الحمد لله على نعمه التي أجلّها نعمة الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونعمَه تترى على الدوام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدالله ورسوله، الأشكر لأنعم ربه العلاّم، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الضياء والظلام، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون .. اتقوا الله واستمعوا إلى هذه القصة العجيبة التي وردت في الصحيحين، فإن فيها العظة والعبرة، وبيان حال من جحد نعمة الله ونسبها إلى غيره، ولم يؤدّ حق الله فيها فحلَّ عليه السخط، وبيان حال من شكر نعمة الله فاعترف بها ونسبها إلى الله وأدى حق الله فيها فحلَّ عليه الرضا، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحبّ إليك ؟.قال: لونٌ حسن وجلد، ويُذهِب عني الذي قد قَذِرني الناس به قال فمسحه فذهب عنه قذره فأعطى لوناً حسناً وجلداً حسناً. قال: فأيّ المال أحب إليك ؟ قال: الإبل أو البقر ـ شكّ إسحاق ـ فأعطي ناقة عُشراء وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع.فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: شَعَرٌ حسنٌ ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه وأعطى شعراً حسناً. فقال: أي المال أحب إليك؟.قال: البقر أو الإبل.فأعطي بقرة حاملا وقال: بارك الله لك فيها. قال: وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يردّ الله إليَّ بصري فأُبصر به الناس.فمسحه فرد الله إليه بصره.قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: الغنم.فأعطي شاة والداً، فأَنْتج هذان وولَّد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم.قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك ؟ ألم تكن أبرص يَقذرك الناس ؟ فقيراً، فأعطاك الله عز وجل المال ؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيَّرك الله على ما كنت.قال: ثم إنه أتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثلَ ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا.فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.قال: ثم أتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجلٌ مسكين وابنُ سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرَك شاةً أتبلّغ بها في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري.فقال: قد كنتُ أعمى فردّ الله إليّ بصري، فخذْ ما شئت ودعْ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذتَه.فقال: أمسك عليك مالك، فإنما ابتُليتم، فقد رضي الله عليك وسخط عن صاحبيك ".أخرجاه [1]. يعني البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: هذا حديث عظيم فيه عبرة لمن اعتبر، فإن الأبرص والأقرع جحدا نعمة الله ولم يقرا لله بنعمته، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أدّيا حق الله فيها فحلّ عليهما السخط من الله بكفرهما بنعمته، وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدّى حق الله فيها، فحلّ عليه الرضى من الله لقيامه بشكر النعمة.
أيها المسلمون: لقد أنعم الله علينا في هذه البلاد في هذه الأزمنة بنعم وافرة كثيرة لم تحصل لغيرنا في جميع بقاع الدنيا، أنعم الله على أهل هذه البلاد بنعمة الأمن والاطمئنان والاستقرار يسير الراكب من أقصى المملكة إلى أقصاها طولاً وعرضاً شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، آمناً لا يخاف إلا الله، أنعم الله عليهم بوفرة الأموال وكثرة الخيرات والأرزاق في التجارات و العقارات والأثاث والأمتعة والملابس والمساكن والمراكب والأطعمة والأشربة على اختلاف تنوّعها وتعدّدها وأشكالها وألوانها، أنعم الله عليهم بالصحة والعافية والسلامة من الأمراض المهلكة ويظهر ذلك في كثرة التناسل والتوالد، فكثر الأولاد من البنين والبنات وامتلأت بهم البيوت والمدارس، وفوق ذلك كلِّه نعمة الإسلام وعقيدة التوحيد وتحكيم شرع الله التي هي أعظم نعمة أنعمَ الله بها عليهم، فتَحَتّم عليهم شكرُ نعم الله أكثر من غيرهم لئلا يُسلبوا هذه النعم فَتَحلُّ بهم أضدادها من النعم فيبّدل أمنهم واستقرارُهم خوفاً وذلاً، وغناهم فقراً، وشبعهم جوعاً وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل :116]، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً[الإسراء:16].
أيها المسلمون: مع تتابع هذه النعم التي سمعتم بعضاً منها وترادفها ولن تُحصوا نعم الله كثرة وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم :34] مع ذلك كله لم يشكر كثيرٌ من الناس خالقهم ومولاهم بل استعان على معاصيه وذلك من أسباب زوالها:
إذا كنت في نعمة فارعها | فإن المعاصي تزيل النعم |
والكفر بالنعمة ذنب عظيم؛ لأنه إنكار للجميل وتنكّر للمولى والمسدي والمنعم.
أيها المسلمون: لابد في شكر النعمة من معرفة النعمة والمُنعِم بها والاعتراف بإنعامه والخضوع له والمحبة والرضى به والرضا عنه و استعماله في محابه ومراضيه وطاعته.
يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله: " أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعِم على وجه الخضوع له، و الذل، والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعم، لكن جحدها كما يجحدها المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقرّ بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ولم يحبه ولم يرض به وعنه لم يشكره أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقرّ بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلابدّ في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم، وهو الميلُ إلى المنعمِ ومحبته والخضوعُ له "[2]. انتهى كلامه رحمه الله .
فاتقو الله أيها المسلمون واشكروا نعم الله عليكم يزد لكم منها، ولا تكفروها فتسلبوها وتحل بكم العقوبات التي حلت بالمجاورين لكم وبمن سبقكم، فإن السعيد من وُعظ بغيره.
اللهم اجعلنا ممن إذا أُعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.