مسألة : اختلفوا في الجد هل هو أب فيسقط الإخوة، أو هو كالأخ فيرث معهم؟
الجواب : في المسالة قولان لأهل العلم، والصواب القول الأول : أنه أب فيسقط الإخوة كلهم ولا يرثون معه، وهو اختيار جمع من المحققين، وهو اختيار الشيخ محمد بن عبدالوهاب /، والمذهب عند الحنابلة([1]) أنه أخ، وهو مخير مع الإخوة بين المقاسمة وبين ثلث المال إذا لم يكن معهم صاحب فرض؛ فإن كان معه صاحب فرض يخير بين المقاسمة وبين الثلث الباقي وبين السدس، على تفصيلات معروفة عند أهل العلم.
وخلافة أبي بكر رضي الله عنه ثبتت على قولين؛ قيل: ثبتت بالنص، وقيل: ثبتت بالاختيار والانتخاب، ومن أدلة من قال إنها ثبتت بالنص هذا الحديث، ولكن أجابهم أهل القول الأول بأن هذا ليس نصًّا؛ لأن اتخاذ الخليل شيء والسياسة في الأمور شيء آخر؛ فقد يتخذ الإنسان خليلاً، ولكنه لا يصلح لسياسة الأمور.
● [3433 ] قوله: «أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ - كأنها تقول الموت - قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر» ذهب قوم إلى أن هذا نص في أن أبا بكر رضي الله عنه الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم، وأجاب الآخرون أن هذه وكالة، فقد وكله صلى الله عليه وسلم في أن يقضي حوائجه، وقد يوكَّل في الحوائج من لا يصلح للخلافة.
والصواب أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثبتت بالاختيار والانتخاب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى اختياره وانتخابه، ودلهم على ذلك بأمور منها: أنه كان يقدمه في الصلاة في مرض الموت، ومنها هذا الحديث «فأتي أبا بكر».
● [3434] هذا الحديث فيه منقبة للصديق رضي الله عنه؛ حيث إنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين «وما معه إلا خمسة أعبد»، يعني: عبيد «وامرأتان»، يحتمل أن تكون إحداهما خديجة ل، والشاهد قوله: «وأبو بكر» فهذا دليل على سبقه للإسلام رضي الله عنه.
● [3435] هذه القصة يحكيها أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: «كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته» فيه: دليل على أن الركبة ليست من العورة، فالعورة من السرة إلى الركبة، والركبة ليست منها.
قوله: «فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر»، يعني: غضب غضبًا شديدًا غطاه وغمره، أي: جاء أبو بكر رضي الله عنه وعلامات الغضب على وجهه آخذًا بطرف ثوبه حتى كشف عن ركبته، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم «فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي»، يعني: كان بيني وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سوء تفاهم فندمت وأسرعت إليه وقلت له: سامحني فامتنع ورفض أن يسمح لي، «فأقبلت إليك»، أي: لما لم يسمح لي أقبلت إليك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يغفر الله لك يا أبا بكر - ثلاثًا - ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟» ثم ظرف مكان، يعني: هل هو موجود هنا؟ «قالوا: لا؛ فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر» انتصارًا لأبي بكر من عمر م «حتى أشفق أبو بكر»، يعني: خاف أبو بكر على عمر رضي الله عنه من غضب النبي صلى الله عليه وسلم، «فجثا على ركبتيه«فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين»، أي: قالأبو بكر رضي الله عنه أنا الظالم لعمر رضي الله عنه؛ حتى يهدأ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه منقبة للصديق رضي الله عنه أنه لما رأى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر انتصارًا له خاف على عمر رضي الله عنه من غضب النبي صلى الله عليه وسلم فجثا على ركبتيه وجعل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنا كنت أضلم – مرتين - ؛ حتى يهدأ غضب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا مناقب الصديق رضي الله عنه: «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق»؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه صدق في الحال ما تلكأ ولا تأخر إسلامه مثل عمر رضي الله عنه «وأوساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين» هذه صحبة خاصة للصديق رضي الله عنه غير الصحبة العامة التي للصحابة كلهم.
قوله: «فما أوذي بعدها» أي: بعد هذه القصة؛ وهذه أيضًا منقبة للصديق رضي الله عنه.
ففي هذه القصة منقبة للصديق رضي الله عنه .
وفيها: تفضيله على عمر رضي الله عنه.
وفيها: أن الأخيار تغفر لهم زلاتهم لفضلهم وسابقتهم.
وفيها: منقبة لعمر رضي الله عنه حيث جاء للصديق رضي الله عنه ليسامحه، فهما تسابقا في الجود والكرم.
● [3436] في هذا الحديث منقبة للصديق رضي الله عنه، وأنه أفضل الناس، ثم يليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم يتسع قلبه لمحبة عدد كثير، بخلاف الخلة فلا يتسع لخلة أحد؛ لأنه امتلأ بخلة الله عز وجل.
● [3437] هذا الحديث فيه أن الذئب تكلم لما عدا على شاة وأخذها واستخلصها منه الراعي فقال: «من لها يوم السبع؟» أي: أنت الآن استنقذتها لكن يوم السبع من يستنقذها «يوم ليس لها راع غيري؟» فتعجب منه الراعي وقال: سبحان الله ذئب يتكلم!
قوله: «وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها»، أي: حمل على هذه البقرة ثقلاً «فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا»، أي: ما خلقت للحمل «لكني خلقت للحرث»، أي: أنا خلقت لأحرث الأرض وأنت تحمل علي! والصواب أن البقرة يحمل عليها ولا يؤخذ بقولها، وتكون للحرث أيضًا.
قوله: «فقال الناس: سبحان الله!» بقرة تتكلم وذئب يتكلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر»
وفي الحديث: الآخر: «وما هما يومئذ في القوم»([2])، يعني: أبو بكر وعمر م يؤمنان بالذي أقوله ولا يتلكآن، وليسا موجودين في المجلس، ففيه: منقبة لهما.
● [3438] استدل بهذا الحديث على خلافة الشيخين م وهو رؤيا منام؛ لأن رؤيا الأنبياء حق.
قوله: «فنزع بها ذنوبًا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه» قال العلماء: هذا الضعف إنما هو راجع إلى الفتن والقلاقل وحروب الردة التي كانت في زمنه رضي الله عنه. «ثم استحالت غربًا»، يعني: تحول الدلو إلى غرب، والغرب هي الدلوة الكبيرة، «فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريًّا من الناس ينزع نزع عمر»، أي: ينزع نزعًا قويًّا «حتى ضرب الناس بعطن» إشارة إلى اتساع الفتوح وطول مدته؛ فإن خلافة الصديق رضي الله عنه كانت سنتين وثلاثة أشهر، أما خلافة عمر رضي الله عنه فكانت عشر سنين ونصفًا، واستقرت الأمور في زمن الصديق رضي الله عنه بعد أن رجع أهل الردة إلى الإسلام، وتفرغ المسلمون للفتوحات في زمن عمر.
وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحديث نص في خلافة الصديق رضي الله عنه، ولو كان نصًّا في خلافة الصديق رضي الله عنه لكان نصًّا في خلافة عمر رضي الله عنه، والصواب أن هذه مبشرات، وكشف للمستقبل، وليس نصًّا.
● [3439] في هذا الحديث منقبة للصديق رضي الله عنه وأنه بعيد عن الخيلاء،
وفيه: الوعيد الشديد على من جر ثوبه، وأنه من كبائر الذنوب، سواء كان الثوب إزارًا في الحج والعمرة، أو كان الثوب قميصًا وكذلك المشلح أو البنطلون فيحرم على الإنسان أن يجعله ينزل إلى الكعب، فإن كان لغير الخيلاء ففيه: الوعيد الشديد: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار»([3])، وإن كان لخيلاء فهو أشد كما في الحديث: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، ولا يحمل أحدهما على الآخر كما قاله بعضهم؛ لأن الحكم مختلف، والسبب مختلف فحديث، «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار»؛ فهو في نزول الثوب إلى الكعب لا للخيلاء، والعقوبة أنه متوعد بأن تأكله النار، والثاني فيمن جر ثوبه للخيلاء، والعقوبة أنه لن ينظر الله عز وجل إليه؛ فلا يحمل أحدهما على الآخر.
