شكر الله تعالى
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله المنعم الوهاب الولي الحميد أحمده سبحانه حمد مؤمن صادق واأشكره والشكر لحفظ نعمه أوثق الوثائق ، باسط الرزق على عباده فهو الرازق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المستحق للحمد والشكر، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله المعظم لربه بالتكبير والحمد والشكر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولوا الفضائل والمناقب والذكر، ومن تبعهم بإحسان في سيرهم إلى الله في العبادة والذكر والفكر وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله تعالى أوجب علينا شكر نعمه وحرم علينا الكفر بنعمة فقال تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ فهذا تذكير من الله لعبادة المؤمنين بما أنعم به عليهم من بعثة الرسول ﷺ وقد بين الله جل وعلا ان بعثة نبيه ﷺ من منن الله تعالى عليهم فقال لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وبين الله في موضع آخر أن الكفار قابلوا هذه النعمة بالكفران فقال تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ
وبين الله أنهم أنكروا هذه النعمة بعد معرفتها فقال تعالى يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ وقيل المراد بالنعمة ما عدد الله عليهم من النعم ينكرونها بعد معرفتها ويدعون أنهم ورثوها عن آبائهم.
أيها المسلمون، لقد أمر الله تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير فقال تعالى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.
والشكر أيها المسلمون له أركان ثلاثة لا يقوم إلا بها:
أحدها: الإقرار بالنعمة، والثاني: نسبتها إلى المنعم، والثالث: بذلها فيما يحب ويرضى.
فلا بد من الإقرار بالنعمة والتحدث بها والثناء على صاحبها قال تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
ولا بد في شكر النعمة من نسبتها إلى الله ، ونسبتها إلى غيره من أبواب الشرك الخفي، كما أن نسبتها إلى الله من أبواب الشكر كما في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر عن النبي ﷺ مَنْ أُبْلِى معروفا فَلَمْ يَجدْ له جزاء إِلا الثَّنَاءَ فَقَدْ شَكَرهُ، ومَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ وفي رواية لأبي داود: مَنْ أُبْلِى بَلاءً فَذَكَرهُ فَقَدْ شَكَره، وَمَنْ كتَمهُ فَقَدْ كفَره أي من أنعم عليه، فإذا كان ذكر المعروف الذي يقدمه الله على يدي إنسان من شكره فذكر معروف رب العالمين وآلائه وإحسانه ونسبة ذلك إليه أولى بأن يكون شكرا ، فنسبة النعمة إلى غير مسديها وموليها إنكار لها وكفر لها ولو كان ذلك بعد معرفتها ، كما قال الله تعالى يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ فسر السلف ذلك بنسبة النعم إلى غير الله، كما قال مجاهد ما معناه: هو كقول الرجل هذا مالي ورثته عن آبائي. مع أنها إذا كانت موروثه عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم، إذ أنعم بها على آبائهم ثم أورثهم إياها فتمتعوا هم وآبائهم بنعمه ،وقال عون بن عبدالله يقولون لولا فلان لم يكن كذا، أو لولا فلان أصابني كذا وكذا أو لولا فلان لم أصب بكذا وكذا ،وهذا يتضمن قطع إضافة النعمة ممن لولاه لم تكن، وإضافتها إلى من لم يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن غيره، وقال ابن قتيبة يقولون هذا بشفاعة آلهتنا وهذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها ، والآية تعم ذلك كله.
وقال تعالى في ذم الأنسان الكافر في نسبته نعم الله إلى كسبة وقوته وعلمه وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً في معناها قال مجاهد: هذا بعملي وأن محقوق به وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد من عندي.
وقال تعالى حكاية عن قارون أنه قال لما نصحه قومه أن يبتغي فيما أتاه الله الدار الآخرة قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب وقال آخرون :على علم من الله أني له أهل، وهذا معنى قول مجاهد أوتيته على شرف، وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الآية.
وقال تعالى في ذم الإنسان في نسبته نعمة الله إلى نفسه فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يخبر الله سبحانه أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله وينيب إليه ويدعوه فإذا أنعم الله عليه طغى وبغى ونسب النعمة إلى نفسه فيقول إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ،أي لما يعلم من استحقاقه له ولولا أني عند الله حضيض لما خولني لهذا، قال الله ردا عليه ليس الأمر كما زعمت بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ واختبار أيطيع فيشكر النعمة أم يعصي فيكفر النعمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، وقال بعض السلف هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاح حاذقا ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير، والمعنى أن السفن إذا جرينا بريح طيبة بأمر الله جريا حسنا نسبوا ذلك إلى طيب الريح وحذق الملاح في سياسة السفينة ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة بهم، وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هو الفاعل لذلك من دون الله من دون خلق الله وأمره وإنما أراد أنه سبب لكن ينبغي أن يضيف ذلك إلى الله مولاها المنعم بها وهو المنعم على الأطلاق ،كما قال تعالى وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وقيدوا نعم الله بالشكر بطاعته، والقيام بأوامره ونواهيه، وصرف هذه النعم بما يرضيه سبحانه، واللهج بذكره وحمده وتسبيحه وتقديسه، والمسارعة بما يرضية، واحذروا من الجرأة على محارم الله، والكفر بنعمه واستعمالها في معاصيه فتحل بكم النكبات والعقوبات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ووفقني وإياكم للعمل الصالح والتوبة النصوح.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فتوبوا إليه واستغفروه، يتب عليكم ويغفر لكم إنه هو التواب الرحيم الغفور.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه سبحانه وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسول الداعي إلى رضوانه صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأعوانه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى ، واشكروا نعم الله عليكم ظاهرا وباطنا، فقد أسبغ الله علينا نعمة ظاهرة وباطنة ،ومن أعظم النعم التي أنعم بها علينا بعد أن أوجدنا وخلقنا نعمة الإسلام ،من الله علينا بالإسلام وهدانا للإيمان ومن علينا ببعثة نبينا محمد ﷺ وجعلنا من أمته، فهذه من أعظم النعم لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً فالله تعالى من على المؤمن نعمة دينية خصه بها من الكافر، فعليك يا عبد الله أن تشكر هذه النعمة ، وأن تسأل الله الثبات عليها ، وأن تحافظ على نعمة التوحيد والإيمان، بجهاد النفس على إخلاص النية له وأداء حقه والقيام بأمره والشكر له على نعمه.
واعلم أن الشكر يكون بالقلب ،ويكون باللسان ويكون بالجوارح فالشكر يكون بالقلب بتعظيم الله تعالى وخشيته، وخوفه، ورجائه، والرغبة إليه ،والرهبة منه ، وتعظيمه فتعظيم الله كل هذا يكون بالقلب، التعظيم والخشية وتذكر النعمة والخوف والرجاء ،ويكون باللسان كتسبيح الله تعالى وتقديسه واللهج بذكره وتلاوة كتابة والثناء عليه ونسبة النعم إليه والدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون بالجوارح باستعمال هذه النعم في طاعة الله ، تستعمل هذه النعم في طاعة الله تقوم بخدمة الله تعالى وعبادته وأداء حقه والقيام بأمره، تقيم الصلاة كما أمرك الله ،تؤدي الزكاة كما أمرك الله، تصوم رمضان كما أمرك الله تحج بيت الله الحرام كما أمرك الله، تبر والديك تصل رحمك تحسن إلى الناس تكف نفسك عما حرم الله عليك تنتهي عن محارم الله خوفا من الله تعالى ورغبة فيما عنده .
بهذا يكون المسلم قد شكر نعمة الله شكرها بقلبه فعظم الله سبحانه وخافه ورجاه ورغب فيما عنده ورهب مما عنده، ويكون باللسان بالثناء عليه ونسبة النعمة إليه ودعائه والتضرع إليه وتسبيحه وتقديسه وتلاوة كتابه، ويكون بالجوارح باستعمال جوارحك في طاعة الله ، بخدمة الله بأداء حقه، بالقيام بأمره بأداء الواجبات والحذر عن المحرمات، والاستقامة على دين الله ، والحذر مما يوجب سخطه وغضبه .
فاتقوا الله عباد الله واشكروا نعم الله عليكم ظاهرا وباطنا واحمدوه سبحانه وقوموا بحقه ، واحذروا من أسباب غضبه وسخطه، واتلوا كتابه وسنة نبيه ﷺ، اتلوا كتاب الله تلاوة المتعقل المتفهم الذي يريد أن يداوي أمراض قلبه.
فـإِنَّ أًحسَنَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وَخَيرُ الهديِ هديُ محمَّدٍ ﷺ، وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلُّ محدثةٍ بِدعةٌ، وكُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النَّارِ
والزموا جماعة المسلمين الزموا جماعة المسلمين في معتقداتهم وفي عبادتهم وفي بلدانهم وأوطانهم؛ فإن يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ومن شذ عنهم في الدنيا شذ في النار يوم القيامة.
ألا وصلوا على محمد ﷺ فإن الله أمركم بذلك حيث قال إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.