● [3511] يُعَد قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «اللهم إني أحبه فأحبه»؛ منقبة عظيمة للحسن رضي الله عنه؛ ويقصد بالمحبة هنا المحبة الشرعية المبنية على محبة الله، لا المحبة الطبيعية المنبثقة عن العطف.
● [3512] كانت هذه القصة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث حمل أبو بكر رضي الله عنه الحسن رضي الله عنه وهو يقول:
بأبـي شبيـه بالنبـي ليـس شبيـه بعلـي
هذا بيت من الشعر قاله أبوبكر رضي الله عنه وهو حامل الحسن رضي الله عنه على عاتقه وعلي رضي الله عنه يضحك.
قوله: «بأبي»، يعني: يفديه بأبيه.
قوله: «شبيه بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس شبيه بعلي»، يعني: أن الحسن رضي الله عنه أكثر شبهًا بالنبي صلى الله عليه وسلم من الشبه بأبيه علي رضي الله عنه.
قوله: «وعلي يضحك»، أي: ضحك علي إقرارًا بصحة كلام أبي بكر رضي الله عنه.
● [3513 ] قوله: «ارقبوا محمدًا في أهل بيته»، يعني: اعتنوا بهم وقدروهم وأعطوهم حقوقهم، والحسن والحسين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
● [3514 ] قوله: «لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي»، يعني: أن الحسن رضي الله عنه يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في نصفه الأعلى، والحسين رضي الله عنه يشبهه صلى الله عليه وسلم في نصفه الأسفل.
● [3515 ] قوله: «سمعت ابن أبي نُعْم»، النون فيه مضمومة، والعين ساكنة، وليس به ياء.
قوله: «سمعت عبدالله بن عمر وسأله عن المحرم - قال شعبة: أحسبه يقتل الذباب»، أي: سئل ابن عمر رضي الله عنه سؤالا تقديره: أيجوز للمحرم أن يقتل الذباب؟ وهذا السؤال سأله رجل من العراق لابن عمر رضي الله عنه.
قوله: «أهل العراق يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!» يعني: استنكر ابن عمر رضي الله عنه السؤال عن قتل الذباب من أناس «قد قتلوا ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فهم يسألون عن الأمر اليسير وقد فعلوا الأمر العظيم، وكأنه يقول لهم متعجبًا: كيف تسألون عن قتل الذباب وأنتم الذين قتلتم الحسين رضي الله عنه وهو «ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ولم تسألوا عن قتله أحرام هو أم حلال؟!
أما الذباب فيجوز للحاج أن يقتله؛ لأنه مؤذٍ، وكذلك البعوض يجوز له أن يقتله؛ لأنه مؤذٍ - أيضًا - وذلك قياسًا على الفواسق الخمسة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديّا»([1])، فكلها مؤذية، وسميت فواسق لخروجها عن طبيعة غيرها بالإيذاء، فالفأرة مؤذية تتلف الأشياء، والحية والعقرب تؤذي بالسم، والكلب العقور يقتل الناس، والغراب يأكل السنبل وينقر الدبرة - أي: الجرح الذي على البعير إذا كاد يبرأ ينقره من فسقه حتى يعود من جديد - وكذلك البعوض والذباب كلاهما مؤذٍ، فيجوز قتله في الحل والحرم.
قوله: «وقال النبي صلى الله عليه وسلم: هما ريحاني من الدنيا»، يعني: الحسن والحسين م؛ فالحديث فيه منقبة عظيمة للحسن والحسين م.
وشبه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين م بالريحانة؛ لأن الولد يشم ويقبل، وعند الترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يدعو الحسن والحسين فيشمهما ويضمهما إليه»([2])، وفي رواية الطبراني من طريق أبي أيوب قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين يلعبان بين يديه قلت: أتحبهما يا رسول الله؟ قال: «وكيف لا وهما ريحانتأي: من الدنيا أشمهما»([3]).
* * *
المتن
[21/54] مناقب بلال بن رباح مولى أبي بكر م
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سمعت دَفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة».
● [3516] حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر، قال: حدثنا جابر بن عبدالله قال: كان عُمر رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني: بلالاً.
● [3517] حدثنا ابن نمير، عن محمد بن عبيد، قال: حدثنا إسماعيل، عن قيس، أن بلالا قال لأبي بكر: إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعملَ الله.
الشرح
هذه الترجمة في «مناقب بلال بن رباح مولى أبي بكر م».
قوله: «وقال النبي صلى الله عليه وسلم: سمعت دَفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة» هذا طرف من حديث أورده المؤلف في صلاة الليل.
