شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من صحيح البخاري (62-4)

00:00
00:00
تحميل
86

المتن

[7/54] باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان
وفيه: مقتل عمر بن الخطاب

 ●         [3471 ] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافا أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، قال: قالا: لا، فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبدالله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدم فكبر، وربما قرأ بسورة يوسف -أو النحل أو نحو ذلك- في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني -أو أكلني- الكلب -حين طعنه- فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً وشمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبدالرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فصلى بهم عبدالرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء قال: غلام المغيرة، قال: آلصَّنَعُ؟ قال: نعم، قال: قاتله الله! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل مِيتَتِي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج بالمدينة - وكان العباس أكثرهم رقيقا - فقال: إن شئت فعلت - أي: إن شئت قتلنا - فقال: كذبت بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم، فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشرب فخرج من جُرحِه، فعرفوا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يُثنُون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وَلِيتَ فعدلت، ثم شهادةٌ، قال: وددت أن ذلك كفافًا لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبدالله بن عمر، انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وَفَّى له مال آل عمر فأدِّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أميرَ المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبدالله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قُبِضتُ فاحملوني، ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أَحَدٌ أحَقَّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر - أو الرهط - الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمَّى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبدالرحمن، وقال: يشهدكم عبدالله بن عمر، وليس له من الأمر شيء - كهيئة التعزية له - فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر؛ فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)[الحشر: 9] ، أن يقبل من محسنهم وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراً؛ فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو وأن لا يُؤخَذَ منهم إلا فضلُهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً؛ فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويُرَدَّ على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يُوفَى لهم بعهدهم وأن يُقاتَل من ورائهم ولا يُكَلَّفوا إلا طاقتَهم، فلما قُبض خرجنا به فانطلقنا نمشي، فسلم عبدالله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قال: أدخلوه؛ فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبدالرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، قال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبدالرحمن، فقال عبدالرحمن: أيُّكما تبرَّأ من هذا الأمر فنجعله إليه واللهُ عليه والإسلامُ لينظرن أفضلهم في نفسه؛ فأَسكَت الشيخان، فقال عبدالرحمن: أفتجعلونه إليَّ واللهُ عليَّ أن لا آلو عن أفضلكم، قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقِدمُ في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، وبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه.

الشرح

قوله: «باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان
وفيه: مقتل عمر بن الخطاب» ذكر الحافظ ابن حجر أنها في بعض الروايات للبخاري بدون قوله: «وفيه: مقتل عمر ابن الخطاب»، وأن الزيادة من رواية السرخسي، والمراد بالتبويب: بيان قصة بيعة عثمان رضي الله عنه بعد مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

 ●         [3471] هذه القصة عظيمة وفيها فوائد وأحكام كثيرة، ففيها قصة مقتل عمر رضي الله عنه، وقصة البيعة، ووصية عمر رضي الله عنه لمن استخلف بعده، مع أنه مطعون ست طعنات وهو في مرض الموت، ويقول هذه الوصية العظيمة!

وهذه القصة رواها عمرو بن ميمون الأودي، وهو من التابعين، ورواها أبو إسحاق السبيعي وهي عند ابن أبي شيبة، والحارث بن سعد، وفي بعضها زيادات، يقول عمرو بن ميمون: «رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة» ،أي: قبل أن يطعن بأيام «وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافا أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟» المراد بالأرض المشار إليها: أرض السواد، وهي أرض العراق؛ لأنها فتحت وكان عمر بعثهما يضربان عليها الخراج، ويضربان على أهلها الجزية، قال ذلك أبو عبيدة في «كتاب الأموال».

فعمر رضي الله عنه يقول: انظروا هل تقديركم تقدير مضبوط أم حملتم الأرض فجعلتم فيها خراجًا أكثر مما تنبته من الحبوب، «قالا: حملناها أمرًا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق» يعني: لا تظلموا الناس فتحملوا الأرض خراجًا وهي تخرج أقل مما قدرتما، وهذا من عنايته رضي الله عنه ونصحه «قالا: لا،فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا» وهذا مثل قوله في حديث آخر: لولا آخر الناس لما تركت أرضًا إلا قسمتها بين أهلها، يعني: لولا الناس الذين سيأتون بعد ذلك، وهم يحتاجون إلى خراج الأرض الموقوفة لقسمت الأرض بين الفاتحين وما وقفتها، لكن من يأتي من المسلمين فيما بعد يحتاجون إلى الريع الذي تخرجه هذه الأرض.

قوله: «لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق»، الأرامل: جمع أرملة وهي المرأة التي ليس لها أحد ينفق عليها «لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا»، يعني: يضرب الخراج على الأراضي ويجعلها وقفًا،، ويكون ما يخرج منها من الحبوب والثمار يوزع على الفقراء، فلا تحتاج الأرامل إلى أحد.

يقول عمرو بن ميمون: «فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب »، قال هذا الكلام قبل أن يصاب بأربعة أيام، ثم ذكر قصة قتله قال عمرو بن ميمون: «إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبدالله بن عباس غداة أصيب »، يعني: قائم في الصف، وكان هذا في صلاة الفجر، «وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهن خللًا تقدم فكبر».

