صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي عظم شأن الصلوات، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرضين والسموات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل الخلق من جميع البريات، قدوة الناس وأسوتهم في العبادات والمعاملات، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان في السبق إلى الخيرات وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى، واستمعوا إلى شيء من صفة صلاة النبي ﷺ، وسياق صلاته ﷺ وقد ذكرنا طرفا منها فيما مضى، لتأخذوا من نبيكم ﷺ الأسوة الحسنة، قال الله تعالى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا وقال عليه الصلاة والسلام: صلو كما رأيتموني أصلي.
وقد نقل الصحابة حركاته وسكناته وهيآته حتى اضطراب لحيته في الصلاة، ومن هديه ﷺ في الصلاة.
كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يركع رفع يديه إلى أن يحاذي بهما فروع أذنيه كما يفعل عند تكبيرة الأحرام، ثم يقول الله أكبر، ويخر راكعا، ويضع يديه على ركبتيه فيمكنهما من ركبتيه، ويفرج بين أصابعه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه.
ثم يعتدل ويجعل رأسه حيال ظهره، فلا يرفعه ولا يصوبه، ويحصر ظهره ، أي يمده ولا يجمعه ثم يقول: سبحان ربي العظيم، ويمكث قدر ما يقول القائل عشر مرات، وربما مكث فوق ذلك أو دونه، ويمكث مثل ذلك في السجود.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله، سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله ﷺ أشبه صلاة برسول الله ﷺ من هذا الفتى (يعني عمر بن عبد العزيز)، فحسبنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا رفع رأسه من ركوعه يقول : سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه كما رفعهما عند الركوع ،فإذا اعتدل قائما قال : ربنا ولك الحمد، وربما قال: اللهم ربنا ولك الحمد ملئ السموات، وملئ الأرض، وملئ ما شئت من شيء بعد إلى آخر ما ورد في ذلك، وتمامه: أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد -وكلنا لك عبد-: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد، منك الجد.
وكان عليه الصلاة والسلام يطيل الوقوف بعد الركوع حتى يقول القائل: قد أوهم أو قد نسي.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد السجود يكبر ويخر ساجد، ولا يرفع يديه، وكان يضع ركبتيه قبل يديه وكان يسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه، وكان يعتمد على ألية كفيه ويرفع مرفقيه ويجافي عضديه عن جنبيه حتى يبدو بياض أبطيه ، ويرفع بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه ويعتدل في سجوده، ويمكن وجه في الأرض مباشراً به للمصلى غير ساجد على شيء مما يكون على رأسه. ثم يقول : سبحان ربي الأعلى، ويمكث قدر عشر مرات.
ثم يرفع رأسه قائلاً: الله أكبر غير رافع يديه ،ثم يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويضع يديه على فخذيه ثم يقول : اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني وفي لفظ: وعافني بدل واجبرني وكان يطيل هذه الجلسة حتى يقول القائل: قد أوهم أو نسي.
ثم يكبر ويسجد غير رافع يديه، ويصنع في الثانية مثل ما صنع في الأولى، ويرفع رأسه مكبراً وينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه وفخذيه ولم يكن يرفع يديه في هذا القيام، وكان إذا استتم قائما أخذ في القراءة ولم يسكت، وافتتح قراءته بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فإذا سجد في التشهد الأول جلس مفترشا كما يجلس بين السجدتين، ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ، واليمنى على فخذه اليمنى ، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى كهيأة الحلقة، وجعل بصره على موضع إشارته، وكان يرفع أصبعه السبابة ويحنيها قليلا، يوحد بها ربه
وروى أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، عنه ﷺ أنه قال: هكذا الإخلاص يشير بأصبعه التي تلي الإبهام ثم كان يقول: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وكان يعلم أصحابه التشهد كما يعلمهم القرآن، هذا تشهد ابن مسعود ، وهو أكمل من تشهد ابن عباس ، لأنه يتضمن جملاً مغايرة، وروي فيه أنواع كثر وكلها جائزة.
ثم يكبر وينهض، فيصلي الثالثة والرابعة، ويخففهما عن الأوليين، وكان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، وربما زاد عليه أحياناً.
وشرع لأمته أن يصلوا عليه في التشهد الأخير فيقولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وأمرهم أن يتعوذوا بالله من عذاب النار، وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال.
وعلم الصديق أن يدعوا في صلاته بهذا الدعاء اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.
ثم كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله ، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله
وكان إذا قنت لقوم أو على قوم ، يجعل قنوته في الركعة الأخيرة، بعد رفع رأسه من الركوع ، وكان أكثر ما يفعل ذلك في صلاة الصبح.
ووصف أنس صلاة رسول الله ﷺ بالتمام والكمال مع الإيجاز، فعن أنس أنه قال: كان رسول الله ﷺ يوجز الصلاة ويكملها. وعنه أنه قال: ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله ﷺ في تمام.
وبين فيه أن من إتمامها الذي أخبر به، إطالة الاعتدالين ، فقد قال في الحديث المتفق عليه : إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله ﷺ يصلي بنا. قال ثابت كان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه: كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي.
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: رمقت الصلاة مع محمد ﷺ فوجدت قيامه فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فجلسته ما بين التسليم والانصراف، قريبا من السواء.
ولا يناقض هذا ما رواه البخاري في هذا الحديث: كان ركوع النبي ﷺ وسجوده وما بين السجدتين وإذا رفع رأسه ما خلا القيام والقعود، قريبا من السواء؛ لأنه المراد أن طولهما كان مناسبا لطول الركوع والسجود والاعتداليين بحيث لا يظهر التفاوت الشديد في طول هذا وقصر هذا ، كما يفعل هذا مما لا علم عنده بالسنة، يطيل القيام جدا، ويخفف الركوع والسجود.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واقتدوا برسول الله ﷺ في أعمالكم عامة وفي صلاتكم خاصة، لتكونوا من المقيمين للصلاة الذين وعدهم الله تعالى بالفوز والفلاح والظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ورزقني وإياكم من التمسك بسنة نبيه الكريم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فتوبوا إليه واستغفروه يتب عليكم ويغفر لكم إنه هو التواب الرحيم الغفور.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأعوانه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الصلاة عمود الإسلام، وأنها هي آخر ما يفقد في الدين ، وأنها أول ما يحاسب به العبد إذا وضع في قبره، وأن من حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، فالمسلم الموفق الذي من الله عليه بالتوفيق والهداية هو الذي يعتني بصلاته، ويهتم بها، ويقيمها، ظاهرا وباطنا باطنا بالإخلاص وحضور القلب، وظاهرا بإقامتها بأركانها وشروطها وومستحباتها ووجباتها ومستحباتها وهيآتها، وأدائها جماعة في المساجد كما أمر الله وكما أمر رسوله ﷺ في قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي.
هذا هو الموفق، الموفق الذي يعتني بصلاته، والذي يقيمها باطنا وظاهرا، حتى تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فإن المسلم إذا أقام الصلاة وأداها كما أمر الله وكما أمر رسوله ﷺ، عن إخلاص ورغبة ورهبة وعن متابعة لنبينا محمد ﷺ، فإنها لا بد أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فإقام الصلاة يلزم أن تنهاه هذه الصلاة التي أقامها عن الفحشاء والمنكر ،كما قال ربنا تبارك وتعالى وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ بهذه الصلاة إقامة ذكر الله والنهي عن الفحشاء، وإقامه ذكر الله هو الأمر الأكبر والأعظم.
فاتقوا الله عباد الله، واعتنوا بصلاتكم، وأدوها كما أمر الله وكما أمر رسوله ﷺ، أدوا هذه الصلاة عن إخلاص ورغبة ورهبة، أدوها مقيمين لها، مقيمين لحدودها، مقيمين لواجباتها، مقيمين لأركانها، مقيمين لمستحباتها، مقيمين للطمأنينة فياه، معتنين بأدائها جماعة في المساجد، معتنين مقيمين لها بمتابعة الإمام فيها، مقيمين لها بتدبر ما تقرأه أيها المصلي وما تسمعه من الإمام.
فاتقوا الله عباد الله ، واعتنوا بهذه الصلاة وأدوها وأقيموها كما أمركم ربكم ، وأقرؤوا كتاب ربكم وسنة نبيكم محمد ﷺ، ليتبين لكم من خلال ذلك عظم شأن الصلاة، وأهميتها وأنها هي الركن الأعظم للإسلام ، وأن من أقامها فقد أقام الدين، ومن ضيعها فقد ضيع الدين.
اقرؤوا كتاب ربكم وسنة نبيكم محمد ﷺ، تعلموا معانيهما وتفقهوا في أحكامهما، وتحاكموا إليهما وحكموهما في كل شأن من شؤونكم حتى تكونوا أعزاء في الدنيا وسعداء في الآخرة.
وإنَّ أًحسَنَ الحديثِ كتابُ اللهِ ، وَخَيرُ الهديِ هديُ محمَّدٍ ﷺ، وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها ، وكلُّ محدثةٍ بِدعةٌ ، وكُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلُّ ضلالةٍ في النَّارِ
والزموا جماعة المسلمين الزموا جماعة المسلمين في معتقداتهم وفي عبادتهم وفي بلدانهم وأوطانهم؛ فإن يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ومن شذ عنهم في الدنيا شذ في النار يوم القيامة.
ألا وصلوا على محمد ﷺ فإن الله أمركم بذلك حيث قال إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.