● [3603 ] قوله: «عن عمرو بن ميمون»، هو تابعي، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وبعض أهل العلم يذكرونه في الصحابة للمعاصرة فقط.
قوله: «رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قِرَدٌ قد زنت فرجموها، فرجمتها معهم» فشاركهم ورجمها معهم.
وقد قال شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز /: حدثني ثقة أنه رأى قردًا قامت أنثاه من عنده مع قرد آخر فزنى بها، ثم جاءت الأنثى إلى زوجها وجلست بجواره، فشم فرجها، فعلم أنها زنت فقتلها، ثم قتل القرد الذي زنى بها.
فهذه الحيوانات تنفر من الزنا؛ فكيف بالآدمي الذي كرمه الله بالإسلام.
● [3604 ] قوله: «خلال من خلال الجاهلية»، يعني: خصال من خصال الجاهلية.
قوله: «الطعن في الأنساب»، يعني: عيب الأنساب وتنقصها، فكون الإنسان يقول: أنا قبيلتي أحسن من قبيلتك، ويتنقص الأنساب ويعيبها، فهذا من خصال الجاهلية، فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، ولم يقل الله عز وجل: لتفاخروا، ولا ليعيب بعضكم بعضًا، وإنما قال: (لِتَعَارَفُوا)؛ فالأنساب للتعارف وليست للتفاخر.
وقد جاء في الحديث الآخر: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة»([1]).
فالمعنى أن هذه الخصال موجودة في الأمة،
وفيه: فائدتان:
الفائدة الأولى: أن هذه الخصال يفعلها المسلمون وليس المقصود أن كل واحد يفعلها؛ بل المراد أنها موجودة في الأمة.
الفائدة الثانية: التحذير من فعل هذه الخصال؛ لأنها من خصال أهل الجاهلية.
قوله: «والنياحة» يعني: إطلاق الصوت بالبكاء والندب وتعداد محاسن الميت، ولا يجوز للإنسان أن ينوح أو يصرخ أو يلطم خده أو يشق ثوبه أو ينتف شعره أو يعدد محاسن الميت؛ فكل هذا من خصال الجاهلية.
أما دمع العين وحزن القلب فلا يلام عليه الإنسان، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لما مات ابنه إبراهيم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»([2])، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه - أو يرحم، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه»([3])، يقصد: الصوت.
قوله: «ونسي الثالثة»، يعني: نسي الخصلة الثالثة وهي الاستسقاء بالأنواء، وهو نسبة السقيا والمطر إلى النجوم، أي: أن يعتقد الإنسان أن للنجوم تأثيرًا في إنزال المطر، فهذا شرك أكبر -وهو شرك عباد الكواكب كقوم إبراهيم عليه السلام- وإن اعتقد أنها سبب فهو شرك أصغر، فالله عز وجل لم يجعل الأنواء ولا النجوم سببًا في إنزال المطر؛ فالاستسقاء بالنجوم يقع بين الشرك الأصغر والشرك الأكبر، وكل ذلك من خصال الجاهلية.
لكن الإنسان يستطيع أن يقول: مطرنا في موسم كذا، أو في نجم كذا؛ لأن الحرف «في» يفيد الظرفية -أي: الوقت- أما قوله: «مطرنا بنوء كذا» فهذا لا يجوز؛ لأن الباء تفيد السببية.
المتن
[56/54] باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبدالله
ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب
ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر
ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر
ابن نزار بن معد بن عدنان
● [3605] حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا النضر، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين، فمكث ثلاث عشرة سنة، ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم.
الشرح
قوله: «باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم» المبعث من البعث، وأصله الإثارة، ومنه بعثت الصيد إذا أثرته، ويطلق على التوجيه في أمر ما -رسالة أو حاجة- ومنه بعثت البعير إذا أثرته من مكانه، وبعثت العسكر إذا وجهتهم للقتال، وبعثت النائم من نومه إذا أيقظته، فمادة الباء والعين والثاء تدل على الإثارة، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم تحريك له وإثارة، وأمر له بتبليغ الرسالة والدعوة إلى توحيد الله وتنزيهه عز وجل عن الشرك.
ذكر المؤلف نسب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر عشرين جَدًّا له صلى الله عليه وسلم، فهو «محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان»، وبالإضافة إلى أبيه عبدالله يكونون واحدًا وعشرين أبًا، وهذا النسب متفق عليه بين النسابين، وما بعد عدنان مختلف فيهم، وهم خمسة أجداد أو ستة بين عدنان وإسماعيل، مع اتفاقهم على أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام، والأجداد الستة هم: أدد بن مقوم بن تارح بن يشجب بن يعرب بن نابت بن إسماعيل، فإسماعيل عليه السلام أبو العرب، فنبينا صلى الله عليه وسلم حفيد لإبراهيم عليه السلام، وأفضل بيوت النسب على الإطلاق بيت إبراهيم عليه السلام، وفهر هو الجد العاشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قريش، وقيل: قريش هو النضر بن كنانة، وهو الجد الثاني عشر للنبي صلى الله عليه وسلم، والأول أرجح.
● [3605 ] قوله: «أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين» هذا هو الشاهد للترجمة، وهو متفق عليه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين سنة.
قوله: «فمكث ثلاث عشرة سنة، ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم» فمدة النبوة والرسالة ثلاث وعشرون سنة، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل: توفي وهو ابن خمس وستين، وقيل: ابن ستين، والأرجح ما دل عليه حديث ابن عباس هذا أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، قضى أربعين سنة قبل النبوة، وثلاثًا وعشرين منها نبيًّا رسولًا.
واختار هذا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في رسالته «الثلاثة الأصول»، قال: «وله من العمر ثلاثٌ وستون سنةً، منها أربعون قبلَ النبُّوَّةِ، وثلاثٌ وعشرون نبيًّا رسولًا»([4]).
ولم يتوفَّ النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به الدين، وهذا ما نبه الله عز وجل عليه، فقد قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)[المائدة: 3]، ولما كمل الدين دخل الناس في دين الله أفواجًا، فأسلموا لما فتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وجاءت الوفود في السنة التاسعة، وكانت الأعراب تنتظر ما يحدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش، فيقولون: اتركوه وقومه، إن غلبه قومه فهو ليس بنبي، وإن غلب قومه أسلمنا، فلما فتحت مكة جاءت الوفود من شتى القبائل يعلنون إسلامهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وسمي العام التاسع للهجرة عام الوفود، حتى جاء مسيلمة الكذاب -من بني حنيفة- نائبًا عن قومه، وقال: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدوَ أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله»([5]).
فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فتوفاه الله وقد كمل به الدين، فلا يحتاج إلى زيادة ولا نقص، فمن زاد أو نقص في الدين عمدًا، أو اعتقد أنه يجوز الزيادة والنقص فيه فقد ارتد عن الإسلام -نعوذ بالله من ذلك.
* * *
المتن
[57/54] باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة
● [3606 ] حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا بيان وإسماعيل قالا: سمعنا قيسا يقول: سمعت خبابا يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُرْدَةً وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمرٌّ وجهُه فقال: «لقد كان مَن قبلكم ليُمْشَطُ بمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حَضْرَمَوْتَ ما يخاف إلا الله».
زاد بيان: «والذئب على غنمه».
● [3607] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبدالله قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم فسجد، فما بقي أحد إلا سجد إلا رجل رأيته أخذ كفا من حصى فرفعه فسجد عليه، وقال: هذا يكفيني. فلقد رأيته بعدُ قُتل كافرا بالله.
● [3608] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي مُعيْط بسَلَى جزور، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل ابن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف - أو أبي بن خلف !» - شعبة الشاك - فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر غير أمية - أو أبي - تقطعت أوصاله، فلم يلق في البئر.
● [3609] حدثني عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، قال: حدثني سعيد بن جبير - أو قال: حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير - قال: أمرني عبدالرحمن بن أبزى قال: سل ابن عباس عن هاتين الآيتين ما أمرهما: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) [الإسراء: 33]، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً)[النساء: 93]، فسألت ابن عباس؛ فقال: لما أنزلت التي في الفرقان قال مشركو أهل مكة: فقد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلها آخر، وأتينا الفواحش، فأنزل الله (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً) [الفرقان: 70] الآية، فهذه لأولئك، وأما التي في النساء: الرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم.
فذكرته لمجاهد فقال: إلا من ندم.
● [3610] حدثنا عياش بن الوليد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، قال: حدثني عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاصي: أَخبِرْني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديدًا؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ) الآية [غافر: 28].
تابعه ابن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عروة، عن عروة: قلت: لعبدالله بن عمرو....
وقال عبدة: عن هشام، عن أبيه، قيل لعمرو بن العاصي:....
وقال محمد بن عمرو: عن أبي سلمة، حدثني عمرو بن العاصي....
الشرح
قوله: «باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة» هذه الترجمة معقودة لبيان ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ي من وجوه الأذى من كفار مكة، وصبرهم على ذلك.
● [3606] في هذا الحديث بيان ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة، فقد أصابهم شدة، وعذبوا وأوذوا في الله، فبلال رضي الله عنه عذب في الله، وجر على الرمضاء، ووضعت الصخرة العظيمة على صدره، وكان يقول: أحد أحد.
وكذلك عمار بن ياسر رضي الله عنه وأمه سمية ل عذبوا في الله عذابًا شديدًا، وكذلك خباب، حتى جاء خباب رضي الله عنه يشتكي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وهو متوسد بردة» البردة: قطعة قماش.
قوله: «وقد لقينا من المشركين شدة»، يعني: عذابًا شديدًا.
قوله: «فقعد وهو محمر وجهه» يعني: احمر وجه النبي صلى الله عليه وسلم من كراهية ما قاله خباب رضي الله عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرادهم أن يصبروا وأن يتحملوا، فهذا الأذى الذي يصيبهم في الله فيه رفع لدرجاتهم وتكفير لسيئاتهم.
قوله: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه»، يعني: يؤتى بمشاط الحديد فيفصل به اللحم عن العظم، ولا يصد ذلك العذاب الإنسان عن دينه.
قوله: «ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه» هذا يدل على أن فيمن سبق من بني إسرائيل وغيرهم أخيار، وأنهم صبروا وتحملوا الأذى، فكان يأتي الكفرة منهم إلى المسلمين فيقولون لهم: اكفروا، فيمتنع المسلمون، فيأتي الكفرة بمشاط الحديد يفصلون به لحم المؤمن - وهو حي - عن عظمه، إلا أن هذا العذاب لا يصرف المؤمن عن دينه، ويؤتى بالمنشار على مفرق رأس المؤمن، فيشق به نصفين، ولا يصده ذلك عن دينه، فهذا صبر عظيم.
وفي قصة أصحاب الأخدود أن الكفرة حفروا للمسلمين حفرة عميقة في الأرض وأضرموا بها النار، ثم ألقوا فيها المسلمين، فتساقط المسلمون في النار ولا يبالون بهذا العذاب، ولم يردهم ذلك العذاب الشديد عن دينهم، فهم صابرون ثابتون، ولما تلكأت امرأة ومعها صبي؛ خوفًا وإشفاقًا منها على ولدها أنطق الله الصبي فقال: اصبري يا أماه فإنك على الحق([6])، فصبرت على هذا العذاب الأليم، وتمسكت بدينها.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كانت الليلة التي أسري بي فيها أتت عليَّ رائحة طيبة فقلت: يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بينا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم إذ سقطت المدرى من يديها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك: الله، قالت: أخبره بذلك؟ قالت: نعم، فأخبرته فدعاها فقال: يا فلانة وإن لك ربًّا غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها، قالت له: إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحدًا واحدًا إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع وكأنها تقاعست من أجله؛ قال: يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت»([7]).
فهذا كله يدل على أن هناك أخيارًا فيمن سبقنا، صبروا على الأذى لدرجة إلقائهم في النار وهم صابرون وثابتون على دينهم، فذَّكر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ي بخبر من سبقهم من الأخيار الذين صبروا على دينهم؛ وذلك لحثهم على الصبر، وتثبيتهم على الإيمان، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»([8]).
قوله: «وليتمن الله هذا الأمر»، يعني: الإسلام.
قوله: «حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله» فهذه بشارة فيها علم من أعلام النبوة بأن دين الإسلام سينتشر، وأن المسلمين سيظهرون دينهم ولا يخافون أحدًا إلا الله؛ فسيدخل الناس في دين الله أفواجًا، ويصبح الإسلام قويًّا، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله.
قوله: «والذئب على غنمه»، يعني: ويخاف الذئب على غنمه، فعطف بحرف «الواو»، ولم يقل: لا يخاف إلا الله ثم الذئب؛ لأن ذلك على تقدير: ما يخاف إلا الله ويخاف الذئب على غنمه، أو أن هذا كان في أول الإسلام.
● [3607 ] قوله: «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم فسجد، فما بقي أحد إلا سجد» فيه: أنه لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم سجد وسجد من معه من المسلمين والمشركين، فما بقي أحد إلا سجد، وذلك أن الشيطان ألقى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فظنوا أنه صالحهم، فجاء في حديث فيه ضعف([9]) -لكنه جاء في مراسيل يشد بعضها بعضًا- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة النجم، فلما قرأ (أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى)[النجم: 19، 20] ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، فقالوا: هذا الذي نريده، ما نريد إلا الشفاعة، فلما سجد سجد المشركون والمسلمون جميعًا، حتى سمع المؤمنون المستضعفون الذين هاجروا إلى الحبشة أن قريشًا صالحت النبي صلى الله عليه وسلم فقدموا من الحبشة، فلما جاءوا وجدوا الأمر على أشد مما كان، ثم هاجروا الهجرة الثانية.
قوله: «إلا رجل» هو أمية بن خلف.
قوله: «رأيته أخذ كفاً من حصى فرفعه فسجد عليه، وقال: هذا يكفيني. فلقد رأيته بعدُ قُتل كافرًا بالله»، أي: قال عبد الله بن مسعود: «فلقد رأيته بعد قتل كافرًا بالله»، يعني: يوم بدر، وأما أخوه أُبَيٌّ فقتل يوم أحد.