وجاء في رواية أخرى: أنه وكل رجلا يسوي الصفوف، فلا يكبر حتى يأتي هذا الرجل ويقول: الصفوف استوت «وربما قرأ بسورة يوسف أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس»، أي: يطول في صلاة الفجر فيقرأ سورة النحل في الركعة الأولى - وسورة النحل ستة أثمان، جزء إلا ربع - أو سورة يوسف - وهي خمسة أثمان - في الركعة الأولى حتى يتلاحق الناس، رضي الله عنه، والآن كثير من الناس يقرأ آيتين أو ثلاث آيات أو أربع آيات ويترك السنة فإذا قلت له: افعل يا أخي، قال: مشقة على الناس، إذا قرأ عشرين آية قال: هذه مشقة على الناس؟! افعل السنة يا أخي، الحمد لله المريض معه عذر يجلس، عمر رضي الله عنه يقرأ سورة يوسف كاملة في ركعة واحدة، ويقرأ سورة النحل حتى يتلاحق الناس.

قوله: «فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني - أو أكلني - الكلب» وهو أبو لؤلؤة المجوسي حين طعنه تحت السرة ست طعنات بسكين مسمومة «فطار العلج» العلج: هو الكافر من العجم، «بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً وشمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة».

يعني: أن هذا الخبيث أبا لؤلؤة لما كبر عمر لصلاة الفجر طعنه تحت سرته ست طعنات، وكان قد توعده قبل ذلك؛ لأنه كان غلاماً – أي: مملوكاً- للمغيرة بن شعبة، وجاء إلى عمر فقال: إن المغيرة بن شعبة يشدد عليّ ويطلب مني كثيرا، قال: ماذا بيدك من الصناعات، قال: بيدي صناعة كذا وكذا وكذا، وهو يطلب مني كل يوم كذا، فقال عمر: هذا قليل، ما دام بيدك هذه الصناعات، فتوعده فلما كبر للصلاة طعنه تحت السرة ست طعنات، وكان للسكين حدان، حد من اليمين وحد من اليسار، فصار يطعن من جاءه من هنا ومن جاءه من هنا، «حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا»، والبرنس كساء يشبه العباءة، أخذه وطرحه عليه؛ حتى يُعَمِّي عليه «فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه»، أي: لما ظن أنه سيؤخذ قتل نفسه، فقتل عمر ثم طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة، فلما وضع عليه البرنس وظن أنه مأخوذ ما فيه حيلة قتل نفسه -والعياذ بالله- «وتناول عمر يد عبدالرحمن بن عوف فقدمه»، يعني: تأخر عمر، وتقدم عبد الرحمن بن عوف يكمل بالناس الصلاة، وفي هذا دليل على أن الإمام إذا حصل له عارض يقدم من خلفه ليكمل بالناس الصلاة، وعند الحنابلة إذا سبقه الحدث فلا يستخلف من يتم بهم الصلاة، وإنما يبدأ الصلاة من جديد، أما إذا لم يسبقه الحدث فإنه يتمم بهم([1]). وأما الأئمة الثلاثة فقالوا: إن الإمام يقدم من يتم بالناس سواء سبقه الحدث، أم لم يسبقه الحدث وهو الصحيح؛ لما ثبت في «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم»، يعني: أئمة لكم، «فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم»([2]).

قوله: «فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله»، أي: الصفوف الأولى شاهدوا القضية فعرفوا، لكن الصفوف المتأخرة لا يدرون الذي حدث، إلا أنهم «فقدوا صوت عمر»، فصار يكبر عبد الرحمن بن عوف فجعلوا «يقولون: سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبدالرحمن بن عوف صلاة خفيفة»، يعني: ما طول مثل عمر. «فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني» أي: من طعنني؛ فإنه لم يمت بعد ولكن هذا الطعن قاتل، «فجال ساعة» يعني: وقتا من الزمن «ثم جاء وقال: غلام المغيرة» أي: غلام المغيرة هو الذي قتله؛ «قال آلصنع»، يعني: الذي يجيد صناعات متعددة «قال: نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفا»، يعني: ما قصرت في حقه، «الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام» - فهذا الغلام كافر- «قد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج بالمدينة»، عمر يخاطب ابن عباس ويقول: أنت يا ابن عباس وأبوك العباس تحبان أن يكثر العلوج بالمدينة، وهذه من آثارهم «وكان العباس أكثرهم رقيقا»، أي: عنده أرقاء كثيرون.

قوله: «فقال: إن شئت فعلت»، أي: يقول ابن عباس: «إن شئت قتلنا، فقال: كذبت»، أي: أخطأت، «بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم»، أي: بعدما تكلموا وتعلموا العربية، وصاروا مسلمين فصلوا وحجوا، لا يمكن قتلهم «فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ»، أي: أن الناس حصل لهم تكدر وتألم؛ لأنه لم تصب الناس مصيبة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موت أبي بكر أعظم من مصيبة قتل عمر، والناس اختلفوا في عمر، «فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه»، أي: اختلفوا هل يعيش عمر أم لا يعيش مع هذه الطعنات؟ فبعضهم قال: يمكن أن يعيش وبعضهم قال: لا يعيش، فاختبروا ذلك «فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشرب فخرج من جرحه فعرفوا أنه ميت»، أي: شرب النبيذ فخرج من الجرح، وسقوه اللبن فخرج من الجرح، «فعرفوا أنه ميت» ما فيه حيلة «فدخلنا عليه» وهو مطعون تحت سرته ست طعنات، «وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب» يثني عليه «فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت ثم شهادة».

فهذا الشاب يثني على عمر ويقول: أبشر أنت صحبت الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقدم إسلامك، وتوليت الخلافة فعدلت، ثم الشهادة فلم يغتر عمر بذلك بل «قال: وددت أن ذلك كفافاً لا علي ولا لي» أي: لا لي شيء ولا علي شيء، أود النجاة فقط «فلما أدبر»، يعني: الغلام «إذا إزاره يمس الأرض»، أي: كان ثوبه يجر على الأرض، «قال: ردوا علي الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك»، أي: ارفع ثوبك فوق الكعب، « فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك»؛ فهو رضي الله عنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في مرض الموت، ومطعون ست طعنات، «قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك»، تستفيد فائدتين : الفائدة الأولى: «أبقى لثوبك»؛ لأنه إذا كان يمس الأرض يتحصص وينتهي، والفائدة الثانية «وأتقى لربك»؛ لأنه يكون بعيدًا عن الخيلاء، وهو الكبر، وفي رواية «أنقى لثوبك»، يعني: أنقى عن النجاسات.

قوله: «يا عبدالله بن عمر»، جعل يخاطب ابنه عبدالله، «انظر ما علي من الدين»، أي: اهتم رضي الله عنه بما عليه من الدين، «فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه» أمير المؤمنين الذي فتح الشام وفتح العراق ومصر الأمصار، وكسر كنوز كسرى - عليه من الدين ستة وثمانون ألفا!! «قال: إن وفى له مال آل عمر فأدِّه من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب»، وهي قبيلته، «فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم»، أي: أول من يسد الدين آل عمر، وإلا فيسد الدين بنو عدي بن كعب وإلا فقريش، أما القبائل الأخرى فلا يُتجاوز إليها؛ فهو لا يريد ذلة في سداد دينه، «فأد عني هذا المال»، ثم قال: «انطلق إلى عائشة أم المؤمنين»، اهتم الآن أين يدفن؟ فهو يريد أن يدفن مع صاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، « فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا»، أي: انتهت الإمارة فلا تقل أمير المؤمنين، قل: «يقرأ عليك عمر السلام»، ثم قال: «وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه»، فجاء عبد الله بن عمر «فسلم واستأذن ثم دخل عليها» - أي: على عائشة ل- «فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي»، أي: بقي مكان قبر في حجرتي، كنت أعددته لنفسي، والآن سأوثر عمر على نفسي. «فلما أقبل»، أي: جاء عبد الله من عند عائشة «قيل: هذا عبدالله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني» أي: اهتم بهذا الأمر، «فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك» يا عبد الله؟ «قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله ما كان شيء أهم إلي من ذلك»؛ ثم قال عمر :«فإذا أنا قُبِضتُ فاحملوني»، أي: إذا أنا مت فاحملوني، ثم سلم مرة ثانية، واستأذن مرة ثانية لعائشة، فقد تكون أذنت حياء، وبعد الموت فقد لا تأذن، «ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني»، يعني: في الحجرة، «وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين»، أي: في البقيع «وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت» أي: دخلت «عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلاً لهم»، يعني: لما جاء الرجال دخلت داخل البيت «فسمعنا بكاءها من الداخل»، أي: من شدة الوجد، وهذا شيء غلبها وما تستطيعه، «فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف» أي: من يكون خليفة بعدك؟ «قال: ما أحد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر - أو الرهط - الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبدالرحمن وقال: يشهدكم عبدالله بن عمر، وليس له من الأمر شيء - كهيئة التعزية له»، أي: قال: ابني عبدالله بن عمر يحضر مع الستة يشاورهم ويشاورونه، لكن بشرط أن لا يتولى الإمارة، وجاء في غير الصحيح أنه قال: «يكفي رجل واحد من بني خطاب يقف بين يدي الله».

وقوله: «كهيئة التعزية له»، أي: من باب جبر الخاطر؛ لأن أباه توفي، ثم قال: «فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر؛ فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة» يعني: لا يقدح في سعد بن أبي وقاص أني عزلته عن إمارة الكوفة، فإن أصابته الإمارة فهو أهل لها، وإن لم تصبه فاستعينوا برأيه ومشورته، «فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة»، ولكن عزلته درءاً للفتنة؛ لأن العراق أهل فتنة وأهل شغب، وجاءوا يشتكون سعدًا حتى إنهم قالوا: إنه ما يحسن الصلاة، ولا يحسن الكلام، ولا يعدل في القضية، ولا يعطي الجزل، فلما رأى عمر الشغب عزله درءا للفتنة، لا لأنه عاجز، ولا لأنه خائن.

ثم أوصى الخليفة بعده بالمهاجرين وأوصاه بالأنصار، ووصاه بالأعراب، ووصاه بأهل الذمة، فقال: «أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين »، المهاجرون الأولون الذين هاجروا وتركوا أهلهم وديارهم في مكة «أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم»؛ ثم قال: «وأوصيه بالأنصار خيراً، (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)[الحشر: 9] أن يقبل من محسنهم، وأن يُعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراً»، أي: أهل الأمصار الذين على حدود الدولة الإسلامية أوصيه بهم خيراً، «فإنهم ردء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو» فهم «ردء الإسلام»؛ لأنهم على الثغور، «وجباة المال»؛ لأن الأموال تجبى من عندهم والخراج، «وغيظ العدو»، فهم بذلك يغيظون العدو، «وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب»، أي: أهل البادية «خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم» أي: لا يؤخذ من نفيس أموالهم «ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله» وأهل الذمة هم أهل الكتاب الذين يدفعون الجزية تحت الدولة الإسلامية «أن يُوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم» وهذه وصية عظيمة.