● [3516 ] قوله: «كان عمر رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني: بلالاً» هذا الكلام قاله عمر رضي الله عنه من باب التواضع والاعتراف بالفضل لأبي بكر وبلال م، وأن السيادة ليست بالحسب والنسب وإنما بالعلم والفضل.
والحديث فيه: جواز القول: فلان سيدنا، وهو غائب، وكذلك القول: فلان سيد بني فلان بالإضافة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: «من سيدكم؟»([4])، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا سيد»([5]).
أما مواجهة الإنسان بقول: يا سيدنا، فالأولى أن يترك ذلك القول؛ لما فيه من غلو قد يفضي إلى إعجاب المخاطَب بنفسه؛ ولهذا لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا سيدنا، وقالوا: أنت أفضلنا وأعظمنا، قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان»([6]) فقد خاف عليهم من الغلو.
● [3517] قوله: «أن بلالاً قال لأبي بكر: إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعملَ الله» وكأن سبب ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه - في خلافته - أراد أن يبقي بلالًا رضي الله عنه عنده في المدينة، فلا يخرج مع المجاهدين. فقال له: «أنشدك الله وحقي - أي: ما لي عليك من الحق - أن تقيم عندي» وذلك حبًّا في بقاء بلال رضي الله عنه عنده، ولكن بلالًا أراد أن يجاهد ويرابط في سبيل الله.
وقد اشتراه أبوبكر رضي الله عنه بخمس أواقٍ - والأوقية أربعون درهمًا - وكان بلال رضي الله عنه وقتها مدفونًا بالحجارة، يرجمه المشركون ويعذبونه، وذلك كما ورد في «مصنف أبي بكر بن أبي شيبة» بإسناد صحيح عن قيس بن أبي حازم([7]).
فقال له بلال رضي الله عنه: «إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعملَ الله» وفي رواية الكشميهني: «فدعني وعملي لله».
قال الحافظ ابن حجر /: «... عند ابن سعد في «الطبقات» في هذه القصة من الزيادة أنه قال: رأيت أفضل عمل المؤمن الجهاد فأردت أن أرابط في سبيل الله».
وأقام بلال رضي الله عنه مع أبي بكر رضي الله عنه حتى توفي، فلما توفي أذن له عمر رضي الله عنه أن يتجه إلى الشام مجاهداً، ومات رضي الله عنه بها في طاعون عمواس في سنة ثمان عشرة من الهجرة.
* * *
المتن
[22/54] ذكر ابن عباس رضي الله عنه
● [3518 ] حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبدالوارث، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: «اللهم علمه الحكمة!».
نا أبو معمر، قال: حدثنا عبدالوارث، وقال: «علمه الكتاب!».
نا موسى قال: حدثنا وهيب، عن خالد... مثله.
الحكمة: الإصابة من غير النبوة.
الشرح
● [3518] هذا الحديث من مناقب ابن عباس، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: «اللهم علمه الحكمة»، وفي رواية: «اللهم علمه الكتاب»؛ ولا منافاة بين القولين، فإذا علمه الله الكتاب فقد علمه الحكمة، والحكمة مأخوذة من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فهي العلم النافع.
وقد ذكر العلماء أقوالًا في معنى الحكمة، فمنهم من قال: الإصابة في القول، ومن قال: الفهم عن الله، ومن قال: ما يشهد العقل بصحته، ومن قال: نور يفرق به بين الهم والوسواس، ومن قال: سرعة الجواب بالصواب، والصواب من هذه الأقوال أن الحكمة هي الفقه في الدين.
وقد استجاب الله دعاء نبيه فآتى الله ابن عباس العلم والحكمة، وصارت الوفود تفد إليه من كل مكان؛ لأخذ العلم والمعرفة.
ومما يدل على حرصه رضي الله عنه على طلب العلم أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم - وكان عمره رضي الله عنه يقارب العشرين وكان يأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته - أخذ العلم عن كبار الصحابة، وكانوا ي متوافرين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأتيهم ويأخذ عنهم.
ومما يدل على حرصه على طلب العلم -أيضًا- أنه رضي الله عنه كان له زميل من الأنصار فقال له يثبطه: يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك؟ أي: الصحابة - الآن - متوافرون، والناس ليسوا بحاجة إليك. فتركه ابن عباس وأقبل على العلم، وكان إذا أتى إلى صحابي يطلب منه علمًا فلم يجده أو وجده مشغولًا بأمور حياته وقف عند بابه حتى يخرج، وإذا أبطأ عليه جلس ونام وتوسد يده عند الباب، فإذا خرج الصحابي فوجده نائمًا أو منتظرًا قال له: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرتني؟ فيقول له ابن عباس رضي الله عنه: لا؛ العلم يؤتى إليه.
