شعار الموقع

شرح كتاب المناقب من صحيح البخاري (61-6)

00:00
00:00
تحميل
84

 

}3596{ قوله «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا» أي: «أنه خرج» وحذف (أنه) خطًّا ولابد من النطق بها، مثل: حدثنا، فإنها تحذف خطًّا وينطق بها، فهذه من اختصارات المحدثين.

وهذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في آخر حياته بعد ثماني سنين إلى قتلى أحد «فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ» . والمعنى: أنه دعا لهم كالمودِّع للأحياء والأموات؛ ولأن شهداء أحد دفنوا بثيابهم ودمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا، ثم انصرف إلى المنبر فقال للناس: «إِنِّي فَرَطُكُمْ» يعني: أسبقكم، والفرط هو الذي يتقدم القوم ويهيئ لهم، والمعنى: سوف أسبقكم إلى الحوض وأكون مستعدًّا لكم مهيئًا لكم المكان حتى إذا وردتم علي أسقيكم من الحوض في موقف القيامة، وحوض النبي صلى الله عليه وسلم طوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر، كما جاء في الحديث: «لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها» [(1134)] والكيزان التي يشرب فيها هي أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وجاء في الحديث: «من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه» [(1135)]. نسأل الله أن يجعلنا من الواردين عليه.

قوله: «وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ إِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآْنَ» . وهذا كشف له ومن علامات النبوة.

قوله: «وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ خَزَائِنَ مَفَاتِيحِ الأَْرْضِ» . الأصل أن يقول: «أعطيت مفاتيح خزائن الأرض» ؛ لأنه أُعطي مفاتيح الخزائن وليس خزائن المفاتيح. والظاهر أنه قد حصل انقلاب على الراوي؛ والخزائن: مستودعات، وهذا من أعلام النبوة حيث أُعطي مفاتيح الخزائن.

قوله: «وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ بَعْدِي أَنْ تُشْرِكُوا» ، يعني: أن تُطبقِوا على الشرك. فالأمة معصومة أن تقع في الشرك، وليس المراد أن الأمة لا يقع فيها الشرك ، بل الشرك واقع، ولكن المراد أن تطبق الأمة على الشرك فتكون كلها على الشرك؛ بل تبقى طائفة على الحق؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين» [(1136)].

قوله: «وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا» ، يعني: أن تنافسوا في الدنيا، وفي اللفظ الآخر: «ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» [(1137)] فهو يخشى علينا من التنافس في الدنيا وطلبها، والحرص عليها وجمعها، وعدم إخراج الواجب منها، وعدم الورع في جمعها، فهذا الذي يخشاه صلى الله عليه وسلم، ولا يخشى إطباق الأمة على الشرك؛ فإن الأمة معصومة من أن تطبق جميعها على الشرك.

 

}3597{ قوله: «أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ الآْطَامِ» ، أي: اطّلع على حصن مرتفع في المدينة.

 

قوله: «فَقَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي أَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ» يعني: كما يقع ماء القطر على البيوت، فكذلك تقع الفتن مثل الشبهات والشهوات وفتن الأموال وفتن الحروب، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم. فهذا من أعلام النبوة.

 

}3598{، }3599{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ وَبِالَّتِي تَلِيهَا»» ، يعني: وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها ـ أي: السبابة ـ والمعنى أنه فُتح منه فتحة صغيرة، وخص العرب في هذا الحديث؛ لأنهم منبع الإسلام، وقد قام على أكتافهم، فإذا جاءهم الشر والفتن فغيرهم من العجم من باب أولى.

قوله: «فَقَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»» . والخبث يعني: المعاصي.

وفيه: دليل على أن المعاصي إذا انتشرت ولم تغير جاءت العقوبات وعمت الصالح والطالح وهلك الناس ولو كان فيهم الصالحون، ثم يبعثون على نياتهم؛ قال الله تعالى في كتابه العظيم: [الأنفَال: 25]{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه» [(1138)].

وفي قوله: «فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا» ، علم من أعلام النبوة.

قوله: «إسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ» فيه: علم من أعلام النبوة ، حيث أخبر أنه أنزلت خزائن وأنزلت فتن.

وفيه: مشروعية التسبيح عند التعجب، فيقول: سبحان الله؛ تنزيها لله عز وجل، فإذا أعجب الإنسان شيء يقول: سبحان الله، أو يقول: الله أكبر، ولا يصفق كما يفعل بعض الناس، فالتصفيق من أخلاق النساء ومن أخلاق الكفار، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما التصفيق للنساء» [(1139)] يعني: في الصلاة وقال الله تعالى عن المشركين: [الأنفَال: 35]{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} والمكاء هو الصفير، والتصدية: التصفيق، فكانوا يتعبدون بذلك.

 

}3600{ قوله: «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَتَتَّخِذُهَا فَأَصْلِحْهَا وَأَصْلِحْ رُعَامَهَا» . هذا الكلام من كلام أبي سعيد لأبي صعصعة، ثم ذكر أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك.

وهذا الحديث فيه: علامة من علامات النبوة، حيث إن أبا سعيد الخدري أوصى أبا صعصعة وقال له: سوف تحتاجها في يوم ما حينما تكثر الفتن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الْغَنَمُ فِيهِ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ أَوْ سَعَفَ الْجِبَالِ» يعني: رءوس الجبال «مَوَاقِعِ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ» . قال العلماء: إن هذا إنما يكون إذا فسد الزمان ونُزع الخير من المدن والقرى، ولم يكن وعظ ولا إرشاد ولا جمعة ولا جماعة، وخشي الإنسان على نفسه من الفتن فإنه ينتقل إلى البادية ويكون مع الغنم حتى يسلم له دينه، أما إذا كانت المدن فيها خير، وفيها جمعة وجماعة، وفيها علم وتعلم، فلا يذهب الإنسان ويتعرب، بل إن التعرب يكون في هذه الحالة من كبائر الذنوب؛ وما حصل من سلمة بن الأكوع إذ أذن له صلى الله عليه وسلم في البدو أي: وقت الفتن، وجاء في الحديث وإن كان فيه ضعف: «ولا يؤم أعرابي مهاجرًا» [(1140)] يعني: لا يتولى الإمامة؛ لأنه عنده جفاء لبعده عن الخير وبعده عن سماع الذكر، فما يعرف شيئا عن الأحكام، وهذا فيه علم من أعلام النبوة، بأنه سيأتي الوقت الذي يكون تَعَبُّد الإنسان فيه بالصحراء أفضل من بقائه بالمدن؛ لأن المدن فيها شر، وفتنة للناس عن دينها، ويصدق قول الشاعر:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوَّت إنسان فكدت أطير

فالإنسان في وقت الفتن يعيش مع السباع ومع الغنم خير له من أن يعيش مع الآدميين، فالآدميون يفسدون عليه دينه والسباع والحيوانات لا تضره.

وليس ذلك عامًّا في كل الأمكنة والأزمنة، بل قد يحصل هذا في بعض الأمكنة وبعض الأزمنة دون بعض.

 

}3601{، }3602{ قوله: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي» فيه: إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوع فتن وهذه علامة من علامات النبوة، والمعنى: أنه كلما أسرع الإنسان إلى الفتن كان أبعد عن الخير، وكلما تباطأ عنها كان أقرب إلى الخير، فالقاعد ليس مثل القائم؛ فالقائم سريع الحركة جاهز لملابسة الفتنة، والقاعد يحتاج إلى أن يقوم،، ثم القائم خير من الماشي؛ فالماشي يمشي إليها والقائم واقف مكانه، والماشي خير من الساعي؛ لأن الساعي الذي يركض ركضًا ويعدو عدواً أسرع إلى الفتنة من الذي يمشي.

قوله: «وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ» يعني: من تطلّع لها أصابته، وهذا فيه الحث على الإحجام عن الفتن وعدم الدخول فيها، كفتن الحروب وفتن الشبهات والشهوات، فلا يتطلع الإنسان للفتن وأسبابها، فلا يشارك في الحروب ـ مثلاً ـ إذا كان لا يعرف وجه الحق، كما جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قُتل» [(1141)] فهذه من الفتن التي يكون فيها القاعد خيرًا من القائم، فعلى المسلم أن يبتعد عنها ولا يذهب إليها؛ ولذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: «وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» ؛ يعني: إذا وجد ملجأً أو معاذاً يبتعد به عن هذه الفتن ولا يدخل فيها ولا يلابسها، فيغلق عليه بابه، أو يخرج من هذا البلد التي فيها الفتن، ويبتعد عن أسبابها من الشبهات والشهوات.

قوله: «مِنْ الصَّلاَةِ صَلاَةٌ مَنْ فَاتَتْهُ» . و الفوات هنا يحتمل أن المراد به فوات الجماعة أو فوات الوقت، وفي اللفظ الآخر: «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله» [(1142)]، وأما حديث: «من فاتته صلاة العصر حبط عمله» [(1143)] فالمراد فوات الوقت، والحبوط يعني: كفر الذي يترك صلاة العصر حتى يخرج وقتها، وفي الحديث الآخر: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» [(1144)].

قوله «فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» ؛ يجوز الرفع في «أَهْلَهُ وَمَالَهُ» ، على أن الوتر راجع للأهل والمال ، وهو نائب فاعل، ويجوز النصب على أن الضمير راجع إلى الموتور فتكون «أهله وماله» مفعولاً ثانيًا.

 

}3603{ قوله «سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا» . هذا من علامات النبوة حيث وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، والأثرة: إيثار غيرهم عليهم؛ وفي اللفظ الآخر أنه ذكر هذا للأنصار، أي: تجدون ولاة في آخر الزمان يفضلون غيركم عليكم ويمنعونكم حقكم في بيت المال من الوظائف والأموال والأعطيات.

قوله: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ» ، يعني: من السمع والطاعة وعدم الخروج عليهم.

قوله: «وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ» أي: من الحقوق من المال والوظائف، فحقكم تسألون الله فيه، والحق الذي عليكم تؤدونه، وبهذا تستقيم الأحوال ويستتب الأمن، فكون ولاة الأمور يمنعون بعض الناس من حقهم من بيت المال ومن الوظائف لا يوجب هذا الخروج عليهم؛ لأن الخروج يترتب عليه مفاسد وفوضى وفتن لا أول لها ولا آخر، فلا تكونوا سببًا في ذلك، بل يجب السمع والطاعة في طاعة الله وفي الأمور المباحة، هذا هو الحق الذي عليك أن تؤديه. أما الحق الذي لك فاسأله من الله، وسوف تجده أمامك يوم القيامة، وهذه نصيحة من النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالمعاصي، ويرون الخروج على ولاة الأمور بالجور والظلم، فالمعتزلة من أصول الدين عندهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسطروا تحته الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، وهذا باطل.

 

}3604{ قوله «يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ» وسيأتي في الحديث الذي بعده بيان هلاكهم على يد بعض الولاة والأمراء من قريش، وهذا علم من أعلام النبوة حيث وقع كما أخبر؛ قوله: «قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ»» لو للتمني، والمعنى: لو اعتزلوهم لكان خيرًا لهم، فنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم هي الاعتزال وعدم الدخول في الفتنة، وعدم الخروج على الأمراء من قريش الذين يهلك الناس على أيديهم.

 

}3605{ هذا الحديث يفسر قوله في الحديث السابق: «يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ» . فبين في هذا الحديث أن الذين يهلك الناس على أيديهم أمراء يتولون الإمارة والخلافة.

قوله: «هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ» الغلمة جمع غلام، والغلام هو صغير السن، والمراد بهم بعض الولاة من بني أمية، حديثو السن سفهاء الأحلام، مثل يزيد بن معاوية ، فقد تولى على رأس الستين، وقد استعاذ أبو هريرة من لايته وقال: «اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين» ، فاستجاب الله دعاءه وتوفي قبل رأس الستين، وكان يزيد يسمى الفاسق، وكذلك السفاح من بني العباس، فهؤلاء كلهم ولاة صغار السن لم يعدلوا في الرعية، وحدث في زمنهم جور، وهذا من علامات النبوة، حيث وقع كما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَقَالَ مَرْوَانُ:» ، يعني: ابن الحكم، «غلمة!» ؛ يخاطب أبا هريرة وفي اللفظ الآخر قال مروان: «لعنة الله عليهم غلمة» [(1145)].

قوله: «قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُسَمِّيَهُمْ بَنِي فُلاَنٍ وَبَنِي فُلاَنٍ» . لكن أبا هريرة رضي الله عنه لم يسمهم خشية الفتنة.

وجاء في الحديث الآخر أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: «حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم وعائين، فأما أحدهما فبثثته بينكم» ـ أي: نشره وهذا فيما يتعلق بأمور الدين والعقيدة والفقه والأحكام الشرعية ـ «وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» [(1146)] يعني: رقبته. قال العلماء: إن هذا الوعاء الذي لم يبثه هو ما يتعلق بأمراء الجور والظلمة من خلفاء بني أمية وغيرهم من السفهاء، وهذا ليس في بثه مصلحة للناس ولا يعد من كتمان العلم، وهذا فيه علم من أعلام النبوة حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بإمارة السفهاء وصغار السن من بني أمية من قريش، فوقع كما أخبر.

 

}3606{ هذا الحديث حديث حذيفة رضي الله عنه فيه: علم من أعلام النبوة؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحصل بعد هذا الخير للإسلام شر، ثم يحصل بعده خير، ثم يحصل دعاة على أبواب جهنم، فوقع كما أخبر.

وفيه: عناية حذيفة رضي الله عنه واهتمامه حيث قال: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي» ، أي: كان يسأل عن الشر حتى يحذره؛ فإنه إن لم يعرف الشر وقع فيه؛ ولهذا فإن الصحابة رضي الله عنهم عرفوا الشرك في الجاهلية فلم يقعوا فيه، أما من بعدهم والذين نشؤوا في الإسلام فلا يعرفون الشرك ، فيمكن أن يقع بعضهم فيه وهو لا يشعر؛ ولهذا قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية» [(1147)] أي: إذا دخل في الإسلام من لا يعرفون الشرك فإنهم يقعون في الشرك، وهم لا يدرون بل يظنون أنه من الإسلام.

قوله: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ» ، يعني: ما كنا فيه من الشرك.

قوله: «فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ» يعني: الإسلام «فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»» ، أي: سيكون هناك شرور وفتن توقع في الشرك.

قوله: «قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ» ، يعني: نعم هناك خير ولكن فيه دخن، فهو ليس بصاف، مثل الثوب الأبيض الذي فيه دخن يدنسه.

قوله: «قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»» ، يعني: أحياناً يعملون بالسنة وأحياناً يعملون بالبدعة.

قوله: «قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ» يعني: هو شر محض.

قوله: «دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» . وهؤلاء الدعاة منهم الكفار، كالذين يدعون إلى الكفر بالله: كدعاة الاشتراكية، ودعاة الشيوعية، ودعاة الإباحية، ودعاة القومية، ودعاة حزب البعث؛ وغير ذلك من الأحزاب الكافرة، فكل هؤلاء دعاة على أبواب جهنم، ومنهم عصاة: كالذين يدعون للكبائر ويدعون للزنا واللواط، وينشرون الشر والفساد على القنوات، فهؤلاء دعاة عصاة، يدعون على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها.

قوله: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا» حتى نعرفهم.

قوله: «فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»» يعني: من العرب يتكلمون باللغة العربية وما هم بأعاجم، مثل ما نراه الآن في الإذاعات والصحف، يتكلم أناس بلسان عربي فصيح يدعون للشر والفساد.

قوله: «قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟» هذه أسئلة عظيمة من حذيفة رضي الله عنه.

قوله: «قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»» ، أي: إذا وجدت للمسلمين جماعة وإمام، فلا تفارقهم وكن معهم.

قوله: «قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ» يعني: إن لم أجد جماعة ولا إمامًا ووجدت أحزابًا وفرقًا «قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» . يعني: إذا كنت وحدك فلا توجد جماعة ولا إمام فالزم الحق واعتزل الفرق واعبد ربك وحدك حتى يأتيك الموت، وإذا وجدت جماعة وإمامًا فكن معهم.

 

}3607{ قوله: «تَعَلَّمَ أَصْحَابِي الْخَيْرَ وَتَعَلَّمْتُ الشَّرَّ» ، يعني: مخافة أن يدرك الشر؛ ولكي يعلم كيف يتعامل مع الشر إذا أدركه.

 

}3608{ قوله: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ» ، وفي الحديث التالي: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ» . قال العلماء: المراد بهما فئة علي وفئة معاوية رضي الله عنها؛ لأن دعواهما واحدة فكل منهما يطلب الحق، لكن دلت النصوص على أن أهل الشام بغاة؛ لحديث عمار: «تقتله الفئة الباغية» [(1148)] فقَتلَه جيش معاوية.

فعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الذي تمت له البيعة فوجب له السمع والطاعة، وأهل الشام لا يعلمون أنهم بغاة، فهم مجتهدون يطالبون بدم عثمان، فدعواهما واحدة، ولكن المصيب هو علي، فله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الصواب، ومعاوية ومن معه من أهل الشام فاتهم أجر الصواب وحصلوا على أجر الاجتهاد.

وفي الحديث: علم من أعلام النبوة.

 

}3609{ قوله: «حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ» ؛ «يبعث» : يعني: يخرج، والمراد بالكذابين الثلاثين من له شوكة وأتباع، بخلاف من ادعى النبوة لخلل في عقله فهم كثير.

 

}3610{ هذا الحديث فيه: علم من أعلام النبوة؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروج الخوارج فخرجوا.

قوله: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا» ، يعني: من الغنائم «أتاه ذو الخويصرة ـ وهو رجل من بني تميم ـ فقال: يا رسول الله اعدل» . هكذا تجرأ هذا الرجل؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» يعني: إذا كان نبيك لا يعدل فخبتَ وخسرتَ.

قوله: «فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ: دَعْهُ» . فهذا الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم ذو الخويصرة التميمي هو أصل الخوارج.

قوله: «فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا» ، يعني: على شاكلته يأتون بعده.

قوله: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ» يعني: يكثرون من الصلاة ومن التهجد، ويكثرون من الصيام، ويكثرون من قراءة القرآن، حتى إن الإنسان إذا رأى تعبدهم واجتهادهم وصلاتهم وصيامهم قال: عملي قليل بالنسبة لهم.

قوله: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» ، يعني: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الصيد المرمي؛ والرمية فعيلة من الرمي، بمعنى مفعولة.

قوله: «يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ» ، يعني: حديدة السهم.

قوله: «ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ» ، يعني: عصبه الذي يكون فوق مدخل النصل.

قوله: «ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ» وهو عود السهم قبل أن ينحت.

قوله: «ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ» هو ريش السهم.

قوله: «قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ» ، يعني: السهم؛ والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الدين خروجًا سريعًا كما أن السهم الذي يرمى به الصيد يخرج بسرعة، ومن سرعته لا ترى فيه فرثًا ولا دمًا، فتنظر في النصل والرصاف والنضي فلا تجد شيئًا، بل تجده أملس من سرعة دخوله وخروجه. فهؤلاء يخرجون من الدين خروجًا سريعا مثل خروج هذا السهم من الرمية، واستدل بعض العلماء بهذه الجملة على كفر الخوارج؛ فهذا معناه أن الخوارج كفار، وفي اللفظ الآخر: «ثم لا يعودون فيه» [(1149)] وفي اللفظ الآخر: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» [(1150)] فشبههم بعاد وهم قوم كفار، وقال: «فأينما لقيتموهم فاقتلوهم» [(1151)] وهذا قول لبعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد[(1152)]، وهو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله، والقول الثاني: وهو قول جمهور العلماء أن الخوارج عصاة، وأنهم مبتدعة وليسوا كفاراً؛ لأنهم متأولون، وهذا الذي عليه عمل الصحابة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(1153)] أن الصحابة عاملوهم معاملة المبتدعة العصاة، ولم يعاملوهم معاملة الكفار، واستدلوا بقول علي لما سئل أكفار هم؟ قال: «من الكفر فروا» ، وقال: إنهم متأولون فلا يكفرون.

 

}3611{ قوله: «إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ» فيه: تعظيم الصحابة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: «وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ» ، يعني: إذا كان بيني وبينكم حرب سهل الأمر، لكن إذا حدثت حديثُ الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن أكذب.

قوله: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَْسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَْحْلاَمِ» . «حدثاء الأسنان» ، يعني: صغار السن، و «سفهاء الأحلام» يعني: عقولهم ضعيفة.

قوله: «يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ» ، أي: يقولون كل قول طيب ـ مثل قولهم: لا حكم إلا للهـ لكنهم يقولونه على غير بصيرة.

قوله: «يَمْرُقُونَ مِنْ الإِْسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» ، يعني: كما يخرج السهم من الصيد بسرعة، فهم يخرجون من الإسلام بسرعة.

قوله: «لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وخروج هؤلاء فيه علم من أعلام النبوة حيث وقع كما أخبر.

 

}3612{ أصاب المشركون في مكة الصحابة بشدة، وآذوا المستضعفين منهم إيذاءً شديداً كعمار وبلال وخباب بن الأرت، فكان بلال يلقى في الرمضاء وتوضع الصخرة العظيمة على صدره.

قوله: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ» ، يعني: قطعة قماش مخططة.

قوله: «أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَْرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ» وفي لفظ: «المنشار» أي: المنشار؛ «فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ» فيه: دليل على أن هناك أخيارًا فيمن سبقنا من الأمم وأنهم صبروا على البلاء واللأواء والشدة، وكانوا يصرون على دينهم، حتى إن الواحد ينشق نصفين بالمنشار الحديد وما يرجع عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب وما يصده ذلك عن دينه؛ ومن ذلك قصة أصحاب الأخدود الذين حفر لهم حفرة في الأرض وأضرمت نيراناً وألقوا فيها وما صدهم ذلك عن دينهم، فهذا فيه دليل على أن هناك أخيارًا ومؤمنين في الأمم السابقة كما قال الله تعالى في كتابه العظيم لما ذكر أهل الكتاب والذين كفروا والذين نقضوا العهود والميثاق: [آل عِمرَان: 113-114]{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ *يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ *}.