قوله: «فلما قُبض خرجنا به فانطلقنا نمشي، فسلم عبدالله بن عمر»، يعني: على عائشة، «قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قال: أدخلوه؛ فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط»، أي: الرهط الذين جعل عمر الشورى بينهم ليختاروا خليفة «فقال عبد الرحمن» - هو ابن عوف - «اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم»، فهو يريد أن يضيق دائرة الخلافة، فقال: نحن ستة يخرج ثلاثة ويبقى ثلاثة. «قال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي»، أي: أن الزبير رضي الله عنه قال: أنا لا أبغي ولاريدالخلافة، جعلت أمري إلى علي؛ «فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان»، أي: ما أريد الخلافة. «وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبدالرحمن» فصار بدل الستة ثلاثة: عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي، فأراد عبد الرحمن أن يضيق الدائرة مرة أخرى فقال لعلي وعثمان: «أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه»، أي: نحن الثلاثة يخرج من واحد، والذي يخرج نجعله يختار واحدا منا، «فأسكت الشيخان» سكت الشيخان علي وعثمان «فقال عبدالرحمن: أفتجعلونه إلي؟»، أي: هل تجعلون الاختيار إلي وأنا أخرج من الخلافة؟ «والله علي أن لا آلو عن أفضلكم»، أي: أختاره، «قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما»، وهو علي، «فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، وبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه»، ثم بايعه المهاجرون والأنصار تحت منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى: أن عبد الرحمن رضي الله عنه جعل يشاور الناس ثلاث ليال ما ذاق غمضاً من النوم، ثم جاء في آخر ليلة وشاور علياً من أول الليل إلى منتصف الليل حتى ذهب منتصف الليل، فخرج من عنده وعلي طمع أن يوليه، ثم أتى عثمان وشاوره من نصف الليل إلى الفجر، حتى فرق بينهما المؤذن لصلاة الصبح، ثم لما صلى الفجر جاء عبد الرحمن بن عوف فتشهد وحمد الله وقال: يا علي إني رأيت وجوه الناس كلهم إلى عثمان، فلا تجعل لنفسك عليك سبيلًا، ثم بايع عثمان، فبايعه علي، وبايعه بقية الستة، ثم بايعه المهاجرون والأنصار وتمت له البيعة.

المتن

[8/54] مناقب علي بن أبي طالب أبي الحسن القرشي الهاشمي رضي الله عنه

وقال عمر: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «أنت مني وأنا منك».

 ●         [3472] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا عبدالعزيز، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه»، قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يَرْجُو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: «فأَرْسِلُوا إليه»، فأتي به، فلما جاء بصق في عينيه فدعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لَأَن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حُمْرُ النَّعَم».

 ●         [3473] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة قال: كان علي قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان به رمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج علي، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غداً رجلاً يحبه الله ورسوله - أو قال: يحب الله ورسوله - يفتح الله عليه»، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففتح الله عليه.

 ●         [3474] حدثنا عبدالله بن مسلمة، قال: حدثنا عبدالعزيز بن أبي حازم، عن أبيه، أن رجلاً جاء إلى سهل بن سعد فقال: هذا فلان - لأمير المدينة - يدعو علياً عند المنبر، قال: فيقول ماذا؟ قال: يقول له: أبو تراب، فضحك وقال: والله ما سماه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان له اسم أحَبَّ إليه منه، فاستطعمت الحديث سهلاً، فقلت: يا أبا عباس، كيف؟ قال: دخل علي على فاطمة، ثم خرج فاضطجع في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين ابن عمك؟»، قالت: في المسجد، فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح عن ظهره فيقول: «اجلس يا أبا تراب» - مرتين.

 ●         [3475] حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا حسين، عن زائدة، عن أبي حَصِين، عن سعد بن عُبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله، قال: لعل ذاك يسوءك؟ قال: نعم؛ قال: فأرغم الله بأنفك! ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله، قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لعل ذاك يسوءك؟ قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك! انطلق فاجهد علي جُهْدَك.

 ●         [3476] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت ابن أبي ليلى، قال: حدثنا علي، أن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحا، فأَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم فقال: «على مكانكما»، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: «ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما تُكَبِّرا أربعًا وثلاثين، وتُسَبِّحا ثلاثاً وثلاثين، وتَحْمَدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم».

 ●         [3477] حدثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عَبيدة، عن علي قال: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الاختلاف حتى تكون للناس جماعة أو أموتَ كما مات أصحابي.

فكان ابن سيرين يَرى أن عامة ما يُروى عن علي الكذبُ.

 ●         [3478] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن سعد، قال: سمعت إبراهيم بن سعد، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى».

الشرح

هذا الباب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي أبي الحسن، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر المؤلف قبل ذلك مناقب الصديق، ثم مناقب عمر، ثم مناقب عثمان، ثم ربَّع بمناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وهؤلاء الأربعة هم أفضل الناس بعد الأنبياء، وترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة، وهذا إجماع من أهل السنة خلافًا لأهل البدع من الروافض وغيرهم، ثم بعد ذلك العشرة المبشرون بالجنة، ولهذا أتى بهم المؤلف بعد علي بن أبي طالب، والمناقب هي الفضائل والمحاسن.

قوله: «وقال عمر توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض»أي: راضعن علي رضي الله عنه.

قوله: «وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني وأنا منك» هذا أتى به المؤلف مقطوعًا، وقد وصله من طريق آخر، وهو طريق البراء بن عازب في قصة بنت حمزة([3])، لما اختصم فيها زيد وعلي وجعفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «أنت مني وأنا منك».

 ●         [3472] ذكر المؤلف قصة إعطاء الراية لعلي رضي الله عنه، وفتح بعض حصون خيبر، وذكره من طريقين: من طريق سهل، ومن طريق سلمة.

قوله: «لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه» وهذا من علامات النبوة حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله سيفتح على يديه، وهذا إنما قاله بوحي من الله عز وجل، وهو دليل على أنه رسول الله حقًّا. «فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟» أي: يخوضون ويقولون: من الذي يعطى هذه الراية؟ لمن تكون؟ وكلهم يرجوها .«فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو» أي: يرجون أن يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم الراية لا حبًّا في الإمارة، بل رغبة في الوصف «يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله».

وإن كان كل الصحابة رضي الله عنهم يشتركون مع علي رضي الله عنه في مطلق هذه الصفة لكن المراد كمال المحبة، فكون النبي صلى الله عليه وسلم ينص على شخص بعينه بأن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، هذا هو الذي جعل الناس يتطلعون إلى الإمارة؛ رجاء أن يعطوها حتى يتحقق فيهم هذا الوصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين علي بن أبي طالب؟»، وهو ليس في المكان، وهذا فيه إثبات القدر، وأن من قدر له شيء فسيأتيه؛ فهؤلاء الذين يتطاولون يريدون أن يعطَوْها لم يعطَوْها، وسأل عن شخص غائب فأعطاها إياه؛ لأن الله قدر أنه الذي يعطاها؛ ففيه: الإيمان بالقدر، وأن من قدر له شيء فسيحصل له، «فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله» وفي رواية أبي سلمة: فجيء به أرمد يقاد، وفي رواية أخرى: فجيء به أرمد يقاد أعمى من شدة الرمد الذي في عينيه.

قوله: «قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فلما جاء بصق في عينيه، فدعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع»، أي: فأبراه الله في الحال. وهذا فيه: دليل على أن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون،
وفيه: دليل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث تفل في عينيه فبرأ في الحال ولم يحتج إلى علاج.

قوله: «فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام» وكانوا قد بلغتهم الدعوة،
وفيه: دليل على أنه من بلغته الدعوة يستحب أن يدعى مرة أخرى.

فمن لم تبلغهم الدعوة يجب أن يبلَّغوا، ولا يجوز قتالهم حتى يبلَّغوا الدعوة، لكن من بلغتهم الدعوة واستمروا على كفرهم فالإمام مخير بين أن يدعوهم مرة أخرى - وهذا هو الأفضل كما في هذا الحديث - وبين أن لا يدعوهم ويغير عليهم، كما أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، واصطفى لنفسه جويرية بنت الحارث.

وفي قوله: «ثم ادعهم إلى الإسلام»، بيان أن قصده صلى الله عليه وسلم أولاً وآخراً هو دخولهم في الإسلام، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وأنه لا حاجة به إلى دمائهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم، فالمقصود دعوتهم إلى الإسلام، فإن قبلوا فالحمد لله وإن لم يقبلوا قوتلوا.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حمر النعم» وهذا فيه ترغيب في هداية الناس، وفضل من اهتدى على يديه رجل، و«حمر النعم»: هي الإبل الحمر، وحمر -بإسكان الميم- جمع أحمر، وبعض الناس يقرؤها: حُمُر - بضمتين - وهو خطأ؛ لأن حُمُر جمع حمار، والإبل الحمر هي أنفس أموال العرب، وهذا مثال والمعنى: خير لك من الدنيا وما فيها، وليس المقصود أن ما زاد على حمر النعم يكون أفضل ممن اهتدى على يديه رجل؛ فالدنيا كلها لا تساوي شيئا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»([4]).

والمراد هنا هداية الناس من الكفر إلى الإسلام، وإذا هدى الله على يديك العاصي فلك مثل أجره، فمن يشرب الخمر، أو يشرب الدخان، أو يسبل إزاره، أو يتعامل بالربا، أو يأكل الرشوة، أو يحلق اللحية، ثم نصحته فتاب فلك مثل أجره، وكذلك أيضا لو أرشدت شخصاً إلى عمل خيري، أو أرشدته إلى صلاة الضحى، أو أرشدته إلى صوم يوم الإثنين والخميس، أو ثلاثة أيام من كل شهر، فاستفاد من نصيحتك فلك مثل أجره.

 ●         [3473] في هذه الرواية قال: «كان علي قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان به رمد» هذا وهم من سلمة؛ لأن في رواية سهل بن سعد أن عليًّا كان موجوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه خرج معه وهو أرمد ولم يتخلف، فظن سلمة أنه تخلف ثم لحق به، وكان عمر علي رضي الله عنه إذ ذاك في خيبر سبعاً وعشرين عاماً حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية؛ لأن عمره حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كان واحداً وعشرين عاماً؛ لأنه ولد قبل البعثة بثماني سنين.

قوله: «أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدا رجلا يحبه الله ورسوله - أو قال: يحب الله ورسوله - يفتح الله عليه، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الله عليه» وهذه منقبة عظيمة لعلي رضي الله عنه.

 ●         [3474] هذا الحديث فيه منقبة لعلي رضي الله عنه؛ إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليه وهو في المسجد وسأل عنه، وجاء في لفظ آخر: أنه غاضب فاطمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وسأل عنه فاطمة فقالت: غاضبني وذهب إلى المسجد، فأتى إليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده نائما وقد علق التراب في ظهره، فجعل النبي يمسح التراب عنه ويقول: «قم أبا تراب، قم أبا تراب»([5])، فهذه كنية لعلي، فله كنيتان: أبو الحسن وأبو تراب، فكان يحب هذه الكنية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كناه بها؛ ولهذا قال سهل: «والله ما سماه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان له اسم أحب إليه منه».


وفي الحديث: أنه جاء رجل إلى سهل بن سعد يقول: «هذا فلان - لأمير المدينة - يدعو علياً عند المنبر، قال: فيقول ماذا؟ قال: يقول له: أبو تراب، فضحك وقال: «والله ما سماه إلا النبي صلى الله عليه وسلم»، وذكر القصة، قال: «فاستطعمت الحديث سهلا»، يعني: طلبت منه أن يبين لي الحديث ويزيدني منه «فقلت: يا أبا عباس» - كنية سهل -«كيف؟ قال: دخل علي على فاطمة، ثم خرج فاضطجع في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد، فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح عن ظهره فيقول: اجلس يا أبا تراب مرتين» ولا مانع أن يكون له كنيتان: أبو الحسن، وأبو تراب، وبعضهم قال: له ثلاث كنى.

 ●         [3475 ] قوله: «جاء رجل» من الخوارج «إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله، قال: لعل ذاك يسوءك قال: نعم؛ قال: فأرغم الله بأنفك، ثم سأله عن علي فذكر محاسن عمله، قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لعل ذاك يسوءك؟ قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد علي جهدك».

يعني: ابلغ علي غايتك في حقي، فإن الذي قلته لك حق، وإن كان يسوءك.

قوله: «فأرغم الله بأنفك» يعني: جعل أنفك يلصق بالتراب إهانة لك، وهذا الرجل من الخوارج يسوءه محاسن علي، ويسوءه محاسن عثمان؛ ولهذا دعا عليه ابن عمر.

والشاهد من هذا أن فيه منقبة لعلي، وأن ابن عمر م دعا على هذا الرجل الذي كره علياً وعثمان.

 ●         [3476] هذا الحديث فيه «أن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحا»، وهي التي يُطحن بها الحبوب، فكانت ل تدير الرحا بيدها وطحن المد يحتاج إلى وقت طويل؛ فحصل عليها مشقة وصار في يدها المخض، فسمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه «سبي» -والسبي: ما سبي من الغنيمة من قتال الكفار، حينما يؤخذ ذراريهم ونساؤهم فيكونون عبيداً وأرقاء للمسلمين- فجاءت إليه تريد خادمًا، يعني: امرأة من السبي تريحها وتساعدها في الطحن بالرحا، فلم تجد النبي صلى الله عليه وسلم «فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة»؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء وقد أخذ فاطمة وعلي مضاجعهما.

قوله: «فذهبت لأقوم فقال: على مكانكما، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري» فيه: عدم تكلف أهل البيت للداخل عليهم، وإن كان كبيراً، فلما جاء «قال: ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني؟» أي: من الخادم «إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعًا وثلاثين، وتسبحا ثلاثًا وثلاثين، وتحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم» وهذا ذكر مشروع عند النوم، وهو أحد أنواع الذكر الذي يقال بعد الصلوات الخمس.

فبعد الصلوات الخمس جاء أنواع من الذكر منها: التسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، والتكبير ثلاثًا وثلاثين، ثم يختمها المائة بقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ومنها: مثل ما في هذا الحديث التكبير أربعاً وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، والتسبيح ثلاثًا وثلاثين فهذه مائة، ومنها: التسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، والتكبير ثلاثًا وثلاثين، وليس فيها تمام المائة، كما علم النبي صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين، ومنها: التسبيح خمساً وعشرين، والتحميد خمساً وعشرين، والتهليل خمساً وعشرين، والتكبير خمساً وعشرين، فهذه مائة، وكل هذا وارد.

وهذا الذكر مشروع عند النوم في كل ليلة، وهذا الذكر فيه معونة على العمل مع ما فيه من الفضل، وقد ورد عن فاطمة ل أنها قالت: فما أحسست بتعب بعد ذلك، وجاء عن علي قال: ما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له قائل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين([6])، وصفين حرب ضروس بين أهل الشام وأهل العراق.

وفي رواية أخرى - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: «والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تُطوَى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم»([7]). فباع السبي وانفق على أهل الصفة، ولم يعط ابنته خادما،، وهذا فيه أن الحاكم ينبغي له أن يقدم مصالح الأمة، والعدل بين الرعية وعدم الميل إلى الأقربين، وجاء في رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وسع الله عليه بعد ذلك وجاءه سبي أعطى لفاطمة خادمة.

والواو في قوله: «وتسبحا ثلاثاً وثلاثين...» لا تقتضي الترتيب بين التسبيح والتحميد والتكبير، فإذا قدم أو أخر فلا حرج.

والمقصود من قوله: «أخذتما مضاجعكما» عند نوم الليل؛ لأنه هو النوم الطويل المعروف، وإذا نام في النهار وأتى ببعضها فلا حرج، لكن الغالب أن نوم النهار يكون قليلاً.

 ●         [3477] هذا الأثر فيه كراهة الاختلاف، وأنه من أسباب الفرقة؛ ولهذا قال: «اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الاختلاف»، وهذا قاله علي رضي الله عنه لما أراد بيع أم الولد فقيل له: إن عمر كان لا يرى بيعها فرجع، وقال لعبيدة هذه المقالة: «اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الاختلاف حتى تكون للناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي» والأمة معلوم أنها تباع وتشترى، لكن إذا ولدت فصارت أمَّ ولد فهل تباع أو لا تباع؟ فيه خلاف: فكان عمر لا يرى بيعها؛ لأنها جاءت بولد، والولد لك فتبيع أم ولدك؟! وكان علي يرى بيعها، ولكنه عدل عن رأيه خشية الاختلاف.

وقوله: «فكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي الكذب»، يعني: ما ترويه الرافضة من الأقوال المشتملة على مخالفة الشيخين.

 ●         [3478] لما خلف النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا في أهله في غزوة تبوك قال: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان؟! كأنه كره ذلك رضي الله عنه فهو شجاع يريد أن يشارك في المعارك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» وزاد في الحديث الآخر: «إلا أنه ليس نبي بعدي»([8]) واستثنى النبي صلى الله عليه وسلم دفعا لما قد يتوهم من أنه الأحق بالخلافة من بعده، كما يزعمه الرافضة؛ لأن هارون خلف موسى في بني إسرائيل كما قال الله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) [الأعراف: 142].

وهذا الحديث فيه منقبة لعلي رضي الله عنه.

* * *

المتن

[9/54] مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه

قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أشبهت خَلقي وخُلقي».

 ●         [3479] حدثنا أحمد بن أبي بكر، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبدالله الجهني، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشِبع بطني حين لا آكل الخمير، ولا ألبس الحَبِير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت أُلزِقُ بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أَخْيَرَ الناس للمِسْكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فَيَشُقُّها، فنلعق ما فيها.

 ●         [3480] حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، أن ابن عمر كان إذا سلم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.

الشرح

هذه الترجمة في «مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه» قال الحافظ ابن حجر /: «جعفر هو أخو علي شقيقه، وكان أسن منه بعشر سنين، واستشهد بمؤتة كما سيأتي بيان ذلك في المغازي وقد جاوز الأربعين».

قوله: «قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أشبهت خَلقي وخُلقي» هذه منقبة لجعفر رضي الله عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك لما تنازعوا في ابنة حمزة أيهم يحضنها، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرضاهم جميعاً، وقال لجعفر: «أشبهت خَلقي وخُلقي» وهذه منقبة لجعفر. والخَلق: الصورة، وخُلق الإنسان: أعماله الفاضلة، فجعفر أشبه النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة وفي الأفعال الطيبة، وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك»([9]).

 ●         [3479 ] قوله: «أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة» يعني: أكثر من الحديث، فبعض المتأخرين قالوا: لماذا أبو هريرة يكثر من الأحاديث والصحابة لا يكثرون من الأحاديث؟ وصاروا يشككون فيه، فبين لهم أبو هريرة ذلك، فقال: «وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حين لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير»؛ وفي رواية أخرى: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن أخواننا الأنصار كان يشغلهم العمل في مزارعهم وحرثهم، وأنا رجل مسكين ما عندي مزارع ولا عندي تجارة.

قوله: «كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم » أي: أنا ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم ليل نهار أسمع الحديث وأحفظ «بشبع بطني»، أي: المهم أن يحصل لي غداء وعشاء، فإذا حصل فأنا لا يهمني شيء آخر؛ فما عندي تجارات ولا عندي حروث «حين لا آكل الخمير» أي: لا آكل الخبز المخمر، ولست مترفها، «ولا ألبس الحبير»، أي: الثوب الموشى، «ولا يخدمني فلان ولا فلانة».

فهذا هو السبب في كونه أكثر في حفظ الأحاديث أنه كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا تهمه الدنيا، ولا يهمه الطعام اللين، ولا اللباس اللين، ولا خدمة فلان ولا فلانة، بل يهمه حفظ الأحاديث وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا أكثر من الحديث.

قوله: «وكنت ألزق بطني بالحصباء من الجوع»؛ هذا يدل على مبلغ ما أصاب السلف من الشدة فصبروا فكانت العاقبة -والحمد لله- أن نشروا دين الله، وجاهدوا في سبيل الله.

قوله: «وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني»، يعني: من شدة الجوع كان يجلس على طريق الناس، فإذا مر واحد من الصحابة قال: يا فلان ما هي الآية الفلانية؟ وما هو الحديث الفلاني؟ لعله ينتبه فيقول: تفضل معنا في البيت.

قوله: «وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته» هذا هو الشاهد للترجمة؛ وأخير: أفعل تفضيل، وهي لغة قليلة أخير وأشر، واللغة الكثيرة: خير وشر، والمسكين هنا جنس المراد به الجمع، أي: يذهب بالمساكين ويطعمهم كل ما كان في بيته.

قوله: «حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فيشقها فنلعق ما فيها»، أي: إذا انتهى ما عنده أخرج العكة فيشقها حتى يلعق الأثر الذي فيها.

 ●         [3480] هذا الحديث فيه: «أن ابن عمر كان إذا سلم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين» وكان جعفر بن أبي طالب لما أخذ الراية في غزوة مؤتة قطعت يده اليمنى، فأخذها باليد اليسرى فقطعت يده اليسرى، فضمها إلى صدره، فعوضه الله جناحين يطير بهما في الجنة، والله تعالى سمى اليد جناحاً فقال: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) [طه: 22]، وهذه منقبة لجعفر بن أبي طالب أن الله عوضه في البرزخ لما قطعت يداه بجناحين.

قال أبو عبدالله - كما في رواية النسفي وحده -: «الجناحان: كل ناحيتين»

* * *

المتن

[10/54] مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 ●         [3481 ] حدثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني عروة بن الزبير، عن عائشة، أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفَدَك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعني: مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل»، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشهد علي ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم، فتكلم أبو بكر: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي.

 ●         [3482] حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا شعبة، عن واقد، قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر، عن أبي بكر قال: «ارقبوا محمداً في أهل بيته».

الشرح

قوله: «مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال الحافظ ابن حجر /: «زاد غير أبي ذر في هذا الموضع: «ومنقبة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» وهذا الحديث سيأتي موصولًا في باب مفرد ترجمته منقبة فاطمة وهو يقتضي أن يكون ما اعتمده أبو ذر أولى.

قوله: «قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال الحافظ ابن حجر /: «يريد بذلك من ينسب إلى جده الأقرب -وهو عبد المطلب- ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم منهم، أو من رآه من ذكر وأنثى، وهم علي، وأولاده الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم من فاطمة عليها السلام، وجعفر، وأولاده عبد الله وعون ومحمد، ويقال: إنه كان لجعفر بن أبي طالب ابن اسمه أحمد، وعقيل بن أبي طالب وولده مسلم بن عقيل، وحمزة بن عبد المطلب، وأولاده يعلى وعمارة وأمامة، والعباس بن عبد المطلب، وأولاده الذكور عشرة وهم: الفضل وعبد الله وقثم وعبيد الله والحارث ومعبد وعبد الرحمن وكثير وعون وتمام،
وفيه: يقول العباس:

تموا بتمام فصاروا عشرة
 

يا رب فاجعلهم كراماً بررة
 

 

ويقال: إن لكل منهم رواية، وكان له من الإناث أم حبيب وآمنة وصفية وأكثرهم من لبابة أم الفضل، ومعتب بن أبي لهب، والعباس بن عتبة بن أبي لهب، وكان زوج آمنة بنت العباس، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وأخته ضباعة، وكانت زوج المقداد بن الأسود، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وابناه المغيرة والحارث، ولعبد الله بن الحارث هذا رواية، وكان يلقب ببه، بموحدتين الثانية ثقيلة، وأميمة وأروى وعاتكة وصفية بنات عبد المطلب، أسلمت صفية وصحبت، وفي الباقيات خلاف والله أعلم».

 ●         [3481] مناسبة هذا الحديث للترجمة: ما قاله الحافظ ابن حجر /: «المراد منه هنا قول أبي بكر: «لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي» وهذا قاله على سبيل الاعتذار عن منعه إياها ما طلبته من تركة النبي صلى الله عليه وسلم».

ففي هذا الحديث: ذكر عروة بن الزبير عن عائشة: «أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر»، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك صدقة بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فأرسلت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: أعطني ميراثي، «فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقة» - وهذا الحديث يكاد يكون متواترًا، فقد رواه عشرة من الصحابة، وبعضهم من العشرة المبشرين بالجنة - فلم تقتنع فاطمة ل وغاضبته وهاجرته، حتى توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر - وكان علي معها في أول الأمر - فأخطأت وإن كانت سيدة نساء أهل الجنة، وظنت أن لها ميراثًا، والصواب مع أبي بكر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث.

قوله: «إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعني: مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل»، يعني: ينفق عليهم مما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لكن لا يعتبر ميراثًا.

قوله: «وإني والله لا أغير شيئًا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم» وفي رواية أنه قال: «لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به؛ فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ»([10]).

قوله: «ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فيه: شدة تحري أبي بكر رضي الله عنه في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك قال في الرواية الأخرى: «إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ».

قوله: «فتشهد علي ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم» وتأخر علي رضي الله عنه عن البيعة على الخلافة مدة بقاء فاطمة، ثم بعد أن توفيت بايعه.

قوله: «فتكلم أبو بكر: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي» هذا موضع الشاهد،
وفيه: فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قدَّم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم على قرابته، لكن فاطمة ل لم تقتنع،
وفيه: دليل على أن الإنسان وإن كان كبيرًا قد يغلط، وما هو بمعصوم وإن كان عظيمًا، فهذه فاطمة عليها السلام سيدة نساء أهل الجنة غلطت وظنت أن لها حقًّا في الميراث، وغاضبت أبا بكر رضي الله عنه وهجرته ستة أشهر، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث لأعطاها أبو بكر النصف، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم الثمن، والباقي لعمه العباس بالتعصيب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث.

وقد يقول قائل: هل في مقاطعة فاطمة ل لأبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر معارضة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»([11]

وجوابه: أن حديث الرسول مقدم، وفعل أهل الفضل والصالحين إذا عارض الكتاب والسنة يلتمس لهم العذر؛ لأنهم لا يتعمدون المخالفة وإنما وقعت منهم على سبيل الخطأ، ففعل فاطمة ل لا يعارض الحديث؛ لأنها اجتهدت وأخطأت رضي الله عنها، ولا ينقص ذلك من قدرها شيئًا.

والقاعدة أن الكتاب والسنة حاكمان على قول كل أحد، ولا يحكم عليهما أحد.

 ●         [3482 ] قوله: «ارقبوا محمدًا في أهل بيته»، قال الحافظ ابن حجر /: «يخاطب بذلك الناس ويوصيهم به؛ والمراقبة للشيء المحافظة عليه، يقول احفظوه فيهم فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم».


وفيه: محبة أبي بكر لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحرصه عليهم؛ ولذلك وصى هذه الوصية.

 

([1]) انظر «شرح منتهى الإرادات» (1/181).

([2]) أحمد (2/355)، والبخاري (694).

([3]) أحمد (1/155)، والبخاري (2700).

([4]) أحمد (3/433)، والبخاري (3250).

([5]) البخاري (441)، ومسلم (2409).

([6]) أحمد (1/106)، ونحوه في البخاري (5362)، ومسلم (2727).

([7]) أحمد (6/106).

([8]) أحمد (1/177)، والبخاري (4416)، ومسلم (1842).

([9]) أحمد (1/108)، والبخاري (2700).

([10]) أحمد (1/6)، والبخاري (3093)، ومسلم (1759).

([11]) أحمد (1/176)، والبخاري (6237)، ومسلم (2559).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد