الحمد لله الذي أباح لعباده البيع وكل معاملة مبنية على العدل والصدق والبيان، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حرَّم كل تعامل مبنيٍّ على الظلم والكذب والكتمان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أنصح الخلق للخلق وأبعدهم عن الفتن والتدليس في السر والإعلان، صلى وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولى الفضائل والعرفان، ومن تبعهم واقتفى آثارهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وتمسكوا بدينكم القويم، واغتبطوا بما مَنَّ الله عليكم من هدايتكم للإسلام الذي رضيه الله لكم، وأكمل لكم به الدين وأتم عليكم به النعمة قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة :3]، وحُقَّ للمسلم أن يغتبط ويفرح بنعمة الله عليه بهذا الدين: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس :58] كيف لا وهو الدين الذي نظّم للعباد معاملتهم مع الله ومعاملتهم مع خلق الله، فكما شرع الله عبادات لعباده يتعبدون بها وفق ما أمر به وأرشد إليه ورضيه وشرعه فكذلك أباح لهم وأذن لهم في معاملات يتعاملون بها في ما بينهم على حسب ما أباحه وأذن فيه بشروط شرعية يجب اعتبارها والتعامل على وفق حدودها لا على حسب ما يريدون ويشتهون فإنه من يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون، من بيع وشراء وإجارة وهبة ورهن ووقف ووصية وغيرها قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة :275]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء :29]، وقال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة :188]، وعن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله ﷺ: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا ــ أو قال ــ: حتى يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحِقت بركة بيعهما متفق عليه[1].
أيها المسلمون: إن أكثر المعاملات وقوعاً البيع والشراء، وإن للبيع شروطاً لابد منها، إذا فقدت أو فقد بعضها لم يصح البيع، ومن تلك الشروط:
أن لا يشتمل العقد على غرر، فإن اشتمل على غرر فهو باطل ؛ لأن النبي ﷺ نهى عن بيع الغرر[2].
ومن الغرر: أن تكون السلعة مجهولة أو يكون الثمن مجهولاً، ومن الجهالة في المبيع ما يفعله بعض الناس وذلك بأن يجمع أنواعاً من السلع مجهولة العدد مختلفة القيمة فيبيعها بسعر واحد، وهذا جهالة واضحة، فإن السلع الرخيصة قد تكثر فيكون المشتري مغبوناً، وقد يكون البائع عالماً بالأمر ولكن يريد تغرير المشتري وخداعه، ومثال ذلك ما يقع من بعض الناس من أن يبيع جميع ما في دكانه بسعر واحد فيبيع كل حبة من هذه السلع المتنوعة بريال واحداً مثلاً، والمشتري لا يدري عددَ السلع وأنواعها وقدر كل سلعة فيه، وهذه جهالة واضحة وغرر وخداع للمشتري فهو حرام باطل، فإن المتبايعين إذا أحصيا ما في الدكان بناءً على هذا البيع يحسب كيس السكر بريال واحد وصندوق الكبريت بريال واحد، وبيقة الأنواع كذلك، والمتبايعان حين العقد لا يعلمان كم عدد السكر وكم عدد الكبريت وكم عدد الأنواع الأخرى، فيا سبحان الله .. كيف يخفى أن هذا غرر ومخاطرة، فقد يربح المشتري ربحاً كثيراً، وقد يخسر خسارة كثيرة، وإن هذا من المقامرة التي هي نوعٌ من الميسر وهي تشبه ما يُسمى باليانصيب الذي يربح فيه أحد الطرفين ربحاً فاحشاً ويخسر الطرف الثاني خسارة فاحشة بدون مسوغ شرعي وبدون معاوضة شرعية، ونتيجة هذا البيع المشتمل على الغرر والمقامرة والمخاطرة وقوع العداوة والبغضاء، فإن المغبون والخاسر من المتعاقدين البائع أو المشتري في هذا المثال السابق يقع في قلبه من الهمّ والغمّ والحزن والنظر إلى أخيه بعين السخط والندم والأسى ما الله به عليم، ولهذا قرن الله الميسر بالخمر، فقال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة :91].
وإن الواجب على من أبرَمَ مثلَ هذا العقد من البيع أن يتوب إلى الله تعالى بالندم على ما مضى والعزم على عدم العود لمثله وكثرة الاستغفار والأعمال الصالحة، وعليه مع ذلك أن يفسخ العقد ويرد السلعة إلى صاحبها، ويأخذ الثمن إن كان قد سلّمه.
أيها المسلمون: ويدخل في بيوع الغرر المنهي عنها التأمين بصوره المتنوعة الذي انتشرت في العصر الحاضر، كالتأمين على النفس، والتأمين على السيارة، والتأمين على البضاعة وغير ذلك، فهو من أكل المال بالباطل لما في ذلك من الغرر والمخاطرة والجهالة وهو يشبه بيعَ المعاومة وبيع السينن وهو بيع الشجر أعواماً الذي نهى عنه في حديث جابر قال: نهى رسول الله ﷺ عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة.متفق عليه[3]. وفي لفظ بدل المعاومة وعن بيع السنين، والمحاقلة أن يباع الحقل (( الزرع )) بكيل من الطعام معلوم، والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر، والتأمين يشبه بيع الملامسة والمنابذة وحبَل الحبَلة التي نهى عنها في الأحاديث، فعن أبي سعيد قال : نهى رسول الله ﷺ عن الملامسة والمنابذة في البيع.
والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار ولا يقلِّبه.
والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ الآخر بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض).متفق عليه[4].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله ﷺ عن بيع حَبَل الحَبَلة.متفق عليه[5] وفي لفظ كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبَل الحبَلة، وحبَلُ الحبَلة: أن تُنتج الناقة ما في بطنها ثم تحملُ التي نُتجت، فنهاهم ﷺ عن ذلك. متفق عليه[6].
والتأمين يشبه بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها التي نهى عنها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع. رواه الشيخان[7]وغيرهما.وفي لفظ: نهى عن بيع النخل حتى تَزهُوَ، وعن بيع السنبل حتى يبيضّ ويأمنَ العاهة.رواه مسلم[8] وغيره.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها.رواه مسلم[9] وغيره.
وعن أنس أن النبي ﷺ نهى عن بيع العنب حتى يسودّ، وعن بيع الحب حتى يشتدّ.رواه أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه[10].
فاتقو الله أيها المسلمون .. وأوفوا بالعقود الصحيحة واجتنبوا عقود الجهالة والغرر، واعلموا أن كل لحم نبت على السحت فالنار أولى به [11]، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك، اللهم بارك لنا في القرآن.
- ^ صحيح البخاري ، كتاب البيوع (2079)، صحيح مسلم، كتاب البيوع (1532).
- ^ صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1513).
- ^ صحيح البخاري ، كتاب المساقاة (2381)، صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1536) مكرر.
- ^ صحيح البخاري ، كتاب اللباس(5820)، صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1512).
- ^ صحيح البخاري ، كتاب البيوع (2143)، صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1514).
- ^ صحيح البخاري ، كتاب البيوع (2143)، صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1514) مكرر.
- ^ صحيح البخاري ، كتاب البيوع (2194)، صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1534).
- ^ صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1535).
- ^ صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1538).
- ^ مسند الإمام أحمد ، برقم (13314)، سنن أبي داود ، كتاب البيوع (3371)، سنن الترمذي ، أبواب البيوع (1228)، سنن ابن ماجه ، كتاب التجارات (2217).
- ^ مسند الإمام أحمد / برقم (14441)، سنن الترمذي ، أبواب السفر (614) وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، وسألت محمدا – يعني : ابن إسماعيل البخاري – عن هذا الحديث، فلم يعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى واستغربه جدا .ا.هـ