وفيه: أن من ينزل ثوبه إلى الكعب ويتعاهده فإنه لا يلام، وأبو بكر رضي الله عنه كان ثوبه يسترخي بدون اختياره؛ لأنه كان نحيفًا، ثم يرفعه ثم يسترخي ويرفعه، وهكذا يتعاهده، لكن المصيبة فيمن يُفصِّل الثوب ويجعله تحت الكعب،
وفي الحديث: الآخر: «بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»([4]) نعوذ بالله عز وجل- فهذا وعيد شديد؛ فلا يجوز للإنسان أن يتعمد إنزال الثوب إلى الكعب، وهذه مسألة لا يبالي بها كثير من الناس، وبعضهم إذا نصحته يقول: هذا ليس من الخيلاء! ويستدل بقصة أبي بكر رضي الله عنه ويقول: إن أبا بكر رضي الله عنه كان ثوبه يسترخي، لكن لم يفطن أنه كان يسترخي وما جعله تحت الكعب في الأصل.
مسألة :من صلى وهو مسبل إزاره فالصواب أنها صحيحة مع الإثم، وأما ما جاء في «سنن أبي داود» أنه: «رأى رجلاً مسبلاً فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة»([5])، فهو حديث ضعيف عند أهل العلم، والمسبل إزاره مثل من يصلي في ثوب مغصوب، أو يصلي في ثوب حرير، أو يصلي في أرض مغصوبة، وهذا فيه قولان لأهل العلم:
القول الأول: أن صلاته باطلة؛ لأنه متلبس بمعصية.
القول الثاني: أن صلاته صحيحة مع الإثم فله ثواب الصلاة وعليه إثم الإسبال، فيأثم لكونه مسبلاً، ويثاب لكونه مصليًا، بخلاف من صلى في شيء نهي عنه، مثل من صلى في ثوب نجس فهذا لا تصح صلاته.
لأن الإسبال لا يجوز في الصلاة ولا في خارج الصلاة؛ فلما نهي عنه في الصلاة وفي خارجها دل على صحة الصلاة مع الإثم، لكن الثوب النجس منهي عنه في الصلاة بخصوصها؛ فإذا خرج من الصلاة جاز له لبس الثوب النجس في غير الصلاة.
● [3440] هذا الحديث منقبة للصديق رضي الله عنه حيث إنه يدعى من أبواب الجنة الثمانية كلها، والجنة لها ثمانية أبواب، فكل عمل من أعمال الخير له باب، فالصلاة لها باب، والجهاد له باب، والصدقة لها باب، والصيام له باب.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب يعني: الجنة: يا عبد الله هذا خير»، المراد بالزوج هو الشفع، أي: من أنفق اثنين من شيء واحد لا من شيئين، مثل أن ينفق درهمين أو ثوبين أو تمرتين أو تفاحتين، فالواحد يسمى وترًا والاثنان تسمى زوجًا أو شفعًا، فإذا أنفقت تفاحة يقال: أنفق فردًا وترًا وإذا أنفقت تفاحتين يقال: أنفق زوجًا أو شفعًا، قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[الذاريات: 49] ، أي: صنفين.
قوله: «فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام باب الريان»، فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ فقال: «نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر» فأبو بكر رضي الله عنه سباق إلى الخيرات، يدعى من جميع أبواب الجنة الثمانية، يدعى من باب الصلاة ومن باب الصيام ومن باب الجهاد ومن باب الصدقة، وهذه منقبة للصديق رضي الله عنه.
والمراد من الصيام الفرض فهذا هو الأصل، فمن صام رمضان يدعى من باب الريان، والنافلة تبع.
ولو أن شخصًا أسلم ثم لم يتمكن من الصلاة ولا الصيام، فجاهد وقتل قبل أن يأتي وقت الصلاة، وقبل أن يأتي الصيام، فهذا لا يدعى من باب الصيام، ولا باب الصلاة، بل يدعى من باب الجهاد؛ لأنه ما أدرك رمضان، ولا أدرك الصلاة، فإذا كان يصلي يدعى من باب الصلاة، ويدعى من باب الجهاد.
● [3441] هذا الحديث الطويل فيه قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة البيعة، ومجيء الثلاثة إلى سقيفة بني ساعدة،
وفيه: فضل أبي بكر رضي الله عنه ،وأنه فاق عمر رضي الله عنه وغيره،
وفيه: أن عند الشدائد والنوازل يظهر العلم ويظهر الثبات.
قوله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح» فسر إسماعيل السنح فقال: «تعني بالعالية»، أي: بستان له بالعالية يسمى السنح، وكان عمر رضي الله عنه حول مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وموته وقال: «والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وذلك من شدة الدهشة والأمر الذي أصابه، فلما سمع الناس يتحدثون: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما مات وشهر سيفه وقال: والله ليأتين النبي صلى الله عليه وسلم «فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم»، وغابت عنه الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران: 144] والآية: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[الزمر: 30]، والناس أصابهم ذهول واندهاش وصدمة عظيمة، فوفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة ما بعدها مصيبة، لكن يظهر العلم والثبات من الأخيار، «فجاء أبو بكر» رضي الله عنه وكان بعيدًا في العالية في بستان له، والناس حول المسجد، «فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله» وهذا فيه: دليل على جواز تقبيل الميت كما فعل الصديق رضي الله عنه.
قوله: «بأبي أنت وأمي»، يعني: أفديك بأبي وأمي،
وفيه: تفدية النبي صلى الله عليه وسلم بالآباء والأمهات وأحب الناس؛ فينبغي أن تكون محبته صلى الله عليه وسلم فوق محبة النفس والأب والأم والبنين.
قوله: «والذي نفسي بيده»، أقسم لتأكيد المقام ،«لا يذيقك الله الموتتين أبدًا»، يعني: ما عليك موتان، بل هذه الموتة فقط، وبعدها البعث والجنة. «ثم خرج فقال: أيها الحالف»، يخاطب عمر رضي الله عنه، «على رسلك» أي: تمهل يا عمر، «فلما تكلم أبو بكر جلس عمر» أي: كان عمر رضي الله عنه يتحدث والناس حوله فلما تكلم أبو بكر رضي الله عنه ترك الناس عمر رضي الله عنه وأقبلوا على أبي بكر رضي الله عنه .«فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[الزمر: 30] ، وقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]» ، يعني: تيقنوا وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الناس يطوفون في سكك المدينة يقرءون هذه الآية، وكأنها ما نزلت إلا وقت تلقفوها من في أبي بكر رضي الله عنه.
قوله: «فنشج الناس يبكون» بعدما سمعوا الآية وتيقنوا وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة» اجتمعوا فيها لاختيار خليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الأنصار قد رشحوا سعد بن عبادة رضي الله عنه ليكون خليفة؛ «فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح»، أي: أسرعوا إليهم، وقال بعضهم: أدركوهم قبل أن يتم الأمر. «فذهب عمر يتكلم» ليبين لهم أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، وأن الأنصار ليس فيهم خلافة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «الأئمة من قريش»([6]).
قوله: «وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت كلامًا قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر»، يقول: هيأت نفسي وأعددت كلامًا مركّزًا مرتبًا أريد أن أتكلم به أخشى أن لا يصل إليه أبو بكر رضي الله عنه.
قوله: «ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس»، وجاء على ما في نفس عمر رضي الله عنه وزيادة.
قوله: «نحن الأمراء وأنتم الوزراء»، يعني: أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، والأنصار هم الوزراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأئمة من قريش»([7])، ولا يمكن أن يخضع الناس إلا لقريش، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»([8]).
قوله: «فقال حباب بن المنذر: لا، والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير»، أي: من قريش أمير ومن الأنصار أمير، «فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارًا وأعربهم أحسابًا»، الضمير هم يعود إلى قريش، أي: لا يمكن أن يخضع الناس إلا لقريش، «فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح»، أي: رضيت لكم أحد الرجلين: بايعوا عمر رضي الله عنه بالخلافة، أو بايعوا أبا عبيدة رضي الله عنه.