وبعد وفاة كثير من الصحابة تصدر ابن عباس رضي الله عنه للتعليم، وصارت الوفود تأتي إليه من كل مكان، فتضرب إليه أكباد الإبل؛ ليتعلموا منه، فقد آتاه الله علمًا غزيرًا، وكان يجلس لأهل الفقه بعد صلاة الفجر ليعلمهم، ثم يصدرون فيجلس لأهل التفسير، ثم يصدرون فيجلس لأهل اللغة، ثم يصدرون فيجلس لأهل الشعر، فرأى الصحابي الأنصاري - الذي كان زميلا له - الناس يأتون إليه، وما وصل إليه ابن عباس رضي الله عنه من منزلة رفيعة في العلم، فقال: هذا كان أعقل مني استمر في طلب العلم وأنا انقطعت عنه، فاحتاج الناس إليه.
قوله: «علمه الكتاب»،
وفي الحديث: السابق قال: «اللهم علمه الحكمة»، وقد فسر المؤلف كلمة الحكمة فقال: «الإصابة من غير النبوة»، يعني: أن يصيب الإنسان الحق إلا أنه ليس بنبي.
* * *
المتن
[23/54] مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه
● [3519 ] حدثنا أحمد بن واقد، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب! ثم أخذ جعفر فأصيب! ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ سيف من سيوف الله عز وجل حتى فتح الله عليهم».
الشرح
● [3519] هذا الحديث عن غزوة مؤتة، وكانت في سنة ثمان من الهجرة، وأمَّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه على المسلمين، فقال: «إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة»([8]). وغزوة مؤتة غزوة عجيبة، فقد قتل فيها الأمراء الثلاثة كلهم، وكانت في قتال الروم وجيشهم قوامه مائة وعشرون ألف مقاتل، وإن تكلمت عن الفوارق بين جيش الروم وجيش المسلمين المادية كالعدة والعتاد فتكلم ولا حرج، والصحابة يومها ثلاثة آلاف فقط، وعلى الرغم من ذلك نصر الله المسلمين نصرًا باهرًا عجيبًا، ولم يقتل من الصحابة ي إلا اثنا عشر رجلا، منهم الأمراء الثلاثة، فلما قتل الأمراء الثلاثة اصطلح الناس على خالد فأمَّروه ففتح الله عليه.
وقد نعى النبي صلى الله عليه وسلم الأمراء الثلاثة على المنبر قبل أن يعلم الناس بموتهم، والنعي نعيان:
الأول: نعي الجاهلية وهو أن يطاف في القبائل ويقال: مات فلان مات فلان، وهذا منهي عنه.
الثاني: النعي بمعنى الإخبار بموته للصلاة عليه، وهذا يجوز.
قوله: «فأصيب»، يعني: فقتل.
قوله: «وعيناه تذرفان»، فيه: دليل على أنه لا بأس بالبكاء على الميت بدمع العين؛ لأن هذه رحمة، وإنما الممنوع النياحة برفع الصوت، ودل على ذلك أيضًا بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وقال: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»([9]). وقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس: «إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم»([10])، فالصراخ والعويل وانتداب محاسن الميت وأوصافه كل هذا حرام.
قوله: «حتى أخذ سيف من سيوف الله عز وجل» هذه منقبة لخالد رضي الله عنه؛ حيث سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيفًا من سيوف الله، وكان رضي الله عنه قائدًا مظفرًا منصورًا.
قال الحافظ ابن حجر /: «وقد أخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة، فقال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلا رزقت النصر([11])».
مفادهذا الحديث أن خالدًا رزق النصر بسبب القلنسوة التي فيها شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سنده عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، وعبد الحميد بن جعفر متكلم فيه، وأبو جعفر يحتمل أنه لم يدرك خالداً، ولو صح هذا الحديث فالمراد أن الشعر من الأسباب وليس هو المؤثر؛ لأن النصر لابد فيه من الإخلاص، والصدق في اللقاء، وإعداد العدة، وغير ذلك من الأسباب.
* * *
المتن
[24/54] مناقب سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه
● [3520 ] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن مسروق قال: ذُكر عبدالله عند عبدالله بن عَمرو فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود - فبدأ به، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل» قال: لا أدري بدأ بأبي أو بمعاذ.
الشرح
● [3520] هذا الحديث فيه منقبة لهؤلاء الأربعة؛ لمعرفتهم بالقرآن، وهم سالم مولى أبي حذيفة -صاحب الترجمة- وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعبدالله بن مسعود ي.
وقوله: «ذكر عبدالله» يعني: عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
* * *
المتن
[25/54] مناقب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
● [3521 ] حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا وائل، قال: سمعت مسروقاً قال: قال عبدالله بن عمرو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وقال: «إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً»، وقال: «استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل».
● [3522] حدثنا موسى، عن أبي عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة: دخلت الشام فصليت ركعتين، فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً! فرأيت شيخاً مقبلاً، فلما دنا قلت: أرجو أن يكون استجاب، قال: من أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: فلم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهر؟ ولم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان؟ أولم يكن فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ كيف قرأ ابن أم عبد (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) [الليل: 1]؟ فقرأت: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى)، قال: أقرأَنيها النبي صلى الله عليه وسلم فاه إلى فايَ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يَرُدُّوني.
● [3523] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه قال: ما أعلم أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد.
● [3524] حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، قال: حدثني أبي، عن أبي إسحاق، قال: حدثني الأسود بن يزيد، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينا ما نرى إلا أن عبدالله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرح
● [3521 ] قوله: «لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا» فيه: فضل حسن الخلق، وأن حَسَنَ الخُلُقِ من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «استقرئوا القرآن من أربعة» فيه: منقبة لهؤلاء الأربعة، وهم عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل؛ حيث إنهم قرءوا القرآن وحفظوه.
● [3522] سبق الحديث في هذه القصة، وهي قصة علقمة ودخوله الشام، وأنه «رأى شيخًا مقبلًا»، وهو أبو الدرداء رضي الله عنه.
قوله: «فلم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهر؟»، هو عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وهذه منقبة عظيمة له؛ فهو صاحب نعلي النبي صلى الله عليه وسلم والوسادة والمطهرة وهي الإناء أو الإداوة التي يتطهر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «ولم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان؟»، هو عمار رضي الله عنه.
قوله: «أولم يكن فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟»، وهو حذيفة، ثم سأله عن قراءة ابن مسعود لقوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) [الليل: 1]، فقال علقمة: كانت قراءة ابن مسعود: « وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى »، والقراءة المشهور: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) [الليل: 3].
● [3523 ] قوله: «سمتاً» أي: خشوعًا.
قوله: «وهديا» أي: طريقة.
قوله: «ودلا» الدلُّ: السيرة والحالة والهيئة.
قوله: «ابن أم عبد» يعني: عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ وهذه الترجمة منقبة له، وتدل على أنه أقرب الناس هديًا ودلًّا وسمتًا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
● [3524] هذه الترجمة منقبة لعبد الله رضي الله عنه، فكثرة دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم جعلته يحفظ علمًا جمًّا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذُكر في الحديث السابق أن عبدالله رضي الله عنه «أقرب سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم»، وظاهر هذا يدل على حسن فعاله رضي الله عنه.
قوله: «فمكثنا حينا ما نرى إلا أن عبدالله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم» يدل على ملازمة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم لدرجة أن من يراه يظن أنه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يستلزم ثبوت فضله رضي الله عنه.
المتن
[26/54] ذكر معاوية رضي الله عنه
● [3525 ] حدثنا الحسن بن بشر، قال: حدثنا المعافى، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فقال: دعه؛ فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
● [3526] حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا نافع بن عمر، قال: حدثني ابن أبي مليكة: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ ما أوتر إلا بواحدة، قال: أصاب، إنه فقيه!
● [3527] حدثنا عمرو بن عباس، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت حمران بن أبان، عن معاوية قال: إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما - يعني: الركعتين بعد العصر.
الشرح
هذه الترجمة في ذكر معاوية رضي الله عنه، وما ورد فيه من المناقب.
● [3525 ] قوله: «دعه؛ فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال ابن عباس رضي الله عنه ذلك لما أخبره مولاه أن معاوية أوتر «بعد العشاء بركعة» واحدة، فدل على أن معاوية فعل ذلك عن علم، وذلك العلم أقره ابن عباس في قوله هذا.
● [3526 ] قوله: «قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ ما أوتر إلا بواحدة، قال: أصاب، إنه فقيه!» ، وجاء في رواية أخرى: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: إنه فقيه، وهذه شهادة من ابن عباس لمعاوية ي بأنه فقيه.
قوله: «ما أوتر إلا بواحدة»؛ الإيتار بواحدة لا كراهة فيه، وقد جاء في عدة أحاديث، لكن الكوفيين ذهبوا إلى أن الإنسان إذا أوتر بثلاث ركعات يصل الثلاث بسلام واحد، وأن الوتر بركعة لا يجزئ، وهذا خطأ والصواب أنه يجزئ الوتر بواحدة إلا أن الأفضل أن يتقدمها شفع.
قوله: «إنه فقيه» يدل على إقرار ابن عباس م ما فعله معاوية رضي الله عنه.
● [3527 ] قوله: «إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليهما» من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصلي بعد العصر ركعتين؛ لأنه شغل عنهما بعد الظهر أيام الوفود، فقضاهما بعد العصر، ثم داوم عليهما؛ لأنه إذا عمل عملا أثبته.
وقد جاء في الحديث الصحيح أن أم سلمة ل أرسلت جارية له وقالت: اذهبي إليه فإن قال: استأخري فاستأخري، ثم قولي له: تقول لك أم سلمة: إنك تنهى عن الصلاة بعد العصر وتصلي ركعتين، فلما جاءت الجارية أشار إليها فاستأخرت، ثم قالت له بعد ذلك؛ فقال لها: «يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان»([12]).
وجاء - أيضا - في «مسند الإمام أحمد» أن أم سلمة ل قالت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: «لا»([13]) ودل هذا على أن صلاة ركعتين بعد العصر والمداومة على ذلك من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما بقية الناس فلا يجوز لهم الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس»([14])، ويستثنى من ذلك - في أصح قولي العلماء - ذوات الأسباب مثل: سنة الوضوء وتحية المسجد؛ والجمهور يرون أنه لا يصلى بعد العصر حتى ذوات الأسباب؛ فيعملون بأحاديث النهي ويقولون: إنها أصح وأكثر.
* * *
المتن
[27/54] مناقب فاطمة ل
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة».
● [3528] حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فاطمة بِضعة مني، فمن أغضبها أغضبني».
الشرح
● [3528] هذا الحديث فيه منقبتان لفاطمة ل:
الأولى: في قوله: «فاطمة بضعة مني» يعني: قطعة مني، فالبضعة قطعة اللحم.
الثانية: في قوله: «فمن أغضبها أغضبني» وهذا الإطلاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم له قيد، فيقيد بما إذا كان الإغضاب بغير حق، أما إذا كان إغضابها ل بحق فلا يدخل في الحديث، فإن أبا بكر رضي الله عنه أغضبها لكن بحق؛ لأنها جاءت تسأل أبا بكر ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركناه صدقة»([15]).
وقد روى هذا الحديث عدد من العشرة المبشرين بالجنة، لكن فاطمة ل لم تقتنع بكلام أبي بكر رضي الله عنه، واستمرت غاضبة عليه وهجرته ستة أشهر حتى توفيت، والصواب مع أبي بكر رضي الله عنه، فهي قد أخطأت وإن كانت فاضلة، وإن كانت سيدة نساء أهل الجنة؛ ففاطمة ل ليست معصومة من الخطأ، فإنه لا يعصم من الخطأ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، أما غيره - ولو كان فاضلًا ولو كان له منزلة عالية - فإنه يخطئ كبقية البشر.
ويعد تنفيذ ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا نورث ما تركنا صدقة» من مناقب الصديق رضي الله عنه.
وتقييد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أغضبها أغضبني» بأن المقصود الإغضاب بغير حق - وإن لم يُنَص عليه نصًّا - فهو معروف من النصوص الأخرى، وهو وجوب العمل بالشريعة وتنفيذ الأوامر الشرعية، فأبو بكر رضي الله عنه نفذ الحكم الشرعي في الموقف المذكور، ولو أغضب فاطمة ل فلا يضره غضبها ل؛ لأن غضبها - في هذا الأمر - بغير وجه حق.
وقد استدل السهيلي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أغضبها أغضبني» على أن من سب فاطمة ل يكفر، وتوجيهه أنها تغضب ممن سبها، وقد سوَّى النبي صلى الله عليه وسلم بين غضبها وغضبه، لكن هذا التوجيه فيه نظر.
* * *
المتن
[28/54] فضل عائشة ل
● [3529 ] حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال أبو سلمة: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: «يا عائش، هذا جبريل يقرئك السلام»، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى - تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
● [3530] حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة. ح ونا عمرو، قال: أنا شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن مُرَّة، عن أبي موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
● [3531] حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدثني محمد بن جعفر، عن عبدالله بن عبدالرحمن، أنه سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
● [3532] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبدالوهَّاب بن عبدالمجيد، قال: حدثنا ابن عون، عن القاسم بن محمد، أن عائشة اشتكت؛ فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدَمين على فَرَطِ صِدقٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر.
● [3533] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت أبا وائل قال: لما بعث علي عمارا والحسن إلى الكوفة ليستنفرَهم خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها.
● [3534] حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت؛ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم شَكوْا ذلك إليه، فنزلت آية التيمُّم، فقال أسيد بن حضير: جزاكِ الله خيراً! فوالله ما نزل بكِ أمر قط إلا جعل الله لكِ منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة.
● [3535 ] حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: «أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟» حرصاً على بيت عائشة، قالت عائشة: فلما كان يومي سكن.
● [3536] حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا هشام، عن أبيه قال: كان الناس يتَحَرَّوْن بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقالوا: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان - أو حيث ما دار- قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك؛ فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له، فقال: «يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة؛ فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها».
الشرح
● [3529 ] قوله: «يا عائش» ترخيم، والترخيم حذف آخر المنادى، مثل قول امرئ القيس:
أفاطمُ مهلًا بعض هذا التدلل
قوله: «هذا جبريل يقرئك السلام» هذا من مناقب عائشة ل.
قوله: «ترى ما لا أرى»، تعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى جبريل وهي لا تراه.
وقد جاء في مناقب خديجة ل أعلى من ذلك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: اقرأ عليها السلام من ربها ومني»([16])، فهذه منقبة عظيمة جدًّا، وكذلك البشرى لخديجة ل ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، فذلك - أيضًا - من مناقبها ل، والقصب: اللؤلؤ.
● [3530] هذا الحديث فيه فضل عائشة ل.
قوله: «كمل من الرجال كثير» الميم مثلثة تقول: «كمِل» و«كمَل» و«كمُل».
قوله: «ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون» فيه: فضل مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم، وأن لهما فضائل خاصة، وكذلك فاطمة ل بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وخديجة بنت خويلد ل، فهؤلاء النساء الخمس هن أكمل النساء: خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وحسبنا أن نقف عند ذلك ولا نفاضل بين هؤلاء الخمس؛ لأن كل واحدة منهن لها فضل، فالله أعلم أيهن أفضل.
وقد قال بعض أهل العلم: خديجة في أول الإسلام أفضل؛ لأنها آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهدأت من روعه، وقالت: «كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم»([17])، وعائشة في آخر الأمر هي الأفضل؛ لفضلها وعلمها وفقهها وحملت من السنة الشيء الكثير للناس.
وقال بعض العلماء: عائشة أفضل مطلقًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» والثريد: طعام فيه لحم وخبز، وأفضل الطعام هو الطعام الذي فيه لحم، وكذلك عائشة فضلها على النساء، كفضل الثريد على سائر الأطعمة الأخرى،وقيل: لا يدل الحديث على فضلها؛ لأن الثريد خبز ولحم، وليس هو أفضل الطعام مطلقًا.
وقال آخرون: فاطمة أفضل النساء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سيدة نساء أهل الجنة»([18])، وعلى كل حال فكل واحدة من النساء الخمس لها فضل، إلا أن خديجة رضي الله عنها أفضلهن – كما سيأتي- ،فهؤلاء النساء الخمس أفضل النساء وأكملهن على الإطلاق.
● [3531 ] قوله: «كفضل الثريد»، الثريد طعام فيه لحم وخبز.
● [3532 ] قوله: «تقدمين على فرط صدق»، الفرط: المتقدم من كل شيء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض»([19])، يعني: أتقدمكم وأنتظركم.
فلما اشتكت عائشة ل قال لها ابن عباس رضي الله عنه: إن مت من هذه الشكاية فإنك تقدمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فأنت على خير.
● [3533] لما كانت الفرقة في خلافة علي رضي الله عنه عندما خالفه معاوية رضي الله عنه ومعه أهل الشام وصاروا يقاتلونه؛ لطلبهم دم عثمان رضي الله عنه، وجاءت عائشة ل كذلك ومعها طلحة والزبير م يطالبون بدم عثمان رضي الله عنه، فخطب عمار الناس وقال: «إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها» فهذا ابتلاء وامتحان عظيم، فعائشة أم المؤمنين ل وزوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة جاءت ومعها جيش لتقاتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمسلمون هنا في اختبار ومحنة وفتنة هل يتبعون عليًّا رضي الله عنه؛ لأنه الخليفة الراشد أو يتبعون عائشة ل؛ لأنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؟
فقد اجتهدت أم المؤمنين عائشة ل -وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وفضلها عظيم- ولكنها أخطأت في اجتهادها، وكأن عمارًا رضي الله عنه يسأل الناس: هل تتبعونها وإن كانت مخطئة أم تتبعون عليًّا وهو الخليفة الراشد؟
وقوله: «إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة»، من مناقب عائشة ل، فعمار رضي الله عنه شهد بأنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وهذا ثابت بالنصوص.
وقد حدثت وقعة الجمل تحت جمل عائشة ل، وحصلت مقتلة عظيمة بين المسلمين أثارها أهل الشر والفساد وسقطت أم المؤمنين ل من بعيرها،وعقر الجمل، فكل هذا ابتلاء وامتحان وفتنة، ولكنهم جميعًا اجتهدوا، فعلي مجتهد، وعائشة مجتهدة، وكذلك الزبير وطلحة مجتهدان، كما أن معاوية مجتهد، وأهل الشام معه مجتهدون، لكنهم أخطؤوا والصواب مع علي رضي الله عنه ومن معه، فرضي الله عن الصحابة أجمعين.
● [3534] هذا الحديث به منقبة لعائشة ل.
قوله: «أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت»، يعني: أن أم المؤمنين عائشة ل استعارت من أسماء أختها - وكانت أكبر منها - قلادة تلبسها ثم تردها عليها، فضاعت وهي في الجيش.
وفيه: أنه لا بأس بالاستعارة، فالإنسان يستعير ما يحتاج إليه، فيستعير قدرًا أو صحنًا أو سكينًا فيستعمله ثم يرده، والعارية لا ينبغي أن تمنع، قال تعالى: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون: 7].
قوله: «فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها»، يعني: لما ضاعت قلادة عائشة وكان الجيش يريد أن يرتحل، قالت عائشة: يا رسول الله، القلادة، فحبس الجيش، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه يبحثون عن القلادة.
وفيه: دليل على أن قائد الجيش يعتني بالجيش، ويلاحظ حاجاتهم، ويطلب الأشياء التي تضيع ولا يتركها؛ لأن المال له شأن، فالمال عصب الحياة، وينبغي على الإنسان إذا فَقَدَ مالًا أن يبحث عنه ولا يتركه يضيع هباءً.
قوله: «فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء»، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل جماعة من أصحابه يبحثون عن القلادة ذهبوا بعيدًا عن الجيش، وحضر وقت الصلاة وليس معهم ماء للوضوء، ولم يشرع التيمم حينئذٍ، فصلوا بغير وضوء ولا تيمم، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأقرهم على ذلك؛ فدل هذا على أن من فقد الماء والتراب أو لم يقدر على واحد منهما صلى بغير ماء ولا تراب لهذا الحديث، والأصل في ذلك قول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].
وقال بعض العلماء: إن الإنسان الذي يضطر إلى الصلاة بغير وضوء ولا تيمم عليه أن يعيد صلاته، والصواب ألا يعيدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمرهم أن يعيدوا الصلاة.
قوله: «فنزلت آية التيمم» يعني: بعد هذه الحادثة أنزل الله آية التيمم، فكان فيها مصلحة عظيمة للمسلمين، وكان سبب نزولها عائشة ل؛ لأنها هي التي أخرت الجيش لما ضاعت قلادتها، فلما أخرت الجيش وليس عندهم ماء أنزل الله آية التيمم، ففرحوا بذلك فرحًا عظيمًا، فقال أسيد بن حضير لعائشة: «جزاك الله خيراً! فوالله ما نزل بكِ أمر قط إلا جعل الله لكِ منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة».
والتيمم يشرع عند فقد الماء، وهو أن يضرب الإنسان التراب بيديه ضربة واحدة مفرجة الأصابع، فيمسح بها وجهه وظاهر كفيه.
● [3535 ] قوله: «أين أنا غدًا؟» يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يكون عند عائشة ل، فلما مرض استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة؛ لأنه شَقَّ عليه صلى الله عليه وسلم أن يدور عليهن، فَأَذِنَّ له فمرض في بيت عائشة، ومات صلى الله عليه وسلم فيه وهي مسندة صدره إلى صدرها وقالت: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي نوبتي وبين سحري ونحري... فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة»([20]) وذلك لما مضغت السواك ثم أعطته إياه.
قوله: «فلما كان يومي سكن»، أي: هدأ واستراح؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: «أين أنا غداً» كان حرصا منه على المكث في بيت عائشة، فلما صار عند عائشة هدأ واستراح؛ لأن الحالة النفسية لها تأثير على المرض، وقد ارتاح النبي صلى الله عليه وسلم نفسيَّا بمكثه في بيت عائشة ل فخف عنه المرض.
● [3536 ] قوله: «كان الناس يتَحَرَّوْن بهداياهم يوم عائشة»، وذلك من أجل معرفة الناس وعلمهم بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، فكانوا يتحرون بهداياهم يومها، فإذا جاء اليوم الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة ل أتى كل من كان عنده هدية فأرسل هديته إلى عائشة ل، والهدية قد تكون لبنًا أو تمرًا أو فاكهة أو غير ذلك.
قوله: «وإنا نريد الخير كما تريده عائشة»، أي: أصابت الغيرة بقية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقلن رضي الله عنهن: كيف يتحرى الناس بهداياهم يوم عائشة فقط، ونحن «نريد الخير» مثلما تريده.
قوله: «فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان»، أي: اجتمعن وقلن لأم سلمة: قولي للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء عندك «أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان»، يعني: يقول: يا أيها الناس من أراد أن يحضر لي هدية فليهدها لي في أي: مكان، وليس في بيت عائشة فقط- فأعرض عنها النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، وفي الثالثة قال لها: «يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة؛ فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها» فهذه منقبة عظيمة لعائشة ل، فقد نزل الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم في لحافها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها.
وفيه: دليل على أن الهدية تكون لصاحبة البيت التي أهديت له، وأنه لا يجوز قسمتها على ضراتها؛ فلو كان يجب قسمتها على ضراتها لسكتن.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها.
وعائشة ل هي الصديقة بنت الصديق، وأمها أم رومان، وكان مولدها في الإسلام قبل الهجرة بثمان سنين، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت سبع، ودخل عليها وهي بنت تسع، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ولها ثمانية عشر عامًا، وحفظت من العلم الكثير، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم حوالي خمسين سنة، فأكثر الناس من الأخذ عنها، ونقلوا عنها من الأحكام الكثير، ولاسيما ما يتعلق بالنساء وأحكام الوضوء والحيض والنفاس، حتى قال بعضهم: إن ربع أحكام الشريعة منقولة عنها، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر /.
وقد استنبط بعضهم من هذه الترجمة فضل خديجة ل على عائشة ل؛ لأن الذي ورد في حق خديجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إن جبريل يقرئك السلام من ربك»([21]). ولا شك أن هذه منقبة عظيمة لخديجة، فجبريل يقرئها السلام من ربها ويبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب، فالقول أن خديجة أفضل قول قوي.
قال الحافظ ابن حجر /: «وقال ابن تيمية: جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة. وكأنه رأى التوقف. وقال ابن القيم: إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله فذاك أمر لا يطلع عليه، فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أريد كثرة العلم فعائشة لا محالة، وإن أريد شرف الأصل ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها، وإن أريد شرف السيادة فقد ثبت النص لفاطمة وحدها. قلت: وامتازت فاطمة عن أخواتها بأنهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإن لخديجة ما يقابله وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام؛ فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله. وقيل: انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة.
فرع: ذكر الرافعي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أفضل نساء هذه الأمة، فإن استثنيت فاطمة لكونها بضعة فأخواتها شاركنها. وقد أخرج الطحاوي والحاكم بسند جيد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق زينب ابنته لما أوذيت عند خروجها من مكة: «هي أفضل بناتي، أصيبت في»([22])،وقد وقع في حديث خطبة عثمان حفصة زيادة في «مسند أبي يعلى»: «تزوج حفصة خيرٌ من عثمان ويزوج عثمان خيرًا من حفصة»([23])».
على كل حال يبقى عدم الجزم في تفضيل واحدة منهن؛ فالأمر محتمل، والقول بأن خديجة ل أفضل قول قوي، وتجد أن أفضلية عائشة ل بالعلم الذي حصلته في آخر الأمر متقاربة مع تثبيت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فلا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن واحدة منهن أفضل من الأخريات، فخمس نسوة هن أفضل النساء على الإطلاق: خديجة وعائشة وفاطمة وآسية بنت مزاحم ومريم بنة عمران، أما كون بعضهن أفضل من بعض فهذا يحتاج إلى دليل بيِّن.
([1]) أحمد (6/97)، ومسلم (1198)، ونحوه البخاري (3314).
([2]) الترمذي (3772).
([3]) الطبراني في «الكبير» (4/155).
([4]) أحمد (3/432).
([5]) أحمد (5/37)، والبخاري (2704).
([6]) أحمد (3/241)، وأبو داود (4806) واللفظ له.
([7]) «مُصنف ابن أبي شيبة» (12/150).
([8]) أحمد (1/256)، والبخاري (4261).
([9]) أحمد (3/194)، والبخاري (1303)، ومسلم (2315).
([10]) البخاري (1304)، ومسلم (924).
([11]) الحاكم (3/338)، والطبراني في «الكبير» (4/104).
([12]) أحمد (6/125) بمعناه، والبخاري (1233)، ومسلم (834).
([13]) أحمد (6/315).
([14]) أحمد (2/211)، والبخاري (586)، ومسلم (827).
([15]) أحمد (6/145)، والبخاري (3093)، ومسلم (1757).
([16]) أحمد (2/230)، والبخاري (3821)، ومسلم (2432).
([17]) أحمد (6/223)، والبخاري (4954)، ومسلم (160).
([18]) أحمد (3/80)، والبخاري (3624)، وبنحوه مسلم (2450).
([19]) أحمد (3/165)، والبخاري (6575)، ومسلم (2289).
([20]) أحمد (6/48)، والبخاري (4451)، ونحوه مسلم (2443).
([21]) أحمد (2/230)، والبخاري (3821)، ومسلم (2432).
([22]) الحاكم (2/219)، والطبراني في «الكبير» (22/431).
([23]) أبو يعلى (1/18).