الحمد لله الذي أكمل دين الإســـلام، ورضيه لعباده وأتمَّ عليهم به النعمة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [آل عمران :3]، أحمده وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، ترك أمته على المحجة البيضاء ليلة كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه المتمسكين بشرعه ودينه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم محمد ﷺ، فمن تمسك بهما فإنه آمن من الضلال في الدنيا ومن الشقاء في الآخرة قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه :123]، وقال عليه الصلاة والسلام: تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنة رسوله [1].
ومن أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فهو خاسر في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا في نكد وقلق وضنك في المعيشة، وفي الآخرة يُحشر أعمى، نسي آيات الله في الدنيا فلم يرفع بها رأساً فنُسي في الآخرة قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه :124].
عباد الله: لقد شاع عند العامة وأشباههم تعظيم ليلة النصف من شعبان ويومها، فبعض الناس يخص هذه الليلة بقيام من بين الليالي، وبعض الناس يخص يومها بصيام من بين الأيام، وبعض الناس في غير هذه البلاد يخصّون هذه الليلة باحتفالات، وبعض الناس يصلي في هذه الليلة على كيفية خاصة كأن يصلي اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة قل هو الله أحد ثلاثين مرة، وبعضهم يصلي أربع عشرة ركعة، وبعضهم يخص هذه الليلة بصلاة ست ركعات بين العشاءين، ويقرأ سورة يس، ويدعو بين ذلك، وبعضهم يجلس في هذه الليلة ويقرأ آية الكرسي والمعوذتين مرات عديدة.
وهذه الأمور لم يثبت أن النبي ﷺ فعلها في ليلة النصف من شعبان ولا أمر بها ولا استحبها ولا فعلها خلفاؤه الراشدون، ولا الصحابة، ولا أتباعهم بإحسان ولا أئمة الدين المقتدى بهم، وما يذكر فيها من الآثار فإنها لا تثبت، فالواجب على المسلم ترك هذه الأمور والاستغناء عنها بكتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ.
ولقد بيَّن العلماء ــ رحمهم الله ــ هذه الأمور وحذروا منها استنادا إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، قال عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة ــ رحمه الله ــ : "وقد رُويت صلاة نصف شعبان على وجهين آخرين موضعين أيضاً ذكرهما أبو الفرج في كتابه:
الأول: عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: من صلى ليلة النصف من شعبان اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة قل هو الله أحد ثلاثين مرة لم يخرج حتى يرى مقعده من الجنة، ويشفع في عشرة من أهل بيته كلهم وجبت لهم النار .
والثاني: عن عليّ قال: رأيتُ رسول الله ﷺ ليلة النصف من شعبان فقام فصلى أربع عشرة ركعة، ثم جلس فقرأ بأم القرآن أربع عشرة مرة، وقل هو الله أحد أربع عشرة مرة، وقل أعوذ برب الفلق أربع عشرة مرة، وقل أعوذ برب الناس أربع عشرة مرة، وآية الكرسي أربع عشرة مرة، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ الآية، وقال: ((من صنع هكذا كان له كعشرين حجةً مبرورة، وكصيام عشرين سنة مقبولة، فإن أصبح في ذلك اليوم صائماً كان له كصيام ستين سنةً ماضية، وصيام ستين سنة مستقبلة )).قال أبو الفرج في الأول[2]: وهذا حديث موضوع، وفيه جماعة مجهولون، وقال في الثاني[3]: وهذا موضوع أيضاً وإسناده مظلم ))[4]. ا.هـ.
ومن البدع في هذه الليلة: صلاة الست ركعات في ليلة النصف من شعبان بنية دفع البلاء وطول العمر والاستغناء عن الناس، وقراءة يس، والدعاء بين ذلك، وهذا حدث في الدين ومخالفة لسيد المرسلين.
عباد الله: ويعتقد بعض الناس أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر وهذا باطل باتفاق المحققين من المحدثين كما بيَّن بطلان ذلك الحافظ ابن كثير ــ رحمه الله ــ في تفسيره[5] وقال ابن العربي في شرح الترمذي: (( وقد ذكر بعض المفسرين أن قولـه تعالى: نَّا أَنزَلْنَاهُأنها في ليلة النصف من شعبان، وهذا باطل ؛ لأن الله لم ينزل القرآن في شعبان، وإنما قال: نَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] وليلة القدر في رمضان، وقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]، فهذا كلام من تعدَّى على كتاب الله ولم يبال بما تكلم به، ونحن نحذركم من ذلك، فإنه قال أيضاً: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان :4]، وإنما تُقرر الأمورَ الملائكةُ في ليلة القدر المباركة لا في ليلة النصف من شعبان ))[6].اهـ.
ومن البدع المحدثة في هذه الليلة: إيقاد النار ليلة النصف من شعبان، قال أبومحمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة: "ومما أحدثــــه المبتدعــــون وخرجــــوا به عما وســـــمه المشرعون، وجروا فيه على سنن المجوس، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً الوقيد ليلة النصف من شعبان ،ولم يصح فيها شيء عن رسول الله ﷺ ولا نطق بالصلاة فيها والإيقاد ..." إلى أن قال: (( وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة فأدخلوا في دين الإسلام ما يُموهون به على الطغام وهو جعلهم الإيقاد في شعبان كأنه في سنن الإيمان ومقصودهم عبادة النيران وإقامة دينهم وهو أخسر الأديان))[7]. اهـ.
وقال – أيضا –: (( وكل من حضر ليلة نصف شعبان عندنا بدمشق في البلاد المضاهية لها يعلم أنه يقع فيها تلك الليلة من الفسوق والمعاصي وكثرة اللغط والخطف والسرقة وتنجيس مواضع العبادات وأنها تهان بيوت الله تعالى أكثر مما ذكره الإمام أبوبكر في ختم القرآن.والله المستعان، فكل ذلك سببه الاجتماع للتفرج على كثرة الوقيد، وكثرةُ الوقيد سببها تلك الصلاة المبتدعة المنكرة، وكل بدعة ضلالة ))[8]. ا.هـ.
قال الحافظ ابن رجب في كتابه (( لطائف المعارف )): (( فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه ))[9].اهـ.بعد أن نقل عن التابعين من أهل الشام تعظيمها والاجتهاد وأنه قيل إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية.
أيها المسلمون: مما تقدم من الآيات وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها كإيقاد النار ــ تشبُّهاً بالمجوس ــ وتخصيصَ يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهّر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة ، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قولُ الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، وما جاء في معناها من الآيات، وقول النبي ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ [10].وما جاء في معناه من الأحاديث.
أيها المسلمون: وقد ورد النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيام وليلتها بقيام، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تخصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يومها بالصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم. أخرجه مسلم[11].فلو كان تخصيصُ شيء من الليالي من العبادة جائزاً لكانت ليلةُ الجمعة أولى من غيرها، لأن يومها هو خيرُ يوم طلعت عليه الشمس بنصّ الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ فلما حذّر النبي ﷺ من تخصيصها بقيام من بين الليالي دلَّ ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص كما دل الدليل على شرعية قيام ليلة القدر وليالي رمضان والاجتهاد فيها وفعل ذلك النبي ﷺ بنفسه وحث الأمة على قيامها. قال الحافظ ابن حجر في كتابه (( تبيين العجب )): وأما حديث عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيتُ رسول الله ﷺ أكمل شهراً قط إلا رمضان، وما رأيتُ أكثر صياماً منه في شعبان ))[12] فظاهره فضيلة الصوم في شعبان على غيره، لكن ذكر بعض أهل العلم أن السبب في ذلك أنه كان ﷺ ربما حصل له الشغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر بسفر أو غيره فيقضيها في شعبان، فلذلك كان يصوم في شعبان أكثر مما يصوم في غيره، لا أنّ لصيام شعبان فضيلة على صيام غيره، ومما يقوّي هذا التأويل ما رواه أبوداود وغيره من حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: إذا دخل النصف من شعبان فلا تصوموا.وفي رواية: فلا يصومنّ أحدٌ، وفي رواية: إذا دخل النصف من شبعان فأمسكوا عن الصيام.وقد ذكر بعض أهل العلم أن معنى هذا النهي للمبالغة في الاحتياط لئلا يختلط برمضان ما ليس بغيره، ويكون هذا بمعنى نهيه ﷺ أن يتقدم أحدٌ رمضان بيوم أو يومين ))[13]. اهـ.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وآثروا الاتباع على الابتداع عملاً بقولـه تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف :3]، وقولـه تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[الأحزاب :21]، وقد أجمع العلماء على أن الواجبَ ردُّ ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله ﷺ فما حكما به أو أحدُهما فهو الشرع الواجب الاتباع، وما خالفهما وجب اطّراحه، وما لم يرد منها من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعله فضلاً عن الدعوى إليه ومن ذلك ما يفعله بعض المسلمين في بلاد مختلفة من الاجتماع في المساجد عقب صلاة المغرب مباشرة من ليلة النصف من شعبان وترديد دعاء معين خلف إمام المسجد وقراءة سورة يس عدة مرات، ويعتقدون أن من لم يشارك أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، لذلك يندم أشد الندم إذا انقضى هذا العمل وهو لم يشارك فيه، ويُقرُ هذا العمل بعض أئمة المساجد، ويشاركون العوام في إحياء هذه الليلة، والله يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء :59]، ويقول: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ولقد أحسن القائل:
وخير الأمور السالفات على الهدى | وشر الأمور المحدثاتُ البدائعُ |
اللهم جنبنا البدع والمحدثات في الدين، اللهم ارزقنا لزوم الصراط المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
- ^ رواه بهذ اللفظ المروزي في السنة (68)، والحاكم في المستدرك ،برقم (318)، والبيهقي في الكبرى(10/ 194).
- ^ الموضوعات لابن الجوزي (2/129).
- ^ المرجع السابق (2/130).
- ^ الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، ص40- 41.
- ^ أنظر تفسير ابن كثير في أول سورة الدخان (7/246).
- ^ عارضة الأحوذي ( 3/ 275-276).
- ^ الباعث على إنكار البدع والحوادث ، ص 36.
- ^ المرجع السابق ، ص40.
- ^ لطائف المعارف ، ص138.
- ^ متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
- ^ صحيح مسلم ، كتاب الصيام (1144).
- ^ صحيح البخاري ، كاب الصوم (1969)، وأخرج بعضه مسلم في صحيحه ، كتاب الصيام (782).
- ^ تبيين العجب بما ورد في فضل رجب لابن حجر، ص37.