قوله: «قال عمر: بل نبايعك أنت؛ فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» فاستدل بخيريته وفضله، وسبقه إلى الإسلام، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه أحق بالخلافة «فأخذ عمر بيده فبايعه»، أي: أخذ عمر رضي الله عنه بيد أبي بكر رضي الله عنه فبايعه «وبايعه الناس»، أي: فتتابع الناس وبايعه الأنصار جميعًا، «فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة»؛ لأنه كان متهيئًا للخلافة ومتشوقًا إليها ومرشحًا لها، والآن ضاعت الخلافة منه «فقال عمر: قتله الله»، قالها من شدة غضبه وهو لا يريد حقيقتها، بل جرى ذلك على لسانه من دون قصد مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عقرى حلقى»([9]).
قوله: «شخص بصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: في الرفيق الأعلى»، وفي اللفظ الآخر: «اللهم في الرفيق الأعلى»([10]).والرفيق الأعلى: الملائكة والنبيون والصديقون.
قوله: «فما كانت من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها» قالت عائشة ل: خطب أبو بكر رضي الله عنه الناس وخطب عمر رضي الله عنه الناس، وكل من الخطبتين كان فيها فائدة؛ فعمر رضي الله عنه خطب الناس قبل أن يأتي أبو بكر رضي الله عنه، فخوف الناس وشهر السيف وقال: من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ضربت عنقه؛ فخافوا لأن فيهم نفاقًا، «فردهم الله بذلك» فاستفادوا.
قوله: «ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق عليهم وخرجوا به يتلون: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)» [آل عمران: 144] أي: بيَّن أبو بكر رضي الله عنه الحق، ورد الناس إلى الهدى، وعرفهم الحق الذي عليهم، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، وأن الموت لابد منه، فهو أمر كتبه الله عز وجل على الخليقة وتلا الآيتين.
وبهذا يظهر العلم والثبات من الأخيار، ومن العلماء وأهل الرزانة والعقل، فقد ثبت أبو بكر رضي الله عنه ثبات الجبال الراسية، وصمد وبين الحق ولم يبال، وكان عنده رباطة جأش وقوة، فقبّل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه قد مات، وخطب الناس وبصرهم بالهدى، وأسرع إلى سقيفة بني ساعدة حتى تمت الخلافة، ثم بعد ذلك ثبت في حروب الردة ثبات الجبال الراسيات رضي الله عنه، وظهر بذلك فضله وثباته وقوته وميزته على غيره من الصحابة ي.
● [3442] هذا الحديث عن محمد بن الحنفية وهو: محمد بن علي بن أبي طالب ي، وسمي محمد بن الحنفية؛ لأن أمه من سبايا بني حنيفة، وذلك لما قاتل الصحابة ي مسيلمة الكذاب قتلوا بني حنيفة وسبوا النساء، وكان من ضمن السبايا والدة محمد هذا، تسراها علي رضي الله عنه فولدت له ابنًا فسماه محمدًا، وصار يسمى محمد بن الحنفية تمييزًا له عن إخوته، وإلا فهو محمد بن علي بن أبي طالب ي، واسم أمه خولة بنت جعفر.
قوله: «أي: الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر - وخشيت أن يقول عثمان - قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين» وهذا من تواضع علي رضي الله عنه،
وفيه: تقديم الشيخين على غيرهما، وأن أفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ي.
● [3443] هذه القصة فيها فضل آل أبي بكر رضي الله عنه.
قوله: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء»، أي: بالصحراء، «انقطع عقد لي»، أي: عقد مما تضعه النساء في رقبتها للتجمل كانت تلبسه عائشة رضي الله عنها، وقد يكون العقد من ذهب أو من فضة أو من جذع ظفار، والمرأة تتجمل بالعقد تضعه في عنقها، والخواتم في أصابعها، والأسورة في يديها، وجاء في الحديث الآخر: أنها استعارته من أختها أسماء رضي الله عنها، فانقطع أو سقط؛ والعقد ثمين إذا كان من الذهب أو من الفضة. فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم «فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه»، وفي اللفظ الآخر: أنه أرسل ناسًا من أصحابه في طلبه([11])،
وفيه: اعتناء ولي الأمر برعيته والقائد بجيشه، والإقامة لطلب أموالهم، وعدم إضاعتها؛ ولكن الجيش أقام وليس معهم ماء، فحضرت الصلاة ولم يشرع التيمم بعد؛ فجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه يشكون عائشة ل يقولون: إن عائشة ل تسببت في تأخير الجيش وتأخير النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاء أبو بكر رضي الله عنه يعاتب ابنته - والنبي صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذ عائشة رضي الله عنها قد نام؛ «فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟»، أي: من أجل عقد تحبسين الناس، وتحبسين الجيش؟! وجعل يعاتبها،
وفيه: دليل على أنه لا بأس للأب أن يؤدب ولده الكبير، أو بنته الكبيرة عند الحاجة، أو إذا رأى المصلحة ما لا يترتب على ذلك مفسدة؛ وهذا مأخوذ من أصول الشريعة وقواعدها.
وأبو بكر رضي الله عنه لم يكتف بالعتاب، بل جعل يطعنها في خاصرتها - والخاصرة: ما فوق الأضلاع -قالت عائشة: «فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي» كأنه يؤلمها بعض الشيء.
قوله: «فأنزل الله آية التيمم فتيمموا»، أي: لما اشتد بالناس الحاجة والطلب للماء كان في هذا فرج «فقال أسيد بن الحضير» - وفي اللفظ الآخر: وعباد بن بشر - «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر»، أي: هذه من بركاتكم التي جعلها الله عز وجل فيكم، ففرج الله عز وجل عن المسلمين، وأنزل الله عز وجل آية التيمم تتلى إلى يوم القيامة، أن من فقد الماء يتيمم بالتراب، وهذه نعمة عظيمة بسبب بركة آل أبي بكر رضي الله عنه.
وفي الحديث: أن من فقد الماء والتراب صلى بلا ماء ولا تراب؛ لأن الجماعة الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم يبحثون عن العقد أدركتهم الصلاة وليس عندهم ماء، ولم تشرع آية التيمم فصلوا بغير ماء ولا تراب، وهذا يسمى عند العلماء فاقد الطهورين، مثل المصلوب على خشبة، والمحبوس في مكان أملس ليس فيه ماء ولا تراب فيصلي على حاله بالنية؛ لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16] ولا يعيد على الصحيح، وقال بعض العلماء: يعيد.
والصواب أن التيمم رافع للحدث عند المحققين فيجوز أن يصلي بالتيمم الظهر والعصر والمغرب والعشاء ما لم يحدث أو يجد الماء؛ لأن الله عز وجل سماه صعيدًا طيبًا، قال: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء: 43] وسماه الرسول طهورًا فقال: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»([12]). وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية /([13])، والعلامة ابن القيم /([14])، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة([15]) /، وأحمد /([16]) في رواية.
والمشهور من مذهب الجمهور أن التيمم مبيح لا رافع؛ يعني: أنه يبيح الصلاة فقط، فلا يُصلى به إلا صلاة واحدة، ولا يتيمم إلا إذا دخل الوقت، ويصلي ما دام الوقت باقيًا فروضًا أو نوافل، فإذا جاء الوقت الثاني يعيد التيمم.
وفيه: دليل على جواز قوله: هذه من بركتك يا فلان، إذا كان الرجل مباركًا؛ يعني: من بركتك التي جعلها الله عز وجل فيك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حي على الطهور المبارك والبركة من الله»([17]). وكما قال عباد بن بشر وأسيد بن حضير: «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر».
وفيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ حيث إنه أرسل رجالًا يبحثون عن العقد ولم يجدوه، فلما بعثوا البعير وجدوا العقد تحت البعير، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب لأقام البعير ولم يتكلف ويرسل جماعة يبحثون عن العقد؛ ففيه: الرد على من يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب،أمثال الغلاة الذين يعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم من البريلوية في الهند، وفي غيرها -نعوذ بالله عز وجل- فهذا كفر وضلال.
● [3444] هذا الحديث فيه النهي عن سب الصحابة ي، وهذا الخطاب لمن تأخر في الصحبة فلم يسلم إلا بعد الحديبية كخالد بن الوليد رضي الله عنه، والمشهور أن سبب الحديث أنه حصل سوء تفاهم بين خالد بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف م، وكان عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، وأما خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه تأخر إسلامه فلم يسلم إلا بعد الحديبية وقبل فتح مكة، فالصحابة ي ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: الذين أسلموا قبل الحديبية؛ فهؤلاء الذين تقدم إسلامهم.
والطبقة الثانية: هم الذين أسلموا بعد الحديبية، كخالد بن الوليد رضي الله عنه.
والطبقة الثالثة: الذين أسلموا بعد الفتح، ويسمون مسلمة الفتح، مثل أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه وابنيه معاوية ويزيد م، وجماعة كثيرين يسمون الطلقاء، حيث قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»([18])
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد رضي الله عنه لما سب عبدالرحمن رضي الله عنه: «لا تسبوا أصحابي» - فهذا خطاب للصحابة المتأخرين، ونهي لهم أن يسبوا الصحابة المتقدمين - «فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»، يعني: لو أن خالدًا رضي الله عنه أنفق مثل أحد ذهبًا، وأنفق عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه مدًّا - والمد: ملء الكف - أو نصف مد لسبق عبدالرحمن خالد بن الوليد م، فهذا تفاوت عظيم بين الصحابة أنفسهم، فإذا كان هذا التفاوت بين خالد رضي الله عنه لأنه تأخر إسلامه بعد صلح الحديبية، وبين عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو من السابقين، فكيف بالتفاوت بين الصحابة ومن بعدهم ؟! لا شك أن التفاوت أعظم وأعظم.
قال الله تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) [الحديد: 10] في الآية إشارة إلى أن الإنفاق والقتال كان قبل الفتح عظيمًا لشدة الحاجة إليه.
والمراد بالفتح صلح الحديبية لقوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح: 1] ونزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية؛ فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله أَوَفتحٌ هو؟ قال: «نعم»([19]) فسماه الله عز وجل فتحًا، وليس المراد به فتح مكة.
وفي الحديث: أن سب الصحابة ي إذا كان تكفيرًا لهم أو تفسيقًا فهذا ردة؛ لأنه تكذيب لله عز وجل لأن الله عز وجل زكاهم وعدلهم، أما إذا كان سبًّا بدون تكفير فهذا فيه تفصيل:
إن سبهم لدينهم كفر.
وإن سبهم للغيظ والغضب فسق.
وسب الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عليهم كفر والعياذ بالله عز وجل.
([1]) انظر «الإنصاف» (7/305).
([2]) أحمد (2/382)، والبخاري (2324)، ومسلم (2388).
([3]) أحمد (2/461)، والبخاري (5787).
([4]) أحمد (2/66)، والبخاري (3485).
([5]) أبو داود (638).
([6]) أحمد (3/129)، والنسائي في «الكبرى» (3/467).
([7]) أحمد (3/129)، والنسائي في «الكبرى» (3/467).
([8]) أحمد (2/29)، والبخاري (3501)، ومسلم (1820).
([9]) أحمد (6/224)، والبخاري (1561)، ومسلم (1211).
([10]) أحمد (6/200)، والبخاري (4437)، ومسلم (2444).
([11]) أحمد (6/57)، والبخاري (3773)، ومسلم (367).
([12]) أحمد (3/304)، والبخاري (335)، ومسلم (523).
([13]) انظر «مجموع الفتاوى» (21/352- 354).
([14]) انظر «زاد المعاد» (1/200-201).
([15]) انظر «تبيين الحقائق» (1/42).
([16]) انظر «الإنصاف» (1/263).
([17]) أحمد (1/460)، والبخاري (3579).
([18]) ابن هشام في «السيرة» (5/73)، والطبري في «تاريخه» (2/161).
([19]) أحمد (3/485)، والبخاري (3182)، ومسلم (1785).