شعار الموقع

تذكير بالموت ومصير الإنسان (2).

119

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولا ولد ولا ظهير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن على سبيله إلى الله يسير، وسلّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته، لا تغرنّكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العين ولذاته، فالرحيل قريب، وساعات العمر محدودة.

واعلموا أن الخير كله بحذافيره في الجنة فادلجوا في السير إليها، والشر كله بحذافيره في النار فاجتهدوا في الهرب منها، ألا وإن الدنيا عرَض حاضر، يأكل فيها البر و الفاجر، والمؤمن والكافر، والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها دار بلاء، ومنزل ترحة وعناء، نَزَعت منها نفوس السعداء، وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء، وحال بينهم وبين ما أمّلوه القدر والقضاء، ضُربت لكم بها المقاييس والأمثال، وقربت لكم الحقيقة بالشبه والمثال، فقال ﷺ: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها[1].

عباد الله: إن القبر أول منازل الآخرة، وهو إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إما حفرة ضيقة موحشة لا أنيس فيها ولا رفيق يلتحف التراب ويتوسده لا ينفعه شرفه ومركزه الذي كان يباهي به في الدنيا، ولا مالُه الذي يكدح في طلبه صباحاً ومساءً، ويضيّق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويُفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرِّها وسمومها، ويتمثل له عمله الخبيث في صورة رجل قبيح الوجه قبيح المنظر منتن الريح، وإما روضة من رياض الجنة مُدَّ بصر الميت، ويفتح له باب ٌ إلى الجنة فيأتيه من رَوْحها وطيبها، ويتمثّل له عمله الصالح في صورة رجل حسن الوجه والثياب طيب الريح.

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ مرَّ بقبرين فقال: إنهما ليُعذَّبان، وما يُعذّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، وقال: لعله يُخفّف عنهما ما لم ييبسا [2].

أيها المسلمون: قد وضح السبيل الموصل إلى الله، فالله تعالى قد خلقكم لعبادته وافترض عليكم توحيده وطاعته، ودعاكم إلى جنته، وحذّركم نارَه ونقمته، وحرّم عليكم الشرك به، وأوضح لكم قبحه وضلال مرتكبه وعظم خسارته، ونهاكم عن طاعة الشيطان وأبان لكم عداوته، وحذركم من اتباع الهوى وأوضح لكم مضرته، وزجركم عن الشهوات المحرمة، وبيَّن لكم سوء عاقبة مؤثرها في دنياه وآخرته، ونهاكم عن الاغترار بالدنيا وأراكم سرعة زوالها لتحذروا الاغترار بها، وأباح لكم من الطيبات والحلال ما يغنيكم عن التعدِّي إلى محارمه ومعاصيه، وركبّ فيكم العقول لتعرفوا بها الحق وفضيلته، والباطل ومضرته، وتميزوا بها بين النافع والضار لتقوم عليكم من الله حجته، وأرسل الرسل لتبين للناس ما اختلفوا فيه ببراهينه وأدلته، وأنزل الكتب توضح الحق وتمحوا لبس الباطل وظلمته، فقامت عليكم من الله حجته، وانقطعت لكم منكم معذرته، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليه إساءته.

أيها المسلمون: اتقوا الله ولا تجعلوا الدنيا أكبر همكم، ولا مبلغ علمكم، واعتبروا بمن مضى قبلكم من الأمم الخالية، أهل المراتب العالية، كيف هجم عليهم الموت، وأسكنهم بعد القصور بطن الأرض، سبقونا بتقضّي الأعمار، ونحن على الآثار، فرحم الله امرءً لم يجعل الدنيا أكبر همه، واشتغل بالآخرة فكانت أهمّ أشغاله، واستعدّ للموت بالعمل الصالح، وتفكر في القبر وأهوالـه، والمَلَك وسؤاله، والرب وجلاله، وهل يُعطى كتابه بيمينه أم بشماله، وهو يُدعى إلى النعيم والبهجة والسرور، أم إلى الجحيم والنكار والبوار، فأعدوا لهذه الأمور عدتها، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [النازعات :37-42].