والحديث فيه من الفوائد أنه قبل أن يشرع الوضوء لم تشترط الطهارة في سجدة التلاوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد، وسجد معه الناس جميعًا، ولم يقل: لا يسجد إلا من كان على طهارة، ومن قال بعدم اشتراط الطهارة في سجدة التلاوة ابن عمر والشعبي والبخاري، فهم يرون أنها خضوع لله، فلا يشترط لها الطهارة ولا استقبال القبلة والسلام، وإنما هي تكبير في الأول ثم يخرج من التكبير بدون سلام.
ويرى الجمهور أنها صلاة، فلابد لها من الطهارة واستقبال القبلة والسلام.
● [3608 ] قوله: «جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه»، أي: ألقى عقبة بن أبي معيط بسلى الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم على حاله، وكان هذا في أول الإسلام قبل شرعية الوضوء، فالصلاة شرعت والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وشرع الوضوء والتيمم وكان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وإلا فكيف يصلي والنجاسة على ظهره؟! فسلى الجزور من ذبيحة الكافر يعد ميتة.
وهناك توجيه ثانٍ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري ما قذف على ظهره؛ ولذلك استمر في صلاته، وجاءت فاطمة ل فأخذته من على ظهره ودعت على من صنع ذلك.
قوله: «اللهم عليك الملأ من قريش» الملأ يعني: الأشراف، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته دعا عليهم، وكانوا يضحكون مما حدث، فلما دعا عليهم خافوا وزال عنهم الضحك، فهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه مستجاب الدعوة.
قوله: « الملأ من قريش أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية ابن خلف أو أبي بن خلف» الصواب أنه أمية، فهؤلاء الأربعة الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قتلوا جميعًا يوم بدر، وألقوا في البئر، غير أمية بن خلف «تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر».
أما أبي بن خلف أخو أمية فقتل يوم أحد، وكان يقول: أريد أن أقتل محمدًا، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: «أنا أقتله إن شاء الله»([10])، وكان عليه درع من حديد قد أصبغ بدنه، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فرجة في كتفه من بين الحديد فطعنه فيها، ومن هذه الطعنة أصابه وجع شديد وجعل يخور كما يخور الثور، فقالوا: يا أبا فلان ما لك؟! قد أصابك شيء يسير. قال: والله لو أن أهل الوادي أصابهم ما أصابني لهلكوا.
● [3609] ذكر في هذا الأثر أن سعيد بن جبير أمره عبد الرحمن بن أبزى أن يسأل ابن عباس عن آيتين: آية النساء وآية الإسراء ثم ذكر له ابن عباس آية الفرقان وآية الإسراء: (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)، وأما آية النساء ففيها: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93]، فسأل ابن عباس فبين له أن آية الفرقان نزلت في المشركين، فقد قال مشركو مكة: «فقد قتلنا النفس التي حرم الله ودعونا مع الله إلها آخر وأتينا الفواحش، فأنزل الله: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ)[الفرقان: 70]» وقصد بها المشركين التائبين، وأما آية النساء: «( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) يقصد بها الرجل إذا أسلم وعرف أوامر الإسلام ونواهيه ثم قتل مسلمًا بغير حق فجزاؤه جهنم.
قوله: «إلا من ندم»، يعني: إلا من تاب.
● [3610 ] قوله: «سألت ابن عمرو بن العاصي»، يعني: عبدالله بن عمرو بن العاص م.
قوله: «أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم» هذا هو الشاهد للترجمة،
وفيه: بيان ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من الشدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، ومع ذلك ابتلي وامتحن صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فالأنبياء تبتلى كما في حديث هرقل: «أن أبا سفيان بن حرب قال: إن هرقل قال له: سألتك كيف كان قتالكم إياه؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة»([11]).
قوله: «فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا» سُلِّطَ هذا الخبيث عقبة بن أبي معيط على النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، يريد أن يقتله، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وأخذ بمنكب عقبة بن أبي معيط ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم دفعًا شديدًا، وقال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ) [غافر: 28].
فهذا من الابتلاءات التي ابتلي بها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقي عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرًا([12])؛ لشدة عداوتهما له صلى الله عليه وسلم، ففي يوم بدر نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وحزبه من المؤمنين، فقتل المسلمون في ذلك اليوم سبعين من المشركين وأسروا منهم سبعين، فمنهم من افتدى نفسه بمال يدفعه، ومنهم من افتدى نفسه بتعليم صبيان المسلمين في المدينة، وكان من بين الأسرى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهما صبرًا، والقتل صبرًا أي: انتقامًا من غير دفاع.
قوله: «تابعه ابن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عروة، عن عروة: قلت: لعبدالله ابن عمرو» قال الحافظ ابن حجر /: «وصله أحمد([13]) من طريق إبراهيم بن سعد والبزار([14]) من طريق بكر بن سليمان كلاهما عن ابن إسحاق بهذا السند، وفي أول سياقه من الزيادة، قال: «حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وغير ديننا، وفرق جماعتنا. فبينما هم في ذلك إذ أقبل، فاستلم الركن، فلما مر بهم غمزوه، وذكر أنه قال لهم في الثالثة: «لقد جئتكم بالذبح»، وأنهم قالوا له: يا أبا القاسم ما كنت جاهلًا، فانصرف راشدًا، فانصرف، فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع فقالوا: قوموا إليه وثبة رجل واحد» إلى أن قال: «فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجامع ثيابه، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي فقال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ) [غافر: 28] ، ثم انصرفوا عنه».
قوله: «وقال عبدة: عن هشام، عن أبيه، قيل لعمرو بن العاصي» قال الحافظ ابن حجر /: «هكذا خالف هشام بن عروة أخاه يحيى بن عروة في الصحابي، فقال يحيى: عبد الله بن عمرو، وقال هشام: عمرو بن العاص، ويرجح رواية يحيى موافقة محمد بن إبراهيم التيمي عن عروة، على أن قول هشام غير مدفوع؛ لأن له أصلًا من حديث عمرو بن العاص، بدليل رواية أبي سلمة عن عمرو الآتية عقب هذا، فيحتمل أن يكون عروة سأله مرة وسأل أباه أخرى، ويؤيده اختلاف السياقين، وقد ذكرت أن عبد الله بن عروة رواه عن أبيه بإسناد آخر عن عثمان فلا مانع من التعدد، نعم لم تتفق الرواة عن هشام على قوله: عمرو بن العاص، فإن سليمان بن بلال وافق عبدة على ذلك، وخالفهما محمد بن فليح فقال: عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، ذكره البيهقي([15])».
قوله: «وقال محمد بن عمرو: عن أبي سلمة، حدثني عمرو بن العاصي» قال الحافظ ابن حجر /: «وصله البخاري في «خلق أفعال العباد»([16]) من طريقه، وأخرجه أبو يعلى([17])، وابن حبان([18]) عنه من وجه آخر عن محمد بن عمرو، ولفظه: «ما رأيت قريشًا أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يومًا أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس وهو يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه لركبتيه وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ) [غافر: 28] ، ثم انصرفوا عنه، فلما قضى صلاته مر بهم فقال: «والذي نفسي بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح»، فقال له أبو جهل: يا محمد ما كنت جهولًا، فقال: «أنت منهم».
ويدل على التعدد أيضًا ما أخرجه البيهقي في «الدلائل»([19]) من حديث ابن عباس عن فاطمة رضي الله عنها قالت: «اجتمع المشركون في الحجر فقالوا: إذا مر محمد ضربه كل رجل منا ضربة، فسمعت ذلك فأخبرته فقال: «اسكتي يا بنية» ثم خرج فدخل عليهم، فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا، قالت: فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال: «شاهت الوجوه»، فما أصاب رجلًا منهم إلا قتل يوم بدر كافرًا.
وقد أخرج أبو يعلى([20]) والبزار([21]) بإسناد صحيح عن أنس قال: لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ) [غافر: 28] فتركوه وأقبلوا على أبي بكر، وهذا من مراسيل الصحابة.
وقد أخرجه أبو يعلى([22]) بإسناد حسن مطولًا من حديث أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا لها: ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكر نحو سياق ابن إسحاق المتقدم قريبًا، وفيه: فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول: ويلكم، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ) فلهوا عنه، وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا رجع معه.
ولقصة أبي بكر هذه شاهد من حديث علي أخرجه البزار([23]) من رواية محمد بن علي عن أبيه، أنه خطب فقال: من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت قال: أما إني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه، ولكنه أبو بكر، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلقاه ويقولون له: أنت تجعل الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول: ويلكم (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ)، ثم بكى علي ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير منه، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا يعلن بإيمانه».
* * *
المتن
[58/54] إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه
● [3611] حدثني عبدالله، قال: حدثني يحيى بن معين، قال: حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن بيان، عن وبرة، عن همام بن الحارث، قال: قال عمار بن ياسر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر.
الشرح
قوله: «إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه» هذه الترجمة معقودة لبيان مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبيان إسلامه وسبقه إليه.
● [3611 ] قوله: «وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر»، هذا ما قال عمار، وذلك على حسب علمه، وإلا فقد أسلم علي، وزيد بن حارثة، وسعد بن أبي وقاص وعثمان ي، وجمع.
قوله: «وامرأتان» يعني: خديجة وإحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم.
كل هذا على حسب علم عمار رضي الله عنه، ولكن الجمهور على أن أول من أسلم من الرجال: أبو بكر رضي الله عنه، وأول من أسلم من النساء: خديجة ل زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من أسلم من الصبيان: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأول من أسلم من العبيد: بلال رضي الله عنه.
وقد ذكر ابن إسحاق في «السيرة»([24]) أن أبا بكر رضي الله عنه كان يتحقق أن النبي صلى الله عليه وسلم سيبعث، فلما دعاه إلى الإيمان بادر إلى تصديقه من أول وهلة؛ ولهذا سمي بالصديق، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عكم حين ذكرته له وما تردد فيه»([25])، فلم يتوقف ولم يتردد أبو بكر رضي الله عنه، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحال.
* * *
المتن
[59/54] إسلام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
● [3612 ] حدثنا إسحاق، قال: أنا أبو أسامة، قال: حدثنا هاشم، قال: سمعت سعيد بن المسيب، قال: سمعت أبا إسحاق سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام.
الشرح
قوله: «إسلام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه» قال الحافظ ابن حجر /: «مناسبته لما قبله واجتماعهما في أن كلًّا منهما يقتضي سبق من ذكر فيه إلى الإسلام خاصة، لكنه محمول على ما اطلع عليه، وإلا فقد أسلم قبل إسلام بلال وسعد خديجة وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب وغيرهم».
● [3612 ] قوله: «ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه» قال هذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وذلك على حسب علمه، وإلا فقد أسلم قبله جمع منهم: خديجة وأبو بكر وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة.
قوله: «أحد» جاء نكرة في سياق النفي للتعميم، فالقاعدة الأصولية تقول: إن النكرة إذا سبقها نفي تعم -وكذلك إذا سبقها نهي أو شرط- فهي بذلك تشمل الرجال والنساء والصبيان، ويدل على ذلك قوله: «إني لثلث الإسلام»، فلو قصد الرجال فقط، فهو بذلك لم يعتبر إسلام النساء، وهذا لا يصح.
قوله: «وإني لثلث الإسلام» يعني: كان ثالث المسلمين وقتها، والثلثان الآخران الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وهذا خطأ، فقد أسلمت خديجة ل من أول وهلة، وأسلم أبوبكر وعلي وزيد وبلال ي وأسلم غيرهم أيضًا، لكن سعدًا يرى أنه مكث سبعة أيام وهو ثالث المسلمين، ولم يسبقه إلى الإسلام إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وهذا خطأ كما أوضحنا.
* * *
المتن
[60/54] ذكر الجن وقول الله عز وجل:
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ) [الجن: 1]
● [3613] حدثني عبيدالله بن سعيد، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا مسعر، عن معن، قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقاً: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك، يعني: عبدالله، أنه آذنت بهم شجرة.
● [3614] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جَدِّي، عن أبي هريرة، أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم الإداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: «من هذا؟» فقال: أنا أبو هريرة، فقال: «أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة»، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعتُ إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبينَ - ونعم الجن - فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعامًا».
الشرح
قوله: «ذكر الجن وقول الله عز وجل: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ) [الجن: 1]» قال الحافظ ابن حجر /: «تقدم الكلام على الجن في أوائل بدء الخلق بما يغني عن إعادته. قوله: «وقول الله عز وجل: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ)» الآية، يريد تفسير هذه الآية.
وقد أنكر ابن عباس أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الصلاة من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «ما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم»([26])... الحديث، وحديث أبي هريرة في هذا الباب وإن كان ظاهرًا في اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن وحديثه معهم، لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم، ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن؛ لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وأبو هريرة إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة المدينة، وقصة استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك، فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن والرجوع إلى قومهم منذرين كما وقع في القرآن، وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بين في الحديثين المذكورين، ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضًا بمكة، وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود كما سنذكره، وأما حديث أبي هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة، ويحتمل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضًا.
قال البيهقي([27]): حديث ابن عباس حكى ما وقع في أول الأمر عندما علم الجن بحاله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود انتهى.
وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد والحاكم([28]) من طريق زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: «هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخل، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة».
قلت: وهذا يوافق حديث ابن عباس، وأخرج مسلم([29]) من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحب أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا. ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا: اغتيل، استطير؛ فبتنا شر ليلة. فلما كان عند السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فذكرنا له، فقال: «أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم»، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
وقول ابن مسعود في هذا الحديث إنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم أصح مما رواه الزهري أخبرني أبو عثمان بن شيبة الخزاعي أنه سمع ابن مسعود يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: «من أحب منكم أن ينظر الليلة أثر الجن فليفعل»([30])، قال: فلم يحضر منهم أحد غيري، فلما كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطًّا ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق، ثم قرأ القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وفرغ منهم مع الفجر فانطلق... الحديث.
قال البيهقي([31]): يحتمل أن يكون قوله في «الصحيح» ما صحبه منا أحد أراد به في حال إقرائه القرآن، لكن قوله في «الصحيح»: إنهم فقدوه يدل على أنهم لم يعلموا بخروجه، إلا أن يحمل على أن الذي فقده غير الذي خرج معه، فالله أعلم.
ولرواية الزهري متابع من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن ابن مسعود قال: استتبعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال «إن نفرًا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة فأقرأ عليهم القرآن»([32])، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخط لي خطًّا. فذكر الحديث نحوه، أخرجه الدارقطني وابن مردويه وغيرهما.
وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الجوزاء عن ابن مسعود نحوه مختصرًا.
وذكر ابن إسحاق([33]) أن استماع الجن كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف لما خرج إليها يدعو ثقيفًا إلى نصره، وذلك بعد موت أبي طالب، وكان ذلك في سنة عشر من المبعث، كما جزم ابن سعد([34]) بأن خروجه إلى الطائف كان في شوال، وسوق عكاظ التي أشار إليها ابن عباس كانت تقام في ذي القعدة. وقول ابن عباس في حديثه: «وهو يصلي بأصحابه»([35]) لم يضبط ممن كان معه في تلك السفرة غير زيد بن حارثة، فلعل بعض الصحابة تلقاه لما رجع، والله أعلم.
وقول من قال: إن وفود الجن كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صريحًا في أولية قدوم بعضهم. والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء من استراق الجن السمع دال على أن ذلك كان قبل المبعث النبوي وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ولذلك لم يقيد الترجمة بقدوم ولا وفادة، ثم لما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة».
● [3613 ] قوله: «من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن؟» يعني: من أعلمه ليلة استمع الجن القرآن.
قوله: «آذنت بهم شجرة» يحتمل أن الله أنطق الشجرة، فأعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بمجيء الجن، وهذا هو الظاهر، ويحتمل - أيضًا - أن الله جعل له علامة عند الشجرة ثم نزل الوحي.
ووجه إدخال المؤلف ذكر الجن في مناقب الأنصار، أنهم لقوا النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوه مؤمنين، فهم صحابة، فالصحابة يكونون من الإنس ومن الجن أيضًا؛لأن أدق تعريف للصحابي أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا ومات على الإسلام، فلقاء النبي صلى الله عليه وسلم أعم من رؤيته؛ لأنها تشمل العميان، فعبد الله بن أم مكتوم أعمى لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فهو صحابي؛ لأنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ومات على الإسلام.
● [3614 ] قوله: «الإداوة» يعني: سقاء صغير من جلد يكون فيه الماء، كان يحمله أبوهريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لوضوئه وحاجته.
قوله: «أبغني أحجارًا أستنفض بها»، يعني: ائتني بأحجار أستجمر بها، والاستجمار أن يطهر القبل والدبر مما خرج منهما، وتكون الطهارة بالحجارة كما تكون بالماء، أو بهما معًا.
وفيه: أن الاستجمار بالحجارة يكفي عن الماء إذا وجدت الشروط، والأكمل أن يكون بالحجارة ثم يتبعه بالماء.
وشروط الاكتفاء بالاستجمار دون استعمال الماء ما يلي:
الشرط الأول: ألا يتجاوز الخارج موضع العادة، فالبول من القبل لا يتجاوز مخرجه إلى الحشفة، والغائط لا يتجاوز المخرج إلى الصفحة، فإن تجاوز موضع العادة فلابد فيه من الماء؛ لأن الحجارة وقتها لا تكفي.
الشرط الثاني: أن يستجمر الإنسان بثلاثة أحجار فأكثر، فلا يجزئ حجر ولا حجران، ويمكنه الاستجمار بالطين المتحجر أو بمناديل الورق الخشنة، ثلاث مسحات فأكثر، أما المسحة والمسحتان فلا تجزئ، ولابد أن تكون هذه الأحجار طاهرة، ولابد أن تكون منقية، فإذا أزال بثلاثة أحجار كفى، وإن لم ينق الخارج بثلاثة أحجار زاد حجرًا رابعًا، فإن أنقى برابع يستحب أن يزيد خامسًا حتى ينتهي الاستجمار بوتر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من استجمر فليوتر»([36])، فإن لم ينق بخمسة أحجار زاد حجرًا سادسًا، فإن أنقى بالحجر السادس يستحب أن يزيد حجرًا سابعًا حتى يقطع الاستجمار بوتر من الأحجار.
وفي هذه الحالة التي لا يتجاوز فيها الخارج موضع العادة، واستجمر الإنسان فيها بثلاثة أحجار فأكثر، والأحجار - فيها - منقية طاهرة، لا يبقى إلا أثر يسير لا يزيله إلا الماء فيعفى عنه.
وأنكر بعض العرب الاستنجاء بالماء، فكانوا يستجمرون بالحجارة فقط، وقال بعض العلماء: إن الاستجمار بالحجارة أفضل، أما الصواب أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار، والأفضل مطلقًا أن يستجمر الإنسان بالحجارة ثم يتبعه بالماء.
قوله: «ولا تأتني بعظم ولا بروثة» وقد ورد في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي مرة بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال لمن أتى بها: «إنها رجس»([37]).
قوله: «هما من طعام الجن»، يعني: العظم والروث، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجن: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم»([38])، يعني: يعود إلى العظم اللحم الذي أخذ منه، أما الروثة فتكون بعرًا لدوابهم، ويعود إليها حبها الذي أخذ منها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم»(3) ، أي: لا تستنجوا بالعظم والروثة؛ لأن من استجمر بهما أفسدهما على إخوانه من الجن، وذلك بالإضافة إلى أن العظم أملس لا ينقي.
قوله: «أتاني وفد جن نصيبين» نصيبين بلدة بين الشام والعراق.
قوله: «ونعم الجن» يثني عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحهم، وقد أتى الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرات، أتوه في مكة وأتوه في المدينة.
وهذا الحديث فيه أن أبا هريرة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أراه مكانهم وآثار نيرانهم، وفي رواية أخرى أن ابن مسعود قال: استتبعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن نفرًا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتوني الليلة، فأقرأ عليهم القرآن»، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطًّا قال: «لا تتجاوز هذا الحد»([39])، يعني: هذا الخط.
* * *
المتن
[61/54] إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
● [3615 ] حدثنا عمرو بن عباس، قال: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، قال: حدثنا المثنى، عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه , وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل اضطجع , فرآه علي , فعرف أنه غريب , فلما رآه تبعه , فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مَضْجَعِه، فمر به علي، فقال: أمَا نال للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث قَعد على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لَتُرْشِدَنِّي فعلتُ، ففعل، فأخبره، قال: فإنه حق، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري»، قال: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، ثم قال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه، وثاروا إليه، فأكب العباس عليه.
الشرح
قوله: «إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه» قال الحافظ ابن حجر /: «هو جندب، وقيل: بريد بن جنادة -بضم الجيم والنون الخفيفة- ابن سفيان، وقيل: سفير بن عبيد بن حرام -بالمهملتين- ابن غفار، وغفار من بني كنانة».
● [3615] هذه هي قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وهو من قبيلة غفار، وفيها أن أبا ذر رضي الله عنه سمع بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نقل الناس الأخبار أن هناك رجلًا بمكة يزعم أنه نبي، فلما بلغ ذلك أبا ذر قال لأخيه أنيس: «اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل».
قوله: «هذا الوادي» يعني: مكة؛ فقد قال الله تعالى: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [إبراهيم: 37].
قوله: «فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي» يعني: اذهب إلى هذا الرجل فاسمع من قوله «ثم ائتني» أي: ائتني بالخبر الصحيح، «فانطلق الأخ»، وجاءت تسميته أنه «أنيس» كما ذكر مسلم في «صحيحه»([40]) «حتى قدمه» أي: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم «وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر» رضي الله عنه، فسأله أبو ذر عنه: «فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر».
قوله: «فقال: ما شفيتني مما أردت»، يعني: لم تأتني بشيء واضح عن هذا الرجل، فركب هو وذهب بنفسه.
قوله: «فتزود»، أي: أخذ الزاد طعامًا وشرابًا، فالسفر قديمًا يحتاج إلى زاد، فلم يكن السفر مبسطًا، كاليوم، فاليوم توجد مطاعم واستراحات عديدة على الطرق، أما قديمًا فإما أن يأخذ الطعام من بيته وإلا هلك في الطريق.
قوله: «حمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة» الشنة هي القربة القديمة اليابسة، فلم يوجد وقتها ثلاجات ولا مبردات، فكانوا يضعون الماء في القربة، والقربة كلما كانت قديمة ويابسة يصير ماؤها أبرد، أما إذا كان الجلد شديدًا فلا يبرد الماء.
فأخذ أبو ذر رضي الله عنه الزاد على ناقته حتى قدم مكة، فأتى المسجد الحرام، وكانت الأمور في ذلك الوقت مبسطة، فالإنسان يدخل كل مكان في المسجد بطعامه ولا يعترضه أحد، بل قد تجد المسجد - وقتها - ليس عليه جدار، فالنبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره([41])، أما اليوم توسع الناس وكثروا وقامت المدنية.
قوله: «فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه»، أي: ينظر هنا وهناك لعله يرى أحدًا يتكلم، فما رأى أحدًا، «وكره أن يسأل عنه» أي: عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يخاف من أذى قريش، وظل هكذا «حتى أدركه بعض الليل اضطجع» وهو على حاله، «فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح»؛ فكل واحد منهما خائف من الآخر؛ لأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في شدة من تعذيب المشركين لهم، فاحتمل أبوذر رضي الله عنه زاده إلى المسجد، وظل أبوذر رضي الله عنه هكذا، «ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم» ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم، «حتى أمسى فعاد إلى مضجعه»، أي: فعاد أبوذر إلى مكانه الذي ينام فيه، «فمر به علي فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله؟» يعني: ما حان أن يعلم منزله؟، «فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء»؛ لأن الوقت وقت فتنة وشدة بسبب تعذيب المشركين، «حتى إذا كان يوم الثالث قعد على مثل ذلك»، أي: عاد علي على مثل ذلك «فأقام معه»، ثم قال علي لأبي ذر: «ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟»، أي: ما الذي جاء بك إلى مكة؟ فقال له أبوذر رضي الله عنه: «إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لتُرشدني فعلت»، يعني: أعطني العهد والميثاق ألا تضرني وأن تخبرني بالذي أريد، «إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا»، بذلك أخبرتك ما الذي أتى بي إلى هنا، «ففعل» علي رضي الله عنه وأعطاه العهد والميثاق، «فأخبره»، وقال: إني جئت أسأل عن هذا الرجل الذي يدعي النبوة، فقال علي رضي الله عنه: «فإنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني»، يريد أن يذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، «فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء»، أي: فقال له علي رضي الله عنه: اتبعني فإن رأيت أحدًا أخشى عليك منه سأجلس كأني أريق البول وأنت تمشي كأنك لا تعرفني؛ لأنه إذا وقف، قد يقول له أحد المشركين لماذا تنتظر؟ ومن أنت؟ فينكشف أمرهما، ولم يكن للناس في ذلك الوقت دورات مياه، فكانت أمورهم بسيطة، فقد يريق الإنسان بوله في مكان واسع ليس فيه بنيان، «فسمع من قوله وأسلم مكانه» يعني: أسلم في الحال بمجرد أن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، «فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري»، يعني: ارجع إلى قومك واعبد الله ولا تكلف نفسك ما لا تطيق، حتى تسمع أن دعوتي انتشرت، وأسلم عدد كبير من الناس، فلا يجب عليك الآن أن تُظهر إسلامك، وأن تُعرض نفسك للعذاب، لكن أبا ذر رضي الله عنه قال: «والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» هكذا بقوة إيمانه، لأنه أراد ألا يترك صاحبه، فقد فعل ذلك على الرغم من أنه لا يجب عليه أن يظهر دينه ويعرض نفسه للأذى، فلما أعلن أبوذر رضي الله عنه إسلامه قامت إليه قريش وجعلوا يضربونه «حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، ثم قال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام»، أي: فأتاه العباس رضي الله عنه وأكب عليه واستنقذه وقال: هذا الرجل من غفار، وقبيلته على طريقكم في تجارتكم إلى الشام، فإن آذيتموه سيمنعونكم من المرور من طريقهم، «فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها» أي: عاد أبو ذر رضي الله عنه في اليوم التالي وصرخ بها ثانية، فأتوا إليه «فضربوه» مثل اليوم الأول، «وثاروا إليه، فأكب العباس عليه»، أي: استنقذه العباس رضي الله عنه منهم، فكانت هذه قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
وننبه هنا أن إظهار أبي ذر رضي الله عنه إسلامه في وقت الشدة والفتنة بما يعرضه للأذى لم يكن واجبًا عليه، أما إذا كان الإنسان يتحمل الأذى ويصبر عليه فله رخصة أن يظهر دينه في ذلك الوقت، فبعض المؤمنين الأقوياء يجد لذة في تحمله العذاب والصبر عليه، ويجد حلاوة ويزداد قوة وصلابة وتمسكًا بدينه، وإلا فقد رخص الله عز وجل للمؤمنين ألا يظهروا دينهم في وقت الشدة والفتنة، حتى لا يتعرضوا إلى ما لا يطيقون من أذى الكفار، بل أباح الله عز وجل للإنسان أن ينطق كلمة الكفر إذا أكره على النطق بها، بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان، فقال الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 106]، لكن إذا كان الإنسان يمتلك القدرة على تحمل الأذى ولم يكن مضطرًّا إلى النطق بكلمة الكفر فلا يجوز له أن ينطق بها ولو أكره على ذلك، فعليه أن يصبر على الأذى ضربًا أو حبسًا أو حتى قتلًا؛ لأن الرخصة لمن خشي على نفسه عدم التحمل، وأبو ذر رضي الله عنه لا يبالي بما حدث له في سبيل إظهار دينه، فعنده صبر وتحمل؛ ولذلك عاد الكرة في اليوم التالي.
ولقد صبر الإمام أحمد بن حنبل - إمام أهل السنة والجماعة - على الحبس والأذى في فتنة القول بخلق القرآن، وأقرانه من الأئمة تأولوا -ولهم رخصة في تأولهم- فقيل له: يا إمام لك رخصة فلا تشق على نفسك، فخشي أن يتكلم بكلام موهم يضل به الناس، فقال: لا؛ انظروا إلى رحبة دار الخليفة، فوجدوا رحبة عظيمة فيها كتاب ينتظرون أن يكتبوا مقالة الإمام أحمد، فقال: هل تريدون أن أضل هؤلاء؟! كلا بل أموت ولا أضلهم، وظل الإمام أحمد صابرًا في هذه المحنة والفتنة الشديدة حتى فرج الله عنه، ونصر به الإسلام، وصار بذلك إمامًا لأهل السنة، فقالوا: حفظ الله الدين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة.
* * *
المتن
[62/54] إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه
● [3616 ] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن قيس قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتُني وإن عمر لَمُوثِقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر، ولو أن أُحداً ارفَضَّ للذي صنعتُم بعثمان لكان.
الشرح
قوله: «إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه» هذه الترجمة في إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه، وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزوج أخته فاطمة ل، وقد أسلما قبل إسلام عمر رضي الله عنه، وكانا يستخفيان بإسلامهما، حتى علم عمر بإسلامهما فعذبهما.
● [3616 ] قوله: «والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام»، يعني: أوثقه بالرباط وعذبه؛ يريده أن يترك دينه، وكان ذلك قبل إسلام عمر رضي الله عنه.
قوله: «ولو أن أحدًا ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان»، يعني: لو أن أُحدًا تحرك للذي صنعه الثوار بعثمان رضي الله عنه لكان حقًّا له أن يرفض؛ لعظم جريمتهم، فقد قتلوا أمير المؤمنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المشهود له بالجنة، وزوج بنتي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رضي الله عنه شيخًا كبيرًا، تجاوز الثمانين، وكان عند قتله يقرأ القرآن بالمصحف، ففضائله عظيمة، ومع ذلك أحاطوا به وقتلوه، ولم ينظروا إلى صحبته ومصاهرته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرحموا شيخوخته وكبر سنه، ولم ينظروا إلى كونه يقرأ القرآن، فمقتل عثمان رضي الله عنه جريمة عظيمة، وهذه الاغتيالات تؤدي إلى الفوضى والاضطراب في المجتمع الإسلامي، ولذلك يقول: لو تحرك أحد من مكانه وسقط - لهذه الجريمة - ما كان كبيرًا، إنما حقيق له، وجدير به أن يفعل ذلك، وهو مأخوذ من قول الله تعالى: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ) [مريم: 90].
وقد قال سعيد رضي الله عنه ذلك على سبيل التمثيل، وقال الحافظ ابن حجر /: «قال الداودي: معناه أنه لو تحركت القبائل وطالبت بثأر عثمان لكان أهلًا لذلك، وهذا بعيد من التأويل»، أما الصواب فهو ظاهر الحديث، أن الجبل العظيم لو تحرك أو سقط لكان جديرًا به أن يسقط لمقتل عثمان رضي الله عنه.
المتن
[63/54] إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
● [3617 ] حدثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن ابن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
● [3618] حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد، قال: فأخبرني جَدِّي زيد بن عبدالله بن عمر، عن أبيه قال: بينما هو في الدار خائفا إذ جاءه العاصي بن وائل السهمي أبو عمرو عليه حُلَّةُ حِبَر وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيَقتُلوني إن أسلمت، قال: لا سبيل إليك، بعد أن قالها أمنت، فخرج العاصي فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ، قال: لا سبيل إليه؛ فكر الناس.
● [3619] حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا سفيان، قال عمرو بن دينار - سمعته قال - قال عبدالله بن عمر: لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره، وقالوا: صبأ عمر، وأنا غلام فوق ظهر بيتي، فجاء رجل عليه قَباء من ديباج فقال: فصَبأَ عمر، فما ذاك؟! فأنا له جارٌ، قال: فرأيت الناس تصدعوا عنه، فقلت: من هذا؟ قالوا: العاصي بن وائل.
● [3620] حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني عمر، أن سالماً حدثه عن عبدالله بن عمر قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليَّ الرجلَ؛ فدُعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استَقبَل به رجلاً مسلماً، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، قالت: ألم تر الجن وإبلاسَها، ويأسَها بعدُ مِن أنسَاكِها، ولحوقَها بالقِلاص وأحلاسِها، قال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ - لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه - يقول: يا جَليحْ، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا أنت؛ فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليحُ، أمر نجيحٌ، رجل يصِيْحُ يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
● [3621] حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا قيس قال: سمعت سعيد بن زيد يقول للقوم: رأيتُني مُوثِقي عمر على الإسلام أنا وأختَه وما أسلم، ولو أن أُحُدًا انفَضَّ لما صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن ينفَضَّ.
الشرح
قوله: «إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه»، أي: بيان إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
● [3617] هذا الحديث فيه منقبة لعمر رضي الله عنه، فهو قوي في الحق، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»([42])، فلقد كان عمر رضي الله عنه قويًّا في الجاهلية، وكذلك في الإسلام.
قوله: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر» يعني: أن المشركين استخفوا بالإسلام والمسلمين قبل إسلام عمر رضي الله عنه، فلما أسلم عمر رضي الله عنه أظهر المسلمون إسلامهم ولم يبالوا، ولما أراد أن يهاجر - وكان من قبله يهاجرون مستخفين - أظهر هجرته، وقال: «من أراد أن تثكله أمه فليلقني وراء هذا الوادي»([43]).
● [3618 ] قوله: «سال بهم الوادي» يعني: امتلأ بهم الوادي.
قوله: «الذي صبأ»، يعني: الذي خرج عن دينه؛ فهم يسمون من خرج عن دين قومه الصابئ.
قوله: «لا سبيل إليه»، يعني: لا تستطيعون إيذاءه.
قوله: «فكر الناس»، يعني: رجعوا.
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «فأخبرني جدي»، ظاهر السياق أنه معطوف على شيء تقدم، وقد رواه الإسماعيلي من طريق ابن وهب هذه، فقال فيها: عن ابن وهب أخبرني عمر بن محمد، قوله: «وعليه حلة حبر» - بكسر المهملة وفتح الموحدة - وهو برد مخطط بالوشي، وفي رواية: «حبرة» بزيادة هاء، قوله: «أن أسلمت» بفتح الألف وتخفيف النون، أي: لأجل إسلامي، قوله: «لا سبيل عليك بعد أن قالها»، أي: الكلمة المذكورة، وهي قوله: لا سبيل عليك، قوله: «أمنت» - بفتح الهمزة وكسر الميم وسكون النون وضم المثناة - أي: حصل الأمان في نفسي بقوله ذلك، ووقع في رواية الأصيلي بمد الهمزة وهو خطأ؛ فإنه كان قد أسلم قبل ذلك، وذكر عياض أن في رواية الحميدي بالقصر أيضًا لكنه بفتح المثناة، وهو خطأ أيضًا؛ لأنه يصير من كلام العاص بن وائل، وليس كذلك، بل هو من كلام عمر، يريد أنه أمن لما قال له العاص بن وائل تلك المقالة، ويؤيده الحديث الذي بعده».
● [3619 ] قوله: «لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره»، أي: اجتمع المشركون يريدون صده عن دينه وإيذاءه.
قوله: «صبأ عمر»، يعني: خرج عن دينه.
قوله: «ديباج» نوع من الحرير.
قوله: «فأنا له جارٌ»، يعني: أمنعه منكم وأدافع عنه، فقد أجاره العاص بن وائل وهو على دين قومه.
قوله: «تصدعوا عنه»، يعني: انصرفوا.
● [3620] في هذا الحديث منقبة عظيمة لعمر رضي الله عنه، فعن سالم أنه حدث عن عبد الله ابن عمر قال: «ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن»، أي: فإنه يصدق ظنه، وفي اللفظ الآخر: «إن يكن في أمتي محدثون فمنهم عمر»([44])، يعني: ملهمون، فهو ملهم رضي الله عنه، إذا ظن شيئًا وقع.
قوله: «بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل»، كان هذا في الإسلام.
قوله: «لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم» يقول عمر رضي الله عنه: هذا الرجل الجميل الذي مر إما أنه على دينه في الجاهلية، أو أنه كان كاهنهم، فدعي الرجل له، فقال له ذلك، فأنكر الرجل عليه، وقال: «ما رأيت كاليوم استقبل به رجلًا مسلمًا»، أي: أنا رجل مسلم كيف تستقبلني بهذا الكلام وتعاتبني على شيء مضى؟ فقد كنت كاهنًا في الجاهلية، لكني اليوم مسلم.
قوله: «فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني»، يعني: أخبرني ما هو أمرك قبل أن تسلم، فقال: «كنت كاهنهم في الجاهلية»، لكن مَنَّ الله علي بالإسلام.
قوله: «فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟» فقد كان الكاهن يأتيه جني شيطان، كما جاء في الحديث: «إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم»([45])،
وفي الحديث: الآخر: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة»([46]).
قوله: «ألم تر الجن وإبلاسها» أبلست يعني: أصابها ما تكره ويئست.
قوله: «صدق» قال عمر لقد صدق هذا الرجل فإن الجن أبلست بسبب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ويئست من الإضلال.
قوله: «بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ -لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه- يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا إنت» يدل هذا على أن هذا الجني الذي صاح وتكلم قد أسلم ويحث الرجل الذي يذبح للصنم على الإسلام، «فوثب القوم» ليعلموا ما وراء هذا القول.
قوله: «فما نشبنا أن قيل: هذا نبي»، يعني: هذا الجني استعلم واستخبر خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحث وليه من الإنس على الإسلام، فقال له: أسلم، وهنا قال عمر: فلما ذهبنا قال الناس: هذا نبي بعث، فعلموا ببعثته صلى الله عليه وسلم.
● [3621 ] قوله: «رأيتني موثقي عمر على الإسلام أنا وأخته»، أي: إن سعيد بن زيد أسلم وأسلمت زوجته، وكان سعيد ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وزوجته فاطمة أخت عمر رضي الله عنه، فعذبهما عمر على الإسلام قبل أن يسلم، ثم مَنَّ الله عليه بالإسلام.
قوله: «ولو أن أحدًا انفض لما صنعتم بعثمان لكان محقوقًاً أن ينفض»، أي: يقول سعيد بن زيد رضي الله عنه: لو أن أحدًا انفض وسقط لما كان ذلك كثيرًا؛ لعظم الجريمة التي صنعت بأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.
([1]) أحمد (5/342)، ومسلم (934).
([2]) أحمد (3/194)، والبخاري (1303)، ومسلم (2315).
([3]) أحمد (6/281)، والبخاري (1304)، ومسلم (924).
([4]) «الأصول الثلاثة» (ص20).
([5]) البخاري (3621)، ومسلم (2273).
([6]) أحمد (6/16)، ومسلم (3005).
([7]) أحمد في «المسند» (1/309)، والحاكم (2/538).
([8]) أحمد (3/103)، والبخاري (16)، ومسلم (43).
([9]) البزار في «مسنده» (11/296).
([10]) عبد الرزاق في «المصنف» (5/355)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/211).
([11]) أحمد (1/262)، والبخاري (2804).
([12]) عبد الرزاق في «المصنف» (5/355).
([13]) أحمد (2/218).
([14]) «مسند البزار» (6/458).
([15]) «دلائل النبوة» للبيهقي (2/277).
([16]) «خلق أفعال العباد» للبخاري (ص75).
([17]) «مسند أبي يعلى» (13/325).
([18]) «صحيح ابن حبان» (14/529).
([19]) «دلائل النبوة» للبيهقي (2/277-278).
([20]) «مسند أبي يعلى» (6/362).
([21]) «مسند البزار» (14/58).
([22]) «مسند أبي يعلى» (1/52).
([23]) «مسند البزار» (3/15) لكن من رواية محمد بن عقيل عن علي بن أبي طالب.
([24]) «سيرة ابن إسحاق» (1/120).
([25]) «السيرة النبوية» لابن إسحاق (2/91).
([26]) أحمد (1/252)، والترمذي (3223).
([27]) «دلائل النبوة» للبيهقي (2/227).
([28]) الحاكم (2/495).
([29]) مسلم (450).
([30]) الحاكم في «المستدرك» (2/547).
([31]) «دلائل النبوة» للبيهقي (2/230).
([32]) الطبراني في «الأوسط» (9/17)، والبيهقي في «الدلائل» (2/231).
([33]) «سيرة ابن إسحاق» (90).
([34]) «طبقات ابن سعد» (2/98).
([35]) أحمد (1/252)، والبخاري (773)، ومسلم (449).
([36]) أحمد (2/278)، والبخاري (161)، ومسلم (237).
([37]) أحمد (1/388)، والبخاري (156).
([38]) أحمد (1/436)، ومسلم (450).
([39]) أحمد (1/455) بمعناه، والطبراني في «الكبير» (10/66).
([40]) مسلم (2473).
([41]) أحمد (3/317)، والبخاري (1608)، ومسلم (1272).
([42]) أحمد (3/367)، والبخاري (3353)، ومسلم (2378).
([43])هذه الرواية ضعيفة، والصحيحة، أنه هاجر سراً ... انظر ابن هشام (2 / 129- 131 )؛ بأسناد حسن، وصححه ابن حجر في الإصابة ( 3 / 604).
([44]) أحمد (6/55)، والبخاري (3469).
([45]) أحمد (6/87)، والبخاري (3210)، ومسلم (2228).
([46]) أحمد (6/87)، والبخاري (7561).