قوله: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَْمْرَ» يعني: الإسلام سينتشر وسيدخل الناس في دين الله أفواجاً، «حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» . وفي لفظ: «والذئب على غنمه» [(1154)] والمراد بصنعاء صنعاء اليمن، وبينها وبين حضرموت مسيرة خمسة أيام للراكب في ذلك الزمان، وقيل: يحتمل بصنعاء صنعاء الشام وهي قرية على باب دمشق، سميت بصنعاء لأنه نزلها قوم من أهل صنعاء اليمن فسميت صنعاء، ولكن الأول أقرب، فيكون المراد صنعاء عاصمة اليمن المعروفة الآن.

وفيه: بيان أن هذا الدين سينتشر، ويأمن الناس حتى يسير الراكب المسافة الطويلة لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم؛ فلما فتحت مكة انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم جاهد الصحابة رضي الله عنهم في سبيل الله وجهزوا الجيوش وفتحوا البلدان والحصون، ففتحت فارس والروم وانتشر دين الله في المشارق والمغارب، فوقع كما أخبر، فكان هذا من علامات النبوة.

 

}3613{ هذا الحديث: في قصة ثابت بن قيس رضي الله عنه، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرفع صوته والنبي صلى الله عليه وسلم عنده؛ لأنه خطيب، والخطيب مضطر إلى رفع الصوت، فلما نزل قوله تعالى: [الحُجرَات: 2]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ *} خشي أن يكون حبط عمله فجلس في بيته منكسًا رأسه فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ» يعني: خبره.

قوله: «فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» فيه: التفات من التكلم إلى الغيبة، والأصل أن يقول: كنت أرفع صوتي.

قوله: «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» أي: فخاف أن يكون حبط عمله أخذًا من الآية.

قوله: «وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ» ، وفي لفظ: «من أهل النار» [(1155)].

 

}3614{ قوله: «قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ» . هذا الرجل هو أسيد بن حضير كما في الروايات الأخرى[(1156)].

قوله: «وَفِي الدَّارِ الدَّابَّةُ فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ فَسَلَّمَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ أَوْ سَحَابَةٌ غَشِيَتْهُ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «اقْرَأْ فُلاَنُ فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ» . ففي الحديث: أن أسيد بن حضير قرأ وَجَعلت الفرس تنفر، وحوله ابنه يحيى، فخشي أن تطأه الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن، والسكينة طائفة من الملائكة أو غيرها من المخلوقات تنزلت للقرآن، وساقه المؤلف لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذا من علم الغيب ومن علامات النبوة.

 

}3615{ قوله: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» . أحمد بن يزيد هذا قال عنه في «التقريب» : «لم يرو عنه البخاري إلا حديثًا واحداً متابعة» [(1157)].

قوله: «جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلاً فَقَالَ لِعَازِبٍ: ابْعَثْ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي قَالَ: فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ وَخَرَجَ أَبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ» ، يعني: يعطيه ثمنه نقداً، فسأل عازب أبا بكر عن قصة الهجرة بقوله: «يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنْ الْغَدِ حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلاَ الطَّرِيقُ لاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌطَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ» يعني: وهم يمشون في الضحى.

قوله: «وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ» فيه: عناية أبي بكر رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم وفداؤه له بنفسه؛ حيث سوى مكانًا للنبي بيده وبسط عليه فروة لينام عليها وجعل ينفض ما حوله.

قوله: «فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا فَقُلْتُ: لَهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَخَذَ شَاةً فَقُلْتُ: انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى قَالَ: فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُْخْرَى يَنْفُضُ فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْتَوِي مِنْهَا يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ مِنْ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ» أي: سأل الراعي أن يحلب له، والمعروف عند العرب أن الرعاة لهم صلاحية أن يسقوا الضيوف ومن يمر بهم من اللبن، فلا يقال: كيف أخذ منه النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بدون إذن صاحبه.

وقوله: «لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ» ، يعني: شك هل قال: من أهل المدينة أو من أهل مكة، والمراد بالمدينة مكة وليس المراد المدينة النبوية؛ لأن الراعي قريب من مكة وهو من رعاة أهل مكة، والمدينة بعيدة؛ ولأن المدينة كانت لا تسمى في ذلك الوقت المدينة، ولكن كانت تسمى يثرب.

وفيه: أنه حلب له كثبة من لبن وكان مع أبي بكر إداوة ـ يعني: سقاء من جلد ـ فيها ماء بارد يشربون منه ويتوضؤون، فلما كان اللبن حارًّا صب أبو بكر عليه من الماء البارد في الإداوة حتى برد أسفله، ولا يقال: إن هذا من الغش؛ لأنه ليس للبيع، لكن هذا كان للشرب، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ثُمَّ قَالَ: «أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟» قُلْتُ: بَلَى قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا مَالَتْ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فَقُلْتُ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فقال: [التّوبَة: 40]{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَى فِي جَلَدٍ مِنْ الأَْرْضِ شَكَّ زُهَيْرٌ فَقَالَ: إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَجَا فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ قَالَ: وَوَفَى لَنَا» ، أي: ارتحلوا ثم لحقهم سراقة بن مالك قبل أن يسلم وكانت قريش أرسلت من كل مكان يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلوا جائزة سَنية لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ يقال: إنها مائة من الإبل ـ وكل واحد يريد أخذ هذه الجائزة، فجاء سراقة بن مالك، فقال أبو بكر: يا رسول الله أُتينا، فصار ينظر إليه، وفي رواية: أنه بكى، فقال النبي: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وهذه معية خاصة يعني: إن الله معنا بنصره وتأييده وتوفيقه وتسديده، والمعية معيتان: معية عامة ومعية خاصة، فالمعية العامة تكون للمؤمن وللكافر، فالله تعالى مع الخلق جميعًا بإحاطته وقدرته ومشيئته وعلمه وسمعه وبصره، والمعية الخاصة تكون معية توفيق وتسديد وكلاءة وحفظ ونصر.

وفيه: إثبات المعية لله عز وجل وأنها صفة من صفاته.

فلما أقبل سراقة دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في الأرض فعلم أن ذلك من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا الله لي، وأعطاهما العهد أن يرد عنهم الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فأخرج الله قوائمها وجعل يرد كل من جاء من هذه الجهة، ويقول: هذه الجهة ما فيها أحد فارجعوا؛ ولهذا قال: «وَوَفَى لَنَا» ، ففي أول الأمر لحقهم يريد أن يطلبهم وفي آخر الأمر صار يدافع عنهم! وهذا من حماية الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم.

والشاهد: أن من علامات النبوة أن الله استجاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحال فساخت قوائم الفرس، ثم دعا له فخرجت في الحال.

 

}3616{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ» فيه: مشروعية زيارة المريض.

وفيه: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وزيارته للضعفاء والأعراب.

وفيه: مشروعية الدعاء للمريض.

قوله: «طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . قوله: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» خبر وليس إنشاء؛ لأنه لو كان إنشاءً أو دعاءً لما جاز تعليقه بالمشيئة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعليق الدعاء بالمشيئة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت؛ ليعزم المسألة فإنه لا مكره له» [(1158)] والأعرابي لم يقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «قُلْتُ: طَهُورٌ كَلاَّ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَنَعَمْ إِذًا» . ووجه دخوله في علامات النبوة أن في بعض طرقه زيادة تقتضي إيراده في هذا الباب، كما عند الطبراني حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إذا أبيت فهي كما تقول، وما قضى الله فهو كائن» [(1159)] فما أمسى الأعرابي من الغد إلا ميتًا، وهذا فيه علم من أعلام النبوة في أنه وقع كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

 

}3617{ هذا الحديث فيه: قصة هذا الرجل الذي كان نصرانيًّا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَعَادَ نَصْرَانِيًّا» أي: فارتد عن الإسلام ـ نعوذ بالله ـ ولحق بالمشركين والنصارى، فكان يقول لهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ» وهو كاذب.

قوله: «فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ» ، يعني: فلما مات دفنوه «فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَْرْضُ» ، يعني: أخرجه الله من القبر على وجه الأرض، «فَقَالُوا:» يعني: المشركون والنصارى «هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له» يعني: فحفروا له في اليوم التالي حفرة أعمق من الأولى، فلما كان في الصباح لفظته الأرض وأخرجه الله من القبر على وجه الأرض «فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَْرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا» أي: في اليوم الثالث حفروا له وأعمقوا له في الأرض فدفنوه، فلما كان في الصباح إذا هو على وجه الأرض فلفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه؛ فصار هذا من علامات النبوة.

وفيه: موعظة للمسلمين ألا يفعلوا مثل هذا الرجل الذي ارتد ولفظته الأرض، وهناك رجل آخر لفظته الأرض ـ وهو محلم الجثامي ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأرض تقبل من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يريكم عظم الدم عنده» [(1160)] ذكر هذا ابن كثير في تفسير قول الله تعالى: [النِّسَاء: 105]{وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *}.

 

}3618{ في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . فأتي بكنوز كسرى وقيصر في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنفقت في سبيل الله، فكان هذا علمًا من أعلام النبوة.

واستُشكل بقاء مملكة الفرس؛ لأن آخرهم قتل في زمن عثمان، وكذلك بقاء مملكة الروم، وأجيب ـ كما ذكر الشارح ـ بأن المراد: لا يبقى كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام وقد كان؛ فكسرى ذهب ملكه أصلاً ورأسًا، وأما قيصر فإنه تحول عن الشام وارتفع بملكه، وسبب ذهاب ملك كسرى أصلاً أن كسرى لما أتاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يمزق ملكه، وأما قيصر فإنه عظم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وكاد أن يسلم؛ فلذلك بقي ملكه بعد ارتحاله من الشام وما حولها.

 

}3619{ قوله: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى» ، هو ملك الفرس ، «فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وذكر» ، يعني: وأخبر أن كنوزهما تنفق في سبيل الله، فقال: «لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .

وقد سبق شرحه في الحديث السابق.

 

}3620{، }3621{ قوله: «قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأَْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا رَأَيْتُ» فيه: أن مسيلمة قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بشر كثير ـ وذلك في السنة التاسعة لما كانت قبائل العرب ترسل الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويبايعونه بعد أن فتحت مكة في السنة الثامنة؛ فالعرب في بادئ الأمر توقفوا وقالوا: ننظر محمداً وقومه إن انتصر عليهم نتبعه، وإن انتصروا عليه فلا، فلما فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً، جاءت وفود قبائل العرب في السنة التاسعة من الهجرة، فسمي هذا العام عام الوفود، ومن ذلك أهل اليمامة أرسلوا وفدًا ومعهم مسيلمة وذلك في أول وقوع الشر في نفسه ـ وهو يريد أن يدّعي النبوة، فأقبل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس، وكان مسيلمة يقول: إن جعل محمد لي الأمر من بعده تبعته، وكان يتبعه قبائل كثيرة، وهم يعظمونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا» يعني: لو طلبت مني قطعة الجريد ما أعطيتكها.

وقوله: «وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا رَأَيْتُ» . يعني: رأى النبي صلى الله عليه وسلم سواري الذهب في المنام ـ كما في الحديث بعده ـ فنفخهما فطارا.

وقوله: «وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد على مسيلمة وأغلظ عليه، وكان من عادته الحلم صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لما ظهر على مسيلمة من العناد والأباطيل، والمعلوم أن الخلافة تكون في قريش ولن تكون في مسيلمة، ثم بعد ذلك أظهر مسيلمة الشر وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتله الصحابة يوم اليمامة وكانت موقعة عظيمة، وكان أتباعه أبدوا قوة وشجاعة في الباطل ـ والعياذ بالله ـ وقتل عدد كبير من القراء حتى خاف الصحابة من أن يضيع القرآن، ثم بعد ذلك عقره الله فأهلكه الله وأتباعه، فكان هذا علمًا من أعلام النبوة حيث وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

قوله «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنْ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ وَالآْخَرُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ صَاحِبَ الْيَمَامَةِ» . وهذا الحديث فيه: علم من أعلام النبوة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام في يديه سوارين من ذهب، فأهمه شأنهما، فأوحي إليه في المنام أن ينفخهما، فنخفهما فطارا، فأوّلهما كذابين يخرجان بعده، فوقع كما أخبر فكان أحدهما الأسود العنسي وكان في اليمن، والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة في نجد، ورؤيا الأنبياء وحي، ووجه تأويل هذه الرؤيا أن ادعاء النبوة له بريق ولمعان، لكنه يذهب بعد ذلك ويضمحل.

فالأسود العنسي ادعى النبوة وقتل قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيومين أو ثلاثة، وجاء الخبر بقلته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما مسيلمة فإنه قتل في خلافة أبي بكر، فوقع كما أخبر أن كُلًّا منهما ادعى النبوة وصار لكل منهما شوكة وأتباع ثم بعد ذلك أهلكهم الله، كالسوارين من ذهب لهما بريق ولمعان ثم اضمحلا وزالا.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد