الحمد لله القائل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة :3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا أن نعبده بما شرعه لنا، وأشهد أن محمداً عبده ورسولـه حذّرنا من البدع والمحدثات في ديننا، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المتمسكين بسُنَّته الذين عضوا عليها بالنواجذ، ومن تبعهم وسار على نهجهم عملاً بسنته واستناناً، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بسنة رسول الله ﷺ واعملوا بكتاب ربكم، فقد أكمل الله لنا الدين وأتمّ علينا النعمة، ورضي الإسلام لنا ديناً، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً[المائدة :3].
عباد الله:
إن العبادة لا تصح ولا تكون نافعة ومقبولة عند الله إلا بشرطين:
أحدهما: أن تكون خالصة لله مراداً بها وجه الله ومطلوباً بها رضا الله وجنته.
الثاني: أن تكون موافقة لشرع الله وصواباً على هدي رسول الله ﷺ قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف :110]، وقال تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة:112].
عباد الله: لا يجوز للمسلم أن يتعبد لله بالبدع، فإن فعلَ فهي مردودة عليه، وهي لا تقربه من الله وإنما تبعده منه، وقد كثرت البدع في شهــــر رجب من كثير من الناس، فمن الناس من ابتدع فيه صلواتٍ خاصة به، ومن الناس من ابتدع فيه صياماً خاصاً به، ومن الناس من ابتدع فيه احتفالاتٍ خاصة، ومن الناس من ابتدع فيه أذكاراً خاصة به، ومن الناس من ابتدع فيه قياماً خاصاً للياليه، ورُويت في ذلك أحاديث وآثار لا يثبت شيء منها ،وبناءً على ذلك فلا يسوغ للمسلم أن يتعبّد الله بشيء لم يثبت في كتاب الله، ولم يثبت في سنة رسول الله ﷺ ؛ لأن عَبْدَ الله على الحقيقة هو المطيع له، والمطيع لله هو المتعبد له بما شرعه لا بما تهواه نفسه، ولا بما ابتدعه الناس وأحدثوه في الدين مما لم يأذن الله به.
أيها المسلمون: تخصيص رجب بالصوم أو تخصيص أيام منه بالصوم لا أصل له، وكذا سرد الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان بالصوم، قال الإمام ابن القيم ــ رحمه الله ــ : "ولم يصم ﷺ الثلاثة الأشهر سردا كما يفعلها بعض الناس، ولا صام رجبا قط ولا استحب صيامه، بل روي عنه النهي عن صيامه[1]، ذكره ابن ماجه"[2]. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في كتابه "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب "[3] لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلةٍ مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبق إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، وكذلك رويناه عن غيره ".اهـ.
وقال عبدالرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامه: "إن الصديق أنكر على أهله صيام رجب، وإن عمر كان يضرب بالدَّرة صوّامه ويقول: إنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية "[4]. اهـ.
وثبت عنه أنه كان يضرب أيدي الرجال في رجب إذا رفعوها عن الطعام حتى يضعوها فيه ويقول: إنما هو شهر كان أهل الجاهلية يعظمونه[5].
وقال النووي: "ولم يثبت في صوم رجب نهيٌ ولا ندبٌ بعينه ولكن أصل الصوم مندوب إليه "[6].اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب: "وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه "[7].
أيها المسلمون: إليكم بعض النصوص التي وردت في شهر رجب وحُكْم العلماء عليها، منها: حديث أنس عن النبي ﷺ: من صام من كل شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كُتبت له عبادة سبعمائة سنة. قال الحافظ ابن حجر: رويناه في فوائد تمام الرازي، وفي سنده ضعفاء ومجاهيل.[8] وأورد البخاري غالب طرقه ثم قال: وبالجملة فهو باطل متناً وتسلسلاً.اهـ.
ومنها حديث أنس بن مالك : "إن في الجنة نهراً يُقال له رجب، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر". قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية ": فيه مجاهيل. وقال الذهبي: الحديث باطل.[9]
ومنها حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ: " لم يصم بعد رمضان إلا رجباً وشعبان".قال الحافظ ابن حجر: هو حديث منكر.[10]
ومنها حديث: "صومُ أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، والثالث كفارة سنة، ثم في كل يوم شهراً ".ذكره في الجامع عن الخلال وضعّفه. وقال شارحه: وإسناده ساقط.[11]
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري : "رجب شهر الله وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، فمن صام رجب ... " فذكر في فضله حديثاً طويلاً.قال أبو الخطاب: هذا حديث موضوع على رسول الله ﷺ .[12]
ومنها: حديث أنس قال: كان رسول الله ﷺ إذا دخل رجبٌ قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان ".وهذا الحديث تفرد به زائدة بن أبي الرقاد عن زياد بن ميمون البصري النُميري عن أنس. قال الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي: زائدة بن أبي الرقاد أبو معاذ منكر الحديث، وزياد بن ميمون أبو عمار البصري متروك الحديث.[13]
أيها المسلمون: ومن البدع التي تفعل في شهر رجب قراءة قصة المعراج.
ومنها: الاحتفال في ليلة السابع والعشرين من رجب، أو تخصيص هذه الليلة بشيء من الذكر أو العبادة، والإسراء لم يقم دليل على ليلته ولا على شهره، ولو قام دليل على تعيينه لم يجز تخصيص وقته بعبادة ولا ذكر إلا بدليل، قال الإمام ابن القيم ــ رحمه الله ــ في "زاد المعاد " (ص24): "سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ عن رجل قال :ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، وقال آخر: بل ليلة القدر أفضل، فأيهما المصيب ؟ فأجاب: الحمد لله، أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، إن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي ﷺ ونظائرها من كل عام أفضلُ لأمة محمد ﷺ من ليلة القدر بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر: فهذا باطل، لم يقله أحدٌ من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام.هذا إذا كانت ليلة الإسراء تُعرف عينها، فكيف ولم يقم دليلٌ معلومٌ، لا على شهرها ولا عشرها ولا على عينها ؟ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا بغيره ".اهـ.
أيها المسلمون: وصلاة ليلة المعراج لا أصل لها، ومسألة ذهاب النبي ﷺ ورجوعه ليلة الإسراء ولم يبرد فراشه لم تثبت، بل هي أكذوبة من أكاذيب الناس، وقصة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس كلُّها أباطيل وأضاليل، ولم يصح منها إلا أحرف قليلة.
وأما حديث سلمان الفارسي "في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان كمن صام من الدهر مائة سنة وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه بعث الله محمداً ".قال الحافظ ابن حجر: هذا حديث منكر إلى الغاية[14]، وحديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ: "بُعثت نبياً في السابع والعشرين من رجب، فمن صام ذلك اليوم كان له كفارةٌ ستين شهراً ".ومثله حديث أبي هريرة : "من صام يوم سبع وعشرين من رجب كُكتب لـه صيام ستين شهراً، وهو اليوم الذي هبط فيه جبريل بالرسالة ".قال أبوالخطاب: وهذا حديث لا يصح.وقال الحافظ ابن حجر: وهذا موقوف ضعيف الإسناد.[15] وقصة ابن السلطان الرجل المسرف الذي كان لا يصلي إلا في رجب فلما مات ظهرت عليه علامات الصلاح فسُئل عنه الرسول الله ﷺ فقال: "إنه كان يجتهد ويدعو في رجب ".هذه قصة مكذوبة مفتراة تحرم قراءتها وروايتها إلا للبيان.
أيها المسلمون: لو صام أحدٌ من رجب لقصد الصوم في الجملة من غير أن يجعله حتماً أو يخص منه أياماً معينة يواظب على صومها أو ليال معينة يواظب على قيامها بحيث يظن أنها سنة فهذا لا بأس به.فإن خص ذلك أو جعله حتماً فهو محظور، قال الشافعي ــ رحمه الله ــ في القديم "أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يُكمله من بين الشهور كما يُكمل رمضان.قال: وكذلك أكره أن يتخذ يوماً من الأيام، وإنما كرهت هذا لئلا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب ".اهـ.
وقال أبوبكر الطرطوشي في كتاب "الحوادث والبدع": "يكره صوم رجب على ثلاثة أوجه، أحدها: أنه إذا خصّه المسلمون بالصوم في كل عام ظن العوام إما أنه فرض كشهر رمضان،وإما سنة ثابتة كالسنن الثابتة.وإما لأن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام باقي الشهور ولو كان هذا شيء لبيّنه ﷺ " [16]. اهـ.
فاتقوا الله عباد الله وتعبّدوا لله بما شرع، واحذروا أن تتعبدوا لله بالبدع فتكونون من الأخسرين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
اللهم ارزقنا التمسك بكتابك وسنة نبيك وجنبنا البدع والمحدثات في الدين إنك جواد كريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
- ^ روى ابن ماجه في سننه ، كتاب الصيام (1743) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ"نهى عن صيام رجب" وفي إسناده داود بن عطاء وهو ضعيف متفق على ضعفه.
- ^ زاد المعاد (2/61).
- ^ تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، لابن حجر ص3.
- ^ الباعث على إنكار البدع والحوادث، لأبي شامه ص52.
- ^ مصنف ابن أبي شيبة ، برقم (9758).
- ^ شرح صحيح مسلم ، للنووي (8 /39).
- ^ لطائف المعارف لابن رجب ص118.
- ^ تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، لابن حجر ص10.
- ^ نقلا عن اب حجر في (تبيين العجب بما ورد في فضل رجب) ص 13.
- ^ المرجع السابق ص10.
- ^ التيسير شرح الجامع الصغير (2/95).
- ^ تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، لابن حجر ص 17.
- ^ انظر المرجع السابق ص 13.
- ^ الرجع السابق ص 31.
- ^ المرجع السابق ص 32 .
- ^ الحوادث والبدع ، للطرطوشي ص 141.