}3497{ قوله: « [الشّورى: 23]{إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» . هذا الأثر في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا وثمنًا ُ ّ ِ ُ َ ِ ، يعني: المحبة والموالاة لقرابتي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي» [(1006)].
قوله: «فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلاَّ وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» ، أي: فنزلت عليه هذه الآية: ُ ـ لله ْ ّ ِ ُ َ ِ وهذه منقبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومزية وفضيلة أنه يجب على الإنسان أن يصل قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحبهم لله عز وجل ولقرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن قرابته: زوجاته وعمه العباس وعمه حمزة وعلي والحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم.
}3498{ قوله: «مِنْ هَا هُنَا جَاءَتْ الْفِتَنُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ» فيه: بيان مجيء الفتن، والمشرق مشرقان: المشرق الأعلى، والمشرق الأدنى.
فالمشرق الأعلى: خراسان والصين وما وراء الصين، وجاءت منها فتنة الجهمية من جهة خراسان، وكذلك أيضًا فتنة الرافضة، وكلهم خرجوا من هناك، وكذلك فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج، كلها تأتي من جهة المشرق.
والمشرق الأدنى: العراق، وجاءت منها فتنة التتار، وكذلك نجد جاءت منها فتنة مسيلمة الذي ادعى النبوة، وفتنة سجاح التي ادعت النبوة أيضًا.
والمراد أن أغلب الفتن تأتي من هناك، وليس المراد أنه لا يأتي منها خير، بل يوجد فيها خير أحيانًا؛ فجاء من المشرق البخاري ومسلم وبقية الستة كلهم جاءوا من جهة المشرق.
قوله: «وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ» . حكى الحافظ ابن حجر رحمه الله في الدال التشديد والتخفيف ، ثم ذكر أن المراد به البقر التي يحرث عليها ، وقال: «وقال الخطابي: الفدان آلة الحرث والسكة، وقيل: الفدادون: هم أصحاب الإبل الكثيرة من المائتين إلى الألف، وقيل: الفدادون هم الرعاة والجمالون، وقال الخطابي: إنما ذُم هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمور دينهم وذلك يفضي إلى قساوة القلب» اهـ.
والجفاء والغلظ متقاربان، فالجفاء ضد الصلة، والغلظة هي القسوة ضد اللين.
قوله: «أَهْلِ الْوَبَرِ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي: ليسوا من أهل المدر؛ لأن العرب تعبر عن أهل الحضر بأهل المدر وعن أهل البادية بأهل الوبر» اهـ.
وقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» ، يعني: بيَّن أن الفدادين في قبيلتين: قبيلة ربيعة ومضر؛ فالكبر والخيلاء في أهل الوبر من الإبل والبقر؛ لأنهم ورثوا هذه الأخلاق من الإبل والبقر، وأما أهل الغنم ففيهم السكينة والوداعة والتواضع، وفي الحديث التالي: «والسكينة في أهل الغنم» .
فالإبل فيها قوة، وهي عظيمة الخلق، فلذا رعاتها يستفيدون من أخلاقها؛ ولذا جاء في الحديث الأمر بالوضوء من أكل لحم الإبل[(1007)]، والحكمة من ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(1008)]: «فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم ، فقال: «الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أهل الغنم» [(1009)] وروي في الإبل: «إنها خلقت من الشياطين» [(1010)] وروي: «على ذروة كل بعير شيطان» [(1011)]. فالإبل فيها قوة شيطانية ، والغاذي شبيه بالمغذِّي، ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير لأنها دواب عادية بالاغتذاء بها تجعل في خلق الإنسان من العدوان ما يضره في دينه؛ فنهى الله عز وجل عن ذلك لأن المقصود أن يقوم الناس بالقسط ، والإبل إذا أكل منها تبقى فيه قوة شيطانية، وفي الحديث الذي في «السنن» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» [(1012)] فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في ذلك من إطفاء القوة الشيطانية ما يزيل المفسدة بخلاف من لم يتوضأ منها ، فإن الفساد حاصل معه؛ ولهذا يقال: إن الأعراب بأكلهم لحوم الإبل مع عدم الوضوء منها صار فيهم من الحقد ما صار» اهـ. ولكن الوضوء واجب على من أكل لحم الإبل سواء عرفنا الحكمة أو لم نعرفها، والمقصود أن الإبل والبقر رعاتها يكون فيهم الجفاء والغلظ والفخر والخيلاء، وأما السكينة والتواضع والدعة تكون في أهل الغنم.
ومناسبة الحديث لكتاب المناقب أن هناك منقبة لأهل الغنم؛ لما فيهم من السكينة والتواضع، وهذه منقبة فاقوا بها أهل الوبر والبقر.
وهناك مناسبة أخرى، وهي أن هذه الصفات من الكبر والغلظ ليست من التقوى، وأن التقوى على خلافها، أما السكينة والتواضع فمن التقوى.
}3499{ قوله: «الْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ» هذا نص على أن السكينة والتواضع في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر؛ فأهل الغنم أقرب إلى التقوى من أهل الإبل والبقر.
قوله: «وَالإِْيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» . هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن اليمن قبلوا دعوة الإسلام، واستجابوا لرسولي رسول صلى الله عليه وسلم: معاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، ولما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بني تميم قالوا: بشرتنا فأعطنا؛ فجاء أهل اليمن فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم» [(1013)] قالوا: قبلنا، فهذه منقبة لهم.
وقوله: «وَالإِْيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» ليس هذا بلازم الاستمرار، بل قد تكون الصفة في زمن وتتخلى عنهم في زمن آخر، فمتى وجدت الشروط من الاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم وقبول الشريعة حصلت لهم هذه المزية، ومتى تخلفت زالت، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا» [(1014)] لا يلزم منه الاستمرار، فربما حصلت في بعض الأزمنة هذه الصفات، وربما تخلفت في بعض الأزمنة، فقد حصل في اليمن وفي الشام في بعض الأزمنة خير كثير، وحصل في بعض الأزمنة شر كثير، والشام الآن فيه النصيرية البعثيون وحكامهم من أشر خلق الله عز وجل، واليمن الآن فيه خير كثير ففيه دعاة وفيه: مُحَدِّثون. وفيه: شر كثير كالباطنية وغيرهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله في حديث أبي هريرة: «وَالإِْيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» ظاهره نسبة الإيمان إلى اليمن؛ لأن أصل «يَمَانٍ» يمني فحذفت ياء النسب وعوض بالألف بدلها. وقوله: «يَمَانِيَةٌ» هو بالتخفيف، وحكى ابن السيد في «الاقتضاب» أن التشديد لغة، وحكى الجوهري وغيره أيضًا عن سيبويه جواز التشديد في يماني وأنشد:
يمانيًّا يظل يشد كيرًا
وينفخ دائمًا لهب الشواظ
واختلف في المراد به؛ فقيل: معناه نسبة الإيمان إلى مكة؛ لأن مبدأه منها، ومكة يمانية بالنسبة إلى المدينة. وقيل: المراد نسبة الإيمان إلى مكة والمدينة وهما يمانيتان بالنسبة للشام بناء على أن هذه المقالة صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم وهو حينئذ بتبوك، ويؤيده قوله في حديث جابر رضي الله عنهعند مسلم رحمه الله: «والإيمان في أهل الحجاز» [(1015)] وقيل: المراد بذلك الأنصار؛ لأن أصلهم من اليمن، ونسب الإيمان إليهم لأنهم كانوا الأصل في نصر الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حكى جميع ذلك أبو عبيدة في «غريب الحديث» له. وتعقبه ابن الصلاح بأنه لا مانع من إجراء الكلام على ظاهره، وأن المراد تفضيل أهل اليمن على غيرهم من أهل المشرق، والسبب في ذلك إذعانهم إلى الإيمان من غير كبير مشقة على المسلمين، بخلاف أهل المشرق وغيرهم، ومن اتصف بشيء وقوي قيامه به نسب إليه إشعارًا بكمال حاله فيه، ولا يلزم من ذلك نفي الإيمان عن غيرهم، وفي ألفاظه أيضًا ما يقتضي أنه أراد به أقوامًا بأعيانهم فأشار إلى من جاء منهم لا إلى بلد معين؛ لقوله في بعض طرقه في «الصحيح» : «أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبًا وأرق أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق» [(1016)] ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره وحمل أهل اليمن على حقيقته. ثم المراد بذلك الموجود منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان؛ فإن اللفظ لا يقتضيه. قال: والمراد بالفقه الفهم في الدين، والمراد بالحكمة العلم المشتمل على المعرفة بالله عز وجل انتهى. وقد أبعد الحكيم الترمذي حيث زعم أن المراد بذلك شخص خاص وهو أويس القرني رضي الله عنه، وسيأتي في «باب ذكر قحطان» زيادة في هذا والله أعلم» اهـ.
قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سُمِّيَتْ الْيَمَنَ لأَِنَّهَا عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَالشَّأْمَ لأَِنَّهَا عَنْ يَسَارِ الْكَعْبَةِ» من عادة البخاري رحمه الله أنه حريص على أن يفيد طالب العلم، ويفسر الكلمات اللغوية؛ فبين تفسير قوله: «وَالإِْيمَانُ يَمَانٍ» بأن اليمن سميت بذلك؛ لأنها عن يمين الكعبة، وسميت الشام شامًا؛ لأنها عن يسار الكعبة؛ ولهذا سمي الركن اليماني؛ لأنه جهة اليمن، وكل ما كان عن يمين الكعبة يسمى يمنًا، حتى إن مكة كلها من الساحل تسمى يمنًا.
مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ
}3500{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِنْكُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلاَ تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَالأَْمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا الأَْمْرَ فِي قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ».
}3501{ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَْمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ».
}3502{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ».
}3503{ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي أَبُو الأَْسْوَدِ مُحَمَّدٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ إِلَى عَائِشَةَ وَكَانَتْ أَرَقَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ لِقَرَابَتِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
}3504{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدٍ خ قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الأَْعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قُرَيْشٌ وَالأَْنْصَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَأَشْجَعُ وَغِفَارُ مَوَالِيَّ لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».
}3505{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو الأَْسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَحَبَّ الْبَشَرِ إِلَى عَائِشَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِهَا وَكَانَتْ لاَ تُمْسِكُ شَيْئًا مِمَّا جَاءَهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ إِلاَّ تَصَدَّقَتْ فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهَا فَقَالَتْ: أيُؤْخَذُ عَلَى يَدَيَّ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ كَلَّمْتُهُ فَاسْتَشْفَعَ إِلَيْهَا بِرِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبِأَخْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً فَامْتَنَعَتْ فَقَالَ لَهُ الزُّهْرِيُّونَ أَخْوَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَْسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: إِذَا اسْتَأْذَنَّا فَاقْتَحِمْ الْحِجَابَ فَفَعَلَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِعَشْرِ رِقَابٍ فَأَعْتَقَتْهُمْ ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تُعْتِقُهُمْ حَتَّى بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَقَالَتْ: وَدِدْتُ أَنِّي جَعَلْتُ حِينَ حَلَفْتُ عَمَلاً أَعْمَلُهُ فَأَفْرُغُ مِنْهُ.
قوله: «بَاب مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: قريش: هم ولد النضر بن كنانة، وبذلك جزم أبو عبيدة أخرجه ابن سعد عن أبي بكر بن الجهم، وروى عن هشام بن الكلبي عن أبيه كان سكان مكة يزعمون أنهم قريش دون سائر بني النضر حتى رحلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه من قريش؟ قال: من ولد النضر بن كنانة. وقيل: إن قريشًا هم ولد فهر بن مالك بن النضر» .
إذن هما قولان مشهوران:
الأول: أن قريشًا هم ولد النضر بن كنانة، وهو الجد الثاني عشر من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن قريشًا هم ولد فهر بن مالك، وهو الجد العاشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول الأكثر ، فمن وَلده فهر فهو قرشي، ومن لم يلده فهر فليس قرشيًّا؛ فقريش نسب عال ومنقبة؛ لأنه يبقى فيهم الولاية والخلافة؛ فالأئمة من قريش.
وفي تسميتهم بقريش أربعة أقوال أوردها الشارح رحمه الله:
1- لما تجمعت قريش بعد تفرقها.
2- أو لتلبسهم بالتجارة.
3- أو لأن الجد الأعلى جاء في ثوب واحد متجمعًا فيه.
4- أو من أخذ الشيء أولاً فأولاً.
وكأن الحافظ رحمه الله ظهر له أن قريشًا تصغير قرش، وهو الحوت الذي في البحر، ثم قال رحمه الله: «وقد أخرج البيهقي من طريق ابن عباس رضي الله عنهما قال: قريش تصغير قرش، وهي دابة في البحر لا تمر بشيء من غث ولا سمين إلا أكلته، وقيل: سمي قريشًا لأنه كان يقرش عن خَلَّة الناس وحاجتهم ويسدها، والتقريش هو التفتيش، وقيل: سموا بذلك لمعرفتهم بالطِعَان، والتقريش وقع الأسنة، وقيل: التقرش التنزه عن رذائل الأمور، وقيل: هو من أقرشت الشجة إذا صدّعت العظم ولم تهشمه، وقيل: أقرش بكذا إذا سعى فيه فوقع له، وقيل غير ذلك» .
}3500{ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «مِنْ قَحْطَانَ» ، هو جماع اليمن» .
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي إنكار معاوية رضي الله عنه ذلك نظر؛ لأن الحديث الذي استدل به مقيد بإقامة الدين» اهـ.
قوله: «إِنَّ هَذَا الأَْمْرَ فِي قُرَيْشٍ» ، يعني: الولاية والخلافة.
قوله: «لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ» ، يعني: في النار. والحديث الذي بعده حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» ، لكن هذا مقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَقَامُوا الدِّينَ» ، أي: إذا كانوا يقيمون الدين تكون الخلافة فيهم، وإذا ضيعوا الدين ولم يوجد منهم أحد يقيم الدين فلا تكون فيهم؛ ولهذا لما غيروا في آخر دولة بني العباس صار لهم الاسم فقط والولاية الحقيقية كانت للترك؛ فأصبح الخليفة مجرد صورة ومجرد اسم، يخطب يوم الجمعة، ويدعى له، ويكتب اسمه على العملة، وأما التصرف فكان للأتراك، ثم نزعت منهم الولاية بسقوط بغداد سنة 656 هـ ومنذ هذا العهد ما تولى قرشي إلى الآن، وتدهورت الحالة الدينية في الجزيرة العربية حتى جاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في عهد انتشر فيه الشرك بالله عز وجل وعبادة القبور والأضرحة والتبرك بالأشجار والأحجار؛ فقام الشيخ رحمه الله يدعو ويجدد دعوة التوحيد، حتى أعانه عز وجل على إقامة الدين في الجزيرة، ثم جاء الإمام عبدالعزيز بن سعود رحمه الله ونشر التوحيد وأزال الشرك، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الأَْمْرَ فِي قُرَيْشٍ... مَا أَقَامُوا الدِّينَ» ، فإذا لم يقيموا الدين وأقروا الشرك فلا تكون الولاية فيهم، بل تنزع الولاية منهم.
وقوله: «إِنَّ هَذَا الأَْمْرَ فِي قُرَيْشٍ» . هذا خبر بمعنى الأمر؛ يعني: اجعلوا الولاية في قريش، لكن بشرط إقامة الدِّينَ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فيحتمل أن يكون خروج القحطاني إذا لم تقم قريش أمر الدين، وقد وجد ذلك؛ فإن الخلافة لم تزل في قريش والناس في طاعتهم إلى أن استخفوا بأمر الدين فضعف أمرهم وتلاشى إلى أن لم يبقَ لهم من الخلافة سوى اسمها المجرد في بعض الأقطار دون أكثرها» .
وهذا في آخر خلافة بني العباس، صار لهم الاسم فقط والتصرف لغيرهم، ولما سقطت بغداد سقطت الخلافة في قريش، وما أصابها أحد منهم.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وسيأتي مصداق قول عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما بعد قليل من حديث أبي هريرة رضي الله عنه» اهـ.
}3501{ قوله: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَْمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الكرماني: ليست الحكومة في زمننا لقريش؛ فكيف يطابق الحديث؟» .
يعني: أن الكرماني رحمه الله استشكل أن الحكومة في زمانه ليست لقريش، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَْمْرُ فِي قُرَيْشٍ» . فما تفسير ذلك؟
_خ والجواب: أن هذا الحديث لو كان خبرًا لا يمكن أن يتخلف؛ فدل تخلفه على أنه أمر مثل قوله تعالى: [الأحزَاب: 33]{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا *} فهل هذه الإرادة كونية أم شرعية؟ لو كانت كونية لم يكن أحد من أهل البيت إلا مسلمًا؛ لأنه لا يتخلف أمر الله عز وجل الكوني، لكنها إرادة شرعية؛ يعني: أراد الله عز وجل شرعًا ودينًا أن يطهر أهل البيت، لكن منهم من تطهر ومنهم من لم يتطهر كأبي طالب وأبي لهب لم يتطهرا، فكذلك قوله: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَْمْرُ فِي قُرَيْشٍ» فلو كان خبرًا لم يتخلف، فلا يكون إمام إلا من قريش، لكنه أمر بمعنى: اجعلوا الأئمة من قريش؛ فقد يُمتثل الأمر وقد لا يُمتثل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأجاب عن ذلك بأن في بلاد الغرب خليفة من قريش وكذا في مصر، وتعقب بأن الذي في الغرب هو الحفصي صاحب تونس وغيرها، وهو منسوب إلى أبي حفص رقيق عبدالمؤمن صاحب ابن تومرت الذي كان على رأس المائة السادسة، ادعى أنه المهدي ثم غلب أتباعه على معظم الغرب وسموا بالخلافة، وهم عبدالمؤمن وذريته، ثم انتقل ذلك إلى ذرية أبي حفص» .
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وحينئذ هو خبر بمعنى الأمر، وإلا فقد خرج هذا الأمر عن قريش في أكثر البلاد، ويحتمل حمله على ظاهره، وأن المتغلبين على النظر في أمر الرعية في معظم الأقطار وإن كانوا من غير قريش لكنهم معترفون أن الخلافة في قريش، ويكون المراد بالأمر مجرد التسمية بالخلافة لا الاستقلال بالحكم، والأول أظهر، والله أعلم» اهـ.
}3502{، }3503{ قوله: «إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» فيه: منقبة لبني المطلب وبني هاشم، وهم من قريش، ومن مناقبهم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في النصرة في الجاهلية وفي الإسلام، ولهذا صارت لهم منقبة ومزية؛ فلا يأخذون من الصدقة، وإنما يعوضون من سهم الغنيمة؛ لقول الله تعالى: [الأنفَال: 41]{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} فلهم سهم ذي القربى، وأما الزكاة فلا يعطونها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» [(1017)] وأما بنو نوفل، وبنو عبد شمس الذين منهم عثمان بن عفان فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطهم سهم ذي القربى؛ ولهذا قال عثمان رضي الله عنه: «أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا» ، يعني: بني عبد شمس «وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ» ، أي: كل من بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد مناف وبني المطلب أبناء رجل واحد ولكن خُص بنو المطلب مع بني هاشم قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم، دون بني عبد شمس وبني نوفل لأنهم كانوا معهم في النصرة في الجاهلية وفي الإسلام، ودخلوا معهم الشِعب لما حاصرت قريش بني هاشم، ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل، ولهذا صارت لهم منقبة خاصة.
قوله: «لِقَرَابَتِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . هذا هو الشاهد؛ فهذه منقبة عظيمة لبني زهرة؛ لأنهم من قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها ترق لهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقرابة بني زهرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين: أحدهما: أنهم أقارب أمه لأنها آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. والثاني: أنهم إخوة قصي بن كلاب بن مرة، وهو جد والد جد النبي صلى الله عليه وسلم. والمشهور عند جميع أهل النسب أن زهرة اسم الرجل، وشذ ابن قتيبة فزعم أنه اسم امرأته وأن ولدها غلب عليهم النسب إليها، وهو مردود بقول إمام أهل النسب هشام بن الكلبي، أن اسم زهرة المغيرة، فإن ثبت قول ابن قتيبة فالمغيرة اسم الأب وزهرة اسم امرأته فنسب أولادهما إلى أمهم ثم غلب ذلك حتى ظن أن زهرة اسم الأب فقيل زهرة بن كلاب، وزهرة بضم الزأي: بلا خلاف» اهـ.
}3504{ قوله: «قُرَيْشٌ وَالأَْنْصَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَأَشْجَعُ وَغِفَارُ مَوَالِيَّ» هذه منقبة لهذه القبائل: منقبة لقريش ومنقبة للأنصار ـ الأوس والخزرج ـ ومنقبة لجهينة ومزينة، ومنقبة لأسلم، ومنقبة لأشجع، ومنقبة لغفار.
وقوله: «مَوَالِيَّ» يعني: هم أنصاري.
وقوله: «لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، وذلك لسبقهم للإسلام ونصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما سبقت هذه القبائل للإسلام كانت لهم هذه المنقبة.
}3505{ هذه القصة فيها أن عائشة رضي الله عنها هي خالة عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما فهو ابن أختها أسماء رضي الله عنها، وهي التي ربته، وكانت تكنى به فيقال لها: أم عبدالله؛ فهي ليس لها أولاد، وكان أبر الناس بها.
قوله: «وَكَانَتْ لاَ تُمْسِكُ شَيْئًا مِمَّا جَاءَهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ إِلاَّ تَصَدَّقَتْ» ، أي: إذا جاءها شيء من الأموال تتصدق رضي الله عنها ولا تبقي شيئًا، حتى إنها في بعض المرات كانت صائمة وعندها أموال كثيرة فتصدقت بها؛ فقالت لها الجارية: يا أم المؤمنين، ما تركت لنا شيئًا نفطر به! قالت: «لو ذكرتيني لفعلت» ، وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما كأنه نظر إلى إكثارها من الصدقة وأنها لا تبقي شيئًا، فقال: «يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهَا» يعني: ينبغي أن يحجر عليها، وهذا غلط من ابن الزبير رضي الله عنهما؛ لأن الذي ينفق ويتصدق ليس سفيهًا، إنما السفيه الذي يبدد أمواله في ما لا يفيد؛ فهذا هو الذي يحجر عليه، فغضبت عليه عائشة رضي الله عنها، وصار في نفسها وَجْد عليه، وقالت: «أيُؤْخَذُ عَلَى يَدَيَّ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ كَلَّمْتُهُ» ، يعني: إن كلمته فعلي نذر، أو: علي نذر ألا أكلمه، وهذا من شدة وَجْد عائشة رضي الله عنها وغضبها عليه؛ فشق ذلك على عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما «فَاسْتَشْفَعَ إِلَيْهَا بِرِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبِأَخْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً» . وهذا هو الشاهد للترجمة.
وفيه: منقبة لأهل قريش؛ لأن قريشًا هم رهط النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة؛ «فَامْتَنَعَتْ» ، وفي رواية أخرى قالت رضي الله عنها: «النذر شديد» ، فتحيلوا عليها «فَقَالَ لَهُ الزُّهْرِيُّونَ أَخْوَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَْسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: إِذَا اسْتَأْذَنَّا فَاقْتَحِمْ الْحِجَابَ» ، أي: إذا استأذنا في الدخول على عائشة رضي الله عنها فاتبعنا فإنها لا ترانا ولكن تسمع صوتنا فقط فإنا بيننا وبينها الحجاب ـ يعني: الستار ـ فإذا دخلنا فارفع أنت الستار وادخل عليها؛ لأنك مَحْرمٌ لها، ونحن نبقى من وراء الحجاب، وفي «كتاب الأدب» من طريق آخر: «فأقبل به المسور وعبدالرحمن رضي الله عنهما مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة رضي الله عنها فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة رضي الله عنها: ادخلوا، قالوا: كلنا؟ قالت: نعم، ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير رضي الله عنهما، فلما دخلوا دخل ابن الزبير رضي الله عنهما الحجاب فاعتنق عائشة رضي الله عنها وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبدالرحمن رضي الله عنهما يناشدانها إلا ما كلمته، وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد فعلت من الهجرة فإنه «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال» [(1018)] فلما أكثروا على عائشة رضي الله عنها من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما نذرها وتبكي، وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير رضي الله عنهما، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها» .
فمن المعلوم أنه لا يجوز الهجر أكثر من ثلاثة أيام إذا كان الهجر لحظ النفس في أمور الدنيا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» [(1019)] أما إذا كان الهجر لله عز وجل أو لأجل الدين، أو من أجل البدعة، فإنه لا توقيت له إلا بالتوبة من الذنب، وما فعلته عائشة رضي الله عنها ليس من أجل البدعة ولا من أجل الفسق ولكن هجرته من أجل حظ نفسها؛ لأنه قال: إنه سيأخذ على يديها.
قوله: «فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِعَشْرِ رِقَابٍ فَأَعْتَقَتْهُمْ» أي: فأرسل إليها عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما بعشر رقاب كفارة عن يمينها.
قوله: «ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تُعْتِقُهُمْ حَتَّى بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَقَالَتْ: وَدِدْتُ أَنِّي جَعَلْتُ حِينَ حَلَفْتُ عَمَلاً أَعْمَلُهُ فَأَفْرُغُ مِنْهُ» ، يعني: لو حددت كان أحسن، كأن تقول مثلاً: إن كلمته فعلي رقبة، أو رقبتان أو عشرة، فهذا أسهل عليها، لكنها أطلقت فقالت رضي الله عنها: «عَلَيَّ نَذْرٌ» ، فلم تزل تعتق وتعتق حتى أعتقت أربعين عتيقًا رضي الله عنها وأرضاها، وهذا النذر بمعنى اليمين يكفي فيه كفارة واحدة، لكنها شق عليها ذلك.
وهذا الأثر فيه: منقبة لعائشة رضي الله عنها وللزهريين أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ولعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وللرجال من قريش.
نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ
}3506{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ: لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
قوله: «بَاب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ» ، أي: بلغتهم.
وقيل: ابتداء نزول القرآن كان بلغة قريش ثم أبيح بعد ذلك أن يقرأ بلغة غيرهم.
وقيل: المراد بيان أن نزول معظم القرآن وأكثره كان بلغة قريش.
والحديث الآتي يبين: أن الأصل في القرآن لسان قريش.
وفيه: منقبة عظيمة لقريش.
}3506{ قوله: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ» فيه: منقبة ظاهرة لقريش، فالقرآن نزل بلسانهم لفضلهم ومزيتهم، وعثمان رضي الله عنه لما أراد أن يجمع القرآن في المرة الثانية كلف أربعة: زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو أنصاري، وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وهو قرشي، وسعيد بن العاص رضي الله عنه وهو قرشي، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام وهو قرشي؛ فنسخوها في المصاحف.
نِسْبَةِ الْيَمَنِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ
مِنْهُمْ أَسْلَمُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ خُزَاعَةَ.
}3507{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَنَاضَلُونَ بِالسُّوقِ فَقَالَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ لأَِحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَأَمْسَكُوا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ: مَا لَهُمْ قَالُوا: وَكَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ بَنِي فُلاَنٍ قَالَ: ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب نِسْبَةِ الْيَمَنِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ» ، أي: ابن إبراهيم الخليل عليه السلام ونسبة مضر وربيعة إلى إسماعيل عليه السلام متفق عليها، وأما اليمن فجماع نسبهم ينتهي إلى قحطان، واختلف في نسبه فالأكثر أنه ابن عابر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح، وقيل: هو من ولد هود عليه السلام، وقيل: ابن أخيه. ويقال: إن قحطان أول من تكلم بالعربية وهو والد العرب المتعربة، وأما إسماعيل عليه السلام فهو والد العرب المستعربة، أما العرب العاربة فكانوا قبل ذلك كعاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وغيرهم. وقيل: إن قحطان أول من قيل له أبيت اللعن وعم صباحًا، وزعم الزبير بن بكار أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل عليه السلام، وهو ظاهر قول أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم في قصة هاجر حيث قال وهو يخاطب الأنصار: « فتلك أمكم يا بني ماء السماء» [(1020)] هذا هو الذي يترجح في نقدي؛ وذلك أن عدد الآباء بين المشهورين من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم وبين قحطان متقارب من عدد الآباء بين المشهورين من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم وبين عدنان؛ فلو كان قحطان هو هودًا أو ابن أخيه أو قريبًا من عصره لكان في عداد عاشر جد لعدنان على المشهور أن بين عدنان وبين إسماعيل عليه السلام أربعة آباء أو خمسة، وأما على القول بأن بين عدنان وإسماعيل عليه السلام نحو أربعين أبًا فذاك أبعد، وهو قول غريب عند الأكثر، مع أنه حكاه كثيرون وهو أرجح عند من يقول إن معد بن عدنان كان في عصر بختنصر، وقد وقع في ذلك اضطراب شديد واختلاف متفاوت حتى أعرض الأكثر عن سياق النسب بين عدنان وإسماعيل عليه السلام، وقد جمعت مما وقع لي من ذلك أكثر من عشرة أقوال، فقرأت في كتاب النسب لأبي رؤبة على محمد بن نصر فذكر فيه فصلاً في نسب عدنان فقال: قالت طائفة: هو ابن أد بن أدد ابن زيد بن معد بن مقدم بن هميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل عليه السلام، وقالت طائفة: ابن أدد بن هميسع بن نبت بن سلامان بن حمل بن نبت بن قيدار، وقالت طائفة: ابن أدد بن هميسع المقوم ابن ناحور بن يسرح بن يشجب بن مالك بن أيمن بن نبت بن قيدار، وقالت طائفة: هو ابن أد بن أدد بن الهميسع بن يشجب بن سعد بن بريح بن نمير بن حميل منحيم بن لافث بن الصابوح بن كنانة بن العوام بن نابت بن قيدار، وقالت طائفة: بين عدنان وإسماعيل عليه السلام أربعون أبًا، قال: واستخرجوا ذلك من كتاب رخيا كاتب أرميا النبي عليه السلام، وكان رخيا قد حمل معد بن عدنان من جزيرة العرب ليالي بختنصر خوفًا عليه من معرة الجيش فأثبت نسب معد بن عدنان في كتبه فهو معروف عند علماء أهل الكتاب. قال: ووجدت طائفة من علماء العرب قد حفظت لمعد أربعين أبًا بالعربية إلى إسماعيل عليه السلام، واحتجت في أسمائهم بأشعار من كان عالمًا بأمر الجاهلية كأمية بن أبي الصلت، قال: فقابلته بقول أهل الكتاب فوجدت العدد متفقا واللفظ مختلفًا. ثم ساق أسماء أربعين أبًا بينهما. وقد وجدت لغيره حكاية خلاف أزيد مما حكاه، فعند ابن إسحاق أنه عدنان بن أدد بن يشجب بن يعرب بن قندر، وعنه أيضًا عدنان بن أد بن مقوم بن ناحور بن يبرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل عليه السلام، وعن إبراهيم بن المنذر هو عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن نابت بن إسماعيل عليه السلام، وحكاه مرة عن عبدالله بن عمران المدني فزاد فيه بين أدد والهميسع زيدًا، وحكى أبو الفرج الأصبهاني عن دغفل النسابة أنه ساق بين عدنان وإسماعيل عليه السلام سبعة وثلاثين أبًا فذكرها وهي مغايرة للمذكور قبل، وقال هشام بن الكلبي في كتاب «النسب» له، ونقله ابن سعد عنه قال: أخبرت عن أبي ولم أسمع منه أنه ساق بين عدنان وإسماعيل عليه السلام أربعين أبًا. قلت: فذكرها وفيها مغايرة لما تقدم، قال هشام: وأخبرني رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب من مسلمي أهل الكتاب وعلمائهم أن رخيا كاتب أرمياء أثبت نسب معد بن عدنان والأسماء التي عنده نحو هذه الأسماء، والخلاف من قبل اللغة. قال: وسمعت من يقول: إن معد بن عدنان كان على عهد عيسى بن مريم عليه السلام، كذا قال، وحكى الهمداني في «الأنساب» ما حكاه ابن الكلبي ثم ساق الأسماء سياقة أخرى بأكثر من هذا العدد باثنين ثم قال: وهذا مما أنكره، ومما ينبغي أن يعقل ولا يذكر ولا يستعمل بمخالفتها لما هو المشهور بين الناس، كذا قال، والذي ترجح في نظري أن الاعتماد على ما قاله ابن إسحاق أولى، وأولى منه ما أخرجه الحاكم والطبراني، من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «عدنان هو ابن أد بن زيد بن بري بن أعراق الثرى، وأعراق الثرى هو إسماعيل عليه السلام» ، وهو موافق لما ذكرته آنفًا عن إبراهيم بن المنذر عن عبدالله بن عمران، وهو موافق من يقول إن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام لأنه والحالة هذه يتقارب عدد الآباء بين كل من قحطان وعدنان وبين إسماعيل عليه السلام، وعلى هذا فيكون معد بن عدنان كما قال بعضهم: في عهد موسى عليه السلام لا في عهد عيسى عليه السلام، وهذا أولى لأن عدد الآباء بين نبينا صلى الله عليه وسلم وبين عدنان نحو العشرين، فيبعد مع كون المدة التي بين نبينا صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام كانت ستمائة سنة كما سيأتي في «صحيح البخاري» رحمه الله مع ما عرف من طول أعمارهم أن يكون معد في زمن عيسى عليه السلام، وإنما رجح من رجح كون بين عدنان وإسماعيل عليه السلام العدد الكثير الذي تقدم مع الاضطراب فيه استبعادهم أن يكون بين معد وهو في عصر عيسى بن مريم عليه السلام وبين إسماعيل عليه السلام أربعة آباء أو خمسة مع طول المدة، وما فروا منه وقعوا في نظيره كما أشرت إليه؛ فالأقرب ما حررته وهو إن ثبت أن معد بن عدنان كان في زمن عيسى عليه السلام فالمعتمد أن يكون بينه وبين إسماعيل عليه السلام العدد الكثير من الآباء وإن كان في زمن موسى عليه السلام فالمعتمد أن بينهما العدد القليل، والله أعلم.
قوله: «مِنْهُمْ أَسْلَمُ بْنُ أَفْصَى» بفتح الهمزة وسكون الفاء بعدها مهملة مقصورًا، ووقع في رواية الجرجاني: «أفعى» بعين مهملة بدل الصاد وهو تصحيف.
وقوله «بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ» أي: ابن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، قال الرشاطي: الأزد جرثومة من جراثيم قحطان، وفيهم قبائل، فمنهم الأنصار وخزاعة وغسان وبارق وغامد والعتيك وغيرهم، وهو الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وأراد المصنف رحمه الله أن نسب حارثة بن عمرو متصل باليمن، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بني أسلم بأنهم من بني إسماعيل عليه السلام كما في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الذي في هذا الباب؛ فدل على أن اليمن من بني إسماعيل عليه السلام. وفي هذا الاستدلال نظر لأنه لا يلزم من كون بني أسلم من بني إسماعيل عليه السلام أن يكون جميع من ينسب إلى قحطان من بني إسماعيل عليه السلام لاحتمال أن يكون وقع في أسلم ما وقع في إخوتهم خزاعة من الخلاف هل هم من بني قحطان أو من بني إسماعيل عليه السلام، وقد ذكر ابن عبدالبر رحمه الله من طريق القعقاع بن أبي حدرد في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بناس من أسلم وخزاعة وهم يتناضلون فقال: «ارموا بني إسماعيل» [(1021)] فعلى هذا فلعل من كان هناك من خزاعة كانوا أكثر فقال ذلك على سبيل التغليب، وأجاب الهمداني النسابة عن ذلك بأن قوله لهم: يا بني إسماعيل لا يدل على أنهم من ولد إسماعيل عليه السلام من جهة الآباء، بل يحتمل أن يكون ذلك لكونهم من بني إسماعيل عليه السلام من جهة الأمهات؛ لأن القحطانية والعدنانية قد اختلطوا بالمصاهرة؛ فالقحطانية من بني إسماعيل عليه السلام من جهة الأمهات، ومما استدل به على أن اليمن من ولد إسماعيل عليه السلام قول ابن المنذر بن عمرو بن حرام جد حسان بن ثابت:
ورثنا من البهلولِ عمرو بن عامرٍ
وحارثةَ الغطريفِ مجدًا مؤثلا
مواريثَ من أبناءِ بنت ابن مالكٍ
وبنت ابن إسماعيلَ، ما أنْ تحولا
وهذا أيضًا مما يمكن تأويله كما قال الهمداني، والله أعلم» اهـ.
}3507{ استدل بهذا الحديث من قال: إن اليمن من بني إسماعيل عليه السلام؛ لأن أسلم يمنيون، والمشهور عند أكثر النسابين أن اليمن من قحطان، وأنه ينتهي نسبهم إلى سام ابن نوح عليه السلام من غير طريق إسماعيل عليه السلام.
قوله: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَنَاضَلُونَ بِالسُّوقِ» فيه: دليل على مشروعية الرمي بالنبل والتدرب على السلاح والفروسية والاستعداد للجهاد في سبيل الله عليه السلام؛ ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق» [(1022)] فينبغي للإنسان أن يتدرب ويتمرن على معظم الأسلحة في كل عصر؛ حتى إذا دعا داعي الجهاد يكون عنده استعداد؛ ولهذا أقرهم صلى الله عليه وسلم وشجعهم على ذلك فقال: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ» فأمرهم، والأمر أقل أحواله الاستحباب؛ «فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» ، يعني: إسماعيل عليه السلام «وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ لأَِحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَأَمْسَكُوا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ: مَا لَهُمْ قَالُوا: وَكَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ بَنِي فُلاَنٍ؟» أي: كيف نرمي وأنت مع الفريق الثاني؟! فالذين أنت معهم هم الغالبون، والذين لست معهم لا يمكنهم أن يغلبوا؛ فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أراد أن يطيب أنفسهم فقال: «ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» ، أي: مع الفريقين، مع هؤلاء ومع هؤلاء؛ فجعلوا يرمون.
قال بعض النسابين: إن قوله: «بَنِي إِسْمَاعِيلَ» لا يدل على أنهم من بني إسماعيل من جهة الآباء، بل يحتمل أن يكون ذلك من جهة الأمهات؛ لأن القحطانية والعدنانية قد اختلطوا بالمصاهرة؛ فالقحطانية من بني إسماعيل عليه السلام من جهة الأمهات.
}3508{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الأَْسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ، وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ».
}3509{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا حَرِيزٌ قَالَ: حَدَّثنِي عَبْدُ الْوَاحِدِابْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّصْرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الأَْسْقَعِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ».
}3510{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ فَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَرَامٍ فَلَوْ أَمَرْتَنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ وَنُبَلِّغُهُ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِْيمَانِ بِاللَّهِ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَى اللَّهِ خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ».