الحمد لله الذي أغنى عباده بشريعته عن الآراء والبدع في الدين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المعبود بحق في السموات والأرض، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله جعله الله على شريعة من الأمر فكان لها من المتبعين، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس .. اتقوا الله تعالى.
عباد الله: يقول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران :31]، وقال سبحانه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[الشورى:21]، وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً[آل عمران :3].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1] أي: مردود على صاحبه.وفي لفظ مسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد[2].وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ كان يقول في خطبته يوم الجمعة أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ﷺ وشرَ الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة [3].
أيها المسلمون: هذه الآيات والأحاديث وما في معناها - وهي كثيرة - تدل دلالة صريحـــة علـــى أن الله سبحانه قد أكمــل لهذه الأمة دينها وأتمَّ عليها نعمتـــه، وأن النبي ﷺ قبل وفاته بلّغ البلاغ المبين، وبيَّن للأمة ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال، وأن ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى الإسلام فهو بدعة مردودة على من أحدثه، ولو حَسُن قصدُه، وقد عرف الصحابة وعلماء الإسلام بعدهم هذا الأمر فأنكروا البدع وحذّروا منها، وصنفوا في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضّاح والطُرطوشي وأبي شامة وغيرهم.
أيها المسلمون: ومن البدع التي أحدثها بعض الناس بدعةُ الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص هذه الليلة بشيء من العبادات وتخصيص يومها بالصيام، و ليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما بينه كثير من أهل العلم، ومن الأحاديث التي روَوها في ليلة النصف من شعبان ما أخرجه ابن ماجه في سننه عن عليّ أن النبي ﷺ قال: إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا يومها[4].
ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ: إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان على السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب[5].
ومنها: حديث أبي موسى عن رسول الله ﷺ قال: إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن[6].وهذه الأحاديث كل أسانيدها ضعاف.
أيها المسلمون: ومما أحدث في ليلة النصف من شعبان الصلاة الألفية وتسمى صلاة البراءة، وتسمى الليلةُ ليلةَ البراءة، أي: ليلة نصف شعبان، إشارة إلى البراءة من النار أو الذنوب، وهي مائة ركعة بسورة الإخلاص عشراً عشراً، بالجماعة، قال الشيخ الإمام أبومحمد عبدالرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) الذي ألفه في إبطال صلاة النصف من شعبان وصلاة الرغائب في رجب في أول جمعة منه وهو كتاب نفيس، قال رحمه الله: "فأما الألفية فصلاة ليلة النصف من شعبان، سميت بذلك لأنها يُقرأ فيها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ألف مرة، لأنها مائة ركعة، في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة، وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات، وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأتِ فيها خبر ولا أثر إلا ضعيف أو موضوع، وللعوام بها افتتان عظيم، والتزام بسببها كثرة الوفيد في جميع مساجد البلاد التي تصلى فيها، ويستمر ذلك كلُّه ويجري فيه الفسوق والعصيان واختلاط الرجال بالنساء ومن الفتن المختلفة ما شهرته تغني عن وصفه، وللمتعبدين من العوام فيها اعتقاد متين، وزين الشيطان لهم جعلها من أجلّ شعائر المسلمين، وأصلها ما حكاه الطرطوشي في كتابه، وأخبرني به أبومحمد المقدسي قال: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة قدم علينا في بيت المقدس رجلٌ من نابلس يعرف بابن أبي الحمراء وكان حسن التلاوة فقام يصلي في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهما ثالث ورابع فما ختمها إلا وهم جماعة كثيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير وشاعت في المسجد، وانتشرت في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استقرت كأنها سنة إلى يومنا هذا"[7].اهـ.
قال العلّامة الشوكاني ــ رحمه الله ــ في الفوائد المجموعة ما نصّه:" حديث: ((يا علي، من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات إلا قضى الله له كل حاجة ... إلخ" هو موضوع، وفي ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه، ورجاله مجهولون، وقد رُوي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل، وقال في المختصر: حديث صلاة نصف شعبان باطل، ولابن حبان من حديث علي: ((إذا كان ليلةُ النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها".ضعيف، وقال في اللآلئ: مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات، مع طول فضله للديلمي غير موضوع.
وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء، قال: واثنا عشرة ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع، وأربع عشرة ركعة موضوع، وقد اغتر بهذه الأحاديث جماعة من الفقهاء كصاحب الإحياء وغيره ،وكذا من المفسرين، وقد رُويت صلاة هذه الليلة ــ أعني ليلة النصف من شعبان ــ على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة، ولا ينافي هذا روايةُ الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها ذهابُه ﷺ إلى البقيع ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا وأنه يغفر لأكثر من عِدّة شعر غنَم كلْب، فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع، كما أن حديث عليّ الذي تقدّم ذكره قيام ليلها لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه"[8].اهـ.
وقال الحافظ العراقي: "حديث صلاة ليلة النصف من شعبان باطل وإسناده ضعيف"[9]. اهـ.
وقال الإمام النووي في كتابه "المجموع": "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب و العشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة.هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يُغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل، ولا يُغتر ببعض من اشتبه عليه حكمُهما من الأئمة فصنف ورقاتٌ في استحبابها فإنه غلط في ذلك"[10]. اهـ.
وقال الإمام أبوبكر الطرطوشي ــ رحمه الله ــ في كتابه "الحوداث والبدع" ما نصّه: "ورى ابن وضّاح عن زيد بن أسلم قال: ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلاً على ما سواها، وقيل لابن أبي مُلَيكة: إن زياداً النميري يقول: إن أجر ليلة النصف عن شعبان كأجر ليلة القدر.فقال: لو سمعته وبيدي عصا لضربته.وكان زيادٌ قاصَّاً"[11].اهـ .
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا البدع والحدث في دين الله، وتمسكوا بكتاب الله وسنة رسولـه ﷺ تفلحوا وتربحوا وتكونوا من أحباب الله ويغفر لكم ذنوبكـــم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.
- ^ متفق عليه ، وقد سبق تخريجه.
- ^ سبق تخريجه.
- ^ سبق تخريجه.
- ^ سنن ابن ماجه ، كتاب الصلاة والسنة فيها (1388).
- ^ سنن الترمذي ، أبواب الصوم (739)، سنن ابن ماجه ، كتاب الصلاة والسنة فيها (1389).
- ^ سنن ابن ماجه ، كتاب الصلاة والسنة فيها (1390).
- ^ الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص34-35.
- ^ الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص50- 51.
- ^ تخريج أحاديث الإحياء ، ص240
- ^ المجموع للنووي (4/56).
- ^ الحوادث والبدع للطرطوشي ، ص 130-131.