الحمد لله الذي أمرنا باتباع كتابه فقال: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3]، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بطاعته وطاعة رسوله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبلغ عن الله شرعه ودينه، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى عباد الله، ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة أن النبي ﷺ خطب في حجة الوداع فقال في خطبته: إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.. [1] وذكر الحديث، قال الله : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ[التوبة :36]، فأخبر سبحانه أنه منذ خلق السموات والأرض وخلق الليل والنهار يدوران في الفلك ،وخلق ما في السماء من الشمس والقمر والنجوم وجعل الشمس والقمر يسبحان في الفلَك وينشأ منهما ظلمة الليل وبياض النهار، فمن حينئذ جعل السنة اثنى عشر بحسبِ الهلال، فالسنة في الشرع مقدّرة بسير القمر وطلوعه لا بسير الشمس وانتقالها كما يفعله أهل الكتاب، وجعل الله تعالى من هذه الأشهر أربعة أشهر حُرماً، وقد فسّرها النبي ﷺ في هذا الحديث وذكر أنها ثلاثةٌ متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو شهر رجب.
وقولـه ﷺ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشـــر شهراً مراده بذلك إبطال ما كانت الجاهلية تفعله من النسي: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ[التوبة:37]، قال طائفة من العلماء: كانوا يبدلون بعض الأشهر الحرم بغيرها من الأشهر فيحرمونها بدلها، ويحلوا ما أرادوا تحليله من الأشهر الحرم إذا احتاجوا إلى ذلك، ولكن لا يزيدون في عدد الأشهر الهلالية شيئاً، قيل: كانوا يحلون المحرم فيستحلون القتال فيه لطول مدة التحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهر محرمة، ثم يحرّمون صفر مكانه فكأنهم يقترضونه، ثم يوفونه. وقال آخرون من أهل العلم: كانوا يزيدون في عدد شهور السنة، وظاهر الآية يشعر بذلك حيث قال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فذكر ذلك توطئة لهدم النسيء وإبطاله.
أيها المسلمون: اختلف العلماء لِمَ سميت هذه الأشهر الأربعة حُرُماً؟ فقيل: لعظيم حرمتها وحرمة الذنب فيها، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : اختص الله أربعة أشهر جعلهن حُرُماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، وجعل العلم الصالح والأجر أعظم .اهـ[2].
ولهذا قال تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، قيل: إن الضمير عائد إلى الأشهر الحرم، وقيل: إلى جميع شهور السنة، فيكون في الآية نهي وتحذير من ظلم النفس في الأشهر الحرم بالمعاصي أو بالشرك فإنه أعظم، وظلم النفس بالمعاصي والشرك محرم في كل وقت وممنوع في كل وقت لكن الظلم في هذه الأشهر الحرم أغلظ ولهذا خصّها بذلك فقال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.
وقال آخرون من أهل العلم: إنما سُمِّيت حرماً لتحريم القتال فيها ،وكان ذلك معروفاً في الجاهلية، وقيل: إنه كان من عهد إبراهيم ـ عليه السلام ــ، فكان أهل الجاهلية يعظمون هذه الأشهر الحرم ويمتنعون من القتال فيها، ولهذا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة :2]، قيل المراد بشعائر الله محارمه، أي لا تحلوا محارم الله التي حرّمها تعالى ولهذا قال: وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال، وتأكيد اجتناب المحارم كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217]، كما يدل على ذلك حديث أبي بكرة السابق فإنه يدل على استمرار إلى آخر وقت، ولهذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ يعني لا تستحلوا قتالا فيها [3]، وقال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة :97]، وسورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن، والمراد بتحريم القتال فيه تحريم ابتدائه فيه، فإن قاتلنا أهل الشرك فيه قاتلناهم، ولهذا قال تعالى في القتال في الحرم وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة :191].
وذهب جمهور العلماء على أن ذلك منسوخ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقولـه تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة :5]، والمراد أشهر التسيير الأربعة، قالوا: فلم يستثن شهراً حراماً من غيره، وبأن الصحابة كانوا يقاتلون ويفتحون البلدان في الأشهر الحرم وغيرها.
أيها المسلمون: وشهر رجب أحد الأشهر الحُرم فهو شهر حرام ويتعلق به أحكام كثيرة منها: ما كان في الجاهلية، واختلف العلماء في استمرار في الإسلام كالقتال والصواب الذي عليه جمهور العلماء أنه منسوخ وأنه يجوز القتال في شهر رجب وغيره من الأشهر الحرم.
ومنها: الذبائح: فإنهم كانوا في الجاهلية يذبحون ذبيحةً يسمونها العتيرة، واختلف العلماء في حكمها في الإسلام، فمن العلماء من استحبها، منهم ابن سيرين وحكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة ورجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين، والأكثرون من العلماء على أن الإسلام أبطلها، وهو الصواب ؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لا فرَعَ ولا عتيرة [4].
ومن أحكام رجب ما ورد فيه من الصلاة، قال ابن رجب ــ رحمه الله ــ : " فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعةٍ من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعةٌ عند جمهور العلماء، وممن ذكر ذلك من أعيان المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري، وأبو بكر بن السِّمعاني، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم، وإنما لم يذكرها المتقدمون لأنها أُحدثت بعدهم، وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها "[5].اهـ.
ومن أحكام رجب ما ورد فيه من الصيام، ولم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه.
فاتقوا الله عباد الله وتعبّدوا لله بما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ ولا تتعبدوا لله بالبدع والمحدثات في الدين، فإنها تبعدكم من الله، وإنما يقربكم من الله طاعته باتباعه واتباع رسوله ﷺ وهو دليل محبة الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[آل عمران :31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وتاب عليَّ وعليكم إنه تواب رحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.