دفنت ولا علمت، وأنهما قالا للقاضي: ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت، فامتنع» [(980)] وعلى هذا فحكم هذا المال حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دِفْن الجاهلية، وإلا فإن عرف أنه من دِفْن المسلمين فهو لقطة، وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال، ولعلهم لم يكن في شرعهم هذا التفصيل فلهذا حكم القاضي بما حكم به» اهـ.
فتبين أنه في شرعنا يكون الذهب للمشتري فهذا هو الأصل إلا إذا أتى البائع أو غيره ببينة أنه له وأنه وضعه في الأرض.
وفيه: دليل على أن بني إسرائيل فيهم أخيار فأين هؤلاء من كثير من الناس في هذا الزمن، الذين يأكلون أموال الناس بالحيل وبالقوة، ويقدمون مستندات ومراسيم مزورة غير صحيحة للأرض، ويأخذونها بغير حق؟!
}3473{ قوله: «الطَّاعُونُ رِجْسٌ» ، يعني: عذاب «أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وهذا هو الشاهد ، حيث إنه أرسل على طائفة من بني إسرائيل؛ والطاعون هو ما يسمى الآن باللغة الأجنبية بمرض الكوليرا كما هو شائع، ثم بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الشرعي فقال: «فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» ؛ وفي لفظ آخر: «لا يخرجكم إلا فرارًا منه» .
فقوله: «فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ» ، هو ما يسمى بالحجر الصحي؛ وفيه: دليل على أن العدوى تنتقل؛ وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «لا عدوى ولا طيرة» [(981)] فإنه يعني: لا عدوى على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من أن العدوى تنتقل باللمس، وإلا فقد يجعل الله عز وجل مخالطة الصحيح لمن به مرض سببًا في انتقال العدوى، فإذا وقع طاعون بأرض فلا تقدموا عليها ولا تدخولها، وإذا وقع وأنتم فيها لا تخرجوا منها، ولكن لو خرج لغير الفرار لحاجة كالتجارة مثلاً أو لزيارة أو لطلب علم أو للحج أو للعمرة والله عز وجل يعلم أنه ليس فرارًا من الطاعون فلا بأس بهذا.
}3474{ هذا الحديث فيه: دليل على أن من أصيب بمرض الطاعون ومات فهو شهيد كما جاء في الحديث الآخر: «الطاعون شهادة لكل مسلم» [(982)] وفي اللفظ الآخر: «ما تعدون الشهيد فيكم؟» قالوا: يا رسول الله المقتول في سبيل الله عز وجل قال: «المقتول في سبيل الله شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، والمبطون شهيد، والغريق شهيد» [(983)] وفي اللفظ الآخر: «ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن خرج في سبيل الله فمات فهو شهيد» [(984)] فهؤلاء كلهم شهداء: المطعون ـ الذي مات بداء الطاعون ـ شهيد، والمبطون ـ الذي مات بداء البطن ـ شهيد، وصاحب الهدم ـ الذي هدم عليه جدار أو منزل ـ شهيد، والمرأة تموت بنفاسها شهيدة، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، والذي خرج في سبيل الله عز وجل ثم مات ولو في الطريق ذهابًا وإيابًا فهو شهيد.
وهؤلاء شهداء في الفضل والأجر، ولكنهم ليسوا كشهداء المعركة، فشهيد المعركة له أحكام خاصة فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد، ولم يصل عليهم، بل دُفنوا بدمائهم وثيابهم[(985)]، أما هؤلاء فيغسلون ويصلى عليهم، وهم شهداء في الفضل والأجر، والشهادة تتفاوت.
قوله: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ» . فيه: أن من مات بالطاعون فهو شهيد لكن بهذا القيد الذي قيده النبي صلى الله عليه وسلم «فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» ، أي: مَن أصيب بالطاعون فكان عنده صبر فلم يجزع ولم يتسخط، وكان عنده احتساب ـ وهو طلب الأجر والثواب ـ وعنده إيمان وتسليم لقضاء الله عز وجل وقدره ـ فيعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله عز وجل له ـ إلا كان له مثل أجر شهيد إذا مات.
}3475{ الشاهد من الحديث قوله: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ» . فهذا من أخبار بني إسرائيل وأنهم هلكوا بسبب إقامة الحدود على الضعيف دون الشريف، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك وبين أنه من أسباب الهلاك، وذلك أن امرأة مخزومية شريفة قرشية سرقت فكبُر على قريش شأنها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها وقالوا: كيف تُقطع يدها إنها شريفة؟! فطلبوا من يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم «فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فجاء أسامة رضي الله عنه يشفع فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ثم بين أنه من أسباب هلاك الأولين إقامة الحد على الضعفاء، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . فدل على أنه يجب إقامة الحدود على الجميع، وأنه يجب المساواة بين الناس، وأن التفريق بين الناس من أسباب الهلاك.
قوله: «أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ» وفيه: أن أسامة رضي الله عنه غضب عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: استغفر لي.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا تأخذه في الله عز وجل لومة لائم ولو كان أسامة رضي الله عنه حِبًّا.
وفيه: تحريم الشفاعة في الحدود، فجاء في الحديث الآخر: «إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع» [(986)] فلا يجوز للإنسان أن يشفع في ترك الحد إذا وصل إلى الحاكم، كما أنه لا يجوز للإنسان أن يؤوي الجاني حتى لا يقام عليه الحد، وفي الحديث: «لعن الله من آوى محدثًا» [(987)] فالجاني لا يجوز لأحد أن يؤويه، والحد لا يجوز لأحد أن يشفع فيه إذا وصل للحاكم، لكن قبل وصوله إلى الحاكم لا بأس، كما في الحديث: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» [(988)].
والحديث فيه: حد السرقة، وهو قطع اليد، فمن سرق من حرز مقدار النصاب فإنه تقطع يده اليمنى من مفصل الكف، وإذا سرق من غير حرز فجاء في حديث أنه يغرم ضعفي قيمته، وكل شيء حرزه بحسبه، فالذهب حرزه الصناديق، وحرز الغنم مكانها، والسيارات الآن تعتبر حرزًا فإذا كُسِر الزجاج وأُخِذ منها كانت سرقة.
}3476{ هذا الحديث فيه: التحذير من الاختلاف في القراءات؛ وذلك لأن كل القراءات حق؛ ولأن الاختلاف من أسباب هلاك الأولين.
قوله: «فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا» . هو الشاهد لبني إسرائيل وأنهم هلكوا بالاختلاف.
}3477{ هذا الحديث فيه: خبر عن الأمم السابقة ، وعن نبي «ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» 0
وفيه: صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أقوامهم.
فهذا النبي عليه السلام ضربه قومه فأدموه، فصار الدم يجري على وجهه ويمسح الدم عن وجهه ويدعو لهم بالمغفرة، والدعاء بالمغفرة لهم متضمن طلب الهداية، والمعنى: اللهم اهدهم واغفر لهم؛ فإن المشرك لا يغفر له.
}3478{ قوله: «أَنَّ رَجُلاً كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالاً» ، يعني: أعطاه الله عز وجل مالاً، وكأن الله عز وجل جعل له أصلاً من مال، وفي لفظ: «رأسه الله مالا» [(989)] وفي لفظ: «راشه» [(990)] بالشين ـ والرياش: المال ـ وكلها المراد منها أن الله عز وجل أعطاه مالاً.
وهذا الرجل لما حضره الموت وأيس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أَكَلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحَشْتُ فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا راحًا ـ أي: شديد الريح ـ فاذروه في اليم « فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عز وجل فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ» ، والشاهد من الحديث أنه فيه ذكر قصة رجل من بني إسرائيل.
قوله: «عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ» . هذا من سعة علم الإمام البخاري رحمه الله بالحديث ورجاله وعلله؛ حيث إنه ذكر هذا الإسناد لبيان صحة سماع قتادة من عقبة؛ لأن قتادة وإن كان ثقة إلا أنه مدلس؛ فكان لذكر هذا الإسناد بعد الحديث السابق فائدة حديثية هامة وهي نفي تدليس قتادة في هذا الحديث.
}3479{ كرر المصنف رحمه الله قصة هذا الرجل من الأمم السابقة ولكن من طريق صحابي آخر ولأن فيه زيادة إيضاح لقصة هذا الرجل.
قوله: «أَوْرُوا» ، يعني: أشعلوا نارًا، كما في قوله تعالى: [الواقِعَة: 71]{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *} يعني: تشعلون.
قوله: «فَذَرُّونِي فِي الْيَمِّ» ، يعني: يذرونه في البحر.
وقد سبق بيان أن الذي حمل هذا الرجل على ذلك هو الجهل مع الخوف العظيم، وأنه ظن أنه إذا وصل إلى هذا الحال فَأُحرِق وسُحق وطُحن وذُرّ يفوت على الله عز وجل ولا يدخل تحت القدرة فلا يقدر على بعثه، وإلا فهو مؤمن بالبعث ومؤمن بقدرة الله عز وجل، ولذلك غفر الله عز وجل له.
قوله: «حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : «هو ابن عمير المذكور في الإسناد الذي قبله، ومراده أن عبدالملك رواه بالإسناد المذكور مثل الرواية التي قبله إلا في هذه اللفظة؛ وهذا يقتضي خطأ من أورده في الرواية الأولى بلفظ: «رَاحٍ» . وهي رواية السرخسي، وقد رواه أبو الوليد عن أبي عوانة فقال فيه: «في ريح عاصف» أخرجه المصنف رحمه الله في «الرقاق» » [(991)] اهـ.
}3480{ في هذا الحديث: أن التجاوز عن المعسرين من أسباب مغفرة الذنوب.
وفيه: أن الجزاء من جنس العمل؛ فمن تجاوز عن المعسر تجاوز الله عز وجل عنه، والشاهد أنه قال: «كَانَ الرَّجُلُ» يعني: من بني إسرائيل ممن سبقنا.
}3481{ قوله: «كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ» سبق في حديث سابق أنه كان نباشًا ـ أي: كانت جريمته نبش القبور ـ وأن الله عز وجل غفر له بسبب خوفه العظيم مع الجهل، فلم يكن معاندًا ولا مكذبًا ولا عالمًا، لكن حمله الجهل على ما فعل وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة يفوت على الله عز وجل ولا يدخل تحت القدرة؛ فلو كان عالمًا أو معاندًا لكان كافرًا، لا إشكال في ذلك، وقال بعض العلماء: إنه فيمن سبقنا كان يغفر للكافر، ولكن هذا قول في غاية البعد ولا وجه له مطلقًا، وقيل: إنما قال ذلك على وجه الغفلة والذهول والنسيان، والصواب أنه يحمل على أنه جاهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم، وهذه المسألة التي أنكرها مسألة دقيقة خفية بالنسبة إليه؛ فيؤخذ منه أن الجاهل معذور إذا كان مثله يجهل هذا الشيء في أمر دقيق خفي، أما إذا كان الأمر واضحًا معروفًا فلا يعذر بالجهل كالذي يكون من المسلمين ثم يشرك ويقول: إنه جاهل فما يقبل منه.
}3482{ قوله: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» ، يعني: بسبب هرة «سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ» ، وفي رواية: «ربطتها» [(992)].
وفيه: دليل على أن تعذيب الحيوانات حتى تموت من أسباب دخول النار؛ فهذه المرأة دخلت النار لأنها ربطت الهرة فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، وإذا كان حبس هرة حتى تموت من أسباب دخول النار فحبس الآدمي وإيذاؤه وقتله أشد وأعظم.
والمراد من الحديث ذكر قصة من أخبار من كان قبلنا، وتحذيرنا أن نفعل مثل فعلهم فإنهم مضوا وانتهوا كما قال حذيفة رضي الله عنه: «مضى القوم ولم يعن به سواكم» .
وهذه القصة فيها التخويف حتى لا يأمن الإنسان مكر الله عز وجل، كما أن قصة الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه فيها حسن الظن بالله عز وجل حتى لا يقنط الإنسان من رحمة الله عز وجل، وبهاتين القصتين يكون الإنسان بين الرجاء والخوف في تعبده وسيره إلى الله عز وجل.
}3483{، }3484{ قوله: «تَسْتَحْيِ» بإثبات الياء، وأتى بالياء هنا سماعًا كحذف الياء في قوله تعالى: [هُود: 105]{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} سماعًا، والأصل إثبات الياء «يَأْتِي» ، ووقعت في رواية: «تستح» [(993)] بحذف الياء؛ لأنها مسبوقة بجازم.
قوله: «فَافْعَلْ مَا شِئْتَ» . هذا الأمر للتهديد وليس إذنًا له بأن يفعل ما يشاء؛ يعني: سوف تجازى على صنيعك فلست مهملاً فافعل ما شئت وسوف تلقى جزاءك، فهذا كقوله تعالى: [فُصّلَت: 40]{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *}، يعني: اعملوا ما شئتم فسوف تجازون به.
وفيه: التحذير من المعاصي، ووجوب الحياء من الله عز وجل، وأن الحياء يحبس الإنسان ويمنعه من فعل المحرمات والمنكرات.
والحياء خلق داخلي كريم يبعث الإنسان على فعل المحامد وترك الرذائل ويحمله على فعل ما يزينه ويُجَمّله وترك ما يشينه ويُدنّسه وهو من الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [(994)] فالذي عنده إيمان عنده حياء يحبسه ويمنعه من فعل ما يدنسه كخوارم المروءة ، ومن فعل المحرمات؛ والذي ليس عنده حياء لا يبالي فيعمل ما يشاء.
}3485{ قوله: «يَتَجَلْجَلُ» ، أي: يتحرك وينزل مضطرباً؛
وفيه: التحذير من الخيلاء والكبر والإسبال.
وفيه: أنه قد يعاقب الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، كما خسف الله عز وجل الأرض بقارون بسبب كبريائه وإعراضه عن الحق وعدم إيمانه واتباعه لنبي الله موسى عليه السلام وتكبره على الناس وتعاظمه عليهم فخسف الله عز وجل به الأرض، وقد جاء التحذير من الإسبال وجر الثوب في أحاديث أخر منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» [(995)] وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار» [(996)].
فإذا جر الثوب من الخيلاء فعقوبته أن الله عز وجل لا ينظر إليه، وإذا جره لغير الخيلاء فعقوبته أن تأكل النار ما تحت الكعب، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان بما أعطى» [(997)] وهذا وعيد شديد يدل على أن جر الثوب من كبائر الذنوب ، وإذا كان لخيلاء يكون أعظم وأعظم، وفي هذا الحديث أن جر الثوب من الخيلاء من أسباب عقوبة الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة.
}3486{، }3487{ قوله: «نَحْنُ الآْخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، يعني: نحن الآخرون في الزمن، السابقون يوم القيامة في دخول الجنة.
قوله: «بَيْدَ كُلِّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ» ، يعني: أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا؛ لأنهم سبقونا في الزمن، فأنزل في بني إسرائيل على موسى عليه السلام التوراة، ثم الزبور على داود عليه السلام، ثم الإنجيل على عيسى عليه السلام، وأنزل الله تعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم القرآن من بعدهم، فنحن الآخرون زمنًا السابقون يوم القيامة فضلاً ومكانة عند الله عز وجل.
قوله: «فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» ، يعني: يوم الجمعة، «فَغَدًا لِلْيَهُودِ» وهو يوم السبت «وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى» وهو يوم الأحد، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ» وهذا يفيد عموم المسلمين الذكور والإناث حتى المرأة تغتسل في كل أسبوع، لكن الرجل عليه أن يغتسل يوم الجمعة قبل الذهاب إلى الجمعة، وتقدم الكلام في حكم غسل يوم الجمعة فهو عند قوم واجب، وعند آخرين مستحب، وأما المرأة فإنها تغتسل في يوم غير محدد في كل سبعة أيام إذا لم تذهب للجمعة أما إذا ذهبت للجمعة فعليها أن تغتسل.
}3488{ في هذا الحديث: فضل معاوية رضي الله عنه ونصحه وعنايته بالرعية وملاحظته لهم فإنه بويع له بالخلافة عام أربعين لمّا تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له عن الخلافة، وسمي ذلك العام عام الجماعة، واستمر فيها إلى عام ستين، ومن عنايته أنه كان إذا حج يقدم على المدينة، ومر في «آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا» على المدينة فخطب الناس ووعظهم، ويحتمل أن هذا في خطبة الجمعة أو في غيرها.
قوله: «فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ» ، يعني: شعر مزور يوضع على الرأس، وهو نَصٌّ فيما يسمى اليوم بالباروكة.
قوله: «فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الْوِصَالَ فِي الشَّعَرِ» ففيه: دليل على أن اليهود هم الذين يجعلون وصالاً للشعر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور لما فيه من التزوير. فما هو برأس حقيقي ولكنه رأس صناعي مزور.
وفيه: تحريم الوصال في الشعر وتحريم تركيب الشعر على الشعر وهو ما يسمى بالباروكة وأنه من فعل اليهود وأنه من أسباب هلاكهم كما سبق.