الخطبة الأولى
الحمد لله الحي القيوم، الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، حكم بالفناء على أهل هذه الدار، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك شهادة أدّخرها ليوم تذهل فيه العقول وتشخص فيه الأبصار، وأشهد أن محمداً عبده ورسولـه ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وبارك عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس .. اتقوا الله تعالى، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر :18] وهو الموت، واعلموا أن لكم نهاية وأجلاً لابد أن توافوه، وربما كان أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، أما ترون يد المنون مرسلة تختطف ارواح الناس رفيعها ووضيعها، كبيرها وصغيرها وهم لا يشعرون، فكل أحد في هذه الدنيا وإن طال لابد له من انتهاء، وكل حيٍّ صائر فيها إلى الفناء، فلا تشغلنكم الدنيا عن ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فهو المعروف بالهجوم على غرة، لا تصدنّكم الدنيا عنه، فقد يثب الموت على أحدكم بين أطفاله ونسائه وأعزّ الناس إليه، فيستلّه من بينهم، فلا يترك لهم كبداً إلى جرحها، ولا قلباً إلى أدماه، لا يبالي بدموعهم السائلة، ولا بنفوسهم المتصدعة، فكفى بالموت واعظاً، فأكثروا ذكره، وأطيلوا النظر فيما بعده، فإن تذكره الحقيقي يدعو إلى الاستعداد، ويصرف المرء عن الشرور والفساد، ويهوّن كثيراً من هموم الدنيا ومتاعها ومآسيها، ويرغب في الآخرة التي كلها للمؤمنين راحة وهناء وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت :64]، ولأجل هذه المعاني وغيرها أمر النبي ﷺ بالإكثار من ذكره، فقال: أكثروا ذكرَ هادم اللذات: الموت [1].
عباد الله: تذكروا ما بعد الموت وهو القبر وما فيه من الأهوال العظيمة، واستمعوا إلى حديث البراء الذي يصوّر لنا حالة الإنسان المؤمن والفاجر في كيفية قبضِ روحه وسؤالِ الـمَلَكين وتمثُّل عمله له وصعود روحه إلى السماء وفتح بابٍ وتوسيع قبره أو تضييقه عليه.
فعن البراء يبن عازب قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي ﷺ فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وهو يُلحد له، فقال: أعوذ بالله من عذاب القبر ــ ثلاث مرات ــ ثم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه الملائكة كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة: اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، وتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرُّون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا، حتى ينتهوا إلى السماء التي فيها الله، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أُخرجهم تارة أخرى، قال: فتُعاد روحُه في جسده، فيأتيه مَلَكان فيجلسانه فيقولان لـه: من ربك ؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان لـه: ما علمك ؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطيبها، ويُفسح له في قبره مدُّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسنُ الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول لـه: من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا ربّ، أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وُجدت على الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا ؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيُسفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله ﷺ: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، فيقول الله : اكتبوا كتابه في سجيل، في الأرض السفلى، فتطرح روحُه في مكان سحيق، فتعاد روحُه في جسده، ويأتيه ملكان: فيقولان: من ربك ؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك ؟ فيقولان: ما دينك ؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري.فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب، فافرشوه من النار، وافتحوا لـه باباً من النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسؤوك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربّ لا تُقمْ الساعة[2]. رواه الإمام أحمد وأبوداود، وروى النسائي وابن ماجه أولـه، ورواه الحاكم في المستدرك، وذهب إلى مُوجَب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح.
فاتقوا الله عباد الله واستعدوا للقاء الله تعالى بالعمل الصالح الذي يزحزحكم من النار وتقضون به في دار السعداء والأبرار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران :185]، رزقني الله وإياكم الاستعداد للقدوم عليه، وأعاذنا من الغفلة والإعراض، وجعلنا من أهل اليقظة والاتعاظ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، ..
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله وقد سمعتم مصير الإنسان ومستقبله وماذا ينتظره في الآخرة، فجدير بالعاقل واللبيب الذي يرجو فكاك نفسه أن يُعِدّ لهذا المستقبل والسفر عدَّته، وإنّ عدته هي العمل الصالح وتقوى الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه بأداء الفرائض وترك المحارم، وإن أعظم فريضة بعد الشهادتين هي الصلوات الخمس، وكان الناس في رمضان تغصّ بهم المساجد فلما انسلخ تركوا ،وكان في مسجدنا يصلي معنا الصبح أكثر من ثلاثة صفوف، والآن يُعدون بالأصابع ما بين ستة إلى عشرة، وإنها لمصيبة عظمى أن يبني الإنسان أعمالاً صالحة في رمضان ثم يهدمها بعد ذلك.