أيها المسلم: اتق الله وأطعه فيما أمر، وفكّر في نفسك فأنت أحق من فكّر، هل ينفعك من الله مال أو جاه أو معشر، أنعم الله عليك وآواك، وتفضّل عليك وأعطاك، ومنَّ عليك بالسمع والبصر والفؤاد، إن أمامك القبر فاحذر ضغطته ووحشته، ألا وإن وراء ذلك ما هو أشدّ منه يوم يشيب من هَولِه المولود، فكيف حجتك إذا سألك عن شكر نعمه عليك، وكيف جوازك على الصراط، وهو أدق من الشعر وأحرَّ من الجمرْ، وأحدّ من السيف الأبتر، يُؤمر بالجواز عليه، فمن نجا إلى جنة المستقر، ومن هوى بذنوبه ففي سقر، روى مسلم في صحيحه[3] عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله ﷺ:  ترسل الأمانة والرحم يوم القيامة، فيقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً، فيمرّ أولكم كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير، ثم كأجاود الخيل والركاب، تجري بهم أعمالهم، ونبيّكم ﷺ قائم على الصراط يقول: اللهم سلِّم سلِّم حتى تعجز أعمال العباد، وحتى إن الرجل لا يستطيع أن يمرّ إلا زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب معلّقة مأمروة تأخذ من أمرت بأخذه، فناجٍ مسلَّم ومُكدوس في النار،  والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفاً، والله لتُملأَنّ، وقال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ۝ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ۝ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ۝ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ۝ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم :68-7].

ألاَ وإن وراء ذلك يا عباد الله ما هو أعظم منه دار جهنم، دارٌ معدومٌ رجاؤها، محتومٌ بلاؤها، موحشةٌ مسالكها، مظلمةٌ مهالكها، مخلّد أسيرها، مؤبَّدٌ سعيرها، عالٍ زفيرها، شراب أهلها الحميم، وعذابهم أبداً فيها مقيم، الزبانية تقمعهم، والهاوية تجمعهم، لهم فيها بالويل ضجيج، وللهبها منهم أجيج، أمانيّهم فيها الهلاك، وما لهم من أسرها فكاك، قد شدّت أقدامهم إلى النواصي، واسودّت وجوههم من ذلّ المعاصي، ينادون من فجاجها وشعابها، بُكيّاً من ترادف عذابها، يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد تمزّقت منا الجلود، يا مالك قد تفلذّت منا الكبود، يا مالك العدم خير من هذا الوجود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فيجبيهم بعد زمان: اخسئوا فيها ولابدّ من الخلود: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ۝ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ۝ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ۝ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 77-80].

فاتقو الله عباد الله وأخلصوا له الأعمال، وراقبوه في جميع الأحوال، وتقربوا إليه من طاعته بما يرضيه، وتجنبوا مساخطه ومناهيه، فقد صحّ عن نبيكم ﷺ أنه قال: الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني [4].وقال عمر بن الخطاب : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن تُوزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية "[5]. وقال الحسن ــ رحمه الله ــ : "إن أيسر الناس حاسباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله في هذه الدنيا، فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الهم لله مضوا فيه، وإن كان عليهم أمسكوا، وإنما يثق الحساب يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور وأخذوها من غير محاسبة، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذرّ".

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف :49].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من العذاب الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن أهوالاً عظيمة أمامكم القبر وفيه سؤال منكر ونكير، وفيه ضغطة القبر ووحشته، وبعد ذلك البعث والحشر والنشر والوقوف بين يدي الله للحساب، فيُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وبعد ذلك توزن الأعمال وتوزن الأشخاص، فمن ثقلت موازينه نجا وفاز، ومن خفت موازينه هلك وخسر، وفي الموقف حوض الرسول ﷺ طوله مسافة شهر، وأوانيه عدد نجوم السماء، وبعد ذاك الصراط الذي ينصب على متن جهنم، أدقّ من الشعر وأحرّ من الجمر، وأحدّ من السيف، وبعد ذلك الاستقرار في الجنة أو النار.

  1. ^ مسند الإمام أحمد،برقم (3709)، سنن الترمذي، الزهد (2377)، وأوله في صحيح البخاري ، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها (2377).
  2. ^ صحيح البخاري ، كتاب الوضوء (216)، صحيح مسلم ، كتاب الطهارة (292).
  3. ^ صحيح مسلم ، كتاب الإيمان (195).
  4. ^ مسند الإمام أحمد ، برقم (17123)، سنن الترمذي ، صفة القيامة والرقائق والورع (2459)، سنن ابن ماجه ، كتاب الزهد (4260).
  5. ^ الزهد والرقائق لابن المبارك صـ103، والمصنف لابن أبي شيبة (7/96)، وعلقه الترمذي في سننه (2459).
logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد