شعار الموقع

شرح كتاب المناقب من صحيح البخاري (61-3)

00:00
00:00
تحميل
150

}3511{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَلاَ إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ».

 

قوله: «باب» هذا الباب كالفصل من الباب السابق فهو تبع له؛ لأن القاعدة أنه إذا بوب ولم يذكر عنوان الباب يكون تابعًا للباب السابق.

}3508{ قوله: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ» فيه: وعيد شديد يدل على أن الانتساب إلى غير الأب من كبائر الذنوب، والمراد بقوله: «كفر» يعني: كَفَر كفرًا أصغر لا يخرج من الملة؛ لأن هذا من كفر النعمة، فالأب له على ابنه نعمة الولادة؛ فإذا انتسب إلى غير أبيه كفر هذه النعمة؛ فهو كفر أصغر لا يخرج من الملة إلا إذا استحله.

وقوله: «وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ، يدل على أن الانتساب لغير قومه من كبائر الذنوب حيث تُوعد عليه بالنار؛ فمن انتسب إلى غير قبيلته فهو مرتكب لكبيرة، كأن يكون من مزينة ثم ينتسب إلى غفار، أو من جهينة ثم ينتسب إلى أسلم، أو من قحطان ثم ينتسب إلى بني تميم، فهذا من كفر النعمة، وهو حرام ومن كبائر الذنوب؛ لما فيه من اختلاط الأنساب؛ ولهذا من أخذ ولدًا ورباه فلا ينسبه إلى نفسه ولا يسجله مع أولاده؛ لأن هذا يترتب عليه مفاسد.

 

}3509{ هذا الحديث فيه: الوعيد الشديد على هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم ارتكبوا جرائم من كبائر الذنوب.

قوله: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى» ؛ الفرى: جمع فرية، وهي الكذب.

قوله: «أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ» . هذا هو الشاهد من الحديث، ويعني: أن ينتسب الإنسان إلى غير آبائه وأجداده وإلى غير قبيلته، بأن يكون من عدنان وينتسب إلى قحطان، فهذا من أعظم الكذب؛ لما فيه من كفر النعمة.

قوله: «أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ» أي: في الأحلام والرؤى، فيقول: إنه رأى في النوم كذا وكذا وهو كاذب.

قوله: «أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ» ، يعني: يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إن من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم متعمدًا كفر.

 

}3510{ هذا الحديث فيه: منقبة لوفد عبد القيس رضي الله عنهم؛ لأنهم سبقوا غيرهم إلى الإسلام؛ حيث إنهم أسلموا قديمًا في أول هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن مسجدهم في جُوَاثَا في الأحساء ـ والأحساء: هي البحرين، وكل المنطقة الشرقية كانت تسمى البحرين ـ موجود إلى الآن وقد أصبح من المعالم الأثرية.

وفيه: ثاني جمعة جُمّعت بعد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ فَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَرَامٍ» فيه: أن كفار مضر ظلوا على جفائهم وكفرهم ففاتتهم المنقبة ولحقهم الذم؛ فهم كانوا يحولون بين وفد عبد القيس وبين أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بقتالهم إلا في الأشهر الحرم حين تضع الحرب أوزارها، وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وشهر رجب؛ وقوله: «إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ» : منصوب على الاختصاص؛ يعني: أخص هذا الحي، وخبر «إِنَّا» جملة. «قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ» ، يعني: إننا قد حالت بيننا وبينك كفار مضر فلا نستطيع أن نصل إليك حتى نتعلم ديننا.

قوله: «فَلَوْ أَمَرْتَنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ وَنُبَلِّغُهُ مَنْ وَرَاءَنَا» . وفي اللفظ الآخر: «فأمرنا بأمْرٍ فصل » [(1023)] يعني: تعطينا من جوامع الكلم من أمور ديننا ما نتعلمه ونبلغه من وراءنا.

قوله: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ» . أما الأربعة التي يأمرهم بها قال: «الإِْيمَانِ بِاللَّهِ» ثم فسر الإيمان بالله عز وجل فقال: «شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَى اللَّهِ خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ» ، وفي اللفظ الآخر: «وصوم رمضان» [(1024)]؛ فيه: دليل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد عند انفراد أحدهما، حيث فسر الإيمان هنا بالأعمال الظاهرة، كما أنه فسر الإسلام في حديث جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة أيضا من الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج؛ فالإسلام إذا أطلق دخل فيه الأعمال، والإيمان إذا أطلق دخل فيه الأعمال، وإن اجتمعا فسر الإيمان بالأمور الباطنة والإسلام بالأعمال الظاهرة.

قال: «وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ» ، يعني: أنهاكم عن وضع النبيذ فيها، والنبيذ يكون من عصير العنب أو من عصير التمر أو من عصير الذرة أو من عصير الشعير، وكان العرب يعصرون العصير ويشربونها اليومين والثلاثة؛ ولأنهم لم يكن عندهم ثلاجات ففي اليوم الثالث في شدة الحر يقذف الزبد ويتخمر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام نهاهم أن ينتبذوا في هذه الأشياء الصلبة لئلا يتخمر وهم لا يشعرون وأمرهم أن ينتبذوا ـ كما في الحديث الآخر ـ في الأسقية من الجلد فإذا تخمرت تشققت فيلقونها.

قوله: «الدُّبَّاءِ» القرع، حيث يؤخذ اللب الذي في وسطه ثم ينتبذ فيه النبيذ.

قوله: «وَالْحَنْتَمِ» جرار خضر من طين مطبوخ.

قوله: «وَالنَّقِيرِ» جذع النخل ينقرونه وينبذ فيه.

قوله: «وَالْمُزَفَّتِ» المطلي بالزفت، وكذلك المقير وهو المطلي بالقار وهو الزفت.

فهذه الأشياء الصلبة التي نهاهم أن ينتبذوا فيها أول الإسلام مخافة أن يتخمر العصير ولا يعلموا ذلك، ثم لما استقر الإسلام وعرف الناس الأحكام رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبذوا في كل شيء وقال: « انتبذوا في كل شيء ولا تشربوا مسكرًا» [(1025)].

والشاهد هو منقبة وفد بني عبد القيس الذين تقدم إسلامهم، أما كفار مضر ففاتتهم هذه المنقبة حيث لم يبادروا إلى الإسلام.

 

}3511{ قوله: «أَلاَ إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» . لقد تحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت الفتن من المشرق الأقصى ـ الصين، وخراسان، وبلاد الترك ـ كفتنة الجهمية، وكذلك فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج كلها تأتي من هناك؛ وجاءت فتن أيضًا من المشرق الأدنى ـ العراق، ونجد ـ فخرج منها مسيلمة وسجاح التميمية.

وكما خرج من المشرق فتن كثيرة خرج أيضًا من المشرق خير كثير، كأئمة الحديث الستة المشهورين البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم كلهم من جهة المشرق، وكذلك العراق صار فيه خير كثير فصار موطنًا للعلماء والأئمة كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ونجد الآن صار فيها دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.

والشاهد من الحديث: أن الغالب أن المشرق فاتته المنقبة لقوله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» ، بخلاف الجهة الأخرى التي فيها الخير.

  ذِكْرِ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ

}3512{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قُرَيْشٌ وَالأَْنْصَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارُ وَأَشْجَعُ مَوَالِيَّ لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».

}3513{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ وَعُصَيَّةُ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

}3514{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ وَغِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا».

}3515{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ جُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي أَسَدٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَة َفَقَالَ رَجُلٌ: خَابُوا وَخَسِرُوا فَقَالَ: هُمْ خَيْرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ».

}3516{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الأَْقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَمُزَيْنَةَ وَأَحْسِبُهُ وَجُهَيْنَةَ ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ شَكَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَأَحْسِبُهُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ خَابُوا وَخَسِرُوا قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَخَيْرٌ مِنْهُمْ».

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ: «أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ أَوْ قَالَ شَيْءٌ مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَسَدٍ وَتَمِيمٍ وَهَوَازِنَ وَغَطَفَانَ».

 

قوله: «بَاب ذِكْرِ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هذه خمس قبائل كانت في الجاهلية في القوة والمكانة دون بني عامر بن صعصعة وبني تميم بن مر وغيرهما من القبائل، فلما جاء الإسلام كانوا أسرع دخولاً فيه من أولئك فانقلب الشرف إليهم بسبب ذلك، فأما أسلم فقد تقدم ذكر نسبهم في الباب الماضي، وأما غفار فبكسر الغين المعجمة وتخفيف الفاء وهم بنو غفار بن مليل ـ بميم ولامين مصغر ـ ابن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وسبق منهم إلى الإسلام أبو ذر الغفاري وأخوه أنيس رضي الله عنهما كما سيأتي شرح ذلك قريبًا، ورجع أبو ذر رضي الله عنه إلى قومه فأسلم الكثير منهم. وأما مزينة فبضم الميم وفتح الزأي: وسكون التحتانية بعدها نون وهو اسم امرأة عمرو بن أد بن طابخة ـ بالموحدة ثم المعجمة ـ ابن إلياس بن مضر، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، وهي أم أوس وعثمان ابني عمرو، فولد هذين يقال لهم بنو مزينة والمزنيون، ومن قدماء الصحابة رضي الله عنهم منهم: عبدالله بن مغفل بن عبد نهم المزني وعمه خزاعي بن عبد نهم وإياس بن هلال وابنه قرة بن إياس وهذا جد القاضي إياس بن معاوية بن قرة وآخرون، وأما جهينة فهم بنو جهينة بن زيد بن «ليث بن أسود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة ومن مشهوري الصحابة منهم»[(1026)] عقبة بن عامر الجهني وغيره، واختلف في قضاعة فالأكثر أنهم من حمير فيرجع نسبهم إلى قحطان، وقيل هم من ولد معد بن عدنان، وأما أشجع ـ فبالمعجمة والجيم ـ وزن أحمر وهم بنو أشجع بن ريث ـ بفتح الراء وسكون التحتانية بعدها مثلثة ـ ابن غطفان بن سعد بن قيس، من مشهوري الصحابة رضي الله عنهم منهم نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف. والحاصل أن هذه القبائل الخمس من مضر، أما مزينة وغفار وأشجع فبالاتفاق، وأما أسلم وجهينة فعلى قول ويرجحه أن الذين ذكروا في مقابلهم وهم تميم وأسد وغطفان وهوازن جميعهم من مضر بالاتفاق، وكانت منازل بني أسد بن خزيمة ظاهر مكة حتى وقع بينهم وبين خزاعة فقتل فضالة بن عبادة بن مرارة الأسدي هلال بن أمية الخزاعي فقتلت خزاعة فضالة بصاحبها فنشبت الحرب بينهم فبرحت بنو أسد عن منازلهم فحالفوا غطفان فصار يقال للطائفتين الحليفان أسد وغطفان، وتأخر من بني أسد آل جحش بن رياب فحالفوا بني أمية، فلما أسلم آل جحش وهاجروا احتوى أبو سفيان على دورهم بذلك الحلف، ذكر ذلك عمر بن شبة في «أخبار مكة» » اهـ.

}3512{ هذا الحديث فيها: فضيلة ظاهرة لهذه القبائل بسبب مبادرتهم إلى الإسلام؛ لأن الكتاب كتاب المناقب، وكان من سبق من قريش إلى الإسلام الصديق رضي الله عنه وخديجة رضي الله عنها وعثمان رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه وجماعة، والأنصار من الأوس والخزرج كذلك سبقوا إلى الإسلام وكذلك جهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع، ولهذا قال عنهم صلى الله عليه وسلم: «مَوَالِيَّ» ، يعني: هم أنصار النبي صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» .

 

}3513{، }3514{ في هذين الحديثين: فضيلة لغفار وأسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهما وقال: «غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ» ، يعني: دعا لهما باسم من جنس اسمهما، وغفار قبيلة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه دعا صلى الله عليه وسلم لهم بالمغفرة، وأسلم دعا لهم بالسلامة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَعُصَيَّةُ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ؛ لأنهم عاهدوا فغدروا، وهم الذين قتلوا القراء؛ ولهذا دعا عليهم صلى الله عليه وسلم.

 

}3515{ هذه الخيرية والفضيلة إنما حصلت لهذه القبائل بسبقها إلى الإسلام ومبادرتها إليه، والمراد من أسلم منهم وليس المراد جميع القبيلة، والشرف يحصل للشيء إذا حصل لبعضه فبعض هذه القبائل أسلموا فحصل الشرف لجميع القبيلة لكنه لا يشمل الكفرة؛ ولهذا قيد هذا الإطلاق في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بقوله: «وَشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ أَوْ قَالَ شَيْءٌ مِنْ جُهَيْنَةَ» ، يعني: من أسلم منهم، وليس كل مزينة، ومن أسلم من القبائل الأخرى لحق بهذه القبائل وحصل له الخير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في بني تميم: «هم أشد أمتي على الدجال» [(1027)] فهذه منقبة لبني تميم؛ وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لا أزال أُحِبُّ بني تميم، بعد ثلاث سمعتها من النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولها فيهم: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم أشَدُّ أمتي على الدَّجَّالِ» قال: وجاءت صدقاتهم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذه صَدَقَاتُ قَوْمي» قال: وكانت سَبِيَّة منهم عند عائشة رضي الله عنها؛ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أعْتِقِيها؛ فإنَّها من وَلَدِ إسْماعيل» [(1028)].

 

}3516{ قوله: «أَنَّ الأَْقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ» هو رئيس قبيلة بني تميم.

قوله: «قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَمُزَيْنَةَ» ، لأنهم كانوا يسرقون الحجيج في الجاهلية والنبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم ليمحي عنهم ذلك العار.

قوله: «وَأَحْسِبُهُ وَجُهَيْنَةَ ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ شَكَّ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هو مقول شعبة وقد ظهر من الرواية التي قبلها أن لا أثر لشكه، وأن ذلك ثابت في الخبر» اهـ.

قوله: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:» يخاطب الأقرع رضي الله عنه: «أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَأَحْسِبُهُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ» ؛ وذلك لأن بني تميم ارتدوا مع سجاح التميمية، التي ادعت النبوة.

قوله: «وَأَسَدٍ» لأن بني أسد ارتدوا مع طليحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة أيضًا.

قوله: «خَابُوا وَخَسِرُوا» أي: إذا كانوا خيرًا منهم فقد خابوا وخسروا.

قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» : قسم.

وفيه: إثبات اليد لله عز وجل.

قوله: «إِنَّهُمْ لَخَيْرٌ مِنْهُمْ» . هذه لغة قليلة، والأكثر أن يقال: خير؛ يعني: أن أسلم وغفارًا ومزينة وجهينة أخير عند الله عز وجل وأفضل من بني تميم وبني عامر وبني أسد وبني غطفان؛ لأنهم بادروا إلى الإسلام وهؤلاء تأخروا عن الإسلام.

قوله: «وَشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ أَوْ قَالَ شَيْءٌ مِنْ جُهَيْنَةَ» ، يريد بهم صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا منهم وليس المراد الجميع، وهذا تقييد للإطلاق الذي في حديث أبي بكرة رضي الله عنه الذي سبق: «وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارُ» .

  ذِكْرِ قَحْطَانَ

}3517{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ».

 

قوله: «بَاب ذِكْرِ قَحْطَانَ» : قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام على الراجح، وإلى قحطان تنتهي أنساب أهل اليمن من حمير وكندة وهمدان وغيرهم، والقحطانيون والعدنانيون قد اختلطوا بالمصاهرة؛ فالقحطانيون من بني إسماعيل عليه السلام من جهة الأمهات والعدنانيون من جهة الآباء.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «اختلف في نسب قحطان، فالأكثر أنه ابن عابر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح» اهـ. وهذا الذي عليه أكثر النسابة، وذكر رحمه الله أقوالاً أخرى.

}3517{ قوله: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ» . هذا الحديث فيه علم من علامات النبوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن شيء من علم الغيب ولم يقع بعد.

وقوله: «يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ» ؛ المراد يكون مَلِكَهم، فهو عام أريد به الخصوص، كقوله تعالى: [آل عِمرَان: 173]{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}. فالمراد: يسوق الناس بالولاية، هكذا قال بعضهم، وذكر أبو نعيم أنه يخرج في زمن المهدي.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ» ، لم أقف على اسمه، ولكن جوز القرطبي رحمه الله أن يكون جهجاه الذي وقع ذكره في مسلم من طريق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل يقال له: الجهجاه» [(1029)] وهو القحطاني» .

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ» ؛ هو كناية عن الملك، شبهه بالراعي، وشبه الناس بالغنم؛ ونكتة التشبيه التصرف الذي يملكه الراعي في الغنم، وهذا الحديث يدخل في علامات النبوة من جملة ما أخبر به صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه ولم يقع بعد، وقد روى نعيم بن حماد في «الفتن» من طريق أرطأة بن المنذر ـ أحد التابعين من أهل الشام ـ أن القحطاني يخرج بعد المهدي ويسير على سيرة المهدي، وأخرج أيضًا من طريق عبدالرحمن بن قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده مرفوعًا: «يكون بعد المهدي القحطاني، والذي بعثني بالحق ما هو دونه» [(1030)] وهذا الثاني مع كونه مرفوعًا ضعيف الإسناد، والأول مع كونه موقوفًا أصلح إسنادًا منه» .

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فإن ثبت ذلك فهو في زمن عيسى بن مريم عليه السلام، لما تقدم أن عيسى عليه السلام إذا نزل يجد المهدي إمام المسلمين، وفي رواية أرطاة بن المنذر: أن القحطاني يعيش في الملك عشرين سنة. واستشكل ذلك كيف يكون في زمن عيسى عليه السلام يسوق الناس بعصاه والأمر إنما هو لعيسى؟! ويجاب بجواز أن يقيمه عيسى عليه السلام نائبًا عنه في أمور مهمة عامة» اهـ.

  مَا يُنْهَى مِنْ دَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ

}3518{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَ الأَْنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا وَقَالَ الأَْنْصَارِيُّ: يَا لَلأَْنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَْنْصَارِيَّ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَْعَزُّ مِنْهَا الأَْذَلَّ.

فَقَالَ عُمَرُ: أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».

}3519{ حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

وَعَنْ سُفْيَانَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».

 

هذه الترجمة معقودة للنهي عن دعوى الجاهلية، والمراد بدعوى الجاهلية: الاستغاثة عند إرادة الحروب، بأن يقول: يا آل فلان، يا بني فلان فيجتمعون وينصرون الداعي ولو كان ظالمًا، ومنه قول الشاعر الجاهلي قريط بن أنيف العنبري وكان من العرب يذم قومه لما أغارت بنو شيبان على إبله فاستنجدهم فلم ينجدوه، وكان فيهم ضعف:

لا يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ

فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا

لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ

لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا

يَجْزُونَ مِنْ ظُلَمِ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً

وَمِنْ إسَاءِة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا

كأَنَّ رَبكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ

سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانَا

فَلَيْتَ لِي بِهِمْ قَوْمًا إذَا رَكِبُوا

شَدُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا وَرُكْبانَا

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: « «يُنْهَى» بضم أوله، و «دَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ» : الاستغاثة عند إرادة الحرب. كانوا يقولون: يا آل فلان، فيجتمعون فينصرون القائل ولو كان ظالمًا، فجاء الإسلام بالنهي عن ذلك، وكأن المصنف رحمه الله أشار إلى ما ورد في بعض طرق جابر رضي الله عنه المذكور، وهو ما أخرجه إسحاق بن راهويه والمحاملي في «الفوائد الأصبهانية» من طريق أبي الزبير عن جابر قال: «اقتتل غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار...» فذكر الحديث.

وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوى الجاهلية؟» قالوا: لا. قال: «لا بأس، ولينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينهه فإنه له نصر» [(1031)] وعرف من هذا أن الاستغاثة ليست حرامًا، وإنما الحرام ما يترتب عليها من دعوى الجاهلية» اهـ.

}3518{ قوله: «ثَابَ» يعني: اجتمع، من ثاب اللبن في الضرع إذا اجتمع، وكان اجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة عدد كثير من المهاجرين.

قوله: «وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ» أي: يلعب بالحراب كلعب الحبشة، «فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا» ، أي: ضربه على مقعدته فشق على الأنصاري ذلك، واعتبر هذا عيبًا وإهانة؛ فغضب الأنصاري ونادى «يَا لَلأَْنْصَارِ» حتى انتصر له بعض الأنصار، «وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ» فانتصر له بعض المهاجرين، «فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ» ؛ ودعوى الجاهلية التداعي مما يدل على الانقسام والتحزب والتفرق؛ فانقسام الناس وتحزبهم إلى مهاجرين وأنصار ولو كانت مسميات إسلامية إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها دعوى جاهلية؛ لأن هذه الدعوى تجعل الولاء للحزب لا للإسلام، وتجعل النصرة للحزب لا للإسلام؛ وإنما الدعوى الإسلامية هي أن المسلمين يد على من سواهم، والمصيبة الأعظم والخطر الأكبر الدعوى للانتماء للأحزاب البدعية أو الكفرية، مثل الذين يدعون إلى القومية، وإلى العروبة، وإلى الاشتراكية، وإلى الحريات الإباحية، فإذا كانت هذه المسميات الإسلامية من المهاجرين والأنصار سماها الشرع دعوى جاهلية فما الظن بالدعاوى الأخرى!!!.

قوله: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ» ، يعني: أن دعوى الجاهلية من التعصب والتحزب خبيثة.

ولقد أتت في هذا الزمان أنواع كثيرة من دعوى الجاهلية، مثل: الدعوة إلى القومية العربية؛ فيجعلون مثلاً قضية فلسطين قضية عربية، ويقولون الصراع بين العرب واليهود، ويبدلون الأصل من كونها قضية إسلامية إلى قضية عربية؛ فإذا خرج المسلمون من باكستان والفلبين وباقي الدول غير العربية للدفاع عن قضية فلسطين الإسلامية فإن الرأي: العام ينتقدهم ويقول: هذه قضية عربية لا شأن لكم بها، ورّوج لانتشار هذه الدعوى أعداء الإسلام والجهال والمغفلون من المسلمين؛ فصارت القضية بسبب هذه الدعوى لا علاقة لها بالمسلمين، حتى قال بعض المسلمين من البلاد غير العربية نفس القول: نحن لسنا بعرب ولا شأن لنا بهذه القضية العربية.

فهذه بعض آثار دعوى الجاهلية من تفتيت المجتمع المسلم، وتمزيق وحدة المسلمين، وعدم توحيد كلمتهم؛ فصاروا مع كثرتهم كغثاء السيل، لا قوة لهم ولا مهابة؛ لذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: «دعوها فإنها منتنة» [(1032)] والواجب أن يجعلوها قضية إسلامية حتى يشارك فيها أكثرمن مليار مسلم، ويكون كل مسلم قضيته قضية المسلمين جميعًا من العرب والعجم بل من الجن والإنس.

قوله: «وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ » هو رئيس المنافقين وزعيمهم.

قوله: «أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا» . انتهز عبدالله بن أبيّ هذه الفرصة والخلاف بين المهاجرين والأنصار وقال مقولته هذه: «لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَْعَزُّ مِنْهَا الأَْذَلَّ» يقصد بالأعز نفسه وبالأذل المؤمنين «فَقَالَ عُمَرُ: أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»» . فكان المانع من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبيّ لأنه لو قُتل لقال الناس من بعيد: إن محمدًا يقتل أصحابه! لأن عبدالله بن أبيّ كان أظهر إسلامه وخرج للجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم وخرج للصلاة، والبعيد لا يدري أنه منافق، فإذا قتل تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، فصار في هذا تنفيرٌ عن الإسلام، ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين ولم يقتلهم.

ويستفاد من هذا الحديث: التحذير من دعوى الجاهلية ودعوى التحزب والتفرق والاختلاف، والحرص على لزوم السنة والاعتصام بحبل الله عز وجل والعمل على التآلف بين المسلمين، ونبذ المسميات والشعارات التي تدعو للفرقة، مثل هذه التحزبات التي فرقت الشباب وقسمتّهم وضيعت أوقاتهم وأولدت بينهم النفرة والعداوات والبغضاء وصدتّهم عن طلب العلم: مثل قولهم هذا تبليغي وهذا سروري وهذا تكفيري وهذا جامي وغير ذلك!.

 

}3519{ هذا الحديث فيه: وعيد شديد يدل على أن هذه الأفعال من الكبائر.

قوله: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ» ، يعني: عند المصيبة.

قوله: «وَشَقَّ الْجُيُوبَ» . كان الواحد في الجاهلية إذا أصابته مصيبة شق جيبه أو نتف شعره أو لطم خده تسخطًا على قضاء الله عز وجل وقدره.

قوله: «وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» ، أي: تعزىّ بعزاء الجاهلية، من التحزب والتفرق، وهذه الأشياء كلها من الكبائر؛ فلا يجوز للإنسان أن يضرب خده ولا يشق جيبه ولا ينتف شعره عند المصيبة ولكن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويصبر، ويحبس لسانه عن التشكي، ونفسه عن الجزع، وجوارحه عما يغضب الله عز وجل، وكذلك لا يدعو بدعوى الجاهلية من التحزب ولو كانت لمسميات إسلامية. فإذا كانت المسميات غير إسلامية تكون أبعد وأبعد، وإنما يدعو المسلمين عمومًا فيقول: أيها المسلمون أيها المؤمنون.

  قِصَّةِ خُزَاعَةَ

}3520{ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ أَبُو خُزَاعَةَ.

}3521{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: «الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلاَ يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآِلِهَتِهِمْ فَلاَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ» قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ».

 

خزاعة هم ولد عمرو بن لحي.

}3520{ قوله: «عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ أَبُو خُزَاعَةَ» ، يعني: الذي تنسب إليه خزاعة اسمه: عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأخرجه مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه أتم منه، ولفظه: «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب يجر قصبه في النار» [(1033)] وأورده ابن إسحاق في «السيرة الكبرى» عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح أتم من هذا، ولفظه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامي» [(1034)]» .

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وذكر ابن إسحاق أن سبب عبادة عمرو بن لحي الأصنام أنه خرج إلى الشام وبها يومئذ العماليق وهم يعبدون الأصنام فاستوهبهم واحدًا منها وجاء به إلى مكة فنصبه إلى الكعبة وهو هبل، وكان قبل ذلك في زمن جرهم قد فجر رجل يقال له: إساف، بامرأة يقال لها: نائلة في الكعبة فمسخهما الله عز وجل حجرين، فأخذهما عمرو بن لحي فنصبهما حول الكعبة، فصار من يطوف يتمسح بهما، يبدأ بإساف ويختم بنائلة. وذكر محمد بن حبيب عن ابن الكلبي أن سبب ذلك أن عمرو بن لحي كان له تابع من الجن يقال له: أبو ثمامة، فأتاه ليلة فقال: أجب أبا ثمامة، فقال: لبيك من تهامة، فقال: ادخل بلا ملامة، فقال: ايت سيف جدة، تجد آلهة معدة، فخذها ولا تهب، وادع إلى عبادتها تجب. قال فتوجه إلى جدة فوجد الأصنام التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس، وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فحملها إلى مكة ودعا إلى عبادتها فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب» اهـ.

 

}3521{ فسر المؤلف رحمه الله الكلمات المشكلة، فقال: «الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلاَ يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ» ، يعني: الشاة التي يكون لبنها للأصنام ولا يحلبها أحد من الناس؛ «وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآِلِهَتِهِمْ فَلاَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ» ، أي: الدواب من الإبل وغيرها يتركونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء.

قوله: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ» ، يعني: يجر أمعاءه في النار؛ لأنه لما كان عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم عليه السلام، وهو الذي جلب الأصنام من الشام إلى مكة ونصب الأوثان وسيب السوائب وبحّر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في النار ـ نعوذ بالله عز وجل ـ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «اختلف في نسبهم مع الاتفاق على أنهم من ولد عمر بن لحي باللام والمهملة مصغر وهو ابن حارثة بن عمرو بن عامر بن ماء السماء، وقد تقدم نسبه في أسلم، وأسلم هو عم عمرو بن لحي، ويقال: إن اسم لحي ربيعة، وقد صحف بعض الرواة فقال عمرو بن يحيى، ووقع مثل ذلك في «الجمع» للحميدي، والصواب باللام وتشديد الياء آخره مصغر، ووقع في حديث جابر عند مسلم «رأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك» [(1035)].

وفيه: تغيير، لكن أفاد أن كنية عمرو أبو ثمامة، ويقال لخزاعة: بنو كعب، نسبوا إلى جدهم كعب بن عمرو بن لحي، قال ابن الكلبي: لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم نزل بنو مازن على ماء يقال له: غسان، فمن أقام به منهم فهو غساني، وانخزعت منهم عمرو بن لحي عن قومهم فنزلوا مكة وما حولها فسموا خزاعة، وتفرقت سائر الأزد، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:

ولما نزلنا بطن مر تخزعت

خزاعة منا في جموع كراكر

ووقع في حديث الباب أنه عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، وهذا يؤيد قول من يقول: إن خزاعة من مضر، وذلك أن خندف بكسر المعجمة وسكون النون وفتح الدال بعدها فاء اسم امرأة إلياس بن مضر، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، لقبت بخندف لمشيتها، والخندفة الهرولة، واشتهر بنوها بالنسبة إليها دون أبيهم؛ لأن إلياس لما مات حزنت عليه حزنًا شديدًا بحيث هجرت أهلها ودارها وساحت في الأرض حتى ماتت؛ فكان من رأى أولادها الصغار يقول من هؤلاء؟ فيقال: بنو خندف. إشارة إلى أنها ضيعتهم، وقمعة بفتح القاف والميم بعدها مهملة خفيفة ويقال: بكسر القاف وتشديد الميم. وجمع بعضهم بين القولين أعني نسبة خزاعة إلى اليمن وإلى مضر فزعم أن حارثة بن عمرو لما مات قمعة بن خندف كانت امرأته حاملاً بلحي، فولدته وهي عند حارثة، فتبناه فنسب إليه، فعلى هذا فهو من مضر بالولادة ومن اليمن بالتبني. وذكر ابن الكلبي أن سبب قيام عمرو بن لحي بأمر الكعبة ومكة أن أمه فهيرة بنت عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي، وكان أبوها آخر من ولي أمر مكة من جرهم، فقام بأمر البيت سبطه عمرو بن لحي، فصار ذلك في خزاعة بعد جرهم؛ ووقع بينهم في ذلك حروب إلى أن انجلت جرهم من مكة» اهـ.

على كل حال فإن المؤلف رحمه الله أراد أن يذكر خزاعة، وأنهم ينتسبون إلى عمرو بن لحي، وأنهم من اليمن أو مضر على خلاف في ذلك، وأن عمرو بن لحي هذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في النار ـ والعياذ بالله ـ لأنه أول من جلب الأصنام إلى بلاد العرب، وأول من سيب السوائب وابتدع هذه البدعيات والشركيات.

وفيه: تحذير الإنسان من هذه الأفعال، وأن يكون رأسًا في الشر.

 جاء في بعض نسخ صحيح البخاري تبويب ليس في نسخة المتن لشرحنا، وهو:

قصة إسلام أبي ذر

 

في قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه ذكر ترجمتين: «قصة إسلام أبي ذر» ، وهي ظاهرة، و «باب قصة زمزم» ؛ يعني: إشارة إلى قوله: «وأشرب من ماء زمزم» .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «باب قصة إسلام أبي ذر الغفاري » ، هكذا في رواية أبي ذر عن الحموي وحده، وسقط للباقين، وكأنه أولى، لأن هذه الترجمة ستأتي بعد إسلام أبي بكر وسعد وغيرهما» .

  قِصَّةِ زَمْزَمَ

}3522{ حَدَّثَنَا زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَخْزَمَ قَالَ: حَدَّثنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ حَدَّثَنِي مُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ الْقَصِيرُ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِإِسْلاَمِ أَبِي ذَرٍّ؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنْتُ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقُلْتُ: لأَِخِي انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنْ الشَّرِّ فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ تَشْفِنِي مِنْ الْخَبَرِ فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لاَ أَعْرِفُهُ وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: كَأَنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ وَلاَ أُخْبِرُهُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ لأَِسْأَلَ عَنْهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ قَالَ: قُلْتُ: لاَ قَالَ: انْطَلِقْ مَعِي قَالَ: فَقَالَ: مَا أَمْرُكَ وَمَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ قَالَ: قُلْتُ: لَهُ إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أَخْبَرْتُكَ قَالَ: فَإِنِّي أَفْعَلُ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَرْسَلْتُ أَخِي لِيُكَلِّمَهُ فَرَجَعَ وَلَمْ يَشْفِنِي مِنْ الْخَبَرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَلْقَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ قَدْ رَشَدْتَ هَذَا وَجْهِي إِلَيْهِ فَاتَّبِعْنِي ادْخُلْ حَيْثُ أَدْخُلُ فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا أَخَافُهُ عَلَيْكَ قُمْتُ إِلَى الْحَائِطِ كَأَنِّي أُصْلِحُ نَعْلِي وَامْضِ أَنْتَ فَمَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: اعْرِضْ عَلَيَّ الإِْسْلاَمَ فَعَرَضَهُ فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا ذَرٍّ اكْتُمْ هَذَا الأَْمْرَ وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ» فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيهِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ فَقَامُوا فَضُرِبْتُ لأَِمُوتَ فَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفَارَ وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ فَأَقْلَعُوا عَنِّي فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ فَقُلْتُ: مِثْلَ مَا قُلْتُ: بِالأَْمْسِ فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالأَْمْسِ وَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ بِالأَْمْسِ قَالَ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلاَمِ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

 

قوله: «بَاب قِصَّةِ زَمْزَمَ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقع للأكثر هنا «قِصَّةِ زَمْزَمَ» ، ووجه تعلقها بقصة أبي ذر رضي الله عنه ما وقع له من الاكتفاء بماء زمزم في المدة التي أقام فيها بمكة، وسيأتي شرح ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى» اهـ.

}3522{ ذكر المصنف رحمه الله في هذه القصة كيف أسلم أبو ذر رضي الله عنه. فكان أبو ذر رضي الله عنه من قبيلة غفار وكان عنده عناية بتسمع الأخبار، فبلغه أن رجلاً خرج من مكة يزعم أنه نبي، فقال لأخيه: «انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ، ثُمَّ رَجَعَ» أي: أخوه أُنيس؛ فقال أبو ذر رضي الله عنه لأخيه: «مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنْ الشَّرِّ فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ تَشْفِنِي مِنْ الْخَبَرِ» أي: ما أعطيتني شيئًا يكفيني، «فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا» ؛ أي: أخذ معه جرابًا فيه شيء من الزاد يكفيه. «ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لاَ أَعْرِفُهُ وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ» ، أي: لا يقدر أن يسأل عنه؛ لأنه لو سأل ستبطش به قريش، وهذا قبل أن يسلم، لكن لما أسلم صار لا يبالي.

قوله: «وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ» . وجاء في «صحيح مسلم» أنه قال: «أشرب من ماء زمزم ويكفيني» . فثبت أنه: «جلس ثلاثين ما بين يوم وليلة، يعني: خمسة عشر يومًا وخمس عشرة ليلة ـ لا يشرب إلا من ماء زمزم، وليس معه طعام، يقول: حتى سمنت وظهر لي عكن» [(1036)] أي: ظهر له شحم، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في زمزم: «إنها مباركة ، وهي طعام طعم وشفاء سقم» [(1037)].

قوله: «فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ» ، أي: وهو في المسجد الحرام، مر به فقال: «كَأَنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ وَلاَ أُخْبِرُهُ» ، لأن عليًّا يخشى أن يبلغ أبو ذر قريشًا وأبو ذر رضي الله عنه يخشى أن يكون عليٌ من قريش جاسوسًا لهم، «فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ لأَِسْأَلَ عَنْهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ» ، لأنه لا يوجد إلا المشركون. «قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ» ، أي: في اليوم الثاني، «فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد، قال: قلت: لا» ، يعني: ما عرفتُ إلى الآن وما تبينَ لي، «قَالَ: انْطَلِقْ مَعِي» ، للمرة الثانية في اليوم الثاني، «فَقَالَ: مَا أَمْرُكَ وَمَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ قَالَ: قُلْتُ: لَهُ إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أَخْبَرْتُكَ» ؛ هذا يدل على أنه خائف من قريش، «قَالَ: فَإِنِّي أَفْعَلُ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَرْسَلْتُ أَخِي لِيُكَلِّمَهُ فَرَجَعَ وَلَمْ يَشْفِنِي مِنْ الْخَبَرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَلْقَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ قَدْ رَشَدْتَ» يعني: وصلت إلى ما فيه رشدك وصلاحك.

قوله: «هَذَا وَجْهِي إِلَيْهِ» ، يعني: أنا سأذهب إليه، «فَاتَّبِعْنِي ادْخُلْ حَيْثُ أَدْخُلُ» ، يعني: إذا رأيتني دخلت في شيء فادخل؛ وفي اللفظ الآخر يقول: «إذا رأيتني مشيت فامش» ، قال: «فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا أَخَافُهُ عَلَيْكَ قُمْتُ إِلَى الْحَائِطِ كَأَنِّي أُصْلِحُ نَعْلِي وَامْضِ أَنْتَ» ،أي: إذا رأيت أحدًا وخشيت عليك سأذهب إلى الحائط كأني أصلح نعلي وأنت إذا رأيتني وقفت فامش في طريقك، وفي اللفظ الآخر في «صحيح مسلم» قال: «إذا رأيت شيئًا يريبني فأنا أجلس كأني أريق الماء» [(1038)]. وهذا يدل على شدة الخوف.

قوله: «فَمَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، فقال أبو ذر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: «اعْرِضْ عَلَيَّ الإِْسْلاَمَ فَعَرَضَهُ فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي» ، أي: في الحال، «فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا ذَرٍّ اكْتُمْ هَذَا الأَْمْرَ وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ»» ، يعني: اكتم الإسلام وارجع إلى بلدك واجلس مع أهلك، فإذا سمعت بظهور الإسلام في المدينة فأت؛ لأنه لا يجب عليه أن يعلن إسلامه في وقت الخوف وكثرة الأعداء.

لكن أبا ذر رضي الله عنه أراد الأمر الأشد والأشق فقال رضي الله عنه: «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» هكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب «فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيهِ» ، وهم أعداء له، «فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ» ، انتبهوا، «إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ» . وكانوا يسمون المسلم صابئًا ـ وصبأ يعني: خرج عن دين قومه ـ فقاموا يضربونه من جميع الجهات، قال: «فَضُرِبْتُ لأَِمُوتَ» أي: حتى أغمي عليه وكاد يموت، قال: «فَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ» ، أي: خلصه من أيديهم، «ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفَارَ» ، أي: قبيلة غفار، «وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ فَأَقْلَعُوا عَنِّي» ، يعني: إن طريقكم للتجارة يمر بقبيلته، فتركوه؛ فلما أن تماثل ـ يعني: خف من الجراح ـ رجع مرة ثانية في اليوم الثاني فقال مثل ما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقاموا فضربوه مثلما ضربوه في اليوم الأول، حتى كاد أن يموت، فخلصه منهم العباس رضي الله عنه.

فهذا أول إسلام أبي ذر رضي الله عنه، وهذا يدل على فضل أبي ذر رضي الله عنه وسبقه إلى الإسلام؛ وجاء أن أبا ذر رضي الله عنه دعا أهله ومن حوله حتى أسلمت غفار كلها في الحال.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «غفار غفر الله لها» [(1039)] أي: صار لها منقبة لسبقها إلى الإسلام.

  جَهْلِ الْعَرَبِ

}3524{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِينَ وَمِائَةٍ فِي سُورَةِ الأَْنْعَامِ [الأنعَام: 140]{قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *}.

 

قوله: «بَاب جَهْلِ الْعَرَبِ» ؛ هكذا في رواية أبي ذر، وبعض الرواة أسقط «قصة زمزم» وجعلها: «باب قصة زمزم وجهل العرب» .

}3524{ مطابقة قول ابن عباس رضي الله عنهما للترجمة ظاهر.

قوله: «إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِينَ وَمِائَةٍ فِي سُورَةِ الأَْنْعَامِ [الأنعَام: 136]{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *}، أي: يقسمون ما ذرأ من الحرث والأنعام قسمين: النصف للأصنام والنصف لله عز وجل فإذا زاد النصف الذي لله عز وجل أخذوه وجعلوه للأصنام وقالوا: الله غني عنه! وإذا زاد النصف الذي للأصنام تركوه؛ فهذا من جهلهم، ثم بيّن الله تعالى أن من جهلهم أيضًا قتل الأولاد، فقال: [الأنعَام: 137]{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ *} ومن جهلهم [الأنعَام: 138]{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}، أي: أن هؤلاء الجهلة من المشركين حرموا ظهور بعض أنعامهم فلا يركبونها ولا يذكرون اسم الله على البعض الآخر إن ركبوها بحال وهذا من جهلهم بالحق، ومن جهلهم: [الأنعَام: 139]{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}، أي: ما في بطن هذه الأنعام للذكور ومحرم على الزوجات، والميتة مشتركة بينهم، وقال سبحانه: [الأنعَام: 140]{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *}؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: «إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ» هذه الآيات؛ لتنظر هذه التصرفات، وهذا الجهل المطبق ـ نسأل الله عز وجل السلامة والعافية ـ.

  مَنْ انْتَسَبَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإِْسْلاَمِ وَالْجَاهِلِيَّةِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ».

وَقَالَ الْبَرَاءُ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ».

}3525{ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ بِبُطُونِ قُرَيْشٍ».

}3526{ وَقَالَ لَنَا قَبِيصَةُ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ قَبَائِلَ قَبَائِلَ.

}3527{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللَّهِ لاَ أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلاَنِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا».

 

قوله: «بَاب مَنْ انْتَسَبَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإِْسْلاَمِ وَالْجَاهِلِيَّةِ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي: جواز ذلك خلافًا لمن كرهه مطلقًا؛ فإن محل الكراهة ما إذا أورده على طريق المفاخرة والمشاجرة، وقد روى أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن من حديث أبي ريحانة رفعه: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزًّا وكرمًا فهو عاشرهم في النار» [(1040)]» اهـ.

قوله: «وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ»» ، نسب يوسف إلى آبائه في الإسلام، وهم أربعة أنبياء في نسق، وكذلك انتسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» [(1041)] وهذا فيه: دليل على أن الانتساب إلى الآباء ولو كانوا كفارًا لا بأس به؛ لأنه إخبار عن الواقع، ويترتب عليه معرفة الأنساب والمواريث والعصبات والمحارم، والأسماء التي للآباء في الجاهلية لا تُغَيّر كبني عبد مناف أو بني عبد المطلب وإن كان لا يجوز للمسلم أن يسمي ابنه عبد مناف؛ لأن هؤلاء ماتوا في الجاهلية، والذين ماتوا لا تغير أسماؤهم .

قوله: «وَقَالَ الْبَرَاءُ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»» ، ووجه الاستدلال به على ترجمة الباب ظاهر.

 

}3525{، }3526{ قوله: «لَمَّا نَزَلَتْ [الشُّعَرَاء: 214] جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ بِبُطُونِ قُرَيْشٍ» فيه: مشروعية الانتساب إلى القبائل، ودعوتهم بأنسابهم.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «نداؤه للقبائل من قريش قبل عشيرته الأدنين ليكرر إنذار عشيرته؛ ولدخول قريش كلها في أقاربه؛ ولأن إنذار العشيرة يقع بالطبع، وإنذار غيرهم يكون بطريق الأولى» اهـ.

قوله: «جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ قَبَائِلَ قَبَائِلَ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قد فسره الذي قبله، وأنه كان يسمي رءوس القبائل كقوله: «يَا بَنِي عَدِيٍّ» ، وأوضح منه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي بعده حيث ناداهم طبقة بعد طبقة إلى أن انتهى إلى عمته صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنهما، وهي أم الزبير بن العوام رضي الله عنهما، وإلى ابنته فاطمة _ب» .

ثم قال رحمه الله: «وهذه القصة إن كانت وقعت في صدر الإسلام بمكة فلم يدركها ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولا أبو هريرة رضي الله عنه لأنه إنما أسلم بالمدينة، وفي نداء فاطمة رضي الله عنها يومئذ أيضًا ما يقتضي تأخر القصة لأنها كانت حينئذ صغيرة أو مراهقة، وإن كان أبو هريرة رضي الله عنه حضرها فلا يناسب الترجمة لأنه إنما أسلم بعد الهجرة بمدة، والذي يظهر أن ذلك وقع مرتين مرة في صدر الإسلام، ورواية ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما لها من مرسل الصحابة رضي الله عنهم، وهذا هو الموافق للترجمة من جهة دخولها في مبتدأ السيرة النبوية، ويؤيد ذلك ما سيأتي من أن أبا لهب كان حاضًرا لذلك، وهو مات في أيام بدر، ومرة بعد ذلك حيث يمكن أن تدعى فيها فاطمة _ب أو يحضر ذلك أبو هريرة أو ابن عباس رضي الله عنهم» اهـ.

والحديث فيه: امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه عز وجل؛ لأنه لما نزلت: « [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *}» امتثل النبي صلى الله عليه وسلم للأمر فجمع قريشًا ودعاهم قبائل قبائل.

 

}3527{ قوله: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ» ، فيه: دليل على مشروعية الانتساب إلى الآباء في الإسلام والجاهلية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم بأنسابهم التي يعرفون بها، مع أنه لا يجوز التسمي بها في الإسلام، إلا أن هذا من باب الإخبار بالنسب، وباب الإخبار عن النسب أوسع من باب الإنشاء؛ فلا يجوز إنشاء تسمية تخالف الشرع مثل: عبد النبي، عبد الكعبة، عبد المطلب، عبد مناف؛ لأن فيها التعبد لغير الله عز وجل، أما إن كان في نسب الرجل مثل هذه التسمية وهو معروف به فلا بأس في الإخبار عنه بتلك التسمية.

قوله: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ» بالإسلام والتوبة والعمل الصالح، يشترون أنفسهم وينقذون أنفسهم من النار.

قوله: «يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللَّهِ» . وأم الزبير رضي الله عنه هي صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلاَنِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا» . أمر لصفية عمته، وفاطمة ابنته رضي الله عنهما: والمعنى إني أستطيع أن أعطيكم المال، ولكن لا أستطيع إنقاذكما من النار؛ لأني لا أملك من الله عز وجل شيئًا.

وفيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئًا من هداية القلوب؛ فهداية التوفيق بيد الله عز وجل وحده، وأما هداية الإرشاد والبيان فجعلها الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يهدي قلب أقرب الناس إليه، ولكن يستطيع أن يبين ويرشد إلى طريق الله عز وجل المستقيم؛ فعلى الإنسان أن ينقذ نفسه من النار بالتوحيد، والعمل الصالح، والحذر من الشرك، والمعاصي.

والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن نسبهم، والإخبار أوسع من الإنشاء الذي هو التسمية؛ فلا تسمّ أحدًا من أولادك وتعبّده لغير الله عز وجل، لكن أن تنتسب إلى شيء مضى أو تخبر عن شيء مضى فلا بأس به.

 جاء في بعض النسخ صحيح البخاري تبويب ليس في نسخة المتن لشرحنا، وهو

باب ابن أخت القوم ومولى القوم منهم

حدثنا سليمان بن حرب، قال:حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار خاصة، فقال: «هل فيكم أحد من غيركم؟» قالوا: لا إلا ابن أخت لنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابن أخت القوم منهم».

 

قوله: «باب ابن أخت القوم ومولى القوم منهم» ، يعني: منهم في المناصرة والتعاون والمعونة لا في العقل والميراث، فلا يرث ولا يعقل الدية إلا العصبة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «باب ابن أخت القوم ومولى القوم منهم» ، أي: فيما يرجع إلى المناصرة والتعاون ونحو ذلك، وأما بالنسبة إلى الميراث ففيه نزاع» اهـ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «إلا ابن أخت لنا» ، هو النعمان بن مقرن المزني كما أخرجه أحمد من طريق شعبة عن معاوية بن قرة في حديث أنس هذا، ووقع ذلك في قصة أخرى كما أخرجه الطبراني من حديث عتبة بن غزوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا لقريش: «هل فيكم من ليس منكم؟» ، قالوا: لا، إلا ابن أختنا عتبة بن غزوان، فقال: «ابن أخت القوم منهم» [(1042)] وله من حديث عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته قال: «ادخُلوا علي ولا يدخلنّ عليّ إلا قرشي» ، فقال: «هل بينكم أحد ليس منكم؟» ، فقالوا: معنا ابن الأخت والمولى، قال: «حليف القوم منهم، ومولى القوم منهم، وابن أخت القوم منهم» [(1043)] وأخرج أحمد نحوه من حديث أبي موسى[(1044)] والطبراني نحوه من حديث أبي سعيد[(1045)].

تنبيه:

لم يذكر المصنف رحمه الله حديث «مولى القوم منهم» مع ذكره في الترجمة؛ فزعم بعضهم أنه لم يقع له حديث على شرطه فأشار إليه.

وفيه نظر؛ لأنه قد أورده في الفرائض من حديث أنس رضي الله عنه ولفظه: «مولى القوم من أنفسهم» [(1046)] والمراد بالمولى هنا المعتق ـ بفتح المثناة ـ أو الحليف، وأما المولى من أعلى فلا يراد هنا، وسيأتي في غزوة حنين بيان سبب حديث الباب، ووقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار مضمون الترجمة وزيادة عليها بلفظ: «مولى القوم منهم، وحليف القوم منهم، وابن أخت القوم منهم» [(1047)] اهـ.

والمولى يطلق على السيد، وليس المراد في الحديث، لكن المراد هنا العبد أو المعتق، لأنه ينسب إلى مواليه فيقال: فلان مولاهم، يعني: ينسب إليهم بالولاء.

  قِصَّةِ الْحَبَشِ

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا بَنِي أَرْفِدَةَ.

}3529{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ وَتُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ وَتِلْكَ الأَْيَّامُ أَيَّامُ مِنًى».

}3530{ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُمْ أَمْنًا بَنِي أَرْفِدَةَ يَعْنِي مِنْ الأَْمْنِ».

 

قوله: «بَاب قِصَّةِ الْحَبَشِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» . هذا الباب داخل في كتاب المناقب والأنساب، وفيه: نسب الحبش، والحبش كما ذكر الشارح رحمه الله هم الحبشة، يقال: إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام بن نوح، وهم مجاورون لأهل اليمن يفصل بينهم البحر وقد غلبوا على اليمن قبل الإسلام وملكوها، وغزا أبرهة من ملوكهم الكعبة ومعه الفيل، فأهلكهم الله عز وجل بالطير الأبابيل التي ترميهم بحجارة من سجيل، كما أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم وكان ذلك في عام الفيل وهو العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» . أرفدة اسم جد لهم، وقيل: معنى أرفدة: الأمة.

}3529{، }3530{ قوله: «أَيَّامِ مِنًى» وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة وهي أيام التشريق بعد عيد الأضحى.

قوله: «تُغَنِّيَانِ وَتُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ» ، يعني: جاريتان صغيرتان تضربان بالدف وتغنيان.

قوله: «وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ» ، يعني: متغطٍ بثوبه.

قوله: «فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ» ، يعني: زجرهما.

قوله: «فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ» فيه: دليل على جواز الضرب بالدف في الأعياد وفي الأعراس للنساء والجواري الصغار.

وفيه: جواز غناء الجواري الصغيرات بما لا محذور فيه، كما كان الأنصار يقولون في العرس: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم فلولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم، وليس من ذلك الموسيقى والغناء الذي فيه الغزل والهجاء.

وقد جاء أن هاتين الجاريتين كانتا تغنيان بما قالته الأنصار يوم بُعاث وكانت حربًا بين الأوس والخزرج.

وفيه: دليل على أن ذلك غير جائز للرجال؛ فإن هذا من خصائص النساء والجواري الصغار؛ لأن الأصل في ذلك المنع؛ لقول الله تعالى: [لقمَان: 6]{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ *}، لكن استثني من ذلك في أيام العيد وأيام الأعراس للنساء خاصة، أما الرجال فليس هذا من شأنهم، ولا بأس بأن يستمع الرجال للجواري الصغيرات؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم متغشى بثوبه يستمع لهن.

قوله: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُمْ أَمْنًا بَنِي أَرْفِدَةَ يَعْنِي مِنْ الأَْمْنِ» ، يعني: يا بني أنتم آمنون، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة» [(1048)] واستدل به العلماء على جواز اللعب بالحراب والدرق وما أشبهه في المسجد إذا كان فيه رحبة لما فيه من التمرن على الحرب والاستعداد للجهاد.

واستدل قوم من الصوفية بهذا الحديث على جواز الرقص وسماع آلات الملاهي ولكن هذا استدلال باطل، وإنما هذا غناء خاص بالجواري والنساء في وقت خاص في أيام العيد وفي أيام الأعراس، أما آلات الملاهي والموسيقى فممنوع عليهن وكذلك على الرجال.

والصوفية هؤلاء فسقة عصاة، ومنهم من يعتقد أنه أفضل من الأنبياء أو من الرسل وبعضهم يعتقد أن الولي أفضل من النبي، فيقول: إن النبوة ختمت بمحمد لكن الولاية لم تختم ثم قالوا: ختمت بابن عربي، ويقولون: إن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وهذا كله كفر وضلال، ومن ضلالهم أنهم يقولون: إنه يحضر مجالسهم أبو بكر وعمر.

والصوفية لهم طرق كثيرة منهم الكافرة ومنهم المبتدعة والغالب عليهم الكفر، لكن لا يجزم الإنسان بكفرهم حتى يعلم اعتقادهم بالتفصيل، فإن كانوا يعتقدون كفرًا كُفِّروا وإلا فهم مبتدعة فسقة ضلال.

وفَرّق العلماء بين فعل الصوفية وبين لعب الحبش في المسجد، فلعب الحبش كان للتمرين على الحرب والاستعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل، وأما ذاك فللهو والطرب.

قوله: «وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ» فيه: دليل على أن المرأة يجوز لها أن تنظر إلى الرجال على العموم، فلا بأس أن تنظر إلى جماعة المصلين أو تنظر إلى أشخاصهم أو تنظر إلى اللاعبين الذين يتدربون على السلاح؛ ولهذا قال تعالى: [النُّور: 31]{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} ولم يقل: يغضضن أبصارهن، والنظر الممنوع هو أن ينظر الرجل إلى محاسن المرأة والمرأة تنظر إلى محاسن الرجل وإلى شخصه، أما كون المرأة تنظر إلى الرجال عمومًا والرجل ينظر إلى جماعة النساء على العموم فلا بأس به.

  مَنْ أَحَبَّ أَنْ لاَ يُسَبَّ نَسَبُهُ

}3531{ حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «كَيْفَ بِنَسَبِي»، فَقَالَ حَسَّانُ: لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ.

وَعَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: لاَ تَسُبَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

 

هذه الترجمة في المحافظة على الأنساب، والعناية بها، والمراد بالنسب: الأصل، وبالسب: الشتم والذم والعيب، والمراد أن يحافظ الإنسان على نسبه فلا يذم.

}3531{ قوله: «إسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «كَيْفَ بِنَسَبِي»» ، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: المشركون من قريش وأنا من قريش فكيف تسبهم؟ فقال حسان رضي الله عنه: «لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ» ، يعني: لأخلصن نسبك من نسبهم بحيث يختص الهجو بهم دونك، وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله عنه: «لا تعجل؛ فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبًا حتى يلخص لك نسبي» ، فأتاه حسان ثم رجع فقال: قد محض لي نسبك[(1049)]؛ يعني: خلصه.

وقوله: «كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ» ؛ أشار به إلى أن الشعرة إذا أخرجت من العجين لا يتعلق بها منه شيء لنعومتها، بخلاف إذا ما سُلت من العسل أو نحوه فإنه يعلق بها منه شيء، وكذلك إذا سُلت من الخبز فإنها تنقطع.

قوله: «وَعَنْ أَبِيهِ» هو أبو هشام عروة بن الزبير رضي الله عنهما.

قوله: «ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: لاَ تَسُبَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، أي: ذهب عروة بن الزبير رضي الله عنهما يسب حسان رضي الله عنه فنهته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ألاّ يفعل ولا يسبه ولا يذمه ولا يشتمه؛ فإنه كان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضي الله عنه: «اهجهم» ، يعني: المشركين، «وروح القدس يؤيدك» [(1050)] وروح القدس: جبريل عليه السلام.

  مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الفَتْح: 29]{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}.

وَقَوْلِهِ: [الصَّف: 6]{مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.

}3532{ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثنِي مَعْنٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ».

}3533{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ».

 

هذه الترجمة فيها أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن له أسماء كثيرة كما أن الله سبحانه وتعالى له أسماء كثيرة، ولله تعالى مائة اسم إلا واحدًا موصوفة بأن «من أحصاها دخل الجنة» [(1051)] وله أسماء كثيرة غيرها كما جاء في الحديث: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» [(1052)].

والقرآن له أسماء كثيرة، منها: الشفاء والهدى والبيان؛ والأسد له أسماء كثيرة ويقال: له خمسمائة اسم منها: الضرغام، والهزبر، والسيف له أسماء كثيرة منها: المهند، والصيقل، وغيرها.

والرسول صلى الله عليه وسلم له أسماء كثيرة لكن أشهرها هذان الاسمان: محمد وأحمد صلى الله عليه وسلم، وتكرّرا في القرآن؛ قال تعالى: [الفَتْح: 29]{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}، وذكر الله عز وجل حكاية عن عيسى عليه السلام أنه قال: [الصَّف: 6]{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}؛ ولهذا ذكر في الترجمة هذين الاسمين، ومحمد من باب المبالغة، يعني: كثير المحامد، وأحمد من باب التفضيل.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقيل الأنبياء حمادون وهو أحمدهم، أي: أكثرهم حمدًا، أو أعظمهم في صفة الحمد، وأما محمد فهو منقول من صفة الحمد أيضًا، وهو بمعنى محمود، وفيه معنى المبالغة، وقد أخرج المصنف في «التاريخ الصغير» من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:

وشقَّ لهُ من اسمه ليجلَّه

فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ

والمحمد الذي حمد مرة بعد مرة كالمّمدّح. قال الأعشى:

إليكَ أَبُيْتَ اللَّعْنَ كان وجيفُها

إلى الماجدِ القَرْمِ الجَوَادِ المحمدِ

أي: الذي حمد مرة بعد مرة أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة.

قال عياض: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمد قبل أن يكون محمدًا كما وقع في الوجود لأن تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة وتسميته محمدًا وقعت في القرآن العظيم، وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس.

وكذلك في الآخرة يحمد ربه فيُشفّعه فيحمده الناس، وقد خُص بسورة الحمد وبلواء الحمد وبالمقام المحمود، وشُرع له الحمد بعد الأكل وبعد الشرب وبعد الدعاء وبعد القدوم من السفر، وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه صلى الله عليه وسلم» اهـ.

 

}3532{ قوله: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ» ، أي: له خمسة أسماء وله غيرها؛ فهذا مفهوم عدد لا يدل على الحصر.

قوله: «أَنَا مُحَمَّدٌ» ، أي: كثير المحامد، «وَأَحْمَدُ» تفضيل، «وَأَنَا الْمَاحِي» فسر النبي صلى الله عليه وسلم الماحي بـ «الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» ، أي: يحشر الناس بعده، أو أن قيامه مُؤْذن بظهور علامات الحشر، «وَأَنَا الْعَاقِبُ» ، أي: الذي ليس بعده نبي؛ وله أسماء أخرى كثيرة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في قوله: «الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ» : «قيل: المراد إزالة ذلك من جزيرة العرب، وفيه نظر؛ لأنه وقع في رواية عقيل ومعمر: «يمحو بي الله الكفرة» [(1053)]، ويجاب بأن المراد إزالة الكفر بإزالة أهله، وإنما قيد بجزيرة العرب؛ لأن الكفر ما انمحى من جميع البلاد. وقيل: إنه محمول على الأغلب، أو أنه ينمحي بسببه أولاً فأولاً إلى أن يضمحل في زمن عيسى بن مريم؛ فإنه يرفع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وتُعقب بأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس؛ ويجاب بجواز أن يرتد بعضهم بعد موت عيسى وترسل الريح فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة فحينئذ فلا يبقى إلا الشرار، وفي رواية نافع بن جبير: «وأنا الماحي؛ فإن الله يمحو به سيئات من اتبعه» [(1054)] وهذا يشبه أن يكون من قول الراوي» اهـ.

ومن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم التي وقعت في القرآن: الشاهد، والمبشر، والنذير، والمبين، والداعي إلى الله عز وجل، والسراج المنير، والمذكر، والرحمة، والنعمة، والهادي، والشهيد، والأمين، والمزمل، والمدثر، وجاء في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه: «المتوكل» [(1055)]؛ ومن أسمائه: المختار، والمصطفى، والشفيع، والمشفع، والصادق، والمصدوق؛ فكل هذه من أسمائه صلى الله عليه وسلم.

 

}3533{ قوله: «أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ» ، أي: من كراهتهم له صلى الله عليه وسلم لا يسمونه محمدًا ويسمونه بضده مذمَّمًا ثم يشتمون مذممًا؛ فيصير الشتم على مذمم وليس اسم النبي صلى الله عليه وسلم مذممًا، وهذا من صرف الله عز وجل شتم قريش ولعنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فصاروا يشتمون مذممًا والنبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد وليس مذممًا، ووجه ذلك أن مذممًا لا يمكن أن يفسر به محمد بوجه من الوجوه.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الفَتْح: 29]{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}، وَقَوْلِهِ: [الصَّف: 6]{مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}» ، كأنه يشير إلى أن هذين الاسمين أشهر أسمائه، وأشهرهما محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تكرر في القرآن؛ وأما أحمد فذكر فيه حكاية عن قول عيسى عليه السلام، فأما محمد فمن باب التفعيل للمبالغة، وأما أحمد فمن باب التفضيل، وقيل: سمي أحمد لأنه علم منقول من صفة وهي أفعل التفضيل ومعناه أحمد الحامدين، وسبب ذلك ما ثبت في «الصحيح» أنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله» اهـ.

أي: يوم القيامة حينما يسجد صلى الله عليه وسلم تحت العرش يفتح عليه بالمحامد ثم يأتيه الإذن بالشفاعة فيشفع.

ونقل عن ابن التين أنه استدل بهذا الحديث مَنْ أسقط حد القذف بالتعريض فقال: «وهذا قول لأحمد خلافًا لمالك، فإذا عرَّض - يعني: بالقذف - ولم يكن مصرحًا فلا يحد، وأجاب بعضهم أنه لم يقع في الحديث أنه لا شيء عليهم حينما يذمون النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالواقع أنهم عوقبوا على ذلك بالقتل» اهـ.

والتحقيق أنه لا حجة في هذا لا إثباتًا ولا نفيًا، فليس فيه دليل يدل على أنه يسقط حد القذف بالتعريض أو لا يسقط.

واستنبط النسائي من الحديث أن من تكلم بكلام منافٍ لمعنى الطلاق ومطلق الفرقة فقصد به الطلاق لا يقع، أي: من تكلم كلامًا ينافي الطلاق فليس صريحًا في الطلاق ولا كناية فلا يقع ومثّل لذلك كمن قال لزوجته: كلي وقصد به الطلاق لا تطلق مطلقًا، بخلاف ما إذا قال: اخرجي من البيت أو الحقي بأهلك وقصد الطلاق، فهذه كناية فلا تطلق إلا بالنية، أما الصريح فإذا قال: أنت طالق أو مطلقة فإنها تطلق، سواء قصد الطلاق أم لا ما دام ليس بغافل ولا ناسٍ ولا نائم ولا ناعس ولا مسلوب العقل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد» وذكر منها الطلاق[(1056)].

  خَاتِمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم

}3534{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلِي وَمَثَلُ الأَْنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ».

}3535{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ، قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ».

}3536{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ.

وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِثْلَهُ.

 

المراد من التبويب أن «خَاتِمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم» داخل في أسمائه صلى الله عليه وسلم، وأشار بذلك إلى ما جاء في الآية الكريمة [الأحزَاب: 40]{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، وكذلك حديث العرباض بن سارية الذي أخرجه البخاري رحمه الله في «تاريخه» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته» [(1057)] وجاء في الحديث الآخر: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» [(1058)] فذكر منها ختم النبيين، والنبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين إجماعًا؛ فمن اعتقد أن هناك نبيًّا بعده فهو كافر بإجماع المسلمين، ومن العجائب أن رجلاً خرج وادعى النبوة وقال: إن محمدًا أخبر أنه يأتي بعده نبي، فقال: «لا نبي بعدي» [(1059)] وأنا اسمي: «لا» ، وهذا لا يقوله إلا محرِّف لا عقل له ـ نسأل الله عز وجل السلامة والعافية ـ وتحريف الصوفية من هذا الباب كثير وغرائبهم في تحريف القرآن كثيرة، كما فعل إمامهم ابن عربي رئيس وحدة الوجود، فيقول معارضًا الأدلة البينة في ختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم: صحيح إن النبوة ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الولاية لم تختم، وادعى أنه خاتم الأولياء، وقال: إن خاتم الأولياء تابع لخاتم الأنبياء في الظاهر، وخاتم الأنبياء تابع لخاتم الأولياء في الباطن، وقال: إن خاتم الأولياء لابد أن يرى مثل هذه الرؤيا التي رآها خاتم الأنبياء دارًا مكونة من لبنتين إحداهما لبنة فضة والأخرى لبنة ذهب، فاللبنة الفضة الأحكام الظاهرة التي جاء بها خاتم الأنبياء، واللبنة الذهب يراد بها الأحكام الباطنة التي جاء بها خاتم الأولياء، وقال: أنا خاتم الأولياء، وقال: خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء؛ لأن خاتم الأنبياء يأخذ بواسطة الملك، وخاتم الأولياء يأخذ عن الله مباشرة، وعن اللوح المحفوظ مباشرة الذي يأخذ منه الملك، وهؤلاء الملاحدة كفرهم فوق كفر الذين [الأنعَام: 124]{قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}؛ لأن هذا زعم أنه أعلى من الرسل ـ نعوذ بالله عز وجل ـ.

}3524{ في الحديث: ضرب الأمثال للتقريب للأفهام.

 

}3525{ قوله: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا» ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قيل: المشبه به واحد، والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه؟ وجوابه: أنه جعل الأنبياء كرجل واحد؛ لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذلك الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، ويحتمل أن يكون من التشبيه التمثيلي وهو أن يوجد وصف من أوصاف المشبه، ويشبه بمثله من أحوال المشبه به، فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده ورفع بنيانه وبقي منه موضع به يتم صلاح ذلك البيت، وزعم ابن العربي أن اللبنة المشار إليها كانت في أس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لانقضت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور. انتهى. وهذا إن كان منقولاً فهو حسن وإلا فليس بلازم، نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها، وقد وقع في رواية همام عند مسلم: «إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها» [(1060)] فيظهر أن المراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها كان ناقصًا، وليس كذلك فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة» اهـ.

قوله: «هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها نون، وبكسر اللام وسكون الموحدة أيضًا هي القطعة من الطين تعجن وتجبل وتعد للبناء ويقال لها ما لم تحرق: لبنة، فإذا أحرقت فهي آجرّة.

وفي الحديث: ضرب الأمثال للتقريب للأفهام، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين، وأن الله عز وجل ختم به المرسلين، وأكمل به شرائع الدين» اهـ.

 

جاء في بعض نسخ صحيح البخاري باب مستقل سماه قوله: «باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كذا وقعت هذه الترجمة عند أبي ذر، وسقطت من رواية النسفي، ولم يذكرها الإسماعيلي، وفي ثبوتها هنا نظر؛ فإن محلها في آخر المغازي كما سيأتي، والذي يظهر أن المصنف رحمه الله قصد بإيراد حديث عائشة رضي الله عنها هنا بيان مقدار عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا خصوص زمن وفاته، وأورده في الأسماء إشارة إلى أن من جملة صفاته عند أهل الكتاب أن مدة عمره القدر الذي عاشه» اهـ.

 

}3526{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ» ، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين، وهذا قول أكثر العلماء، وروي ذلك أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: إنه مات وهو ابن خمس وستين، وقيل: ابن ستين على حذف الكسر.

والصواب: أنه كان ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين، وعمر رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين، وعلي رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين، وأما عثمان رضي الله عنه فإنه توفي وقد قارب الثمانين أو زاد على الثمانين.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد